البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

السبت، 28 مايو 2011

نبذة عن السّرد العربي ( د / عبد الله إبراهيم )


الدراسات السردية العربية
- واقع وآفاق -

بحث للدكتور : عبـدالله إبـــراهيم
              (العراق)

ترجمة :
الدكتور عبدالله إبراهيم  ناقد وأستاذ جامعي من العراق، حاصل على جائزة شومان للعلوم الإنسانية عام 1997، متخصص في الدراسات  السردية والثقافية. باحث مشارك في موسوعة Cambridge history of Arabic Iiterature، شارك في عشرات المؤتمرات والملتقيات النقدية والفكرية. عمل أستاذا في الجامعات العراقية، والليبية، والقطرية.

1- مدخل
ظهرت )الدراسات السردية( المتخصصة في النقد العربي الحديث خلال الربع الأخير من القرن العشرين، وشغل بها كثيرمن النقاد العرب بين رافض لها أو آخذ. وهذه الحقيقة التاريخية ينبغي ألا تطمس أمرين أساسيين في هذا الموضوع، أولهما أن عناية النقد بالآداب السردية قديمة في الثقافة العربية، وثانيهما أن الاضطراب لم يزل يعصف بالدراسات السردية التي لم تستقر فرضياتها الأساسية، ولا مفاهيمها، ولا طبيعة العلاقة بينها وبين الأدب الذي تحلله.
من الصحيح أن طريقة النظر إلى النصوص السردية تغيرت جزئيا، لكن ثلاثة عقود من الممارسات النقدية كان ينبغي أن تفضي إلى دراسات متماسكة تقدم رؤى مختلفة للآداب السردية ووظائفها، وتحدث تغييرا في الدرس الجامعي الذي لم يزل يئن تحت وطأة المفاهيم القديمة للنقد. وينبغي القول أيضا إنه لم تقبل نظريات النقد الحديثة بصورة كاملة في الأوساط الثقافية والجامعية، وذلك أمر يتصل بعدم تبني فكرة الحداثة في تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. ثمة دراسات سردية متفرقة، وتحليلات معمقة، لكن انغلاق مجتمعاتنا على نمط تقليدي من الفكر والعلاقات أدى إلى عدم اعتراف بأهمية هذه الجهود المتناثرة، بل هي تتعرض لمزاحمة خطيرة من الفكر التقليدي الرافض لكل ما هو جديد بدواع كثيرة.
انشطرت المواقف حول الدراسات السردية، فمن جهة أولى سعت تلك الدراسات إلى الانتقال بالنقد الأدبي من الانطباعات الشخصية، والتعليقات الخارجية، والأحكام الجاهزة، إلى تحليل الأبنية السردية، والأسلوبية، والدلالية، ثم تركيب النتائج التي تتوصل إليها في ضوء تصنيف دقيق لمكونات النصوص السردية. ومن جهة ثانية حامت الشكوك حول قدرتها على تحقيق وعودها المنهجية والتحليلية؛ لأن كثيرا منها وقع أسير الإبهام، والغموض، والتطبيق الحرفي للمقولات السردية دون الأخذ بالحسبان اختلاف السياقات الثقافية للنصوص الأدبية.
وحينما نروم وصف واقع )الدراسات السردية( في النقد العربي الحديث، فنحن بإزاء اختيارين، فإما أن نتعقب خطيا جهود النقاد المعاصرين بطريقة مدرسية، أو أن نتخطى ذلك ونستفيد من مكاسب تاريخ الأفكار الحديث، حيث تصبح الظاهرة المدروسة موضوعا لتحليل متنوع الأبعاد والمستويات. والاختيار بين هاتين الطريقتين هو اختيار بين رؤيتين وموقفين، فتبني معطيات تاريخ الأفكار الخطي سيدفع بفكرة الوصف دون القيمة، والأخذ بمكاسب تاريخ الأفكار الحديث سيدفع بفكرة التحليل والاستنطاق واستنتاج المعرفة إلى مدياتها القصوى ؛ ذلك أن علاقة النقد بالأدب ليست علاقة حيادية وشفافة، إنما هي علاقة تلازم وتفاعل، فهما يتحاوران ضمن نظام ثقافي موحد من الإرسال والتلقي. ولا أجد جدوى معرفية من الأخذ بالاختيار الأول، اختيار الوصف والمعاينة المجردة، إنما أدعو إلى توظيف الإمكانات المتاحة للاختيار الثاني، فذلك سيجعل من )الدراسات السردية( موضوعا لتحليل متشعب يستكشف واقعها، ومشكلاتها، ورهاناتها، وآفاق تطورها، ضمن سياق الثقافة العربية الحديثة.

2- المرجعيات
حينما نبحث واقع )الدراسات السردية العربية( فليس من الحكمة تخطي المرجعية النقدية الحديثة، فالتطورات التي عرفتها نظرية الأدب في القرن العشرين جهزت )السردية( بكثير من الركائز الأساسية التي أصبحت من أركانها الأساسية. ومعلوم أن مصطلح )السردية  Narratology( مرتبط بمصطلح أقدم وأشمل، هو )الشعرية Poetics(. والعلاقة بين )السردية( و)الشعرية( صحيحة في التصور العام لنظرية الأدب، إذ ما لبثت أن انفصلت الأنواع الأدبية بعضها عن بعض، واستقام لكل منها خصائصه الأدبية المميزة، فانبثقت حاجة منهجية ومعرفية لتوسيع مفهوم نظرية الأدب لتتمكن من شمول الأنواع الجديدة. وباستقرار الأشكال الأساسية للسرد في العصر الحديث، أصبح من اللازم أن يُستحدث مفهوم معبر عنها، وإطار نظري لتحليلها، وتصنيفها، وتأويلها، فظهرت )السردية( التي أصبح موضوعها استنباط القواعد الداخلية للأشكال السردية، ثم وصف مكوناتها الأساسية من تراكيب، وأساليب ودلالات.
وإلى )تودوروف( يعود الفضل في اشتقاق مصطلح Narratology الذي نحته في عام 1969 للدلالة على الاتجاه النقدي الجديد المتخصص بالدراسات السردية، بيد أن الباحث الذي استقام على جهوده مبحث )السردية( في تيارها الدلالي هو الروسي )بروب(، وقد بحث في أنظمة التشكل الداخلي للخرافة، واستخلص القواعد الأساسية لبنيتها السردية والدلالية، وما لبث أن أصبح تحليله للخرافة مرجعا ملهما للسرديين، فراحوا يتوسعون فيه، ويتحققون من إمكاناته النظرية والتحليلية، وقد أطلق )روبرت شولز( على هؤلاء )ذرية بروب( وفي طليعتهم: غريماس، وبريمون، وتودروف، وجنيت، وبالتقاطها رأس الخيط من بروب، وسعت ذريته المفهوم بحيث انتهى الأمر به ليشمل كل مكونات الخطاب السردي، فظهرت )السردية الحصرية( التي تطلعت إلى وضع أنظمة تحكم مسار الأفعال السردية، ثم )السردية التوسيعية( وهدفت إلى اقتراح نماذج قياسية كبرى تستوعب جميع الاحتمالات الممكنة للأفعال داخل العالم السردي للنصوص الأدبية، وحاولت الإفادة من المعيار اللغوي الذي أسس له )دوسوسير( في حقل اللسانيات الحديثة. فلكي تتمكن الدراسات السردية من معرفة طبيعة الأفعال السردية ينبغي أن تعتمد معيارا قياسيا لذلك. وانخرط عدد كبير من النقاد في هذين التيارين الكبيرين، الأمر  الذي رسخ من مكانة )السردية( وإشاعتها في النقد الحديث. واعترف بـ )السردية( نقديا حينما أصدر )جنيت( كتابه )خطاب السرد( في عام 1972 وفيه جرى تثبيت مفهوم السرد، وتنظيم حدود )السردية(.
لم تبق )السردية( مقترحا نظريا جامدا، إنما ربطت بنظرية )التلقي( وهي نظرية تعنى بتداول النصوص الأدبية، وكيفية تلقيها، وإعادة إنتاج دلالاتها ضمن السياقات الثقافية الحاضنة لها. ونظرية التلقي اكتسبت قيمتها التداولية حينما ربطت بنظرية )الاتصال(، ولهذا سرعان ما أصبحت نظرية التواصل إحدى الخلفيات المنهجية التي أثرت )السردية(، إذ أصبح التراسل بين المرجعيات والنصوص هو الموضوع الأساس للدراسات السردية، فليست المرجعيات وحدها هي التي تصوغ الخصائص النوعية للنصوص، إنما تؤثر تقاليد النصوص في المرجعيات أيضا. ويظل هذا التفاعل مطردا، وسط منظومة اتصالية وتداولية شاملة تسهل أمر التراسل بينهما، بما يحافظ على تمايز الأبنية المتناظرة لكل من المرجعيات والنصوص.

3- المكاسب
هذه الخلفية الثقافية والنظرية التي أوردنا طرفا منها في الفقرة السابقة كانت معلومة ومجهولة لكثير من الذين انخرطوا في الدراسات السردية. كانت معلومة بتفاصيلها وقيمتها لقلة قليلة منهم، ومجهولة للأغلبية، ولا أقصد بذلك حكما ينتقص السرديين العرب، إنما لا بد من تمثل مكاسب نظريات النقد الحديثة قبل الانتقال إلى الممارسة النقدية الفاعلة، وإنتاج معرفة جديدة، فالنقد ممارسة فكرية منظمة ومنتجة ينبغي ألا تترك للأهواء والانطباعات، وكأن العالم لم يشهد تراكما عظيما من المعارف والثقافات.
وقد أسهم نقاد عرب في التعريف بالخلفية النظرية للسردية، وبالإجمال توافرت مادة مترجمة أو مكتوبة بالعربية مباشرة مكنت النقاد من الاطلاع على التطورات الحاصلة في هذا الميدان.
وعلى الرغم من ذلك لم تكن الحصيلة مُرضية بما يوافق الاهتمام الذي بذل في هذا المجال، فكثير من المفاهيم الجديدة أقحمت في غير سياقاتها، وفي حالات كثيرة وقع تعسّف ظاهر في تطبيق نماذج تحليلية اشتقت من نصوص أجنبية بالفرنسية أو الإنجليزية على نصوص عربية من دون الانتباه إلى مخاطر التعميم. واستعيرت طرائق جاهزة عُدّت أنظمة تحليلية ثابتة وكلية لا تتغير بتغير النصوص وسياقاتها الثقافية. ومن الطبيعي أن يرتسم في الأفق تكلّف لا يخفى؛ إذ تنطع للنقد أفراد أرادوا إبراز قدرتهم على عرض مفاهيم السردية، وليس توظيفها في تحليل نقدي جديد. وكل هذا جعل تلك الجهود تحوم حول النصوص، ولا تتجرأ على ملامستها. ويمكن تفسير كثير من تلك العثرات على أنها نتاج الانبهار بالجديد، وادعاء الاقتران به، وتبنّي مقولاته، دون استيعابه، وهضمه، ودون تمثل النظام الفكري الحامل له.
وفي ضوء علاقة بعض النقاد العرب الشائكة بالسردية، انصرف الاهتمام إلى المفاهيم والنماذج التحليلية، وندر أن جرى اهتمام معمق باستكشاف مستويات النصوص الأدبية، فالأكثر وضوحا كان استخدام النصوص لإثبات صدق فرضيات السردية، وليس توظيف معطياتها لاستكشاف خصائص تلك النصوص، إذ قلبت الأدوار، وأصبحت النصوص دليلا على أهمية النظرية وشمولها، وانتهى الأمر إلى أن أصبحت المقولات السردية شبه مقدّسة لدى عدد كبير من ممارسي النقد. وكل نص لا يستجيب للإطار النظري الافتراضي يعد ناقصا وغيرمكتمل، ولا يرقى إلى مستوى التحليل، وينبغي إهماله، أونفيه من قارة السرد، ولهذا شُغل بعض النقاد بتركيب نموذج تحليلي من خلال عرض النماذج التحليلية التي أفرزتها آداب أخرى، فجاءت النصوص العربية على خلفية بعيدة لتضفي شرعية على إمكانات النموذج التحليلي المستعار وكفاءته، وبدل أن تستخدم المقولات دليلا للتعرف إلى النص، جرى العكس، إذ جيء بالنصوص لتثبت مصداقية الإطار النظري للسردية.
إن علاقة مقلوبة بين السردية والنصوص الأدبية ستفضي لا محالة إلى قلب كل الأهداف التي تتوخاها العملية النقدية، فليس النقد ممارسة يقصد بها تلفيق نموذج تحليلي من نماذج أنتجتها سياقات ثقافية أخرى، إنما اشتقاق نموذج من سياق ثقافي بعينه دون إهمال العناصر المشتركة بين الآداب الإنسانية الأخرى، ثم الاستعانة به أداة للتحليل، والاستكشاف، والتأويل، وليس تمزيق النصوص لتأكيد كفاءة ذلك النموذج الافتراضي. تلك العلاقة المقلوبة بين السردية والنصوص قادت إلى هوس في التصنيف الذي لا ينتج معرفة نقدية، ولا يتمكن من إضاءة النصوص، ناهيك عن التصميم المسبق لفرض النموذج على نصوص لا يفترض فيها أن تستجيب له إلا بعد تخريبها.
وكان لهذا  الأمر أثره في الدراسات السردية، إذ توهم كثيرون أنها تقتصر على تطبيق نماذج جاهزة، أو التعريف بالمصطلحات، أو عرض النتائج التي توصل إليها السرديون في الثقافات الأخرى، وكل ذلك يتصل بحالة ما قبل ممارسة النقد، أي بالمرحلة التي يبدأ فيها الناقد في  تكوين فكرة عن هذا الموضوع. وتبدأ العملية النقدية بعد هضم هذه الإجراءات الشكلية الضرورية، والتعرف إليها، وهي ليس من النقد في شيء، ولا يلزم ظهورها في التحليل النقدي. ولو نظرنا إلى تركة الدراسات النقدية خلال العقود الثلاثة الأخيرة لوجدنا أن أغلبها شغل بهذه المقدمات الإجرائية التي لا صلة لها بالنقد، إنما يمكن أن تكون موضوعات ضمن تدريس النقد في الجامعات والمعاهد المتخصصة للتعريف باتجاهات النقد ومدارسه، وطرائق التحليل فيه.
ولم يجر اتفاق بين النقاد العرب على نموذج تحليلي سردي شامل يمكن توظيفه في دراسة النصوص السردية العربية القديمة، ولا اتفق على نموذج يصلح لتحليل النصوص الحديثة، فوقع تضارب في توظيف نماذج مستعارة من سرديات أخرى، ولهذا لم ينتظم أفق مشترك لنظرية سردية عربية تمكن النقاد العرب من تحليل أدبهم، إذ اختلفوا في كل ما له صلة بذلك، فأخفقوا في الاتفاق على اقتراح نموذج عام يستوعب عملية التحليل السردي للنصوص، أو حتى نماذج جزئية تصلح لتحليل مكونات البنية السردية، مثل أساليب السرد ووسائله، وبناء الشخصيات، والأحداث، والخلفيات الزمانية والمكانية.
إلى ذلك وقع اختلاف في استيعاب المفاهيم السردية الجديدة، واضطرب أمر ترجمتها إلى ا لعربية، وهذه الفوضى الاصطلاحية خلقت فوضى منقطعة النظير لدى القراء، وينبغي التأكيد أن ذلك كان جزءا من الفوضى الاصطلاحية الأدبية الحديثة التي لم يستقر أمرها في الثقافة العربية إلا بصورة جزئية، فقد اختلف في ترجمة مصطلح Linguistics( وعُرّب بمقابلات، كالألسنية، واللسانيات، وعلم اللغة العام، واللغويات، وغير ذلك، وعرب مصطلح (Structuralism) بـ )الهيكلية( أو )البنيوية( وترجم (Poetics) بـ )الإنشائية( أو )الشعرية( أو )فن الشعر( وترجم مصطلح (deconstruction) بـ )التشريحية( أو )التقويضية( أو )التهديمية(، أو )التفكيكية( أو )التفكيك(، وكذلك بالنسبة إلى (discourse) الذي ترجم بـ )الإنشاء( ثم )الخطاب( وأخيرا، إذا ما اقتربنا إلى موضوع الدراسات السردية، فإن مصطلح (Narratology) لم يتفق بشأن ترجمته، إذ ترجم إلى )علم السرد( أو )علم القص( أو )علم الحكاية( أو )نظرية القصة( أو )السرديات(، وهناك من فضل استخدام )السردلوجيا(، وإن كان الأمر انتهى بأن تكون )السردية( هي الأكثر شيوعا بين كل ذلك.
هذا فيما يخص المفاهيم والاتجاهات النقدية الكبرى، فما بالك بالمقولات التي تندرج ضمن هذا المفهوم أو ذاك، أو ضمن هذا التيار أو ذاك!. وما دامت المفاهيم الكبرى، والمقولات التحليلية، لم يتفق بشأنها معنى وترجمة، فمن  الطبيعي أن تتضارب التصورات النقدية القائمة حولها. ومع أن العقد الأخير شهد نوعا من الاستقرار في استخدام بعض المفاهيم، لكن الحقبة الأولى من الدراسات السردية شهدت اضطرابا منقطع النظير أدى إلى بلبلة الحركة النقدية العربية، إذ شغل كثيرون بالمفاهيم، والإجراءات التحليلية، ولم تنصرف إلا أقل الجهود للتحليل النقدي الحقيقي. ولم تظهر موسوعة شاملة للمصطلحات السردية، فلجأ كثير من الباحثين والمترجمين إلى إعداد مسارد بالمصطلحات تظهر ذيولا لكتبهم، ولا نجد فيها أي اتفاق، فالتضارب هو السنة الشائعة في كل ذلك.
وعلى الرغم من ذلك أنجزت السردية مهمة جليلة، إذ خلخلت ركائز النقد التقليدي، ودفعت برؤية جديدة لعلاقة النقد بالأدب، وأزاحت الانطباعات الذاتية إلى الوراء، وزجت بمفاهيم جديدة إلى الممارسة النقدية، وفي بعض الأحيان قدمت أمثلة تحليلية جيدة. وحالة الاضطراب التي رافقت دخولها إلى النقد العربي الحديث أمر متوقع في ثقافة تموج بالمتناقضات، ولم تفلح بعد في تطوير حوار عميق بين مواردها المتعددة، وينبغي أن نتعامل مع كل ذلك على أنه مقدمات لقبول الأفكار الجديدة، وتكييفها، وإعادة إنتاجها بما يفيد الأدب العربي. ولقد شهدت حقبة الثمانينيات من القرن الماضي هزة في التصورات النقدية، ولم تزل تتفاعل توابع تلك الهزة، لكن ردة فعل المناهج التقليدية كانت عنيفة أيضا، وبمرور الوقت خفت التنازع بين الطرفين، ولكن الأفكار الجديدة لم تقبل كما ينبغي، فما زالت صورة النقد السردي متقلبة، ولم تستقر بعد على أرضية متماسكة من الفرضيات والمفاهيم.

4- الآفاق
ظهرت )السردية( بوصفها المبحث النقدي الدقيق الذي يهدف إلى تحليل النصوص السردية في أنواعها وأشكالها المختلفة، فالسردية وليدة الدقة التحليلية للنصوص، وثمارها متصلة بمدى تفهم أهمية تلك الدقة، وإدراك ضرورتها في البحث الأدبي، وتقدير الحاجة إليها، وهي ليست جهازا نظريا ينبغي فرضه على النصوص، إنما هي وسيلة للاستكشاف المرتهن بالقدرات التحليلية للناقد، فالتحليل الذي يفضي إليه التصنيف والوصف، متصل برؤية الناقد، وأدواته، وإمكاناته في استخلاص القيم الفنية والدلالية الكامنة في النصوص. وبما أن الدقة لا تتعارض مع كلية التحليل وشموليته، فالحاجة تقتضي من السردية الانفتاح على العلوم الإنسانية والتفاعل معها بما يكون مفيدا في مجال التأويل وإنتاج الدلالات النصية، ويمكن استثمارها في تصنيف المرجعيات، ثم كشف قدر ة النصوص على تمثيلها سرديا. إلى ذلك يمكن أن توظف في المقارنات العامة، ودراسة الخلفيات الثقافية كمحاضن للنصوص، ومن المؤكد أن ذلك يسهم في إضفاء العمق والشمولية على التحليل النقدي، بما يفيد السردية التي يظل رهانها متصلا برهان المعرفة الجديدة.
لا يشجع واقع الدراسات السردية العربية كثيرا على استخلاص مسارها المستقبلي؛ ذلك أن الدرس النقدي في الأدب العربي الحديث لم يستقر على أسس منهجية متينة تضفي على التطورات اللاحقة شرعية ثقافية، فقد تداخلت معا المناهج الخارجية والداخلية، ففي آن واحد نجد المناهج التاريخية، والاجتماعية، والانطباعية، والنفسية، مختلطة بالمناهج الشكلية، والبنيوية، والتفكيكية، ونظرية التلقي، وإلى جانب ذلك نجد كتابة تختلط فيها الشروحات، والتعليقات، والانطباعات، والمقارنات، والخلاصات، والأحكام، وكل هذا مربك للعملية النقدية.
وفي وقت تحاورت فيه المناهج النقدية طويلا في الثقافة الغربية، وفي سواها، واستفادت اللاحقة من السابقة، واستثمرت كشوفاتها، وأدرجتها فيها، وجددتها، حدث العكس في نقدنا الحديث، فصورة النقد ملتبسة لدينا، فإذا أخذنا الممارسة النقدية في الدرس الجامعي، وجدنا أن كثيرا من الجامعات لم يزل يدرس النقد على أنه جزء من تاريخ الأدب، ويعتمد الشروحات والأحكام، ولم يقترب بعد من المفهوم النظري للنقد الحديث القائم على الاستنطاق والتحليل والتأويل، وتوفير الظروف المنهجية المناسبة لقراءة النصوص قراءة نقدية فعالة تفكك مكونات النص، وتنتج منه معرفة أدبية جديدة تساعد القارئ على تلقيه بطريقة أفضل، ولعلنا نعثر على هذه الظاهرة في كثير من الجامعات التي تتغذى على فكرة التعليم التقليدي، حيث لا تتوافر مقومات التفكير الحديث، فيما نجد حامعات لم تتبن فكرة الحداثة النقدية فحسب إنما استعارت السياق الثقافي الحاضن لها، فغرقت في المشكلات النظرية للنقد، وتمحّلت في تبني مناهج نقدية بمعزل عن حركة الأدب نفسه، ونجد في جامعات أخرى أن التعلق بفكرة الأصالة، وإضفاء المعطى الديني على الدرس الأدبي، قد حال دون الإفادة من الأفكار الحديثة التي أفرزتها الحركة النقدية خلال القرن العشرين.
هذه الخلفية الملتبسة لحال النقد لا تفسر الارتباك الحاصل في الدراسات السردية العربية فحسب، إنما تكشف لنا أنها تمربأزمة جدية، فقد انزلقت المجتمعات العربية إلى منطقة ثقافية مشوشة، وانتهى التعليم الجامعي إلى تبني فكرة التلقين، واعتمد مبدأ التلخيص، والاختزال، وليس التمثل، والحوار، والمشاركة، وإنتاج معرفة نقدية جديدة، ولعل ظهور الدراسات السردية في حقبة التحول هذه حال دون تقدير أهميتها، وتطويرها كمبحث نقدي جديد، وعليه فمن الصعب الحديث عن آفاق محددة للسردية العربية، إنما يمكن الحديث عن جهود فردية لم يقع هضمها وقبولها بصورة كاملة، وأحيانا يقع رفضها واستبعادها.
إلى ذلك لا نكاد نعثر على قواسم مشتركة في الدراسات السردية، بسبب الفوضى في المناهج، والمفاهيم، والتصورات، والخلفيات الفكرية التي يصدر النقاد عنها.
وبالإجمال فواقع الدراسات السردية العربية متصل بواقع الدراسات النقدية في الأدب العربي الحديث، وهذا الواقع مرتبط بحال ثقافة تتنازعها أفكار ومواقف متناقضة بعضها يرتمي في أحضان الفكر التقليدي، وبعضها يستعير من الآخر كل شيء، ولم يقع جدل عميق لننتهي إلى بديل مناسب يتفق بشأنه بشكل عام، ومن الطبيعي أن تظهر تجليات ذلك في النقد، ومنه الدراسات السردية.


ملحوظة :  من أهم مؤلفات الدكتور عبد الله إبراهيم  ما يأتي :
1- المطابقة والاختلاف، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004 .
2- موسوعة السرد العربي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005 .
3- المركزية الغربية، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1997 والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003 .
4- المركزية الغربية، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1997 والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003 .
4- المركزية الإسلامية: صورة الآخر في المخيال الإسلامي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2001 .
5- الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1999 .
6- التلقي والسياقات الثقافية، بيروت، دار الكتاب الجديد، 2000 وط 2 دار اليمامة، الرياض، 2001، وط 3 منشورات الاختلاف، الجزائر.
7- السردية العربية، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1992، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2000 .
8- السردية العربية الحديثة، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2003 .
9- المتخيل السردي، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1990 .
01- معرفة الآخر، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1990، ط 2، 1996 .
11- التفكيك: الأصول والمقولات، الدار البيضاء، 1990 .
12- تحليل النصوص الأدبية، بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، 1999 .
13- النثر العربي القديم، الدوحة، المجلس الوطني للثقافة، 2002 .
14- الرواية والتاريخ، الدوحة، المجلس الوطني للثقافة، 2006 

الخميس، 19 مايو 2011

مصطلح (( الإبستمولوجيا )) وأبعاده المعرفية

ما الابستومولوجية؟


يواجه الباحث اليوم صعوبات كثيرة في مجال البحث العلمي؛ ومن أهم هذه الصعوبات ما يعرف بمشكلة المصطلح الذي خصصت له مجموعة من الدراسات حيزا هاما، تناولت فيه أهم المشاكل النظرية والتطبيقية. إلا أن المشكلة ظلت معقدة تعقيدا بارزا، بالنظر إلى صعوبتها وصلابتها، والجهد الحثيث الذي تتطلبه.مما أسهم في إحداث اختلالات كبيرة في كثير من الأبحاث، وهو ما يتجسد في استعمال مصطلحات غير دقيقة، مما يحدث تشويشا لدى المتلقي؛ أي غياب الوضوح الذي يقتضي ضبط المصطلح والتحكم في استعمالاته للوصول إلى نتائج علمية جيدة تتبع المنهج العلمي. من هذا المنطلق جاءت فكرتنا المرتبطة بتناول مفهوم الابستيمولوجية. 


فما هي الابستمولوجية؟


يرى جميل صليتا في معجمه الفلسفي (1982) الجزء الأول، أن الابستومولوجيا هي نظرية العلوم، أو فلسفة العلوم؛ ويعني ذلك، دراسة مبادئ العلوم، وفرضياتها، ونتائجها، دراسة نقدية تمكن من أبراز أصلها المنطقي، وقيمتها الموضوعية. وهذه الدلالة مرتبطة بالمعنى الاشتقاقي للكلمة. وهي دلالة تحتلف عن المعنى الذي أسنده فوكو- حسب حسن كركي - الذي يؤشر على العقلية المعرفية لعصر من العصور.
إنه بالرغم من التعريفات التي يمكن أن تعطى للابستومولوجيا، فإنها تظل ملازمة للعلم. والعلم، هنا، هو مختلف الأنسقة المعرفية، لذلك نجد مجموعة من الأدبيات تتحدث عن الابستومولوجيا اللسانية، والأدبية، والجغرافية...إلخ.إنها كل الأعمال المعرفية مُرصَدة في خضم التطور الفكري والعلمي، والفلسفي. وهي بذلك ترصد العلاقة بين الذات والموضوع، باعتبارهما يشكلان المعرفة، وهذا ما يدل على ارتباط الابستومولوجيا بالعلوم المعرفية، أولا، وتمايزها عنها، ثانيا، فهي مرتبطة بالمنطق من حيث، إنها تدرس شروط المعرفة الصحيحة، وتختلف عنها لأنها تهتم بصورة المعرفة ومادتها معا، بينما يهتم المنطق بصورة المعرفة فقط؛ يدرس قوانين التفكير الأساسية، بصرف النظر عن مادة هذا التفكير أو موضوعه، فهو معني بصحة الاستدلال وسلامة الانتقال من المقدمات إلى النتائج، ولا شأن له بالحكم بانطباقها أو عدم انطباقها على الواقع، إنه معني بالصحة وليس معنيا بالصدق.كما يدرس التصورات والمفاهيم، لا في علاقتها بالعالم الخارجي، بل في علاقتها الداخلية بمبادئ التفكير المنطقي، وببعضها واتساقها معا. 
هكذا، نسجل أن الابستمولوجية علم مستقل يهتم بالبحث في طرق وأسس بناء المعرفة بمختلف أنساقها، وشروطها الصحيحة التي تجعل منها معرفة نظرية قابلة التحقق في الواقع

ما الإبستمولوجيا..؟
من المفردات أو المصطلحات التي ترد معنا كثيراً لفظة "الإبستمولوجيا"..
فماذا تعني..؟  , وما دلالة هذا المصطلح..؟ وهل نكتفي بالقولإنها ما يقابل علم الحفريات..؟
في محاولة للإجابة على سؤال عن هذا المنحى جاءت إجابتي وفق ما يلي
الإبستمولوجيا هي ما يتمثل بالأدوات المنتجة للأفكار.. لا الأفكار ذاتها.. 
على أن هناك تداخلا بين الفكر بوصفه أداةً لإنتاج الأفكار والفكر بوصفه مجموع تلك الأفكار.. كما يقول الجابري في مقدمة تكوين العقل العربي..؛ فليس هناك قوة مدرِكة معزولة عن مدرَكاتها
والجابري كما يعبر في مقدمة كتابه ذاك يخطو خطوة بالانتقال من مجال التحليل الإيديولوجي إلى مجال البحث الإبستمولوجي..؛ فقد استبعد مضمون الفكر العربي -الآراء والنظريات والمذاهب وبعبارة عامة الإيديولوجيا- عن مجال اهتمامه..؛ فحصر محاولته في تحليل وفحص الفكر العربي بوصفه أداةً للإنتاج النظري.. لا الإنتاج نفسه وهناك تفريقٌ قد يسهم في توضيح هذه الدقائق يتمثل في التفريق بين العقل المكوِّن ، أو الفاعل والعقل المكوَّن أو السائد.. ؛ فإذا كان الأول يعني النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة من خلال صياغة المفاهيم وتقرير المبادئ.. ؛ فإن الثاني ( العقل المكوَّن ) يعني مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في الاستدلال.. ويلي هاتين المرحلتين مرحلةٌ ثالثة وأخيره تتمثل في النتاج أو المنجز النهائي..وبذا يفترض أن تتجه جهودُنا في التغيير والنهوض إلى إنشاء وصياغة مبادئ وقواعد جديدة محلَّ القديمة؛ ليسودعقلٌ جديد.. أما محاولة التغيير من خلال ذلك المنتوج فلا تقدم حلولاً ناجعة..ويفترض أن نمارس عملية النقد هذه داخل ذلك العقل نفسه باستخدام آلياته ذاتها مع الاستعانة بمستفِّزات وآليات من خارجه _ بتعبير الجابري _ وكما عبّر أدونيس في مقطع سابق من تلك الوقفات المطوَّلة..
وإذا كانت الإبستمولوجيا تقوم على التعرف إلى آليات تكوين العلم الحديث وأسسه وأبعاده المعرفية والقيمية..؛ فإن هناك تداخلاً بين الإبستمولوجيا وعلم المناهج والعلوم الانسانية.. كما أن هناك صلاتٍ ضمنيةً أو صريحة تربطها بالفلسفة كما يقول (روبار بلانشاي) في كتابه عن الإبستمولوجيا.. 

ولأن الإبستمولوجيا تفكيرٌ بالعلم؛ فإنها تدخل في"ما بعد العلم" وربما كانت علاقة الإبستمولوجيا بنظرية المعرفة _ مبدئياً _ علاقة نوع بجنس؛ إذ تقتصر الإبستمولوجيا على المعرفة العلمية وحدها..
وربما أفلتت شيئاً فشيئاً من الفلاسفة؛ لتصبح في أيدي العلماء.. وربما امتدت في منطقة وسطى بين العلم والفلسفة متوسعةً على الجانبين؛ فهي ـ أساسا ـ دراسةٌ عقدية لمبادئ مختلف العلماء وفرضياتها ونتائجها وبقدر ما يتولد التفكير الإبستمولوجي من عوائق العمل العلمي؛ فإنه يظل قريباً من هذا العمل بما فيه من خصوصية..
وربما انشطرت الإبستمولوجيا علميةً و فلسفيةً وداخليةً وخارجيةً..؛ فإذا كانت الداخلية تأتي تحت أقدام العالِم نتيجةَ مشكلاتٍ تُطرَح داخل علمه بالذات؛ فإن الخارجية تأتي غايةً حاكمة لا محكومة تكتسب أهمية نظرية باعتبارها غاية، وليست مجرد وسيلة؛ لتقترب من الفلسفة أكثر..   

الاعتراف بوجود علاقة ماثلة بين العقل والواقع، بين الفكر النقدي والفضاء الإنساني، لصياغة الوجود بشروط عقلانية من اجل حياة أفضل، إحد التحديات النقدية التي قدمت لها "مدرسة فرانكفورت" منذ ثلاثينيات القرن الماضي. 
لقد وجدت "الثقافة" نفسها للمرة الأولى وإثناء جدلها العتيد مع العصر في مواجهة خيارات لم تألفها سابقا، بأسباب تحولات حضارية عميقة بات يحياها. وهو الدافع الذي جعلها تخوض نزاعا، وتؤسس لموقف مناهض بالضد من تصورات وممارسات شاملة، تسعى لتأليه الوقائع والتقنيات،باعتبارهما حقائق بامتياز. وبأثر النجاح الحاسم الذي تحقق مع اكتشافات العلوم الطبيعية عند بدايات ذلك القرن.
ان مفاهيم مثل "التشيؤ"، "العقل الاداتي"، "صناعة الثقافة"، التي ابتكرها مفكرو تلك المدرسة والأسئلة التي طرحتها ما زالت تحتفظ براهنيتها، وما زال المعنى الذي كشفت عنه يحتفظ بالكثير مما يخبرنا به.    

خاصة في ظل "ثقافة" معاصرة، أصبح الكثير من نتاجها وطبيعته خاضعا لخلاصات الحس التقني الاداتي المهيمن في حياتنا. بل يمكن القول ان السلوك الاستهلاكي لها، تحول الى ان يكون ميلا تاريخيا لهذا العصر. 
كانت الأطروحة النقدية لـ" مدرسة فرانكفورت " مسعى فكريا مثابرا لتجاوز الحيادية التي اكتنفت "الثقافة " في مضمونها السابق. بوصفها نشاطا فكريا وروحيا متعاليا، أو نتاجا لملكات فردية خلاقة. سواء كانت ممارسة معرفية فكرية أو جمالية متخيلة. لتعيين مضمون آخر لها ، شديد الحيوية، يفترض لها دورا أكثر تمثيلية للواقع وأشد نقدا لحاضره في دعوة إلى الملاءمة والتميز، ما يمنحها أهمية متواصلة كمجال للتأثير والنفوذ القابل والجدير بالتحليل، إذ لايمكن اعتبار ما هو مختص بالمعنى الروحي والفكري والجمالي للإنسان والعالم، شيئا معدا للاستهلاك. 
رؤية مغايرة كهذه، كانت موجهة ضد عالم بات يتخطى "الثقافة"، كنتاج تأملي وتعبير إنساني حي وحيوي، إلى نتاج يتم تمثيله ضمن حدود الفرجة المشهدية والإشهار. وبأثر هيمنة "الموضة"، "الإعلان"، "الصورة"، "الميديا". ومن ثم اشاعة الأنظمة الافتراضية، تكنولوجيا الاتصال، الوسائطية المتعددة بطابعها الالكتروني. ما يؤسس لحضور عنيد للإثارة، وصناعة استجابة آلية للمتلقي، تشكل جميعها ما يسمى "أيديولوجيا الحاجة الزائفة". بمعنى، ما يفرض علينا من الخارج كضرورة تحقق عملية الاستهلاك، بوفرة كثيرة تستدعي نفسها دائما لتلبي استحسان الجمهور وقبوله. وهو الأمر الذي يجعلها في وضع تكون خلاله خاضعة للتلاعب والخداع. مادام وهم الفرادة بديلا عن الفرادة ذاتها التي غابت في صخب المجتمع، والأصيل غدا لا يحتفظ إلا بتفاصيل عابرة. فـ "الثقافة" لم تعد انفتاحا على معانٍ مبتكرة في الحياة..!. لقد أصبحت واقعة الاستهلاك ممارسة تعادل الحرية أو تجاور حدودها. 
ان التوجه الذي بدا يجتاح العصر ومجتمعاته المدنية، في بعده السياسي، الفكري، الاقتصادي. يمضي إلى دمج وتوحيد أشكال العيش والمعارف والثقافات في العالم. وتجاوز الخصوصيات وكافة الفروق في سبيل جعله مكانا واحدا، وعبر عملية تنميط كوني تدعو إلى تسوية شاملة في جميع مناحي الحياة. من التسلية الحديثة حتى المنتجات والسلع الأنيقة، مرورا بالفن والفكر إلى العمارة وتصميم المدن. 
وعلى الرغم من ان الثقافة في احد أوجهها هي الكيفية التي نكون عليها، ولكن يبدو ان معناها وغاياتها هما اللذان تبدلا. جراء تأثير إجراءات مفهومية شديدة التعقيد والالتباس، مثل "ما بعد الحداثة"، "العولمة"، كمجموعة علاقات، استبدلت منظومة نظام عام، أو ما سمي بالسرديات الكبرى بوصفها تفسيرا كليا ونظريا شاملا، والتي أضفت قدرا من المعنى الثابت على ما هو وجودي ومعرفي. بأنظمة فرعية، أو سرديات جزئية، مستقلة، ذاتية التوجيه، تلفت النظر إليها كأثر قابل على الاستهلاك بأشكال معينة. وتؤشر أغراضا عملية، تدفع للتكيف مع الأشياء. 
انتقالة جعلت من " الثقافة " تفصح عن رغبة في الانطواء على نفسها، والتمركز على بنية طروحاتها الخاصة. وغض النظر عن مباد ىء كانت تعتبر دعامات مؤسسة للحداثة، مثل، التقدم، الحرية، العقل،الإنسان. خاصة، بعدما تغيرت أطروحة الذات العارفة، والتي كانت تعد شيئا متعاليا وجوهريا بالنسبة للوجود البشري، وكياناً فاعلاً مرتبطاً بشرطه الاجتماعي والواقعي، لقدرته على تحقيق ما هو أكثر عدلا ومصيرية. إلى ذات مغتربة، متعددة، فاقدة مركزيتها، متأثرة بحقبتها. وفي التحول الذي أصاب موضوع المعرفة باختزاله إلى معنى غير ثابت، تأسس له اللغة عبر علاقاتها ببعضها البعض. معنى لا يشير إلى حقيقته قدر ما هو نتاج علاقة بين الكلمات، ولا يرتبط بمعان أخرى إلا بأشكال طارئة. انه معولم عابر لحدود ثقافته. 
ان "الثقافة" ضمن هذا المجال، غدت تعيش تطورا غير متكافىء. ينطوي على إشكالية تعززها أساليب الإنتاج السريع، سواء في الأفكار أو المفاهيم. شانها يشابه الحياة المعاصرة تماما، والذي يسعى كل ما فيها، كي يكون موضة، تستهلك وتتلاشى. إنها جديدة فقط. تهمل الماضي وتخفي صلتها بالأفكار السابقة. بل تجعلنا نخوض التعامل مع العالم، بأسباب غياب البعد التاريخي بذريعة الاهتمام بأحداث الحاضر. فالأطروحة الثقافية المعاصرة، أصبحت طاردة، تقصي المجادلات والأسئلة السابقة. لافتراض مجال وحيد لها هو الجديد، المتعلق بالراهن الذي لا ينتج سوى المظاهر. وكأن جميع الأفكار والتجارب باتت تأتي من مكان غير متعين لتذهب إلى آخر غير معروف. ان سعرها هو ثمن تخطيها وغيابها. 
بأسباب هذه التوصيفات، اخذ العديد من النقاد يشير إلى تشكل "ثقافة" نرجسية في محتواها. بدواعي شكليتها وتأنقها وسعيها للنجاح والاهتمام بالشهرة. وكذلك وقائيتها وحذرها و تماهيها مع نفسها وادائيتها الخاصة. تحدوها رغبة ملحة في إعادة إنتاج ذاتها من خلال فرديتها ومحتواها المناور واللانقدي. 
من هنا تبدو أهمية الأفق النقدي في أطروحة "مدرسة فرانكفورت"، للكشف عن وعي يؤطر "ثقافة " مستقلة، والتفكير بإمكانيات أخرى لها في هذا المجتمع العالمي الكبير. محاولة لإدراك طبيعة مغايرة قائمة على مراجعة دائمة وناقدة لوظيفتها. خاصة،ضد طروحات أخرى، تدعو للاحتفاض بتعاطف سري مع فكرة تصنيع وتسليع ما هو ثقافي وتشيؤه بشكل مجرد. 
في عصر يحيا هذا التقارب المتشابك، بين التحولات التي تصيب الاجتماعي والمتغيرات التي تطال الثقافي، والذي لايمكن خلاله فهم طبيعة الأول دون قراءة نقدية لوظيفة الثاني. كما في التهيئة لمجتمع مختلف ومعرفة مغايرة، يفترضان وجودا لم تتضح معالمه بعد. لابد من أسئلة تسعى لتأسيبس مجال نقدي جديد وأفكار أكثر معاصرة.