البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

الأحد، 30 يناير 2011

واقع اللغة العربية في وسائل الإعلام


واقع اللغة العربية في أجهزة الإعلام
(عرض تقويمي)
(*)د. أحمد بن نعمان

إذا كانت اللغة من الناحية الشعورية والوجدانية تمثل روح الأمة، ومن الناحية الثقافية تمثل الوعاء والوسيلة الناقلة للأفكار والتقاليد والخبرات عبر الأجيال المتعاقبة على تاريخ الأمة، وكانت من الناحية السياسية هي معالم الحدود الحقيقية للرقعة الجغرافية الوطنية والقومية، ومن الناحية السيادية هي أهم أسس الهوية ومكونات الشخصية والوحدة الوطنية، لأية مجموعة بشرية، تعيش في انسجام على وجه الكرة الأرضية... إذا كانت اللغة كذلك فلأنها تعتبر بدون منازع أفضل وسيلة للتخاطب بين الأفراد، والتعبير عن أفكارهم. وهي وإن لم تعتبر الأداة الوحيدة للاتصال بين الأشخاص، إلا أنها أداة لا غنى عنها لبني البشر لبناء الحضارات وتشكيل الأمم وتوحيد الأوطان، كما أن للغة أهمية كبرى لكونها أداة فعالة لشحذ الذاكرة ونقل المعرفة والتعبير عن المفاهيم المعقدة، وفي ذلك يقول الباحث العربي نور الدين حاطوم : (لقد أصبحت اللغة ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر من أهم المقومات المحددة للجنسية لأي شعب أو أمة)([1]).
ويؤكد ذلك أيضاً الفيلسوف الألماني (فيخته) بقوله: (أينما توجد لغة مستقلة توجد أمة مستقلة لها الحق في تسيير شؤونها وإدارة حكمها)([2]).
ولقد تأكد من خلال القرن العشرين حين لجأت الدول المنتصرة عقب الحرب العالمية الأولى في اجتماعها "بفرساي" إلى تعيين الحدود بين الدول على أساس المناطق اللغوية، وحتى عندما تتشابك الثقافات في المناطق الواقعة بين أمتين كبيرتين، تكون اللغة عادةً هي المعيار الذي يحدد شخصية الإقليم المتنازع عليه([3]).
وقد استعمل موسوليني بالفعل هذه الفكرة لأغراض توسعية، إذ كان يحس بأن مطالبته بضم جنوب "تيرول" لن تكون شرعيةً إلا إذا قطن هذه المنطقة سكان ناطقون باللغة الإيطالية، مما جعله يشجع الإيطاليين على الهجرة إلى تلك المنطقة([4]).
وإذا قلنا بأن اللغة هي المعيار لبيان حدود أمة، فلأن خاصية كل لغة تترك أثرها على نفسية الشعوب وطريقة تفكيرها، وهي الذكريات المشتركة للأمة، وإذا اندثرت ضاعت معها معالم القومية، ويمكن القول (بكيفية شبه عامة) بأن اللغة والدين المرتبط بها، إن كان موجوداً، (كما هو حال الإسلام واللغة العربية في أمتنا)، يعتبر من العناصر الأساسية التي تكون الثقافة والشخصية القومية لأي أمة في العالم.ولما كانت اللغة بهذه الدرجة من الأهمية، فإننا نجد صفاتها الوطنية والرسمية محددة عادةً في مقدمة المواد الدستورية للدولة المستقلة (...) مع إدراج بنودها في الغالب ضمن المواد التي لا تقبل المراجعة والتغيير، لكون المساس بكنهها يعني المساس بقداسة الوجود ضمن الحدود المعترف بها.
ولقد كانت اللغة وما تزال هي المفجر أو الصاعق الكامن وراء جل الصراعات العرقية القائمة بين شعوب الدولة الواحدة، داخل التراب الوطني، أو على الحدودالإقليمية والسيادية للأقطار المتجاورة في البنيان، والمتغايرة في الولاء والشعور والوجدان، الناتج عن اختلاف استعمال اللسان، بصفته مرآة السياسة وعنوان السيادة في جميع البلدان !!.
وهذا ما وقع في الماضي وما هو واقع اليوم بين كوريا والصين واليابان، والصرب والألبان، والفرنسيين والألمان، والباسك في إسبانيا والكاتالان، والفالون في بلجيكا والفلامان، والأكراد في العراق وتركيا وإيران، والأوزبك والباشتون والطاجيك والهازارة في أفغانستان، والبلوش والسنهال والتاميل في سيلان والهند والباكستان (...).
وكانت اللغة المستضعفة والمستهدفة من هذه الوجهة، وبدون منازع، هي بين الداء الذي ينخر الكيانات القومية الضعيفة لإزالتها من الوجود ... وكانت اللغة وقوتها في مقدمة كل دواء، لوقاية كيان الدولة ووحدة الشعب والأمة من التشتت والتفرق والتمزق، إلى كيانات مجهرية لا حصر لها، داخل الرقعة الجغرافية الواحدة، كما يتجلى، على خريطة العالم الممدودة، كالحصيرة أمام كل ذي بصر وبصيرة ... .
وانطلاقاً من كل الحيثيات السابقة يكون حديثنا عن واقع اللغة العربية مرتكزاً على مجال الإعلام والصحافة... ونقسمه من الناحية المنهجية إلى عدة عناصر متكاملة نرتبها على النحو التالي :
أولاً : قيمة اللغة العربية في ذاتها كلغة قومية، متكاملة العناصر، وذات خصائص علمية وأبعاد تاريخية ودينية وحضارية عالمية.
تنحدر اللغة العربية الحالية من اللغة السامية كما هو معلوم، وتمتد بتاريخها إلى قرون عديدة قبل ظهور الإسلام...وإذا كانت لها نظيرات عديدات من اللغات التي تشترك معها في الأصل، إلا أنها تميزت عنها جميعاً بقوة الصمود، والمحافظة على الروابط التي تصلها باللغة الأصل، ويرجع ذلك إلى عدة عوامل تاريخية وجغرافية ودينية، يأتي في مقدمتها ارتباطها بكتابها المقدس الذي حفظته وحفظها بكيفية مكنتها من التغلب على جميع اللغات التي احتكت بها بعد الفتح الإسلامي، كالفارسية والقبطية والسريانية والفينيقية والبربرية والرومانية ... وجعلها هذا التميز التحصيني الرباني تؤثر في هذه اللغات أكثر مما تأثرت بها، وأقوى دليل على ذلك أن أية لغة في العالم اليوم لا تكاد مفرداتها تصمد في الاستعمال بالألفاظ والدلالات ذاتها لعشرات السنين دون تغيير، مثلما هو الشأن بالنسبة للغة العربية التي نتحدث بها اليوم بالكيفية اللفظية والدلالية ذاتها التي كان يتحدث بها القرشيون في مكة المكرمة لحظة نزول القرآن الكريم، في حين يصعب إن لم نقل يستحيل أحياناً أن نقرأ نصّاً لديكارت أو شكسبير أو موليير أو نص أدبي إنجليزي أو فرنسي أو إسباني أو ألماني مكتوب في القرن التاسع عشر دون أن نستعين بالمناجد ذات الشروح المتعددة الخاصة لتطور الدلالات اللفظية للمفردة الواحدة ... .
هذا من حيث ثبات واستقرار استعمال اللغة العربية بالمعاني والألفاظ ذاتها لعدة قرون ... !!.
أما من حيث استيعابها للجديد من المخترعات الحضارية في مختلف المجالات واللغات، فهي تتوفر على قدرة عجيبة في هذا المجال بما تتميز به من خاصية فريدة في الاشتقاق([5]) والنحت والتركيب والتعريب، بحيث لا يعوقها عائق ذاتي في استيعاب أي لفظ منطوق بأية لغة وتبينه بلفظه أو بمعناه أو بالاثنين معاً، دون أي عائق يحول دون ذلك فيما هو معلوم !! وهذه الميزة الفريدة اعترف لها بها العلماء من الخصوم قبل الأبناء والأصدقاء([6]).
وعن هذا الموضوع يقول الدكتور شرباطوف (أكبر المستشرقين الروس): (ولقد أظهرت اللغة العربية قوتها في القرون الماضية، وتستطيع هذه اللغة اليوم بفضل ثراء أصلها التاريخي، ولما اكتسبته من الظواهرالجديدة مثل كثرة المصطلحات العلمية والفنية الجديدة أن تساير التطور في جميع مراحله ومجالاته)([7]).
وهو ما يؤكد ما ورد في كتاب "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة تحت عنوان : "اللغة العربية لغة عالمية"، حيث جاء ما نصه : تساءل الناس منذ ربع قرن أو يزيد عن موقف العربية من اللغات العالمية الكبرى، فعدها قوم واحدة منها، وأنكر عليها ذلك أقوام آخرون، وسبق أن أثبتنا أنها كانت في الماضي ولعدة قرون اللغة الوحيدة للعلم والفلسفة في العالم بأسره (من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر الميلادي)، ثم انضمت إليها اللاتينية فأخذت منها واتجهت عن طريقها إلى كنوز الحضارات القديمة...وبرهنا على أنها جديرة بأن تستعيد مجدها، وليس في طبيعتها ما يعوق مطلقاً دون أن تؤدي كل متطلبات العلم والحضارة، ومنذ النصف الأخير من القرن الماضي أخذت تجدد نشاطها وتتدارك ما فاتها، وحظيت أخيراً بإنتاج وفير ومتنوع...وأقامت العربية الدليل على حيويتها وعلى قدرتها على البقاء، ولم تجد الهيئات الدولية بداً من أن تعترف بها وتقدرها قدرها... وقد بقي هذا القرار لسنوات عديدة بين تأييد ومعارضة، إلى أن أخذ به في المدة الأخيرة، وأصبحت اللغة العربية في المؤتمرات والاجتماعات الدولية على قدم المساواة مع اللغات العالمية الكبرى ...([8]).
وعلى لسان الدكتورأحمد إسماعيلوفيتش اليوغسلافي سابقاً (البوسني حالياً)، ورد ما يؤكد كلام المجمع بقوله: (إن الحضارة الإسلامية العربية في يوغوسلافيا قديمة، وهي ليست غريبة ولا جديدة على أوروبا. قبل ضياع الأندلس كانت أوروبا كلها تتجه للعرب وحضارتهم، وقد أثرت هذه الحضارة في النواحي الفكرية والمادية في أوروبا حتى بعد خروج العرب من الأندلس ... وعندما زار الرئيس (تيتو) القاهرة سنة1961) وكنت حينها مديراً للمدرسة اليوغسلافية في القاهرة) سألني عمّ إذا كان أبناؤنا يدرسون اللغة العربية في برنامجهم الدراسي ... وقال : (إنني أريد أن يتعلم أبناؤنا اللغة العربية لأنها لغة المستقبل)([9]).
وعن هذه الامتدادات الحضارية للغة العربية في العالم، يقول الدكتور إبراهيم مذكور: (لقد قدر لي أن أزور ألمانيا وروسيا سنة 1969، وقضيت بعض الوقت في إحدى مدنها الكبرى، فلاحظت الاهتمامات في قسم الدراسات العربية بجامعتها منصبة على اللغة العربية وما يتصل بها من اللهجات... وتعمر بعض الجامعات الأوروبية والأمريكية بنفر من الأساتذة العرب يقومون على أمر الأدب والثقافة الإسلامية، ولست في حاجة أن أشير إلى تلك المعجمات الثنائية الكثيرة التي ظهرت في روسيا في العشرين سنة الأخيرة، وهي تجمع بين الروسية والعربية، وتنصب على اللغة تارةً، أو على العلم والتكنولوجيا تارةً أخرى"([10]).
ويقول في مكان آخر: (وعلى الصعيد الدولي استعادت اللغة العربية مكانتها، وبرهنت على أنها جديرة بأن تقف في مصاف اللغات العالمية الكبرى. فهي لغة علم وأدب وفن وحضارة، اتسع صدرها لكل جديد، وقد استخدمت الحاسبات الإلكترونية في دراستها)([11]).
وبالنسبة لقيمة هذه اللغة وقوة التحدي الحضاري الذي تتميز به رغم ما يوجد عليه بعض أهلها من تبعية ودونية وهو أن يقول الأستاذ الكاتب سمير عطا اللّه : "إن اللغة العربية في حركة صغيرة تعطي الكلمة الواحدة ألف لون ولون، وألف معنى ومعنى، فإذا كانت اللغات العريقة قد تطورت إلى ما تعرف الآن من رقي في التعبير، فإن اللغة العربية تظل ملكة اللغات كمثل ملكة النحل في عالم القفير... ففي أية لغة أخرى في الكون (غير العربية) يقال مثلاً : "امرأة حامل ؟" لأن الرجل لا يشاركها في حمل البطن، في حين يقال : "امرأة حاملة" إذا حملت شيئاً على رأسها أو ظهرها، لأن الرجل يشاركها آنذاك في مثل هذه الحمولات !؟.
ليس في اللغات التي أعرفها مثل هذه الدقة في التعبير، وقد سألت بعض المستشرقين، بريطانيين وفرنسيين، عن كيف يترجمون كلمة: "Nuance" فوجدت بعضهم يترجمها بـ "لطائف" اللغة، والبعض الآخر بـ "دقائق" اللغة، أما أنا فإني أتمنى أن تصبح "رقائق" اللغة، ليس فقط بمعنى الرقة اللغوية الساحرة، بل الرقائق بمعنى رقائق السيلوفان التي يتكون منها الكومبيوتر اليوم، فقد قال لي أحد خبراء الخط حين سعى إلى تطعيم الحرف العربي في الآلة الحديثة أنه اكتشف أن مكونات اللغة العربية (بالمقارنة مع اللغات الأخرى) كأنما هي وضعت لعصر الإلكترون، فقد استوعبها الحاسوب بثلاث محاولات بدلاً من ست وعشرين([12]).
ثانياً : تقويم استعمال اللغة العربية الراهن في البلاد الناطقة بها وتحديد مظاهر وأسباب هذا الخلل الواقع بين ما هو كائن وما يجب أن يكون.
 وإذا كنا قد حددنا ما للغة العربية من خصائص ومميزات في ذاتها، بما لا يترك أي مجال للشك في قيمتها العلمية والحضارية، بما يسقط كل الذرائع التي قد تقدم في هذا الخصوص بالنسبة لأعداء هذه اللغة الذين يتربصون بها الدوائر في الخارج والداخل لأسباب متعددة، قد تختلف في المنطلقات، ولكنها كلها تصب في هدف واحد، هو القضاء على أهم أسس ومكونات الأمة وتقويضها من الداخل، بعد أن فشلت كل محاولات الأعداء للقضاء عليها من الخارج ... .
وإذا كان من البديهي القول بأن استعمال أية لغة يتطلب بالضرورة حداً أدنى من إتقانها، ثم امتلاك الرغبة في ذلك بسبب ربط التعلم ذاته، وكذلك الاستعمال
بمنفعة ما ذاتية أو إلزام خارجي اجتماعي أو ديني أو اقتصادي أو سياسي أو إداري... فإننا نتناول هنا سبب هذا القصور الشنيع في استعمال اللغة العربية في واقع الناطقين بها لمعرفة مختلف الأسباب والعوامل الذاتية والموضوعية التي أدت إليه، ونبدأ بـ :
1. عدم إعطاء بعض العرب مكان الصدارة للغة العربية في بلدانهم
لا نجد أوضح وأصدق من المقولة العربية : (من لم يحترم نفسه لا يحترمه الغير) لنطبقها على العرب في هذا الخصوص، حيث إننا لا نكون منطقيين مع أنفسنا، وواقعيين مع التاريخ، أن ننتظر الازدهار والسيادة للغة العربية في وطنها، ونحن نضعها في المرتبة الأخيرة من اهتماماتنا الوطنية والقومية، فنجد من يعتبر اللغة (قومية أو غير قومية) مجرد وسيلة للتفاهم، وإذا حصل التفاهم والتعلم بين الأفراد بغيرها فقد ثبت المطلوب في نظرهم، وبالتالي يكون من قبل "التعصب" المطالبة القومية بأن تكون لغة التفاهم بين أفراد المجتمع العربي، وكذلك لغة التعليم بجميع مراحله وتخصصاته هي العربية (!؟).
وهذا ينطبق على استعمال اللغات الأجنبية، كما ينطبق على استعمال اللهجات الدارجة العربية التي أصبحت تنشر بها الخطب الرسمية في بعض الأقطار المشرقية على الخصوص، مما جعل الطلاب الأجانب الذين يؤمون أقطارنا لدراسة اللغة العربية يصدمون بواقع مخجل، حيث لا يكادون يجدون أثراً للغة الضاد في الواقع، فينكبون على تعلم اللهجة المحلية لهذا البلد العربي أو ذاك، لكي يفهموا ما يقال في الصحافة المكتوبة أو المسموعة أو المرئية، فضلاً عن التفاهم مع أفراد المجتمع الذين يفضلون استعمال اللهجات العامية إذا تعذر عليهم مخاطبة الأجنبي بلغته الأصلية في بلدانهم، وأبرز مثال على ذلك ما نجده في السوق من تداول للقواميس المعدة باللهجات المحلية مع لغة أو لغات أجنبية (فنجد مثلاً قاموساً فرنسياً تونسياً أو إنجليزياً مصرياً أو إسبانياً مغربياً أو فرنسياً جزائرياً).
ولا نجد للفصحى أثراً في الوقت الحاضر، إلا في أوراق الامتحان الكتابي والكتب المقررة ! ونحن الآن إذا وجدنا مبرراً للأميين العرب الذين يتحدثون باللهجات المحلية... فكيف نجد للجامعيين العرب (طلاباً وأساتذةً) وللمثقفين العرب، في احتقار الفصحى، أو التهوين من قيمة التحدث بها - على الأقل - في الحرم الجامعي، وفي منابر العلم المختلفة... فكيف ينتظر العرب أن تنتشر لغتهم في العالم، وتكون لها قيمة عملية تذكر، وهم يحتقرونها في بلدانهم ويفضلون عليها اللهجات المحلية، ويفرضون تعلم هذه اللهجات المحلية على الأجانب القادمين إلى بلداننا لدراسة لغتنا القومية ؟!.
ثم كيف نتصور نظرة الأجنبي إلى العرب واحترامهم كقوم يدعون أنهم يكونون وحدة ثقافية متجانسة، وهو مضطر إلى إتقان أكثر من عشرين لهجة عربية، كي يفهم العرب أو يتفاهم معهم ؟!.
ويضاف إلى هذا العامل (الذي سنفصل الحديث عنه لاحقاً) عامل آخر لا يقل أهمية وتأثيراً عن استعمال اللغة العربية في الحياة العامة عموماً وفي وسائل الإعلام على وجه الخصوص، ويتمثل في مصدر معرفة اللغة في ذاتها، ونعني به المؤسسات العربية المعدة لهذا الغرض، وهي الجامعات والمعاهد العليا بصفتها معامل تخريج الرجال لمجابهة الحياة في مختلف مجالاتها، ودمغ معارفهم وتأكيد قناعاتهم، وعقد قلوبهم على ما تشربوه من قناعات في تلك الجامعات، وهنا تأتي أكبر مفارقة في واقع اللغة العربية لا نعرف لها نظيراً في أي بلد معاصر في العالم! وهي تتمثل في :
2. سيطرة اللغات الأجنبية على الأقسام العلمية في معظم الجامعات العربية في المشرق والمغرب على حد سواء.
وابتعاداً عن تعليق هذا التقصير الخطير على شماعة الاستعمار، نذكر أن هذا الوضع الشاذ الذي توجد عليه اللغة العربية في جامعات الدول المنتسبة إليها والذي له انعكاسات خطيرة على استعمالها في مجالات الحياة كما قلنا، يعود ولا شك في تاريخه إلى الحملة الاستعمارية الصليبية التي شنها الغرب على البلدان العربية بدءاً بغزو فرنسا للجزائر سنة 1830 ثم أقطار المغرب العربي بعد ذلك ثم غزو الإنجليز لمصر والبلدان الشرقية الأخرى تبعاً لذلك وكذا الاستعمار الإسباني والإيطالي في كل من المغرب وليبيا ... والذي يهمنا ذكره في هذا الخصوص هو أن لغة التدريس لكل العلوم العصرية (بما فيها الطب والهندسة) في ذلك الوقت كانت هي اللغة العربية وحدها ... ولكن بعد أن أمسك المحتل قبضته على أرض الكنانة والأزهر الشريف أصدر قراره بجعل لغة تدريس الطب وجميع الفروع العلمية في الجامعات المصرية باللغة الإنجليزية (بما فيها جامعة الأزهر الشريف) وما يزال الوضع منذ ذلك التاريخ محنطاً على ما كان عليه حتى هذه اللحظة، بل ازداد تدهوراً وخطورةً بتوسيعه إلى بعض المواد الاجتماعية والإنسانية الأخرى التي كانت تدرس باللغة العربية في عهد الاحتلال لتعجم اليوم تحت شعار الانفتاح والتخلص من عقدة الاحتلال في "الاستقلال".
وفي هذا الخصوص نورد هذه الشهادة (من أهلها) للأستاذ فهمي هويدي الكاتب والباحث المهتم بالهم الحضاري العربي والإسلامي، حيث يقول ما نصه: (... سياسة الانفتاح المنفلت التي أنتجتها الدول العربية بدرجات متفاوتة، حيث أدت إلى ما نشهده من هجوم واسع النطاق للسلع الأجنبية متوازياً مع هجوم للثقافة الأجنبية... حتى أصبح الذين يجيدون اللغات الأجنبية هم المتميزين اجتماعياً واقتصادياً، وصارت المدارس الأجنبية تحظى بإقبال غير عادي، بل وجدنا بعض الجامعات الوطنية تفتح فروعها للتدريس باللغات الأجنبية، الأمر الذي لا يخلو من مفارقة... فبعد أن حقق العمل الوطني إنجازه بتعريب التعليم الجامعي خصوصاً في كليات الدراسات الإنسانية، وبينما الأصوات تتعالى لمواصلة الشوط بتعريب مناهج الكليات العلمية من طب وصيدلة وهندسة وما إلى ذلك، إذا بنا نجد الكليات التي تم تعريبها تعود للتدريس باللغات الأجنبية، على الأقل هذا ما حدث في جامعة القاهرة (كلية الاقتصاد والعلوم السياسية))([13]).
وما وقع لمصر قديماً وحاضراً وقع في كلية طب بيروت التي كانت تدرس بالعربية وقد أصبحت منذ الاحتلال، وما تزال إلى الآن، تدرس باللغة الإنجليزية.
أما بلاد المغرب العربي فالأمر أكثر استفحالا في هذا المجال وكان من نتائج ذلك أن عمل الاستعمار على تشويه صورة استعمال اللغة القومية في مختلف المجالات وعلى الخصوص في مجال الإعلام والصحافة بصفتها الواجهة المرئية التي تعكس أوضاع الأمة للناظر إليها من الخارج، وخاصة في عهد الفضائيات التي تطوي المسافات وتعبر القارات في لحظات !
وهو ما انعكس سلباً على استعمال اللغة العربية والذي يمكن أن نحدد أهم مظاهره في النقاط التالية :
أ) إبعاد اللغة العربية عن مجال التفاعل مع العلوم الحديثة المختلفة في التدريس والبحث والتأليف والترجمة، وبالتالي إبعادها عن مسايرة العصر التكنولوجي الراهن باستيعاب المفاهيم والمصطلحات العلمية الحديثة، وظهور الدوريات والمصادر العلمية المختلفة بهذه اللغة العربية التي باتت أحياناً أجنبية في عقر دارها !.
ب) استبقاء اللغات الأجنبية المختلفة للتدريس في مختلف الفروع العلمية في معظم الجامعات العربية، وقد نتج عن ذلك :
ج) بقاء خريجي تلك الجامعات العربية مرتبطين ببلدان الشرق والغرب في تبعية يخجل منها الاستقلال السياسي الذي حققه الوطنيون الأحرار في تلك الديار... حيث نجد هؤلاء الباحثين والعلماء العرب يثرون بمؤلفاتهم وأبحاثهم العلمية، حضارات تلك اللغات الأجنبية التي زاولوا بها تخصصاتهم العلمية في الجامعات العربية والأجنبية (...) بمعزل عن المساهمة في عملية الإبداع العلمي العربي الأصيل، على غرار ما تفعله كل الأمم الصغيرة أو الكبيرة في العالم، كالصين واليابان وتركيا وإيران وبلغاريا واليونان وبولونيا والمجر ورومانيا وفنلندا وفرنسا وإسبانيا وأمريكا وبريطانيا والبرتغال وهولندا وألمانيا دون أن نجد في بقية الجامعات العربية إلى حد الساعة، باستثناء الجامعات السورية كما هو معلوم التي تحذو حذو جامعات الدول المذكورة، وكأن الشقيقة سوريا هي وحدها الدولة العربية التي يقع عليها عبء توفير هذا الشرط الضروري لتحقيق النهضة الحضارية العربية في أدنى صورها المأمولة، مقارنة بالقيمة الحضارية للغة العربية، والأمة المحسوبة عليها نظرياً، كما سبقت الإشارة !.
وكان من النتائج المنطقية لذلك في نظر الأجانب هو :
د) إظهار اللغة العربية في موقف العاجز عن مسايرة التطور العلمي والحضاري، مما يشجع الأقطار العربية الأخرى ويضطرها إلى تبني لغة علمية (جاهزة لديها من موروثات الاحتلال السابق) لبناء التقدم الموهوم ... وطالما أن العرب لا يعتمدون لغة علم واحدة (على غرار النموذج السوري) في جامعاتهم، حيث ما يزالون يدرسون العلوم في كل بلد بلغة المستعمر الإنجليزي أو الإيطالي أو الإسباني أو الفرنسي، فتكون النتيجة الحتمية ألاّ تتحقق حضارة عربية وإعلام وصحافة موحدة على الإطلاق، لأن هذه المظاهر الحضارية لكي تكون عربيةً يجب أن تكون على مستوى كل الأقطار العربية، ولكي تكون ذات هذا الطابع العربي العام يجب أن تكون بلغة واحدة وموحدة الاستعمال على مستوى الرقعة الجغرافية، للمحسوبين على العربية والحاملين لأسمائها، ولا يمكن أن تكون كذلك إلا باللغة العربية التي تجمع كل العرب وتمثل أحد الأركان الأساسية لوحدتهم المعهودة والمنشودة ... .
هـ) عزوف الطلبة العرب عن اللغة العربية إلى لغة الحياة والمناصب، حيث أصبح المستقبل المضمون للشباب العربي يراه في الهندسة والطب والإلكترون، أكثر مما هو في الآداب والعلوم الاجتماعية، وما سيتبع ذلك من تعلم لغة الإدارة والإعلام والصحافة... وهي مفارقة محزنة ومخزية في التاريخ العربي المعاصر، حيث يتواصل الشباب العربي فيما بينهم "بالأنترنيت" باللغات الأجنبية، تماماً مثلما يتواصلون مع الشباب الفرنسي أو الإنجليزي في أي بلد في العالم !.
و) غرس عقدة النقص في نفوس الناشئة العربية بتكوين صورة سيئة في أذهانهم عن اللغة العربية، بوصفها لغة عاطفة وليست لغة عقل وتحليل، ولغة شعر وقصص وخيال وأقوال، وليست لغة طب وعلم وهندسة وأعمال وإعلام وصحافة عالمية ... وهذه الذهنية السائدة لدى بعض الناشئة العربية هي معذورة فيها للأسباب المذكورة نتيجة لهذا الوضع الشاذ والأعرج الذي توجد عليه اللغة العربية في أقطارهم كما هو مبين، وهو ما يمثل عائقاً بعيد الأثر في سبيل الاستعمال المنشود للغة القومية في أدنى درجاته المقبولة، حيث يشتت القوى الناشئة من أبناء الأمة بين العقل والعاطفة، وبين الروح القومية والمصلحة الشخصية، فيتذبذبون بين الاستجابة إلى نداء الضمير والواجب الوطني والقومي بإتقان اللغة العربية، وبين إلحاح الغريزة "البطنية" بإتقان اللغات الأجنبية المرهون مستقبلهم الوظيفي بإجادتها على حساب اللغة القومية !.
وعن هذه المفارقة العجيبة الواقعة بين عبقرية اللغة العربية وعظمتها من جهة، والانفصام الشنيع الواقع بينها وبين بعض أبناء هذه الأمة الذين يحملون اسمها وأسماءها ويحسبون عليها بين الأمم في هذا العالم ... يقول الدكتور محمد غوري (عضو اتحاد الأطباء العرب) في مقال له بعنوان "تعريب الطب واقع اللغات وطموحات" :... لا يرتاب أحد من الباحثين اللغويين، قدامى ومحدثين، شرقيين وغربيين، في أن العربية من أقدم اللغات وأقواها أصالة وأوسعها تعريفاً ... فهي مرنة مطواعة تلبي أدق مطالب العلوم، وخاصةً منها العلوم الطبية بألوان اشتقاقاتها، وأنواع صيغها، أسماءً وأفعالاً وصفات، وباستعدادها الأصيل للاقتباس والتعريب لكل لفظ دخيل من ألفاظ الحضارة والفنون والعلوم ... .
إن اتحادنا قد حمل فكرة تعريب الطب منذ إنشائه سنة 1982م، فمؤتمراتنا الطبية التي تقام في وسط أوروبا ترفع شعار "العربية لغتنا"، جمعيتنا الطبية هي الأولى من نوعها بمقالاتها العلمية والطبية والتخصصية ناطقة بالعربية، ورفع الاتحاد مذكرات عديدة إلى وزراء الصحة العرب، وإلى نقابات الدول العربية، وكذلك إلى منظمي المؤتمرات الطبية في الأقطار العربية، مذكراً إياهم بأن الطب في العالم كله يدرس بلغة بلده الأصلية، فاليونان والألبان والبولونيون وحتى أرمينيا وفي دولة طاجكستان ... كل يدرس بلغته القومية. فلم إذن ندرس العلوم الطبية في بلادنا باللغة الفرنسية أو الإنجليزية، وطالب الاتحاد كافة المنظمات المعنية بوضع حد لهذا الانهزام الحضاري([14]).
وخلاصة القول أن اللغة العربية لو كانت عاجزةً في ذاتها عن مسايرة التطور العلمي المنشود لهان الأمر، ولوجدنا عذراً للمستعجلين والمشككين في قدرة هذه اللغة على مسايرة التقدم في جميع مجالاته...ولكن الذي يبعث على الاستغراب والرثاء في آن واحد، هو أن معظم الأقطار العربية لا تقرّ - صراحةً ورسمياً - بعجز اللغة العربية، بل تدبج بها كل دساتيرها كلغة وطنية ورسمية...إلا أن الحماسة الشعبية و"الدفاع" الرسمي عن لغة الضاد بالكلام شيء والردّ بالفعل الخلاّق والجاد المتمثل في العمل على تدريس العلوم بها في الجامعات العربية شيء آخر! يحول دونه الكسل المثبط للعزائم والهمم وأشياء أخرى من الذي ذكرناه وما لم نذكره مما يقضي على وجود الحضارات والأمم !!.
ثالثاً : تحديد نوعية المشاكل والمعوقات التي تعترض الاستعمال الأمثل للغة العربية.
ولما كانت اللغة العربية على هذا المستوى الذي ذكرناه من علاقتها الوثيقة بالحضارة العربية الإسلامية ذات الطابع المتميز، فإنه من غير الطبيعي ألاّ تصادفها المشاكل وتعترض طريقها العوائق والمعوقات وتحوم حولها التشكيكات في قدرتها على القيام بدورها الحضاري الذي يجب أن تستمر في القيام به لتبقى حية ولا تتجاوزها الأحداث لتحيلها إلى متحف اللغات ... كما يرغبون ويعملون كل ما في وسعهم لتحقيق ذلك (...).
وإذا كان الكمال المطلق لأي شيء في هذا الوجود يعتبر مثلاً أعلى يتاق إليه ولا يبلغ ... فإن لغة لا يمكن للناطقين بها أن يدعوا كمالها أو على الأقل خلوها من العيوب، وإنما لكل لغة مميزاتها، إلى جانب عيوبها ونقاط الضعف فيها ومشاكلها، مع الناطقين بها، ومع المناهضين لها من أبنائها (المستلبين بحضارة غيرهم) ومن الناطقين بغيرها.
وسعياً منا وراء الكمال (النسبي) الذي ننشده للغة العربية، سنتعرض لبعض مواطن الضعف الموجودة فيها، والاتهامات المغرضة الموجهة إليها حتى نكون على بينة من جوانب ضعفها إن وجدت، وجوانب التقصير فينا نحن الذين قد نظلم هذه اللغة بجهلنا لها أو بما رآه أعداؤها في الأحكام التي يطلقونها عليها لأهداف استراتيجية خفية لا تظهر منها إلا المسحة الخارجية الموشاة "بالموضوعية" المزيفة التي تسلب أفكار بعضنا، وتجعلهم يرون وجوههم في مرايا مشوهة بإتقان، فيعتقدون أنها حقاً كذلك، وهي في الحقيقة مجرد خدعة انطلت عليهم ببراعة ماكر، وكيد غادر ...
وإذا كنا قد حددنا أهم خصائص هذه اللغة ومميزاتها قبل حين، فإننا نتناول في هذا القسم تحديد بعض جوانب النقص أو الضعف فيها، وشرح أسبابه، ثم طرح الاتهامات الموجهة لها مع الرد عليها بما تتطلبه من مناقشة ومقارعة بالحجة ...
أ‌)  كثرة المفردات :
يؤخذ على اللغة العربية كثرة مفرداتها الزائدة على اللزوم في بعض المجالات دون الأخرى، وعيوب هذه الكثرة تتمثل في المترادفات (الملاحظة) الموجودة للشيء الواحد، مما يجهد القارئ والمتعلم في الإحاطة بكل تلك المترادفات، كأن نجد مثلاً عشرات الأسماء للأسد، ومثلها للسيف والعسل والجمل.
ومن ذلك قول المستشرق الكبير (إنست رينان): (إن الثراء الخارق للمألوف في المفردات العربية يجر على هذه اللغة من المتاعب أكثر مما يوفر لها من الفوائد، فهو ينتهي إلى متاهات تجني كثيراً على الوضوح، وإن الإنسان ليشعر بما يشبه الدوار عندما يرى كل تلك المعاني المختلفة والمتضادة تقريباً تزدحم في المعاجم العربية حول كل لفظة"([15]).
والحقيقة أن هذا التضخم الحاصل في المفردات العربية شيء لا ننكره، وهو يعتبر من مميزات هذه اللغة، إلا أن استغلال وجود هذه الظاهرة من بعض المتحاملين للهجوم على اللغة العربية واتهامها بالقصور والضعف أو الاستشراف على الموت، باعتبار أن ظاهرة التورم اللغوي هذه هي من صفات اللغات الميتة... يجعلنا نقف عندها لشرح أسباب وجودها وتحديد ما هو فيها، وما هو زائد، يتطلب تبيان وجوه المغالطة فيه، وهو ما يهمنا بالدرجة الأولى هنا.
وعن شرح أسباب كثرة المفردات في اللغة العربية، يقول أحد أكبر اللغويين العرب، وهو جلال الدين السيوطي، إن لوقوع الألفاظ المترادفة سببين، أحدهما أن يكون من واضعين (وهو الأكثر) بأن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين، والأخرى الاسم الآخر للمسمى الواحد، من غير أن تشعر إحداهما بالأخرى، ثم يشتهر الوضعان ويختفي الواضعان، أو يلتبس وضع أحدهما بالآخر، وهذا مبني على كون اللغات اصطلاحية ... والثاني أن يكون من واضع واحد (على الأقل) وله فوائد منها أن تكثر الطرق إلى الإخبار عمّا في النفس، ومنها التوسع في سلوك طرق الفصاحة وأساليب البلاغة في الشعر والنثر([16]).
ويؤكد هذا الشرح العربي القديم أحد المستشرقين المتأخرين، وهو (إسرائيل ولفنسون) بقوله: "إن اللغة العربية الباقية هي مزيد من لهجات مختلفة بعضها من شمال الجزيرة، وهو الأغلب، وبعضها من جنوب البلاد، واختلطت كلها بعضها ببعض، حتى صارت لغة واحدة، وكانت اللهجات القديمة مختلفة في كثير من مادتها اللغوية، ولاسيما في كيفية نطق الكلمات المشتركة. فلما اجتمعت هذه اللهجات وامتزجت وصارت لغةً متباينةً، مثل كلمة (نجم) فإننا نقول في جمعها: (أنجم ونجوم وأنجام)، وكلها بمعنى واحد، ومثل كلمة (أسد) نقول في جمعها: (أسودٌ وأُسْدٌ وآسادٌ)، وهذه الأمثلة تدل على أنها كانت صيغاً مختلفةً لكلمة واحدة تستعمل في قبيلة صيغة واحدة منها، فلما جمعت المفردات والصيغ العربية في معاجم الكتب بعد الإسلام، اجتهد اللغويون والأدباء في تخصيص كل صيغة بمعنى خاص([17]).
ونخرج من هنا بحقيقة هامة، وهي أن كثرة المفردات في اللغة العربية هي عيب من ناحية تسليمنا بأن بعض المترادفات لا تحمل أكثر من معنى بذاته ...) ولكن ما يغيب عن الكثيرين هو أن المئات من المفردات المترادفة التي يظن غير المتمكنين من هذه اللغة، بأنها مترادفات لا معنى لها، هي في الحقيقة تحمل دلالات في غاية الدقة يندر وجود مثيل لها في اللغات الحية الأخرى، ومن هذا الجانب تعتبر تلك الكثرة من مفاخر العربية ومن محاسنها، وليست من المساوئ والعيوب بأية حال من الأحوال، وهنا يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
ومن أمثلة ذلك أننا نجد مجموعة من الألفاظ تدل كلها في ظاهرها على معنى واحد، وهي متقاربة حتى في النطق، وعدد الحروف مثل (لَدَم) و(لَطَم) و(لَكَم)، ولكن عند تحري الدقة نجد جميع المترادفات مختلفة الدلالة في نوعية الضرب، فَلَدَم : تعني الضرب بشيء ثقيل يُسمع صوته، ولَطَمَ : تعني الضرب على الخد، ولَكَمَ : تعني الضرب باليد مجموعة الأصابع، ولَحَمَ تعني (الضرب المعنوي)، أي الإضرار بالفرد ونيله بمكروه.
ومفردات أخرى تدل على الحال، ونعتقد أنها مترادفات ذات مدلول واحد، في حين أنها مختلفة في غاية الدقة، ومثال ذلك : الكَمَدُ - البَثُّ - الكَرْبُ - الأَسَى - الوُجُوم - الأسف- الكآبة، كل هذه الألفاظ تعطي انطباعاً عاماً للسامع أنها تعني معنى واحداً، في حين أن الكَمَد : حزن لا يطاق، والبثُّ : يعني الحزن الشديد، والكرب : يعني الغم الذي يأخذ بالنفس، والأسى : يعني الحزن على الشيء الفائت، والوجوم : هو الحزن الذي يسكت صاحبه، والأسف: هو الحزن مع الغضب، والكآبة : هي سوء الحال والانكسار مع الحزن([18]).
فكل مجموعة من هذه الألفاظ يعتبرها الكثير مترادفات، في حين أن لها دلالات دقيقة تجعلها تختلف عن بعضها البعض، بحيث لا يمكن لأية لفظة أن تعوض الأخرى دون أن يتغير المعنى([19]).
أما ما يعيبه البعض على اللغة العربية من أن للسيف فيها، أو للأسد أو للعسل أسماء لا تُحصى عدداً ... فإنه رغم تسليمنا بهذه الحقيقة، إلا أنه يجب التنبيه إلى أن معظم تلك الأسماء هي صفات للأسد أو للسيف استخدمت مقام الأسماء كـ : الصارم، الرواء، والخليل، وذو الكريهة، والحسام، والهنداوي، والمهند، والصقيل، والأبيض للسيف... والحارث، وحمزة، والقشعم، والضيغم، للأسد... والضرب، والذوب، والشهد، والنسيل، والسلوان، والمزج للعسل ...([20]).
وهكذا نلاحظ أن اتهام اللغة العربية بالتضخم في المفردات والمترادفات التي يُقال بأنها لا معنى لها، هو في الحقيقة، وفي كثير من الأحيان، أمر "مُضَخَّمٌ" قصداً لا يعبر عن حقيقة موضوعية أكثر مما يدل على جهلنا بدقائق هذه اللغة ذات الدلالات المتناهية في الدقة، كما حاولنا أن نبين بالأمثلة السابقة.
ب) الفقر في المصطلحات العلمية :
إن المشكلة الثانية التي تواجه اللغة العربية في الوقت الحاضر هي فقرها (المُلاحظ) في المصطلحات العلمية المعبرة عن مختلف مجالات الحضارة العصرية ومخترعاتها الصناعية التي تخرج إلى عالمنا في كل حين بالعشرات والمئات ... ومن ثمّ يقفز بعضهم إلى اتهام العربية بالعجز في هذا الخصوص مع المطالبة باستعاضة عنها باللغات العصرية التي اخترعت بها هذه المبتكرات الجديدة ... والحقيقة أن عدم تناسب المفردات العربية الأدبية مع مفرداتها العلمية والتكنولوجية... ولا يمكن أن يرجعه أي عاقل إلى عجز اللغة العربية أكثر مما يجب أن يرجع إلى عجز أهلها، وهي في ذلك براءٌ !.
إن اللغة في مثل هذه الحال ليست إلا أداةً عاكسةً متأثرةً بما لدى الناطقين بها من مستوى حضاري وتقدم صناعي وتقني...ويكفي دليلاً على ذلك أن اللغة العربية لم تعجز عن التعبير عن الجوانب العلمية المختلفة للحضارة التي شيدها العرب في عهد نهضتهم السالفة الذكر، وقد وجد العرب في لغتهم عندما كانوا رواداً حقاً في الاكتشاف والاختراع وإعمال العقل في الأرض والسماء، وجدوا طواعية فائقة في التعبير عن أي شيء اخترعوه أو اكتشفوه في عالم الإنسان والكون، ولا شك أن أية لغة تغنى بغناء أصحابها وتتقدم بتقدمهم وتتطور بتطورهم، ويؤكد هذه الحقيقة العلمية والمنطقية أحد كبار علماء اللغة وهو (جورج فاندريس) بقوله : (إننا لا نعلم إطلاقاً لغة قصرت عن خدمة إنسان عنده فكرة يريد التعبير عنها، فلا ننصت إلى أولئك المؤلفين العاجزين الذين يحملون لغاتهم مسؤولية النقص الذي في مؤلفاتهم لأنهم هم المسؤولون، على وجه العموم عن هذا النقص)([21]).
وعندما نسلم بقلة المصطلحات المعبرة عن المخترعات العصرية في اللغة العربية للأسباب المذكورة آنفاً، فذلك لا يعني تأكيد الدعوة المغرضة من هؤلاء المتربصين بوحدتنا وجوهر حضارتنا ... إلى التخلي عن هذه اللغة إلى لغاتهم التي يحلو لهم أن يصفوها بالعلمية والعصرية والحضارية، في الوقت الذي يشهدون هم أنفسهم في بعض كتابات علمائهم بأنهم عاشوا قروناً من الزمن عالة على فتات مائدة اللغة العربية في دمشق وبغداد وقرطبة وبجاية والقيروان وفاس والقاهرة... .
وما نريده هنا فقط هو التنبيه إلى هذه المغالطة وتحديد مسؤولية العجز في الناطقين باللغة وليس في اللغة ذاتها بأية صورة من الصور، كما أنه لا يمكن أن يقال إن العربية هي التي تحمل بذور العجز وعدم مسايرة العصر كما يدّعون، وحجتنا الملموسة والدامغة على ذلك أن هذه اللغة عبّرت (كما يشهد بذلك الخصوم أنفسهم) عن أرقى الأمور الحضارية في عصرها الزاهر قبل الآن، وحتى في الوقت الحاضر نجد أنه قد مرّ على إنشاء الكليات العلمية في الجامعات العربية بسوريا الشقيقة أكثر من ستين سنة وهي ما تزال ثابتة تبعث على الفخر والاعتزاز لدى كل عربي ومسلم، بتدريس جميع الفروع العلمية والاختصاصات الدقيقة باللغة العربية وحدها، وتبرهن علمياً وعملياً لكل ذي بصر وبصيرة على أن اللغة العربية هي على الأقل مثل سائر اللغات، لا تعجزعن مجاراة ومضاهاة اللغات العالمية الأخرى في تطورها للتعبير عن جميع المستجدات العلمية في الطب والهندسة وما إلى ذلك ... إذا تعهدها الناطقون بها وأخلصوا لها، ويكفي هذا المثال العربي الحي دليلاً على أنه لا يعقل أبداً أن تحمل اللغة العربية مسؤولية الضعف الحاصل لها في مجال المصطلحات العلمية، أو أن تحمل مسؤولية تأخر العرب في المجال العلمي والتقني والحضاري بصفة عامة ... وذلك لسبب بسيط وهو أن العرب سبق لهم أن تقدموا حضارياً، وبهذه اللغة وحدها (كما أسلفنا)، وهي موجودة وحاضرة دائماً كلغة دين ودنيا ساهمت في استيعاب ذلك التقدم ونقلته وحافظت عليه، ولما تأخروا وتجمدوا و"تحنطوا" بعد ذلك، لا تملك هذه اللغة أو أية لغة أخرى (باعتبار أن اللغة منتوج اجتماعي، تابع ومتأثر، أكثر مما هو متبوع ومؤثر) إلا أن تقف، كالظل حيث وقف العرب، بدليل أنها إن وقفت (كما هو مُلاحظ مع كثير من التجاوز) في مجال العلم والاختراع، فهي لم تقف في مجال الشعر والأدب عموماً، لأن العرب وقفوا و"تحنطوا" أو "حُنّطواً في المجال الأول، وواصلوا العطاء النسبي في المجال الثاني، ولعل هذا ما يستوجب أن تكون الخطورة الأولى نحو الازدهارالحضاري والعلمي للغة العربية في مجال الاكتشاف والاختراع والابتكار ... هي التي يبدأها العرب أنفسهم كما فعل أسلافهم في السابق، وكما فعل أعداؤهم الحضاريون بعد ذلك من الناطقين باللغات المسماة علمية وحية في الوقت الحاضر، لأن أصحابها تقدموا فقدموا لغاتهم، ومكّنوا لها سُبُل الانتشار والسيادة في العالم (عن طريق الغزو والاحتلال في غالب الأحيان)، والعرب ما يزالون غارقين (إلا من رحم ربك من العلماء والطلائع المبعدة غالباً عن مراكز اتخاذ القرار لإصلاح المسار...) في الجدل العقيم عن أولوية الوجود بين البيضة والدجاجة، أي بين اللغة والتقدم التكنولوجي أو العصرنة كما يحلو لهم أن يسموها، وأعتقد هنا أن العلاقة بين اللغة والتقدم هي علاقة وظيفية تكاملية، على أن تكون الخطوة الأولى والمبادرة الأساسية للإنسان دائماً قبل اللسان، وللحدث قبل الحديث، وللفعل قبل المفعول، وللزواج قبل الوليد، وللوليد قبل التسمية !!.
فكيف يستقيم الظل والعود أعوج ؟! كيف ننتظر أن تزدهر اللغة العربية وتكثر مفرداتها في المجال العلمي مثلما هي مزدهرة في المجال الأدبي، ونحن نستهلك ولا ننتج، نقلد ولا نبدع، نتأثر ولا نؤثر، نشتري بالمال ولا نقايض بالأعمال. الحضارات في الدول المتقدمة تلد ونحن نتسابق مع الزمن لنجد الأسماء للمواليد، ويا ليتنا تمكنا من القيام بهذه المهمة على الوجه الأكمل، وهو كفيل بإثراء اللغة العربية وتمكينها من الدفاع عن نفسها ضد التهم الباطلة الموجهة إليها، غير أن ما نلاحظه هو التقصير حتى في إعطاء الأسماء للمسميات ناهيك عن اختراع الأشياء وصنع الآلات !.
ثم إن تمكنت المجامع العربية من إيجاد الأسماء، فهي في واد وواقع الممارسة العربية في التعليم والصحافة والسياسة والدبلوماسية...لتلك الأسماء المعربة في واد آخر !.
فمن أخطر التحديات (المجانية) التي تواجه اللغة العربية (كما ذكرنا) هو عدم تبنيها كلغة أساسية ووحيدة في جميع مراحل التعليم وجميع فروعه العلمية والأدبية، وليس من المبالغة أن نقول بأنه لم تُظلم لغة في التاريخ من طرف المحسوبين على النطق بها كما ظُلمت اللغة العربية في العصر الحاضر!؟.
أليست جريمة نكراء يرتكبها هؤلاء القادرون (المتخاذلون) في حق اللغة العربية، اللغة السادسة الرسمية في الهيئات الدولية ولغة ثلاثمائة مليون عربي (في الجغرافيا على الأقل)، وأكثر من أربعة أضعاف هذا العدد من المسلمين المتعاطفين مع هذه اللغة في كل أرجاء المعمورة...عندما نعلم أن أصغر دولة تحترم شخصيتها وعَلَمَها الوطني على وجه الأرض(...) تدرّس جميع العلوم في جامعاتها باللغة الوطنية الخاصة بها والمُثبتة في دستورها ! في الوقت الذي نجد بعض من وضعته الأقدار على رأس الأقطار المحسوبة على النطق باللغة العربية في جامعة دولها، يصرّون على تدريس المواد العلمية في جامعات أقطارهم باللغات الأجنبية التي يصفونها "بالحية" دون أي خجل أو عمل على الاقتداء بالجامعات العربية الرائدة في هذا المجال ودعمها أو تشجيعها على الأقل بالأموال أو حتى الأقوال !.
إن أغلب الحكومات العربية (في أحسن الأحوال) تنتظر من المجامع والهيئات العلمية القيام بمهمة تطوير اللغة العربية، ولا يظهر أنها تشعر بضرورة القيام بشيء آخر، والواقع أن عمل العلماء، لا يمكن أن يأتي بنتائج حاسمة في هذا المجال، كما في المجالات الأخرى إلا إذا قامت السلطة السياسية في كل بلد برسم الطريق أو على الأقل بإزالة بعض المتناقضات الصارخة التي ظلت تواكب السياسة اللغوية في معظم الأقطار العربية منذ عشرات السنين...!.
فحرمان مفردات اللغة العربية (المعتمدة في المجامع اللغوية العربية) من الاستعمال في ميدانها الاجتماعي والسياسي والإعلامي والعلمي...هو قضاء عليها وقضاء على جهود المجامع ذاتها !
وقد حان الوقت لتصحيح هذا الخطأ الاستراتيجي القاتل في سياستنا اللغوية، ونبذ الفكرة القائلة بتأجيل استعمال اللغة العربية في تدريس العلوم واجترارعبارة : (حتى تتأهل لذلك...)! وهذا معناه أن اللغة العربية التي أصابها القصور المُلاحظ (بشهادتهم أنفسهم) ببعدها عن مواكبة العلم سوف يستقيم أمرها إذا بقيت بعيدةً عنه لعشرات من السنين أو القرون الأخرى !.
وهنا أسمح لنفسي أن أستعير مأثورة الإمام الكبيرمحمد عبده القائلة بأن : (بعض المسلمين أصبحوا حجة على الإسلام) للقول بأن بعض العرب أصبحوا حجةً على العربية، وهذا ما يجعلنا نُلحّ في النداء هنا بضرورة الإسراع بتطبيق قرارات المجامع اللغوية وخاصة مجمع القاهرة في الدورة الـ 44 الخاصة بتعريب جميع الفروع العربية بالجامعات العربية، ولا نعتقد أن تحقيق ذلك يكلف الدول العربية في هذا الموضوع المصيري (كما بيّنا) غير استجلاب الكتب والمناهج العلمية المؤلفة والمترجمة في سوريا وروسيا حول مختلف التخصصات العلمية (كما ذكرنا) من الكهرباء إلى الذرّة، ومن البيطرة إلى جراحة الأعصاب بأشعة الليزر ؟!.
ج) منافسة للفصحى :
وإلى جانب منافسة اللغة العربية باللغات الأجنبية على الصعيد الجامعي، والبحث العلمي والحضاري، توجد منافسة أخرى للغة العربية على الصعيد العملي والأدبي والإعلامي من قبل اللهجات العامية، وهذه المشكلة لا تقل خطورةً على اللغة العربية الفصحى، في تحطيمها من الداخل، إذا لم يحرص العرب على إيقاف اللهجات العامية عند الحد الذي يجب ألا تتعداه، حتى لا يتجاوز الشيء حده فينقلب إلى ضده (...).
فوجود اللهجات العامية في اللغات العالمية ليس مضراً في ذاته كما نرى، وهو عفوي، ويعبر عن جانب من جوانب الكائن الناطق، إلا أن الواجب يحتم علينا أن نضع كل شيء في مكانه، ولا نحمله أكثرمما يستطيع، فنحل العامية محل الفصحى، والفصحى قوامها القواعد والصواب، والتركيب النطقي في جملها. فهي وجدت لضرورة التفكير، والعامية وجدت لضرورة التعبير السريع اليومي التلقائي العاطفي. ومن هنا كان لكل شق من التعبير الفصيح أو العامي دور ووظيفة يؤديها خير أداء، ولكن الداء في محاولة إحلال العامية محل الفصحى، وليس العكس. فهل يمكن أن نلغي الفاعل من النحو ؟ فالقضية ليست إجماعاً بين العلماء فحسب، وإنما هي قوام في العقل، فرض نفسه بقوة، وهو الذي فرض وجود مقاييس اللغة، المتمثلة في القواعد النحوية، كما يقول ابن خلدون : (...).
فالثنائية التي نلاحظها في حياتنا الاجتماعية بين الفصحى والعامية هي ذلك الفارق في النحو الذي يجعل العامية عامية والفصحى فصحى، وهي مسألة طبيعية، لكن لها حدود يجب أن لا تتعداها. فالعامية لها دور ووظيفة تؤديها إلى جانب الفصحى، ولا ضير من بقائها ملتزمة بوظيفتها، والفصحى لها دور ضروري في الحياة الاجتماعية الراقية يجب أن تؤديه ولا تؤديه إلا إذا بقيت فصحى، ولا تبقى فصحى بدون نحو وقواعد. والتيسير يكون من الفصحى لخدمة الفصحى، وليس القضاء عليها وجعلها عامية أو استبدال العامية بها، فهذا هو الخطأ والخطر الذي يهدد الفصحى في وقتنا الحاضر، وليس الخطر كامناً في ارتكاب الخطأ أكثر مما هو كامن في التمادي فيه، والدفاع عنه باختلاق أسباب مختلفة، أسخفها عدم فهم القراءة للكتابة الفصيحة والكلام الفصيح في القصة أو الرواية أو المسرحية أو الجريدة أو المحاضرة، حتى أصبحنا نشاهد (بكل أسف) أساتذة جامعيين يحاضرون في كليات الآداب بالعامية، فضلاً عن كليات العلوم، والأخطر من ذلك أن تناقش الرسائل العلمية في بعض الجامعات العربية بالعامية، أي بلغة غير مقعدة في الوقت الذي لا تقبل التعابير المكتوبة من الطالب في الامتحان بالعامية لماذا ؟ لأن الأستاذ إذا سهل عليه فهم حديث الطالب بالعامية في المناقشة فيصعب عليه فهم الكتابة بالعامية، خاصة إذا كان الطالب يكتب بلهجة غير اللهجة المحلية (التي تكتب بها حالياً بعض الخطب الرسمية في الجرائد العربية، كما تلقى من أفواه أصحابها !) فهذا هو الخطأ والتجاوز المرفوض الذي يجب أن يقاوم، لأن أبعاده وعواقبه ستكون وخيمة على اللغة العربية التي ندعي الاعتزاز بها ولا نعمل على المحافظة عليها، حتى في حالتها الراهنة، فضلاً عن العمل على تطوير استعمالها إلى الأحسن في المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام بصفة خاصة !!
وإذا نظرنا إلى العامية في الوقت الحاضر نجدها تمثل خطراً كبيراً على اللغة الفصحى كمقوم فكري واجتماعي للمجتمع العربي والأمة الإسلامية قاطبة. فهي من جهة لا تصلح نقطة التفاف لأبناء العالم العربي، بسبب اختلافها بين المناطق اختلافاً قد يصل إلى صعوبة التفاهم بين أفراده (من غير المتعلمين) كلهجات بلاد المغرب العربي، ولهجات الخليج العربي أو الشام مثلاً.
ومن هذا المنطلق إذا أردنا أن نعالج الوضع للتخفيف من أخطاره المذكورة يتعين علينا أن نعمل على تحقيق أقرب لقاء ممكن بين العامية والفصحى، على أن يكون هذا على حساب العامية (الفرع) وليس على حساب الفصحى (الأصل) والعمود الفقري للحضارة العربية الإسلامية والوحدة القومية أيضاً ذلك لأن العامية هي التي تختلف من قطر إلى قطر، وليس الفصحى التي أثبتت حتى الآن بأنها هي نقطة التفاف الأفراد، في هذه الأقطار المعبر عن مجموعها، بالعالم العربي، والأمة العربية !.
على أننا إذا أردنا أن ننهج نهجاً عملياً في تقريب الهوة بين العامية والفصحى وتعميم الفصحى كلغة الحديث بين الطبقات المثقفة (على الأقل) لا نقبل من المتحدث بالفصحى أن يستعمل في حديثه من الألفاظ والتعبيرات ما نجده محشواً في بطون كتب الأدب العربي القديمة ودواوين الشعر الجاهلي ... مما كان ينتقيه الأديب لإظهار وجوه الإبداع اللفظي والبياني، وليبرز المعنى الذي يريده بشكل هو في الواقع إخراج فني، وإنما يجب على المثقف الحالي الذي يعيش في عصر السرعة والتطور هو أن يفرق في تعابيره بين لغة الأدب التي هي فن وإبداع، ولغة الحديث اليومي العادي، ذلك أنه إذا كانت لغة الأدب تحتاج إلى محسنات جمالية لتظهر في شكل فني مطلوب فإن اللغة الفصحى المطلوبة للكلام والتعبير العادي، يجب أن يكون عمادها الأول والأخير هو البساطة واليُسر، والجدير بالذكر أن المعمول به في سائر البلدان التي نجحت في التوحيد بين لغة الأدب المنمقة (وهي لغة الكتابة الفنية) ولغة الحديث المبسطة والتي هي في نفس الوقت لغة الكتابة العادية، هو التبسيط والتعريب، ونعتقد أن العرب لو ساروا على هذه الطريقة بجد وإخلاص ووعي، لوصلوا قبل مضي زمن طويل إلى تحقيق أسلوب عربي مبسط في الحديث يصلح أن يكون أسلوب كتابة وحديث في آن واحد دون أي تعثر (مثلما هو شأن لغة الصحافة المكتوبة والمنطوقة في معظم أقطار العالم العربي). وقد أثبتت السنوات الأخيرة أن أبناء العالم العربي على استعداد لتقبل هذا الأسلوب إذا تعودوه لمدة كافية، وخير مثال لذلك هو اللغة الفصحى المستعملة يومياً في المدارس والجامعات مع المتعلمين، ولغة الأحاديث والنشرات الإخبارية والبرامج الإذاعية التي تتوخى البساطة إلى حد كبير، والتي بإمكانها أن تكون صلة وصل ناجحة بين لغة الجامعة والجامع، ولغة المعمل والشارع، وبذلك نسير في طريق التوحيد أو التقريب بين الفصحى والعامية، والقضاء على هذه الثنائية المستفحلة في غياب الوعي القومي لدى بعض المثقفين العرب والقائمين على شؤون التوجيه والتربية والتعليم والإعلام.
والخلاصة أن لا خوف على اللغة الفصحى من العامية ولا خوف من الفصحى على العامية، إذا لزمت كل واحدة منها حدودها ووظيفتها الميسرة لها. أما الخطر - كل الخطر- فهو أن تتقمص العامية شخصية الفصحى فتضيع العامية والفصحى كلاهما معاً، ولا نجد مثالاً أوضح مما قاله الجاحظ حول هذا المعنى (متى سمعت - حفظك اللّه - بنادرة من كلام العرب فإياك وأن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيرتها بأن تلحُن في إعرابها وأخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين خرجت عن تلك الحكاية، وعليك فضل كبير وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوامّ وملحة من ملح الحشوة والفطام، فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب وأن تتخيل لها لفظاً حسناً أو تجعل لها من فيك مخرجاً سرياً فخماً شريفاً، فإن ذلك يُفسد الإمتاع بها ويُخرجها من صورتها ومن الذي أريدت له ويُذهب استطابتهم إياها واستملاحهم لها)([22]).
وإذا كانت الفصحى تتميز بسموها الرفيع الذي جعلها تحتاج إلى لغة مساعدة على صعيد العمل، فإن الأستاذ كمال الحاج يلخص لنا ذلك بقوله: (نحن نقول بأن العامية فصيلة لسانية قائمة بذاتها، هي لنوع خاص من حياة الوجدان، لها نظامها الصوتي والتركيبي، لها مفرداتها واقتباساتها وقياساتها أيضاً، ونقول في الوقت ذاته بأن الفصحى فصيلة لسانية قائمة بذاتها، هي لنوع خاص من حياة الوجدان لها نظامها الصوتي والتركيبي. ومن الخطأ جداً أن نُرجع إحداها إلى الثانية. هما فصيلتان من لغة واحدة، مثلهما مثل ثنائية الجنس والعقل من الإنسان الواحد، هذه الثنائية تخلق نوعاً من التوازن في اللطيفة. هكذا العامية والفصحى)(23).
وقد قال في ذلك أحد المجمعيين العرب : (من النقائص التي تُنسب للغة العربية ما يسمى بالازدواجية، وهي أن الشخص العربي يتكلم لغة ويكتب لغة أخرى ... هذا صحيح، ولكن في هذا الادعاء مبالغة ومغالطة، وذلك لأن الفرق بين العامية والفصحى ليس بهذه الدرجة حتى يسمى كل ما نتخاطب به وما نكتبه لغة، بل باستثناء الإعراب وبعض المفردات فهما لغة واحدة. وكل لغات الدنيا تتسم بهذه الفوارق، فهل العامية في فرنسا مثلاً ولغة الكتابة ليس بينهما بون لا يقل عما بين لهجاتنا من جهة وبين لغتنا الفصحى من جهة أخرى، بل أرى الفرق بين ما يتكلمه عمال ضاحية باريس، ولغة الشاعر(بول فاليري) يفوق بمراحل الفرق بين ما يتكلمه العامل الجزائري وما ينظمه من شعر الشاعر(مفدي زكريا)...على أن هناك لغة علمية راقية وهي الألمانية تحتوي على إعراب معقد يتسلط حتى على أداة التعريف...تُستعمل الفصحى للكتابة، وهي التي توحد بين مختلف أجزاء البلاد الجرمانية، وهي في هذا تماماً مثل العربية... ولم يمنع ذلك من أن اللغة الألمانية من أهم لغات العلم والأدب والفلسفة)([24]).
ويرى الأستاذ محمد الفاسي أن الحل لهذه المشكلة ممكن بالنسبة للغة العربية إذا سارت في طريق اللغة الألمانية، وتوفرت لها الوسائل التي وُفرت للغة الألمانية، لكي تكون لغة الكتابة، واللغة الرسمية المشتركة بين جميع الألمان في كل البلاد الأوروبية، وبصفة أخص النمسا وسويسرا، فيقول: (فالمسألة في هذه المشكلة هي مسألة تعليم فقط، فلو لم يكن التعليم عاماً بالبلاد الألمانية لكان لهم مشكل من هذا النوع، ولكن حيث إن كل فرد من مجموع الأقطار التي لغتها جرمانية يحسن الألمانية الفصحى، فإنه يقرأ كل ما يكتب أو يُلقى في الإذاعة والتلفزة ولا يحس بنقص، ولا ينسب للغتهم عجز عندما يبرز هذا الفرق بسبب الأمية المتفشية في بلادنا، فالذي لا يُحسن العربية الفصحى لا يمكنه أن يفهم ما يقرأ إن هو استطاع القراءة ولا ما يسمع، وعندما يعمّ التعليم تسقط هذه المشكلة من نفسها ... إلى أن يقول: وهذا يجرنا إلى الكلام عن لغة المسرح. إن من أكبر العوامل الضارة باللغة العربية وبمستقبلها، وحتى بمستقبل الوحدة العربية، استعمال اللهجات المحلية في السنيما والمسرح وفي الإذاعة والتلفزة، إذ لا يجمع بين البلاد العربية إلا لغة القرآن، والعدول عنها إلى اللهجات المحلية هو فصم لهذه الوحدة، وقد قال الدكتور طه حسين (رحمه اللّه): (الذين ينادون بإحلال العامية لسهولتها محل الفصحى لصعوبتها، هم أشبه بمن ينادون بتعميم الجهل لأنه سهل، وإلغاء العلم لأنه صعب المنال)([25]).
ورأينا في هذا الموضوع يتمثل في أن وجود الفصحى إلى جانب اللهجات المحلية أمر طبيعي وغير خطير في ذاته، ويمكن القضاء على جوانبه السلبية المذكورة بالوعي، والابتعاد عن الإقليميات والحساسيات الجهوية الضيقة والمدمرة، في عصر يعمل فيه الواعون على اصطناع كل عامل من شأنه أن يجمع بين الشعوب والدول في معسكرات واحدة وقوة واحدة، ونحن عندنا عوامل طبيعية قوية وفي مقدمتها هذه الهبة السماوية (اللغة العربية)، فليس أقل ما يجب علينا القيام به هو الحفاظ على ما هو موجود منها وذلك أضعف الإيمان، وإننا إذ نرفض رفضاً مطلقاً وقاطعاً إحلال اللهجات العامية محل الفصحى في الحاضر وفي المستقبل لكل الاعتبارات المذكورة... فإن إحلال الفصحى محل العامية في أقطارنا العربية، وإن كان صعباً فهو أمر مرغوب فيه، وممكن الحصول عليه بالإرادة القوية والنيات الحسنة وصدق العزائم على الارتفاع بالقوم إلى مستوى هذه اللغة وليس النزول بهذه اللغة إلى مستوياتهم الدونية (بكل ما تحمل هذه العبارة من معان) ومن سخريات القدر أن الكثير من الذين ينادون بتدريج الفصحى، بحجة عدم فهم العوام لها، هم أنفسهم الذين يتفصحون باللغات الأجنبية (الإنجليزية والفرنسية) على شعوبهم في أجهزة إعلامهم الرسمية والشعبية، وكأن هذه الشعوب العربية المسلمة تفهم الفرنسية والإنجليزية أكثر مما تفهم لغة القرآن التي يستمعون إليها يومياً، ويمارسونها في نسبة عالية منهم أثناء تأدية الصلاة !؟.
رابعاًً: واقع استعمال اللغة العربية وطرق ترقيتها في مجال الإعلام والصحافة والمحيط الاجتماعي والثقافي بصفة عامة:
إن اللغة هي فن جميل تعكس في ألفاظها وتراكيبها وتشبيهاتها ومعانيها خصائص الأمم ومقوماتها التي تظهر عادة في إبداعات كتابها، وفي تحليلات صحافييها، وفي برامج أجهزة الإعلام والثقافة فيها، وهي في الواقع كالموسيقى وباقي الفنون الجميلة، ملك لكافة أفراد الأمة، ووليدة عبقرية أجيالها، خلفاً عن سلف (كما سبقت الإشارة إلى ذلك في المقدمة).
فالأفراد عادةً لا يستسيغون ولا يستعملون من الألفاظ إلا ما يناسب أمزجتهم ويلائم روحهم، وخصوصاً إذا كانت هذه الألفاظ موضوعة لاستعمالها في حياتهم اليومية المألوفة، وفي تفاهم بعضهم مع بعض، لذلك تختلف المصطلحات الصناعية والتكنولوجية عن غيرها من المصطلحات الأخرى، لأن الأولى يستعملها -علمياً ولغوياً - إلى جانب الخاصة من المهندسين والمثقفين، جمهور من الصنّاع والعمال من عامة أفراد المجتمع، في حين يقتصر- إلى حد ما - استعمال الألفاظ العلمية البحتة على الخاصة من العلماء والباحثين، ومن هنا فإن أي استعمال للغة العربية على نطاق إعلامي وجماهيري واسع لا يُنظر فيه إلى ذوق من هو موجه إليهم ويراعي ميولهم وطبيعتهم سوف لا يجد للألفاظ الصعبة المستعملة في عملية توصيل المعاني إليهم أذناً صاغية ولا لساناً مستعملاً.
وعليه فإن الاستعمال الأحسن للغة العربية في مجال التعليم المتخصص في الجامعات والمعاهد العلمية والتقنية يختلف عنه في الآداب والفنون والصحافة وأجهزة الإعلام بصفة عامة، ذلك أن رجال العلم والبحث في الجامعات والمراكز المتخصصة، مقيدون دوماً بما في العلوم من تحديد وتدقيق وقوانين تجعل مجالهم اللغوي ضيقاً جداً، فيما يتعلق باستعمال المجاز والتشبيه وغيره من المحسنات اللفظية والبلاغية، بحكم أن المصطلحات موضوعة أصلاً لتحديد المسميات المادية تحديداً دقيقاً كدقة الأعمال الآلية، ودقة العلم والتكنولوجيا التي تضع كل الحدود لخيالات الأدباء والفنانين والصحافيين في جميع أجهزة الإعلام، الذين يتناولون أخلاق الناس وأذواقهم وطرق معيشتهم، فيصورون بالألفاظ والجُمل ما يُحسنون أو يتخيلون أن الناس يحسون به.
فالأديب والفنان والكاتب الصحافي والمخرج السنيمائي أو الإذاعي، وما إلى ذلك، يكون في هذه الحالة بمثابة المصور البارع الذي يُطلق لريشته العنان، كي تخط أو تصور ما ينعكس على مخيلته من أفكار وصور، فيطوع الألفاظ ويركبها ويمزجها مزجاً له معانٍ مبتكرة بطلاقة وحرية، تعكس إحساساته للأشياء المادية والمعنوية على حد سواء بما يقترب كثيراً من إحساسات القارئ أو المشاهد من أفراد المجتمع الموجه إليه ذلك الخطاب (...).
ومن هنا يجب على الأديب والكاتب الصحفي الذي يتعامل مع أكبر عدد ممكن من الناس العاديين في المجتمع أن تتسم لغته بالمرونة والفصاحة، لتتمكن من التعبير عن تلك المعنويات المختلفة، وليستعرض ما في اللغة العربية وتركيباتها من ذوق وجمال وموسيقى ودقة وتشويق، لجذب اهتمام القارئ أو السامع والتأثير فيه، ولذلك وجدنا أن استعمال اللغة العربية في الآداب والفنون والإعلام بصفة عامة يتطلب معرفة واسعة وجيّدة باللغة العربية ... .
ولذلك فإن المرحلة الحضارية الراهنة للعالم العربي التي تتميز بكثرة القنوات الفضائية التي تبثّ برامجها المختلفة باللغة العربية، وتوحد استعمال هذه اللغة بين الأفراد في كل الأقطار الناطقة بها بكيفية لم يسبق لها مثيل من قبل ... إن ذلك يقتضي من ولاة الأمور حفز همم رجال الأدب والفن والفكر والإبداع اللفظي عموماً وتشجيعهم على إنتاج الروائع والمأثورات المبسطة والجميلة باللغة العربية الفصحى، لسد حاجات القراء والمشاهدين العرب لتلك البرامج المختلفة المعروضة عليهم في كل حين، وبذلك فقط يمكن جعلهم يستغنون عمّا يبدعه الأجانب، ويبثونه بلغاتهم القومية في فضائياتهم القارية.
ولكن الواقع المؤسف في هذا المجال هو عكس المرغوب، كما يصفه لنا أحد أصحاب الاختصاص وهو الأستاذ فهمي هويدي بقوله : (ثورة الاتصال واتساع نطاق البث المباشر عبر الأقمار الصناعية، جعلت الإرسال التليفزيوني يخترق الحدود والجدران، ويصل إلى غرف النوم في أي مكان بالعالم ... بحيث أصبح الأطفال الصغار قادرين على متابعة كل ما يجري في أنحاء الكرة الأرضية، بمجرد الضغط على الأزرار داخل البيوت، ولأن التليفزيون الأمريكي هو الأنجح والأكثر إبهاراً، فقد كان طبيعياً أن يغدو أقوى تأثيراً، في اللغة والعادات بوجه أخص. وإذا كانت دولة كفرنسا قد شكت مما أسمته "بالغزو الثقافي الإمبريالي" وهي جزء أصيل من الغرب، فلك أن تتصور صدى مثل ذلك الغزو في مجتمعاتنا بعد الذي أصابها من هشاشة وضعف في بنيتها الثقافية وانتمائها الحضاري)([26]) .
وإذا كانت متطلبات استعمال اللغة العربية في مجال العلوم والتكنولوجيا والآداب والعلوم الإنسانية عموماً تتمثل في وضع المصطلحات الجديدة للمخترعات وتزويد المجامع اللغوية بها لإقرارها، ووضع القواميس لها، فإن أجهزة الإعلام هي وحدها التي يقع عليها عبء نشر وممارسة وإخراج تلك المصطلحات من رفوف ومخازن المجامع اللغوية إلى الناس في الحياة العملية، وهو نهاية المطاف وحجر الزاوية في عملية استعمال اللغة العربية السليم والواسع، ويتميز الاستعمال اللغوي في مجال الإعلام بخاصية مزدوجة ينفرد بها هذا القطاع وحده تقريباً ما دون القطاعات الأخرى، وهو أن علاقته باللغة هي علاقة وظيفية متبادلة ذات تأثير وتأثر في الحين ذاته، أي أن أجهزة الإعلام تستعمل اللغة للقيام بمهمتها وتبليغ رسالتها، وكلما كان استعمال اللغة راقياً وسليماً ومشوّقاً، والمحتوى جيّداً كانت تلك المهمّة الإعلامية والرسالة التبليغية ناجحة، وبالقدر نفسه كذلك تستفيد اللغة المُبَلَّغُ بها في ترقيتها وتنقيتها ونشرها على أوسع نطاق ممكن بواسطة أجهزة الإعلام المتطورة التي توصلها في لمح البصر إلى أية بقعة على وجه الأرض وحتى في السماء !
وفي هذا الخصوص يقول الدكتور إبراهيم مذكور رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة : (ولا يفوتني أن أشير إلى أن النهوض باللغة ليس مقصوراً على المجامع وحدها، بل هو قبل كل شيء من صنع الكتّاب والأدباء والعلماء والباحثين ورجال الثقافة والإعلام)([27]).
وإذا لم يكن من المطلوب من رجال الإعلام والصحافة أن يصطنعوا الجديد من الألفاظ بالنقل أو التوليد أو التعريب أو النحت والتركيب... فلا أقل من أن يُطلب منهم التنسيق مع رجال المعاجم والمجامع اللغوية، لأخذ ما توصل إليه هؤلاء المتخصصون من إجماع حول اعتماد المفردات اللغوية الجديدة، والعمل على غرسها في ملكات العامة، بالأسلوب المناسب المذكور، لما يتوفر عليه رجال الإعلام والصحافة من وسائل وأجهزة فعالة وخطيرة في مجال الاتصال كما قلنا.
ولئن وجد المتكاسلون و"المستغربون" العرب الحجة لاستعمال المفردات والمصطلحات العلمية والتكنولوجية الأجنبية، بدعوى عدم تمكن مجامعنا اللغوية من ملاحقة ما تمطرنا به مخابرهم ومصانعهم في كل يوم من المخترعات... لإعطاء الأسماء العربية لتلك المسميات الأجنبية الجديدة ... فما هي حجتهم في عدم استعمال ما هو معتمد في المجامع العربية منذ عقود ؟! ولذلك فمهمة الإعلام العربي إذا هنا حيوية للغاية، إذ يتوقف عليه نشر وتعويد الأسماع والألسن والأذواق العربية على استعمال تلك الكلمات الفصيحة التي اجتهد في إيجادها مئات "الخالدين" في عشرات السنين ... فضلاً عن ضرورة التعاون مع رجال المجامع الحاليين في إمدادهم بالمفردات المستجدة التي تكون أكثر استساغة لدى العامة من الناس لاحتكاكهم بالحس العام (كما ذكرنا).
وهذا الحكم العام على بعض الإعلاميين العرب وما ينبغي أن يقوموا به في كل مجالات نشاطهم، لا يجعلنا ننكر جهود العديد من الصحافيين الممتازين الذين يساعدون يومياً على ترقية اللغة العربية وإثرائها، بإخراج المفردات الحضارية الجديدة من مخازن ورفوف المجامع إلى المقاهي والشوارع، فيما يكتبون للعامة من أخبار، ويسجلون من وقائع في مختلف مجالات الحياة العصرية... وكذلك بتوليد ما لم يكن موجوداً في المجامع من هذه المفردات، وصياغتها في أسلوب سهل يسترضي الذوق العام ويمهد لاعتمادها مستقبلاً في دورات المجامع المتواصلة، إذ إن اللغة (كما قلنا) هي بنت الحس العام والتداول اليومي في الواقع الاجتماعي، وإذا لم يحمل رجال الإعلام مسؤولية وضع الألفاظ والمفردات اللغوية واعتمادها بمفردهم، فإنهم مسؤولون مسؤولية كاملة في مشاركة رجال المجامع اللغوية بطريقة غير مباشرة في هذه العملية، خاصة وأن أهل الصحافة عموماً هم لغويون إلى حد بعيد، على عكس رجال العلوم الدقيقة (كما أسلفنا)، ويبقى من تحصيل الحاصل، ومن أضعف الإيمان أن يُطالبوا بنشر ما هو متفق عليه ومعتمد من قبل المجامع اللغوية من مفردات جديدة في مختلف المجالات المعرفية.
فذلك أدنى ما يمكن أن يضطلع به الإعلام العربي من مسؤولية في مجال الاستعمال الأمثل للغة العربية ونشرها على أوسع نطاق ممكن في عصر الفضائيات التي ألغت الحدود الجمركية والإدارية الأرضية بين الأقطار العربية التي حالت دون سيولة الكلمة المكتوبة بصفة لم يسبق لها مثيل في عهد الجدود قبل وضع الحدود، على شرط أن يتم ذلك الاستعمال اللغوي في المجال الإعلامي بالتنسيق بين جميع الإعلاميين العرب لتفادي ما هو واقع في بعض الأحيان من اختلاف في الاستعمال اللفظي للكلمات في الصحافة العربية، كاستعمال كلمة "كادر" في المشرق والتي تستعمل بدلها كلمة "إطار" في بلاد المغرب العربي، وقس على ذلك كلمة حاسوب و"كمبيوتر"، وكلمة هاتف و"تليفون"، وكلمة ستاد و"ملعب"، وكلمة شكراً و"مِرسي"، وكلمة آسف و"صوري"، وكلمة هدف "گُولْ" ... .
وهذا يقودنا إلى الحديث عن ظاهرة سلبية أخرى في واقعنا العربي لها صلة مباشرة بالإعلام والإعلان والصحافة ونعني به المحيط "المستغرب" والممسوخ الذي توجد عليه بعض العواصم العربية، ويلخص ذلك الأستاذ فهمي هويدي في هذه الصرخة الصادقة المنبعثة من عمق الشعور القومي والحضاري والسيادي للأمة، حيث يقول : " اجتمعت هذه العوامل في واقعنا العربي فمسخته على تلك الصورة المشهودة التي ليست خافية على أحد، حتى أصبحت أغلبية واجهات أسواقنا، وأسماء مشروعاتنا وعلامات منتجاتنا، إما مكتوبة بحروف لاتينية وتحمل أسماء أجنبية أو أنها مفردات أجنبية مكتوبة بالحروف العربية.
قرأت إعلاناً في صحيفة مصرية عن شقة سكنية مكونة من "ثلاث غرف نوم + حجرة ليفنج معييشة + ريسيبشن كبير (استقبال) وملحق بها روف جاردن (حديقة فوق سطوح البناية) !.
ولم تكن هذه حالة استثنائية، لأنني منذ وقعت على الإعلام صرت أراقب الإعلانات المماثلة، فاكتشفت أن المفردات الأجنبية شائعة فيها بدرجة ملحوظة، ولو أنها كُتبت بالحروف اللاتينية لقلت إن المقصود منها هو جذب الأجانب الذين يدفعون أكثر وبالعملات الصعبة ... .
باختصار، فإن لغتنا العربية تتآكل على ألسنتنا وفي واقعنا حيناً بعد حين، فرغم خطورة الظاهرة وعمق دلالتها، فإننا لا نجد أحداً معنياً بمناقشتها ومحاولة البحث عن سبيل للتعامل معها !.
إن اللغة ليست منفصلة عن الواقع الاجتماعي والسياسي، وإنما هي تعبر عنه سلباً أو إيجاباً، فحين تتمسك الأمة بثوابتها وتدافع عن هويتها وتعتز بها، فإن ذلك لابد أن ينعكس على مواقفها وسلوكها ولغتها بالضرورة"([28]).
وإذا كانت الأشياء بنقائضها تُعرف كما يقال، ومن باب المقارنة بتجارب الأمم الحية في العالم، في مجال الاعتزاز برموز ومكونات شخصيتها القومية وسيادتها على النحو الذي تمناه الأستاذ فهمي هويدي لأمتنا، نذكر النموذج الياباني الرائع والرائد في هذا الخصوص، حيث ورد في أحد التحقيقات الصحفية التي أجريت في اليابان منذ مدة على لسان الصحفي العربي المحقق قوله :... "وظلت اليابانية لغة الدراسة والتعليم والبحث العلمي في كل المجالات. وكان ذلك ممكناً بفضل ترجمة لا نظير لها في أي بلد آخر في العالم. فمن العسير أن يتذكر المرء أي كتاب هام في العلم أو الأدب أو الفن في أي بلد من البلاد وليس به ترجمة يابانية ... وكم يندهش من يزور اليابان حين ندرة من يتحدثون بالإنجليزية، ولا يرى لافتة شارع أو مكان أو مطعم مكتوبة بلغة غير اليابانية. وتزداد الدهشة حين يلتقي الزائر بعلماء كبار لهم شهرة عالمية ولا يتحدثون إلا بلغة بلادهم، وتعرض الأفلام الأجنبية، وبرامج التليفزيون المستوردة ناطقة بلغة أهل البلاد فقط.
وهكذا نجا جمهور اليابانيين من التأثير الكثيف الذي تمارسه وسائل الإعلام الغربية على المستهلكين وأذواقهم في شتى الأقطار، وتُعد الشركات اليابانية الكبرى موظفيها الذين ترسلهم لتمثيلها في الخارج أو للتعاقد مع شركات أخرى بتعليمهم لغة البلاد التي سيعملون فيها، وقد كُثفت عند ظهور أهمية أسواق أقطار النفط جهودها في تعليم اللغة العربية لمن تبعثهم إلى الوطن العربي ...)([29]).
وعلى الرغم من بلاغة هذه الشهادة الحية التي تُغني عن أي تعليق بالنسبة لمقارنة واقع هذه الأمة بواقع أمتنا الذي حاولنا أن نُشرّح بعض جوانبه في هذا المجال الحيوي الخلاّق للأمة...فإنه يتأكد لنا بكل وضوح أنه لا توجد في هذه الدنيا لغات ميّتة ولغات حيّة، إنما كل اللغات يمكن أن تصبح حية إذا ظلّ أبناؤها أحياءً وأصرّوا على ذلك مثل الأمم المذكورة، والعكس صحيح (!!) أي إذا كان أبناء الأمة، أو المنتسبون إليها ميّتين أو ضعافاً فلا تُحييهم ولا تُقوّيهم لغاتهم مهما تكن راقية، ولا ترفع من شأنهم اللغات الأجنبية التي يتبنونها ويفرضونها على الشعوب كلغات تعليم وإدارة وإعلام في أوطانهم، لينافسوا بها لغاتهم القومية، ويذلوها بها تحت ألف تبرير، ومن أسخفها دعوى التقدم والخروج من دائرة العالم المتخلف كما يقولون، وهم في الحقيقة لا يبرحون حضيضه - إن بقوا كذلك - إلى يوم يُبعثون !.

(*) نائب رئيس جمعية الدفاع عن اللغة العربية بالجمهورية الجزائرية.
(1) تاريخ القوميات في أوروبا، الجزء 3، ص 213.
(2) ساطع الحصري، ماهي القومية، دارالعلم للملايين، بيروت، بدون تاريخ، ص 56.
((3) الدكتور صالح العقاد، دارسة مقارنة للحركات القومية في ألمانيا، إيطاليا، الولايات المتحدة وتركيا، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1967، ص 10.
(4) نور الدين حاطوم، المرجع السابق ذكره، الجزء 5، ص 37.
(5) قصة اللغة وخصائص العربية للدكتور محمد المبارك، دار الفكر الحديث، بيروت، (بدون تاريخ)،        ص 26.
 (6) أنظر تفصيل هذا الموضوع في كتاب: " تاريخ اللغات السامية لإسرائيل ولفنسون، ص 14 وخواطر حول العربية للمستشرق الفرنسي جاك بارك، في مجلة "الفكر" التونسية، السنة الخامسة.
(7) من حوار أجري معه أثناء زيارته للجزائر، منشور بجريدة الشعب في 18/12/1971.
(8) من كتاب الدورة الثانية والأربعين لمجمع اللغة العربية المنعقد بالقاهرة في 23/02/1976.
(9) مجلة " العربي"، عدد أفريل 1978، ص 72.
(10) كتاب الدروة (47) للمجمع اللغوي بالقاهرة.
(11)  كتاب الدورة (43) للمجمع اللغوي بالقاهرة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة 1978،  ص 16.
(12)  جريدة " الشرق الأوسط" الصادرة بلندن في 28/06/1989.
(13)  نقلا عن صحيفة " المجاهد" الجزائرية الصادرة بتاريخ 24/09/1996.
(14)  مجلة "الربطة" ، العدد 378، أغسطس ـ سبتمبر 1996.
(15) الدكتور حسن ظاظا: "كلام العرب في قضايا اللغة العربية" مكتبة الدراسات اللغوية بمصر،1971،
     ص 100.
(16) المزهر : الجزء الأول، ص 404.
(17) تاريخ اللغات السامية، ص 166.
 (18) أنظر: (فقه اللغة) للثعالبي و(نشوء اللغة العربية) لأنستاس الكرملي و(غرائب اللغة العربية) لرفائيل نخلة اليسوعي، و(المزهر) للسيوطي ج 1، و(فقه اللغة) للدكتور عبد الواحد وفي.
(19) عامر رشيد السامرائي: آراء في العربية، مطبعة العاني بغداد، بدون تاريخ، ص77.
(20) المزهر للسيوطي، مرجع سبق ذكره، ص407-409.
(21) اللغة : ترجمة عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصاص، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص 421.
(22) البيان والتبيين، ج 1، القاهرة، 1947،  ص 159.
(23) فلسفة اللغة، دار النشر للجامعيين، بيروت، 1956، ص 257.
(24) محمد الفاسي، التعريب ووسائل تحقيقه، بحث منشور في مجلة " الأصالة" ( الجزائرية)، عدد 17، 1974 .
(25) المرجع السابق ذكره.
(26) كتاب الدورة 43 للمجمع اللغوي بالقاهرة، مرجع سبق ذكره، ص 16.
(27) عن صحيفة " المجاهد" الجزائرية"، 24/09/1996.
(PHP Fatal error: Maximum execution time of 120 seconds exceeded in C:\www.isesco.org.ma\siteIsesco\new\arabe\publications\Langue_arabe\p6.php on line 1790