البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

الأحد، 18 أكتوبر 2015

بحث نقدي حول خطاب الواقعية وخطاب الفكر الحضاري في إبداع الشاعر معروف الرصافي


خطاب الواقعية ومقومات الفكر الحضاري
في شعر معروف الرصافي

د/ محمد الأمين شيخة
  جامعة  الوادي ـ  الجزائر


تقديم:
يُعدُّ الشاعر مَعْرُوف الرُّصَافِي * (1292 ـ1365 ه/ 1875 ـ 1945 م) من شعراء النخبة العرب في مسار الأدب العربي الحديث كشاعر, وكاتب أسهم ــــــ بما يدعو إلى الشك ــــــــ في بلورة مقومات الفكر الحضاري العـربي وواقعه الزاخر بالأحداث والمواقف الفكـــــــــرية والسياسية و الإنسانية والثقافية و الروحية .., فأعماله الخالدة متنوعة وكثيرة في مجالات الشعر والنثر واللغة والأدب عامة , إلى جانب تجاربه الحياتية عبر البلدان التي مرَّ بها , وأهمها العراق, وفلسطين,  وتركيا , فكان بذلك الأجدر من غيره من الشعراء والكتاب في عصره بان يحمل لواء الإصلاح والبعث والتجديد , ومن ثمة ترسيم مقومات هذا الفكر الحضاري في أمته , وأن يقف واصفا لكل مظاهر الحياة التي مرَّت بها هذه الأمة في فترات حياتها, وذلك كله عبر خطابه اللساني المتميز شكلا ومضمونا , فقد قيل في شعره بأنَّه (( ...سلسٌ متين اللغة رصين الأسلوب, نزع فيه نزعة إصلاحية , ونقل فيه أحداث عصره , ووصف الحياة الحاضرة في مناحيها المتنوعة , منها ما هو اجتماعي وسياسي, ونهج فيه طريقة الأقدمين في التعبير والصياغة , وتطرق لأغراضهم  المختلفة , واعتنى بالقوافي الموسيقية وبالصياغة اللفظية  )) (1) .
ومما سبق ذكره سنحاول في هذا البحث المتواضع التطرق إلى انعكاس ملامح الفكر الحضاري بأوجهه الاجتماعية والإنسانية والموضوعية والعقدية والفنية على الخطاب الشعري ذي الطابع الواقعي عند هذا الشاعر في محاولة لقراءة هذه المقومات المنطوية ضمن السياقات والأساليب الفنية التي ميزت هذا الخطاب الشعري.
الموضوع:
تقــــــــــــوم حضارات الأمم على أساس جملة من مقومات عـــــــــدّة لخَّصها علماء الاجتماع و ببساطة في مقومين هامين هما: الإبداع المادي والإبداع الفكري (المعنوي) ولا يمكن أن يتحقق هذان المقومان إلا في ظل توافر شروط أساسية ومعطيات قاعدية لقيام أي حضارة, ومنها عامل الزمن والموارد الطبيعية, وإذا كان المقوم  الأول (المادي)  ضروريا للممارسة الحياتية العادية للإنسان , فإنَّ قيام أي الحضارة مرهون بتوافر وارتباط المقوم الثاني (الفكري) بالأول, وبخاصة إذا تجلى هذا الإبداع الفكري في قالب فني جميل يعكس ذوق المبدع وأحاسيسه وهي مَهمَة لا توكل إلا للقلة من مبدعي الحضارة, ومنهم الشعراء والأدباء الذين ينطلقون في إبداعاتهم من همومهم وخواطرهم وصراعاتهم مع المجتمعات والطبيعة والكون (2 ), وهو ما ميز بعض شعراء العراق, ومنهم شاعرنا معروف الرُّصافي الذي طرق موضوعات الشعر القديم وأغراضه مع بعض ((... الإضافات والتعديلات التي أملتها الحياة الحاضرة , ولم يكن بدٌّ من التعرض لها من  باب الصـدق الواقعي  أو ما تصح تسميته بالإصلاح الاجتماعي الحديث )) (3 ) . والمتتبع عن قرب لمضامين وأفكار وأساليب الخطاب الشعري عند معروف الرصافي يلمس ذلك الثراء والتجديد في الأفكار مع أصالة الأساليب وسلاستها إلى حدّ البساطة في الطرح والصياغة اللغوية , وهو في كل ذلك يتجه صوب ثلاث جهات أساسية :أولها جهة الأدب التقليدي المحافظ على أسلوبية في التعبير لم تحد عن خطوطها العريضة إلا فيما نذر, وثانيها وجهة أخرى هي الجوانب الذاتية النفسية التي تميز شعره عن باقي أقرانه من الشعراء , وأخيرة تتمثل في  الجانب التعليمي الاجتماعي التربوي الذي يرمي فيه إلى نشر المبادئ و الأهداف بقصد المنافسة أو التحدي أو بقصد التقليد والمماحكة ....  وإذا كان شاعـرنا من الذين حملوا لـواء الإصلاح و البناء الحضاري في واقع المجتمع العربي , فلا بـدَّ أن تكون له صَولات وجَولات في هـذا الجانب من خـلال بلورة  فـكر الواقعية العربية في ذلك العصر والسير بها قدما  لرصد الواقع العربي  بكل سلبياته  طلبا لترسيم جملة من القيم أو المقومات الحضارية الكفيلة ببعث حضارة جديدة  ولو عبر هذا الخطاب الفني الفكري وفق مستويات وأساليب
متفاوتة.
أ ـ خطاب الواقعية الاجتماعية:
لا يمكننا وفي هذا السياق أن نعزل الخطاب اللساني (الأدب) عن الواقع الحياتي للإنسان , فالأدب عند اللساني الغربي (تازفتان تودوروف) ــــ على سبيل المثال لا الحصرــــــــ (( ... فكر ومعرفة للعالم النفسي والاجتماعي الذي نسكنه , والواقع الذي يطمح الأدب إلى فهمه هو , وبكل بساطة التجربة الإنسانية, لذا يمكن القول أنّ (دانتي) أو(سير فنتيس) يُعلماننا عن الوضع البشري على الأقل مثلما يعلمنا أكبر علماء الاجتماع وعلماء النفس...)) (4 ) .

إنّ من المقومات الفكرية التي طرقها الشاعر معروف الرّصافي في نظمه هو إحساسه بالانتماء إلى حضارة الأمة العربية الإسلامية بكل خلفياتها التاريخية والفكرية والسياسية والدينية ...وأهمها اللغوية  وفي هذا الصدد فقد أحسَّ  شاعرنا بثقل المسؤولية نحو هـــــــذا الجانب ( اللغوي) والأمة التي ينسب إليها فحاول بمنظار فاحص وثاقب وبإحساسه المرهف رصد حال هذا اللسان البيِّن وحال هذه الأمة في بوتقة واحدة تحت عنوان واحد موحد هو القومية العربية بكل ما تتسع وتوحي به هذه الكلمة عند القوميين العرب دون التفريط في أي مقوم من مقومات الوحدة التاريخية والبيئية واللغوية ... ..والتي هي بدورها تشكل واقعا معيشيا واحدا عبر كل مراحل التاريخ إلى نهاية هذا الواقع بنهاية هذا العالم ومن هنا يبرز دور الأديب أو الشاعر في تــــــــرجمة هذا الواقع الحال في صورة أصدق وأجلى بعيدا عن مجرد التنميق والتزويق الشكلي, فإذا كانت غاية الأدب ـــــــــــــــ كما يصرح الدكتور الطاهر أحمد مكي ـــــــــ عند المعاصرين هو الأدب بـــــذاته لجماليته الشكلية , فإن غايته التي تنقضي أو تنتهي أو تزول إلا بزواله هي التعبير والتصوير والتوصيل ((5 )), ولقد استطاع شاعرنا أن ينقل هذه الفكرة عن طريق تصوير واقع هذه الأمة الاجتماعي والفكري ليتخذ منه مطية  ووسيلة ًقصد تحليل الواقع بتشخيص الداء ومن ثمة وصف الدواء بطريقة ضمنية خفية لا تتجلى إلا بزوال تلك الحجب التي تغشى العقول , ونجد ذلك ضمن نماذج شعرية كثيرة ومنوعة أجــــــلاها ما أورده في قصيدة بعنوان (نحن والماضي)  إذ يقول في مطلعها :
أَرَى مُسَتقبل الأَيـــــام أَولى + بمَطمح َمن يُحاول أن يَسوَدا     
فَما بَلغ المقاصدَ غَير سَاع + يُردد في غــــــــــد نظرا سَديدا
إلى أن يقول :
وهل إن كانَ حاضرنا شقيا  + نسُود بكون ماضينا سَعيدا
تقدّم أُيُّها الــعربي شوطا  + فـإنّ أمامَك العيش الـــــــــــرغيدا  
فَدعني والفخَار بمَجد قوم + مَضى الزمن القديم لهم حَميدا

ا
 ويخلص بقوله:
وقد عَهدوا لنا بتراِث ملِك + أضعنا في رعايته العهودا
وعاشُوا سادةً في كل أرٍض + وعِشنا في مواطننا عَبيدا
وبهذا تكتمل الصـــــورة عند الشاعر عندما يربط الحاضر بالماضي ليبرز تلك المفــــارقة العجيبة بين حال الأمة في الماضي المجيد,وبين حال هذه الأمة نفسها في حاضرها الأليم و الـدرامي عن طريق التصوير بالتناظر بين الحالتين المتباينتين , ليصل في الأخير برسالة ضمنية لذوي العقول والألباب الـــراجحة علَّها تساعد على بعث مقوم حضاري وأساس من مقومات  الأمة ألا وهو  التراث الفكري واللغـــــــوي ومجد رواده الأوائل الذين أقاموا حضارة من العلــــــــوم والثقافة والآداب لا تزول بزوالهم ولا تنافسها فيها حضارات أُخر  .
ومن المقومات الحضارية التي تقوم عليها أي حضارة في إطار هذا المجال الاجتماعي هو فكرة ( التكافل الاجتماعي) الإنساني المحض الذي لا يختصُّ بأمـــــــة عن أخرى ,  بل هو الرابط والخيط المشترك بين كل الحضارات , وفي هذا المجال خَصّ شاعرنا قصائد دُرَر في هذا الجانب انطلاقا من إيمانه بأنَّ الحياة اليومية للإنسان في حركتها الدائبة والمتقلبة و المتصارعة مع الــــــــــواقع تخلق العديد من النماذج البشرية (الــــــــدرامية) التي يستحسن الوقــــــوف عندها لأنَّها من جهة  ذات سلطان على الوعي البشري فهي بمثابة المؤشر الحقيقي لنهوض وتطور أي حضارة ومن جهة أخرى  تمثل أفكارا أومعان إنسانية مصورة حية تنبض بمن تمثلها من فئات اجتماعية, وإذا كان أساس وجودها الفني يعتمد على الإقناع ,فإنّ هذا الإقناع لا يتوافر لها إلا في الأدب الموضوعي ((6))
ولهذا الهدف لـم يفـوت شاعرنا فرصة الـوقوف على بعض هـــــــذه النماذج البشرية الحيّة التي تمثل صورة إنسانية ونموذج يعكس من خلاله آلام وآهات فئة معينة من المجتمع, وهو بمثابة النموذج الخاص للحالة الإنسانية التي تعكس إطارا عاما لفئات إنسانية أخرى ,  وهو ما لمسناه جليًا من خلال بعض الشواهد الشعرية عند الشاعر ومن أبرزها قصيدة (الأرملة المرضعة) عندما يقول :


هَذي حكايَة حَال جئت أذكرُها + وليسَ يَخفى على الأحرار مَغزاها
أولى الأَيام بعَطفِ الناسِ أرملةٌ + وأشْرفُ الَناسِ مَنْ بِالمَال َواساها
ـلقَيتُها ليْتنِي ـمـَــــا كُنتُ ألقَاهَا  +  تَمْشِي وَقَد أثقلَ الإملاق مَمْشاها
أثْوابُها رَثــــــــةٌ والــــــــرِّجل حَافيةً  +  وَالـــــدَّمع تذرفهُ في الخدَّ عَيناها
فمن خلال تتبع هذه اللوحات الدرامية بسيطة الشكل عميقة  المضمون نلحظ ذلك العرض المأساوي الذي انبنى على التصوير والوصف الدقيق بعد التشويق الذي تصدر به الشاعر والتوجيه الصـــــريح منه قصد التنبيه إلى العبرة المنتظرة منه , ومن ثمة الغـــــــــــوص في غمار اللوحات الدرامية المتعددة إلى آخر هــــذا المشهد كي يتسنى لشاعــــــرنا في هــــــــذا الخطاب التذكير بمقوم أساس مــــــــــــــن مقومات الحضارة الإنسانية  ألا وهـــــــــــــو فكرة التكافل الاجتماعي الذي يبدأ أولا بأول من الإحسان و الإشفاق على ضعاف الخلق ثم يتعداه إلى صور أخرى كثيرة ومتعددة .
ب ـ خطاب الواقعية المادية والكونية:
لم يغفل معروف الرَّصافي الواقع المادي للحضارة الإنسانية برمتها بوصفه أحد أهم متطلبات الحضارة الراقية التي ترمي إلى تجسيدها أمة من أمم , والواقع المادي لأي حضارة يتطلب وجود المادة الحيّة في حياة الإنسان سواء أكانت هذه المادة طبيعية أو مصطنعة بأيدي البشر أنفسهم  ولقد أكد فلاسفة العصر الحديث والمعاصر وحتى القدامى  على ضرورة تواجد المادة في حياة الإنسان, وأشهرهم في هذا المجال العالم والفيلسوف الاجتماعي (ابن خلدون) في كلامه عن فلسفة العمران وحديثا الفيلسوف الجزائري  (مالك بن نبي) الذي أشار في محض حديثه عن الحضارة إلى وجوب توافر ثلاثية (الوقت /الإنسان/ التراب (المادة الطبيعية) ) لنشوء أو قيام أي حضارة , وليس خاف على أحد أن توافر المعطى المادي (الطبيعي) والميزات الكونية التي وهبها الله تعالى وأضفاها على مخلوقاته المادية والمحيطة بالإنسان تحيل هذا الأخير ـ وقبل التصرف بها ـإلى التدبر في أسرارها وخفاياها الكونية التي لا تتوافر في المعطيات المادية المصطنعة التي يستطيع هذا الإنسان بعقله وفكره الوصول إليها , ومن هنا كان لزاما على الشاعر إن يشير إلى فكرة التسليم والإيمان بالذات الإلهية كحالة حضارية يلجأ إليها العبد عند التدبر والتفكر في خلفيات هذا الكون

 وربما عندما تنغلق عليه آفاق العلوم والبحوث , ومن النماذج الحية في هذا المجال ( المعطى الطبيعي) قصيدة ( الله) , إذ يقول فيها:
انظرْ لتلك الشَّجرَه + ذات الغُصونِ الَّنضرَه
كَيفَ نَمتْ مِن بَذرَه + وكَيفَ صَارتْ شَجرَه
إلى أن يقول :
فأنظرْ وَقل مَن ذا الذِي + يُخرجُ منها الثّمرَه
انظرْ إلى الشَّمسِ التي +   جَدوتُها مُسْعرَه
وانظرْ إلى المَرء وقُل + مَن شَقَّ فيهِ بَصرَه
إلى قوله في الأخير :
ذاكَ هُو الله الذِي + وَيلً لمَن كفَرَه
ذُو حكمـــــــــَة بَالغةٍ + وَقُدرةٍ مُقتَدرَه
ومن خلال هذه  المقتطفات ذات اللغة البسيطة والمعنى الواضح والمباشر أقرَّ شاعرنا بوجود مقوم آخر من مقومات الحضارة الإنسانية , وهو بلا شك فكرة الإيمان بالذات الإلهية  التي أوجدت كل موجود على وجه البسيطة وسخرته ليكون بين أيدي هــــذا المخلــــــــوق الذي تـُـــــــــــــوكل له مهَمَة التدبر والتفكر في الكون وفي خالقه , ومن خلال هذا الإيمان بالكون تتجلى في روح وعقل الإنسان فكرة التكريم والتكليف من لدن الذات الإلهية ليسمو بها الإنسان كمخلوق فوق جميع المخلوقات الكونية وليكون الأجدر منها وبينها لتحقيق الحضارة المنشودة.
ولم يُهمل شاعرنا في مواقف أخرى التذكير ببعض المظاهر الكونية الطبيعية المحيطة بالمجتمع والإنسان العربي بالذات ساعيا إلى تذكير هذا الأخير بما حباه الله تعالى عن غيره من الأمم من مظاهر الطبيعة التي سُخرت له قصد استثمارها والتنعم بها دون الخوص في خفاياها الكونية (( وكأن الطبيعة ظاهرة طبوغرافية تاريخية يحرص على السؤال عنها ورصد تقلباتها واندثار آثــــــــــــارها القديمة ...)) (7 ). إذ نجده يتطرق على السبيل المثال إلى معالم طبيعية ثابتة بالعراق بلده الأول والأخير واصفا أنهاره وخلجانه قائلاً:
يا نَهرَ (عيسى) أينَ مِنك مَوارِدُ + عَذُبتْ وأينَ رِياضُك الخَضلاتُ
ماذا دَهَى نَهْرَ( الرُّفيل) مِن البَلى +حَيثُ المَجَاري فِيهِ مُندَرساتُ
كما تطرق الشاعر في مواقف عديدة لبعض المظاهر المادية الصناعية التي توَصَّل الإنسان الغربي قبل العربي ـــــــ وللأسف ـــــــــــــــ لاختراعها, والتي تمثل مظهرا هاما من مظاهر الحضارة الراقية وذلك كله انطلاقا من إيمان الشاعر بأنَّ العقل البشري الذي أودعه الله تعالى في الإنسان كفيل بأنَّ يترجم قدرة الله في عباده من خلال هذه المنجزات الصناعية   ومن صور هذا الافتتان بما سبق مقطوعته الشعرية في وصف قاطرة , قائلاً:
وقاطرٍة تَرمِي الفَضَا بِدُخانهَا  + وتَمْلأُ صَدْرَ الأرضِ  فِي سَيْرِهَا رُعْبَا
تَمَشَّت بِنَا ليلاً تَجرُّ وَرَاءهَا   +   قِطاراً كصَفِّ الدَّوحِ تَسحَبُه سَحْبَا
 إلى أن يستخلص هذا المشهد بقوله:
هُوَ العِلمُ يَعلُو بِالحَياةِ سَعادةً + وَيَجعُلها كَالعِلمِ مَحمُودةَ العُقبَى
وهو بذلك يؤكد على مقوم أساس من مقومات الحضارة الإنسانية الراقية , ألا وهو العلم الموضوعي المادي الذي يمدُّ البشرية ويساعدها في تخطي صعوبات الحياة اليومية ,   وليس العلم الهدام الذي يؤدي إلى دمار البشرية  وفنائها.
ج ـ خطاب الواقعية والصدق الفني:    
ينطلق مبدأ الصدق الفني من الاعتقاد الجازم بأنَّ الشعر ليس وسيلة للتعبير عــــــــن المشاعر فقط  وإنَّما هو قبل كل شيء تخلص من تلك المشاعر عن طريق التعبير الصادق والحقيقي عن تجربة إنسانية , وبذلك فالشاعر مُكلف قبل غيره من الناس بــــــــأن يدرك الواقع الاجتماعي بصورة أعمق وأبعد من تصور غيره من الناس , ولهذا فإنَّ شعوره إزاء المجتمع لا يمكن أن يكون مرآة هامدة تعكس العالم الحقيقي على نحو سلبي (( فالإنسان يسعى دائما في إدراكه للواقع إلى التأثير على مجرى تصوره , وهو يتخذ موقفا إلى جانب هذه الطبقة ــــ أو القوة الاجتماعية ـــــــ أو تلك ))  (8 ).
وهـــــــــــــــــو ما لمسناه ونحن نتتبع مــــــواقف الشاعر إزاء مجتمعه, تلك الموافق الصلبة التي تهدف إلى إصلاح هذا المجتمع الراكد والمتخلف عن ركب الحضارات الأخرى , وهي الموافق نفسها التي أدت به إلى الصدام مع السلطة مما كلفته العزلة والنفي والتشرد كثمن باهض جــــــــــراء ما أبداه من صدق وواقعية في علاج أمراض الأمة ودعوتها للتحرر من قيود القهر والتسلط  والكبت حتى بلغ به الحدُّ في بعض قصائده إلى اليأس والقنوط مما آل إليه حال الناس , ولقد صور شاعـــــــــــــــــــرنا هذا الواقع المزري في إحدى قصائده التي لم يتفطن لها جمهرة الدارسين في عصرنا ـ وبخاصة ـ وأنها تصور واقع العراق اليوم في ظل التناحر المذهبي والطائفي (6 ) إذ يقول:
يَا قَومُ لا تَتَكلمُوا +   إنَّ الكَلامَ مُحَّرمُ
نَامُوا وَلا تستيقظوا + مَا فازَ إلاَّ النُّوَمُ
وَتأخَرُوا عَنْ كلّ مَا + يَقْضِي بِأن تَتَقدَمُوا
إنْ قِيلَ :هَذا شَهْدُكمُ +  مَرٌّ فَقُولُوا عَلقَمُ
أوْ قِيلَ : إنَّ بِلادَكمْ + يَا قَومُ سَوفَ تُقسَّمُ
فَتَطرُبُوا وَتخَمَدُوا
وبذلك إتجه معروف الرُّصافي إلى التمرد المقرون بالإلتزام الصادق بقضايا شعبه وأمته العربية وتجلى ذلك من خلال قصائد كثيرة أظهر فيها اعتناقه للمبادئ والتزامه بقضايا بلاده وأمته , ويمكن بذلك أن نعدَّ  هذا الشاعر من رواد النهضة الذين فهموا أبعاد الأدب ((... فإذا هم يعطونه في واقعية إجتماعية , فيصدقون فيها , ويخلصون , وينتقدون واقعهم الاجتماعي , ويعملون على تغييره )) (10 ).
ومن خلال هذا كله  وما سبق تحليله  فقد استطاع هذا المبدع  ومن خلال مواقفه الصلبة أن يؤكد كذلك على مقوم يعدُّ  من أهم ركائز الحضارة الإنسانية الحديثة والمعاصرة , ألا وهو مبدأ التحرر والانعتاق من كل تسلط قاهر للفكر أو الإبداع وبذلك أمكن للفرد أو للمجتمع أن ينطلق في فكره وعمله بحرية تمكنه من يبلغ الآفاق ويحقق بذلك آمال شعبه وأمته.
خاتمة:
إنَّ هذا التوجه الذي وسم خطاب الواقعية عند الشاعر العراقي معروف الرُّصافي يؤكد بما لا يدعو إلى الشك على مقومات أساسية كفيلة بنهوض ورقي أي أمة أوشعب يريد بالفعل أن يحقق حضارة راقية تريد أن تستمر وتنهض , وهي مقومات إنسانية تتعلق بالإنسان في حدِّ ذاته, وأخرى إجتماعية تتعلق بعلاقة هذا الإنسان بالمجتمع, وأخرى كونية ترتبط بسلوك هذا الإنسان إزاء عوالم الطبيعة والمادة , وكل ذلك في قالب فني أدبي لم يتكلف فيه الشاعر عناء استحضار جميع قدراته الفنية ولا الجمالية المعهودة في هذا الصنف من الشعر الكلاسيكي بل اكتفى بالتعبير البسيط والمعنى المباشر الذي يسهل له التوصيل ويحقق له الأهداف النبيلة التي يصبو إلى تحقيقها لشعبه وأمته. 
                                 



الهوامش:
   
*
   شاعر وكاتب عراقي أصله كردي من مواليد بغداد , كانت حياته مليئة بالأحداث الثقافية والسياسية , انصرف في حياته للعمل في التدريس وخاض غمار السياسة , ثم استقال منها جميعا ليتفرغ لقرض الشعر كأداة ووسيلة للإصلاح والبناء , خلف ديوانا ضخما يعرف باسم (الرُّصافيات) إلى جانب بعض المقالات والقصائد المنسية المتناثرة هنا وهناك .
1 ـــــــ ابن عباس / مصطفى رسام : تراجم الشعراء والأدباء ,مطبعة النجاح الجديدة ,2005 م المغرب , الدار البيضاء , ص 278 .
2 ــــــــــ ياسين الأيوبي : مذاهب الأدب (معالم وانعكاسات) , ج1 ,دار الإنشاء , 1980 م , لبنان , طرابلس , ص 266 .
3 ــــــــ المرجع نفسه , ص 191 .
4 ـــــــــــ  تزفيان تودوروف : الأدب في خطر ,( ت ) عبد الكبير الشرقاوي , دار توبقال للنشر ,2007 م,  المغرب , الدار البيضاء , ص 45 .
5 ـــــــــــ الطاهر أحمد مكي : الأدب المقارن (أصوله وتطوره ومناهجه) , مكتبة الآداب ,2001 م , مصر , القاهرة , ص 235 .
6 ــــــــــ   المرجع نفسه , ص361 .
7 ــــــــ   علي عباس علوان : تطور الشعر العربي الحديث في العراق , وزارة الإعلام العراقية , 1975 م , العراق , بغداد , ص 140 ,141 .
8 ــــــ شكري عزيز ماضي : محاضرات في نظرية الأدب , دار البعث , ط 1 , 1984 م , الجزائر , قسنطينة , ص 168 .
9 ــــــــ إبراهيم السامرائي :أشتات في الأدب واللغة , دار الكتب والوثائق القومية ,ط1 ,2001 م , مصر , القاهرة , ص 93 ,94 .
10 ـــــــ  كاظم حطيط : دراسات في الأدب العربي , دار الكتاب اللبناني / مكتبة المدرسة , ط1 , 1977 م , لبنان / مصر , ص 348 .