البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

الأحد، 24 أبريل 2016

نظرة علمية عن الفصائل والأسر اللغوية في العالم



 الباحث : محمد بن إبراهيم الحمد

كان لاكتشاف اللغة السنسكريتية الهندية القديمة في أواخر القرن الثامن عشر أثر كبير في تطور الدراسات اللغويبة في أوربا ذلك أن البحث اللغوي الهندي كان يتميز بالدقة والاهتمام بالدراسات الوصفية، ويبتعد عن الجدل والفلسفة، وقد تبين للغويين وجود أوجه شبه كبيرة بين السنسكريتية واللغات الأوربية، فدفعهم هذا إلى الاهتمام بالدراسة الوصفية والتاريخية والمقارنة للغات.
كان علماء تلك الفترة في أوربا مهتمين بالبحث التاريخي، ويحاولون وضع دراسة تاريخية تطورية لكل علم متأثرين بنظرية دارون التطورية، كما كانوا يسعون إلى وضع قوانين لعلومهم، فسار علماء اللغة على هذا النهج؛ لأجل تحديد أوجه الشبه والاتفاق بين اللغات، والبحث عن الأصول المشتركة لهذه اللغات؛ رغبة في الوصول إلى ما يسمى باللغة الأولى أو الأم، ودراسة تطور اللغات، وكتابة تاريخها اللغوي، ووضع قوانين عامة للغات.
ودفع تحديد ملامح المجموعات اللغوية في أوربا ومعرفة العلاقات بينها - إلى البحث في لغات العالم الأخرى، حتى توصل العلماء إلى بعض التقسيمات للغات، وهو ما يسمى بالفصائل أو الأسر اللغوية.
والغرض الذي يُسعى إليه من دراسة الفصائل اللغوية هو معرفة التقسيمات العامة للغات العالم، والمجموعة التي تنتمي إليها لغتنا، وخصائص المجموعة، وتاريخها، ثم نعرج على لغتنا؛ فندرسها بالتفصيل.
ولقد توصل العلماء إلى عدة نظريات في تقسيم اللغات في العالم ولكن أشهر تلك النظريات نظريتان:
النظرية الأولى: وهي التي تعتمد على الدراسة الوصفية والتشكيلية للغات، ولا تنظر إلى ما بينها من قرابات وصلات تاريخية.
وصاحب هذه النظرية هو العالم الألماني (شليجل) وقد قسم اللغات إلى ثلاثة أقسام:
1- اللغات المتصرفة أو التحليلية: وتمتاز هذه اللغات من الناحية التصريفية بتغير المعاني مع تصرف الكلمات، وأن الألفاظ فيها يشتق بعضها من بعض، ومن الناحية النحوية وتراكيب الجمل تَسْتَخدِم روابطَ وأدواتٍ تدل على مختلف العلاقات.
ومن هذا النوع اللغات الأوربية واللغات السامية ومنها العربية التي بلغت من ذلك مبلغاً فاقت به سائر اللغات؛ ففي العربية - على سبيل المثال - تقول من مادة (شُرْب): شَرِبَ، يشرب، شارب، شَرَاب، شُرْب، شروب، شَريب، تَشراب. . . وكل منها يدل على معنى.
وتقول: ركب محمد وعلي القطار من الرياض إلى الظهران فتدل الضمة في (محمد) على الفاعلية، والفتحة في (القطار) على المفعولية، والواو على الرابط بين (علي) و (محمد) و (من) على الابتداء و (إلى) على الانتهاء. . . وهكذا.
2- اللغات الوصلية أو اللاصقة: وهذه اللغات تتغير المعاني فيها عن طريق إضافة لواصق أو سوابق إلى الكلمات، لتحمل معاني جديدة.
ومن أشهر لغات هذه الفصيلة: اليابانية، وبعض اللغات البدائية.
3- اللغات العازلة: وهي لغات لا تتصرف الكلمات فيها ولا تلحقها الإضافات، بل تحمل كل كلمة بصورتها معنى لا يتغير.
ولا تعرف هذه اللغاتُ الأدواتِ النحويةَ، ولعل هذا هو السبب في تسميتها بـ: العازلة؛ لأن لكل كلمة دلالة خاصة، لا تقبل التغير.
ومن هذه اللغات الصينية وكثير من لغات الأمم البدائية.
وزعم القائلون بهذه النظرية أنها تدل على تطور اللغات؛ فاللغة في نظرهم تبدأ من مرحلة (العزل)، ثم ترتقي إلى المرحلة التي تستخدم فيها السوابق واللواحق، ثم إلى أرقى مراحلها وهي أن تكون تصريفية كما يرى القائلون بها أن بعض اللغات قد تتوقف عند مرحلة معينة فلا تتجاوزها، وقد استدلوا على نظريتهم هذه بلغات الأطفال ولغات الأمم البدائية.
ولم تلقَ هذه النظرية قبولاً عند العلماء ووجهوا إليها اعتراضات أهمها:
أن كثيراً من اللغات تعرف أكثر من قسم من الأقسام الثلاثة؛ فالعربية التي هي لغة تصريفية تعتمد اعتماداً كبيراً على الوصل، والإلصاق كحروف المضارعة، وعلامات التثنية والجمع، وغيرها.
وكذلك نجد فيها بعض الصيغ العازلة كالمثال الذي يسوقه النحويون: ضرب موسى عيسى، من وجوب تقديم الفاعل، لعدم وجود قرينة تدل عليه، ولو قدمت (عيسى) على (موسى) أو على (ضرب) لتغير المعنى.
النظرية الثانية: وهي التي تعتمد على الصلات وروابط القربى، والعلاقات التاريخية والجغرافية بين الشعوب، فتحاول أن تجعل من كل مجموعة متقاربة من اللغات فصيلة مستقلة.
وهذه النظرية أكثر النظريات قبولاً، ورواجاً بين العلماء.
وأشهر تقسيم للغات سار في هذا الاتجاه هو ما قال به العالم الألماني (ماكس مولر) ت1900م، فقد لاحظ أن أكثر لغات العالم تجمع بينها علاقات تاريخية، وأوجه شبه مما يمكن أن تكون متفرعة عن أصل واحد.
ومن منطلق وحدة النشأة للغات وجد (مولر) أمامه مجموعتين لغويتين متميزتين، أما اللغات التي لم تندرج تحت هاتين المجموعتين فقد صنفهما تحت مجموعة ثالثة.
وعلى هذا ففصائل اللغات في العالم ثلاث:
1- فصيلة اللغات الهندية - الأوربية: وهي أكثر اللغات انتشاراً في العالم؛ إذ يتكلم بها أكثر سكان أوربا وأمريكا واستراليا، وقسم كبير من سكان آسيا.
ويندرج تحت هذه المجموعة عدد من اللغات البائدة كالسنسكريتية، والفارسية القديمة، والبهلوية واللغات الجرمانية، واليونانية، والإغريقية القديمة، كما يدخل ضمن هذه المجموعة من اللغات المستعملة الحية اللغات الهندية، والفارسية، والكردية، والأفغانية، والأرمنية، والألبانية، واللغات الأوربية، والسلافية والاسكندنافية وغيرها.
وقد اختلف العلماء في تحديد موطن هذه اللغات فقيل نشأت في وسط آسيا في منطقة التركستان، أو في أوربا الشرقية، أو في بحر البلطيق كما حاولوا تصور كيفية انتقال هذه اللغات وانتشارها في تلك البقاع الواسعة في العالم.
وقد بحث العلماء كثيراً في هذه اللغات لأن أكثر علماء اللغة في العصور المتأخرة ينتمون إليها.
وتمتاز هذه الفصيلة بكثرة شعبها، واتساع الرقعة المنتشرة فيها وقد سلك المتحدثون بها إن كانت يوماً ما لغةً واحدة مسالك متباعدة حتى لا يكاد يوجد بين فروع هذه الفصيلة إلا أوجه شبه محدودة يدركها المتخصصون.
2- فصيلة اللغات السامية - الحامية: وتشمل هذه الفصيلة مجموعتين لا يربط بينهما إلا روابط جغرافية؛ ذلك أن الاختلاف بين المجموعتين كبير.
أما الأولى - السامية - فلها حديث خاص، وأما الثانية - الحامية - فتنتسب إلى حام بن نوح - عليه السلام - وهي تحوي اللغاتِ المصريةَ القديمةَ، والقبطيةَ، واللغاتِ البربريةَ التي لا يزال لها بعض الاستعمال في مناطق من شمال أقريقيا، واللغات الكنوشيتية - الحبشية القديمة - والنوبية.
وأكثر هذه اللغات طغت عليها اللغات السامية.
3- فصيلة اللغات الطورانية: وتسميتها بالفصيلة من قبيل المجاز، وإلا فإن هذه الفصيلة تضم لغات لا تربط بينها علاقات، ولكن (مولر) جمعها تحت هذا الاسم؛ تخلصاً من كثرة التقسيمات.
ومن هذه الفصيلةِ اللغاتُ الصينية، واليابانية، والتركية، والمغولية وغيرها.

ولم يُرضِ هذا التقسيم العلماء المحدثين، فجعلوا اللغات السامية الحامية فصيلتين مستقلتين، وجعلوا الفصيلة الطورانية تسعة عشر قسماً؛ لتصل الفصائل إلى اثنتين وعشرين.

الخميس، 21 أبريل 2016

آليات تطبيق المنهج التداولي على النص التراثي


الباحثة الدكتورة /هاجر مدقن
قسم اللغة والأدب العربي ـ جامعة ورقلة (الجزائر)


مدخــل:
ما يزال النص التراثي قطبا مغناطيسيا تنجذب إليه جهود الدارسين على اختلاف مناهج دراساتهم، وتراوحها بين الجدة والقدم، وذلك لما لهذه النصوص من خصائص لغوية وقيمية تشكل نسيجا متكاملا ومتجددا؛ بحيث لا تجدُّ دراسة ولا يبرز على ساحات المناهج والتوجهات الجديدة منهج إلا ووجد له في هذه النصوص ضالة. 
         ويعتبر المنهج التداولي الحديث – على تمنعه على الضبط والتجديد على مستوى آلياته التحليلية – وسيلة متكاملة ومتداخلة الإجراءات بشكل "عبر تخصصي"، يمنحه ثراء على مستوى الإجراء والنتيجة، ولاسيما على مستوى النصوص التراثية لما فيها من مستويات سياقية مقامية، وتشخيصية، وتوفرها على مساحة شاسعة من الطبقات الكلامية "مستويات الأفعال الكلامية" على اعتبار أن هذه الأخيرة مبحث مهم من المباحث التداولية.
         وسيكون هدف هذه المداخلة إن شاء الله، بسط أهم آليات مقاربة النص التراثي في ضوء المنهج التداولي الحديث.  
1- التداولية بين النظرية والمنهج:
         تناولت التداولية كدرس جديد بحوث كثيرة، وبتعددها تعددت تعاريفها، ومن بينها؛ أنها: «مجموعة من البحوث المنطقية اللسانية (...)، وهي كذلك الدراسة التي تعنى باستعمال اللغة، وتهتم بقضية التلاؤم بين التعابير الرمزية والسياقات المرجعية والمقامية والحديثة والبشرية». ورصد لها تعريف آخر، وهو أنها: « تمثل دراسة تهتم باللغة في الخطاب، وتنظر في الوسميات الخاصة به ، قصد تأكيد طابعه التخاطبي ». وهي كذلك:«الدراسة أو التخصص الذي يندرج ضمن اللسانيات، ويهتم أكثر باستعمال اللغة في التواصل».
         هذه التعددية في المفاهيم توقع التداولية في مفترق طرق الأبحاث اللسانية والفلسفية والتواصلية عامة، ما يجعلها درسا غزيرا لا يمتلك حدودا واضحة­­، وهذا التوسع واللامحدودية، جعلها تتداخل واختصاصات أخرى ، أو تحقق بذلك ما يسمى بـ: "العبر تخصصية"، التي أغنتها إجرائيا بتداخلها مع معارف واختصاصات أخرى، وهذا الغنى « ساهم في حل إشكاليات مطروحة، وإن تسبب في إعاقة ضبط مفاهيمها » .  فالتداولية لا تنتمي إلى أي من مستويات الدرس اللغوي صوتيا كان أم صرفيا أم نحويا أم دلاليا، لذلك فالأخطاء التداولية لا علاقة لها بالخروج على القواعد الفونولوجية أو النحوية أو الدلالية، وهي ليست مستوى يضـاف إلى هذه المستويات؛ لأن كلا منهـا يختص بجانب محدد ومتماسك من جوانب اللغة ،وله أنماطه التجريدية، ووحداته التحليلية، ولا كذلك التداولية، فهي لا تقتصر على دراسة جانب محدد من جوانب اللغة، بل من الممكن أن تستوعبها جميعا، وليس لها أنماط تجريدية ولا وحدات تحليل. 
         وهي كذلك لا تنضوي تحت علم من العلوم التي لها علاقة باللغة على تداخلها معها في بعض جوانب الدرس كـ: علم الدلالة: الذي يشاركها دراسة المعنى، وعلم اللغة الاجتماعي: الذي تتشارك معه في تبيين أثر العلاقات الاجتماعية بين المشاركين في الحديث وموضوعه ومرتبة كل من المتكلم والسامع وجنسه، وأثر السياق غير اللغوي في اختيار السمات اللغوية وتنوعاتها، وعلم اللغة النفسي: الذي يشارك التداولية الاهتمام بقدرات المشاركين التي تؤثر في أدائهم، مثل: الانتباه والذاكرة والشخصية، وتحليل الخطاب:ويشتركان في الاهتمام أساسا بتحليل الحوار، ويقتسمان عددا من المفهومات الفلسفية واللغوية، كالطريقة التي توزع بها المعلومات في جمل أو نصوص، والعناصر الإشارية، والمبادئ الحوارية.هذا الاتساع والتداخل حدا بكثير من الدارسين إلى القول بافتقارها إلى موضوعات مترابطة ووحدات تحليل خاصة بها.
         لكن هذا لم يمنع دارسين آخرين من محاولة تحديد مجالات تطبيقها، ولنقل مجالات مقارباتها. فالدكتور " صلاح فضل "، في كتابه: ‹بلاغة الخطاب وعلم النص›، في مبحث: "التحليل التداولي للخطاب"، أشار إلى أن المهم في التحليل التداولي هو الخطاب وفاعله؛ حيث يعنى التداوليون بالاقتراب من الخطاب كموضوع خارجي، أو شيء يفترض وجود فاعل منتج له، وعلاقة حوارية مخاطب أو مرسل إليه. ويكون الاهتمام بالفاعل الذي نعرفه فحسب من خلال خطابه؛ أي بالكيفية التي يقدم بها نفسه من جانب، وباعتباره مسئولا عن مجموعة من العمليات الإجرائية على مدار النص من جانب آخر.
         فعلى التحليل النصي للقول أن يشمل كل ما يشير إليه النص من موقف الفاعل الداخلي اتجاه قوله، وبهذا فإن النص يقدم دائما باعتباره (موسوما marqué) أو(غير موسوم) بطريقة شخصية؛ أي أنه يتصل بفاعل يتجلى فيه معبرا عن رأيه أو وجهة نظره، مشيرا إلى تجربة أو حدث متعلق به ذاته، وعندئذ يصبح موسوما، أو متصلا بوقائع ومعارف موضوعية بعيدة عن القائل، وعندئذ يكون غير موسوم. هذان الوضعان الأساسيان للخطاب بكل ما يدخلهما من تعديلات وتداخلات يتجليان نصيا من خلال العوامل التالية:          
-    مؤشرات الشخص والمكان والزمان.
-         كيفيات القول التي تحدده ، مثل موقف التأكد واليقين أو الشك والاحتمال.
-    مؤشرات الموقف التي لا تتصل بفعل القول ذاته، وإنما بموقف القائل مما يقوله، ويدخل في ذلك تلك العناصر اللغوية الذاتية أو الخارجية التي تحدد أحد الموقفين.
ونلاحظ هنا أن ما قدمه " صلاح فضل"، لا يبعد كثيرا عما أشار إليه رواد التنظير للتداولية، ومن بينهم "أرمينكو"، التي تشير إلى كثير مماورد لدى"صلاح فضل"، ضمن مكونات المقاربة التداولية التي عالجتها انطلاقا من المستويات الخمس التي صنفتها وفق أهم نتائج الجهود التي نظرت للبحث التداولي على اختلاف الخلفيات والمرجعيات المعرفية ( السيكو- سوسيو- لوجية، اللسانية، البلاغية الجديدة ، المنطقية، الفلسفية )، ولاسيما المستويات: الثاني والثالث والرابع.
2- المقــاربة التداوليــة:
         إن مقاربة بين مفهوم التواصل والتداولية تفضي إلى أن موضوعها – التداولية – هو الإنسان نفسه وهو يباشر أدواره الاجتماعية. وهذه الأدوار تنعكس في مختلف السياقات التي تطبع الخطاب الذي ينتجه. والمقاربة التداولية من شأنها تحديد هذه السياقات؛ كونها – المقاربة التداولية - «"اقتراب" له جانب" الخطوة الأولى، الابتعاد"...، وهي "سياقية"لأن مفهوم السياق هو أحسن ما يسم هذه الطوبيقا*».
         وبهذا يكون مجال المقاربة محددا في ما وراء البنية النصية، متجاوزة النص كبنية مغلقة، لا تحيل إلا على ذاتها، وتستند في تشكلها والتحامها وتماسكها على إمكانياتها وطاقاتها الداخلية الصوتية والصرفية والتركيبية، إلى الخطاب كبنية منفتحة على سياقات خارجية في علاقة تفاعلية مستمرة.      
3-آليـات المقـاربة التداوليـة للنص التراثـي :
         تطالعنا الخزانة التراثية العربية بأنماط نصية لا تختلف على مستوى الجنس فقط: الشعر والنثر، بل على مستوى البناء النصي للجنس الواحد.
وسيكون استقراؤنا للنص التراثي في هذه المداخلة انطلاقا من النصوص النثرية، وتحديدا النصوص (القصصية الخرافية المثلية)، والتي يمثلها خير تمثيل في هذا المجال، كتاب:‹كليلة ودمنة›، "لابن المقفع".
         من يطلع على الحكايا الخرافية في هذا الكتاب تتبادر إلى ذهنه أطياف متشاكلة ومتباينة من القضايا ، والتي يمكن لكل واحدة منها أن تنفرد ببحث خاص يتأتى لصاحبه أن يقول فيه ما يقول؛ إن كان على مستوى نوع النص: (القصصي(الحكائي) الرمزي)، أو قضية النص: (الإصلاح السياسي ونصح الملوك)، أو ما يسمى بـ: (الآداب السلطانية)، أو بناء النص: (المثلي الحجاجي)، والذي نفهم من ورائه أن المثل لا يساق إلا حجة ، وهذا هو الطابع الكلي لكتاب: ‹كليلة ودمنة›.
         لكننا اختصارا للوقت والجهد، سنحاول مقاربة نصوص هذا الكتاب على مستويين:
أ‌-          مستوى بنية الخطاب الداخلية (العلاقات الداخلية)، انطلاقا من رصد الأفعال الإنجازية: المباشرة وغير المباشرة.
ب‌-        مستوى بنية الخطاب الخارجية؛ أي التفاعلات النصية التي تكون على مستوى تفاعل ذوات الخطاب مع المحيط الخطابي، أو القيمة الخارجية، والعلاقات التي تتجسد في كل من: "التشخيص" و"المقام".

§         1.           البنية الداخلية للخطاب :
أ‌-          الأفعال الإنجازية :
يعـرّف "أوستن AUSTIN" الفعـل الإنجازيّ بأنّه: « ما نقوم به خلال كلامنا »، بمعنى الآثار التي ينجزها كلامنا، والتي تخالف الفهم المجرّد لهذا الكلام، أي ارتباط الكلام أو القـول بالـحدث مباشرة كمـا يشـير " فـان دايك VANDIJK " الذي يجعل مفهوم الفعل الإنجازي في علاقة وثيقة مع مفهوم الحدث  وقد يكشف تعريف موجز بديهيّ للفـظ الفعل هذه العلاقة : فالفعـل هو كلّ حدث حاصل بواسطة الكائن الإنساني.
ومـن شروط إنجازيّة الأفعال اقتضاؤها لشروط وأحوال ذهنيّة سابقة، ولاسيما القصديّة،«لأن  أحوال حصول الأفعـال المنجـزة عن قصد هي ما يمكن أن تـوصف بكونـها أفعـالا إنجـازيّـة ».  ولأن التداولية تتلخص في علاقة العلامات اللغوية بمستخدميها، فهي تمنح هذه الأفعال إطارا تواصليا ضمن بنية خطابية قابلة للتأويل؛  أي ما يسمى بالتأويل التداولي للعبارات.
 يحيلنا لفظ (التّداولية) إحالة مباشرة إلى نظريّة أفعـال الكلام، وهذه النظرية ترتبط بقطبين اثنين: " أوستن Austin  " و" سيرل Searle  " الذين  قعّـدا لها عن طريق محاولتهمـا لتقسيم الجمـل، أو بتقسيم "أوستن Austin  " للجملة الخبريّـة إلى: وصفيّـة (constative)، وإنشائيّة (performative  ) ثم عدوله عن هذا الّتقسيم انطلاقا  من تساؤله:             
<< كم معنى هناك على أساسه يكون قول شيء هو نفسه فعل شيء،  أو يكون متضمّنا في قولنـا شيئا ، فعلنا لشيء معين ، أو يكون بواسطة قولنا شيئا فعلنا لشيء ما >>.
 ومنه ميّز " أوستن Austin  " أفعالا ثلاثة ترتبط بالقول ( locution ):   
 أ – فعل القول LOCUTIONARY ACT : وهو << إطلاق الألفاظ على صورة جملة مفيدة ذات بناء نحوي سليم مع تحديد مالها من معنى ( Sense ) ومشار إليه              ( Référence ) >>، وهـذا الفعل يقع دائما مـع كل قول، ومع إعطائه معنى، يبقى غير كاف لإدراكنا أبعاده، كقولنا:
- إنها ستمطر.
مع فهمنا الكلّي لمعناها ، فلا ندري إن كانت خبرا أو تحذيرا من عاقبة الخروج، أو أمرا بحمل المظلّـة؛ إلخ.
لـذا وجد " أوستن " ضرورة إرفاق فعـل القـول بـ:
ب – فعل متضمّن في القول ILLOCUTIONARY ACT: هـذا الفعل يشتمل على أمـر زائـد هو ( القوة Force ) التي للقول، فيقال للجملة السابقة في موضع أنّ لها قوّة الخبر، وأخرى أنّ لها قوّة التّحذير، وقوة الأمر في ثالث، وهكذا. لذا اقترح "أوستن" تسمية النّظرية القائلة بتنوّع وظائف اللّغة نظرية ((القوى المتضمّنة في القول ILLOCUTIONARY FORCE   ))و مع القيام بالفعل (أ) و( )، ينشأ فعـل ثالث هو التّسبب في نشوء آثار في مشاعر أو أفكار أو أفعال المخاطب، أو المتكلم، أو غيرهما، على نحو كان  الفاعل؛ أي المتكلم قد عمد إلى إيجاده ، من أمثلته: الإقناع ، التّضليـل ، التّثبيط، و يسمّى هذا الفعل :
ج- الفعل الناتج عن القول أو الفعل بواسطة القول   perlocutionary Act   .
وهذا التّحديد لمعاني أفعال الكلام ومقاصدها، يجعله " فان دايك Van Dijk  " غرضا رئيسيّا للتّداوليّـة في كتابه:‹النّص والسّياق، استقصاء البحث في الخطاب الدّلالي والتّـداولي›:
<< التّحليل السّليم لأفعـال الكلام هو الغرض الرّئيسي للتّداوليّـة ، لأنّه لا يمكن أن يتمّ بغير فهم مسبق لمعنى الفعل أو التّصرّف >>.
           وهو يلحّ على ما يسمّى بإنجازيّة الفعل أو إعطائه تأويلا تداوليّا كمهمّة رئيسة أخرى، إضافة إلى وضعه في سياق معّين أو موقف من المواقف: << المهمّة الرئيسية للتّـداولية هي تـحويل ضروب الخطاب ( الجمل ) إلى أفعال منجزة، وعملية تحويل الخطاب إلى أفعال منجزة يمكن أن تسمى أيضا تأويلا تداوليّـا للعبارات، والمهمّة الثّانية هي تنزيل هذه الأفعال في موقف معين، وصياغة الشّروط التي تنصّ على نجاح هذه العبارات في أي موقف مـن المواقف >>.
 وتنقسم الأفعال الإنجازية في الخطاب إلى: أفعال مباشرة وأفعال غير مباشرة.
1-الأفعـال المباشـرة:
يكـون الفعـل مبـاشرا إذا تطابـق القـول "الفعـل Verbe   وحكمـة Mode  نـوع الجمـلة" مع "الإنشـاء illocution "، مثـل:
أعلـن عن اختتـام فعـاليـات الملتقـى.
آمـرك بالمغـادرة.
أسـدل الستـائـر.
أين وجـدت البطـاقـة؟
و هي أفعـال متواضـع عليهـا ، وتتـداول غالبـا بمعانيها الأصليّـة؛ أي يطـابق لفظها معناهـا مباشرةوهي  تحيل إلى أربعة أفعـال في الوقت نفسه:
1   -فعـل القـول.  – Acte d’énonciation    
2-فعـل الإسنـاد. – Acte propositionnel           
3-فعـل الإنشـاء.    – Acte performatif
4-فعـل التّـأثير.  Acte perlocutif       -    
ومن أمثلة ذلك في كتاب ‹ كليلة ودمنة ›:
قالت السلحفاة مخاطبة الجرذ: « اعلم أن حسن الكلام لا يتم إلا بحسن العمل، وأن المريض الذي قد علم دواء مرضه إن هو لم يتداو به لم يغنه علمه، ولا يجد راحة ولا خفة ». 
أ‌-          فعل القولوهو فعل التلفظ بالكلمات والجمل: اعلم أن حسن الكلام لا يتم إلا بحسن العمل.
ب‌-        فعل الإسناد يربط الصلة بين المرسل والمرسل إليه؛ أي إسناد معنى القول إلى الطرف الآخر: أنت "اعلم" أن حسن الكلام لا يتم إلا بحسن العمل. حيث تم إسناد الفعل إلى المفرد المخاطَب (الجرذ).
ت‌-        فعل الإنشاءيتحقق الفعل الإنشائي في القصد المتضمن في القول، إن كان نصحا أو عرضا أو تقييما وحكما...، والقصد المتحقق في هذا القول: هو تقديم السلحفاة  النصيحة إلى صديقها الجرذ؛ بأن تمام الكلام مرهون بتمام العمل.
ج‌-         فعل التأثير : يتوقف فعل التأثير على المعنى الذي يعطى للقول ، وفي المثال إضافة إلى الطرح ، ومدى وقوف المتلقي على معناه منفردا ، هناك حجة ملحقة تزيد في الإيضاح ، وتبلغ من التأثير حد الإقناع :

الطــرح:
الحجــة:
اعلم أن حسن الكلام لا يكون إلا بحسن العمل.
وأن المريض الذي قد علم دواء مرضه إن هو لم يتداو به لم يغنه علمه، ولا يجد راحة ولا خفة.

2- الأفعـال غير المبـاشـرة :
    هو استخدام المتكلم أو المخاطب لعبارات إستعاريّة و أشكال قول مجازية بدل استخدام المعاني الحقيقية والجهـر بما يريد الإدلاء به ؛ أي إجبار المتلقي على الانتقال من المعنى الحقيقي إلى المعنى الذي يسنده المتكلم إلى قولـه .
كقـولنـا : كلمتـه سيـف .
إنّ المستمع لهذه العبارة يلغي وجوبا المعنى الحقيقي؛ أي كون الكلمة سيف ( نـوع من الأسلحة )،  ولا يحتفظ إلا بالمعنى المجـازي المـراد؛ وهو الصـّرامة و الجـديّـة.
وفد أطلق " غـرايس Grice  " مفهوم:  " حكم الحديث Maximes Conversationnelles  " على المقاصد غير المباشـرة للتّعـامل والتّـواصل ، و من بينها الكـلام غير المباشـر.
  إن نصوص كتاب ‹ كليلة ودمنة › نصوصمجازية؛ اتخذت اللامباشرة منهجا، إن كان في نوعها أو شخوصها أو بناء خطابها، حيث اعتمد صاحبه التشابيه المتنوعة  كمقدمات للمعنى الذي تسوقه الشخصية المتكلمة؛ والذي تختمه بمثل تحتج به، والتمثيل هنا يكون أعلى قيمة من مجرد ربط علاقات مشابهة بسيطة إلى ماهو أكثر تعقيدا وبعدا: « فهو طريقة حجاجية تعلو قيمتها على مفهوم المشابهة المستهلك ، حيث لا يرتبط التمثيل بعلاقة المشابهة دائما، وإنما يرتبط بتشابه العلاقة بين أشياء ما كان لها أن تكون مترابطة أبدا، ومن ثمة اعتبر عاملا أساسيا في عملية الإبداع يستعمل في الحجاج ( فهو قريب من الحجاج المقارني ) دون أن تكون له علاقة بالمنطق الصوري، حيث لا يطرح معادلة صورية خالصة، ولكنه ينطلق من التجربة بهدف إفهام الفكرة، أو العمل على أن تكون الفكرة مقبولة، وذلك بنقلها من مجال إلى مجال مغاير ، جريا على مبدأ الاستعارة  ».  ومثاله: في مثل البوم والغربان، وهو مثل العدو المتظاهر باللين والمسامحة، فقبل أن يسرد الغرابمثلا لهذا المثل مهد له بكلام حكمي فيه من التشبيهات القريبة ما يبسط معنى المثل الأكبر الذي سيتلو كلامه ويكون بمثابة التشبيه الأكثر تعقيدا : « ... ذلك ولا بد لصاحب السر من مستشار مأمون يفضي إليه بسره ويعاونه على الرأي فإن المستشير وإن كان أفضل من المستشار رأيا فإنه يزداد برأيه رأيا كما تزداد النار بالودك ضوءا. وعلى المستشار موافقة المستشير على صواب ما يرى والرفق في تبصيره خطأ إن أتى به وتقليب الرأي فيما يشكل حتى يتفق شأنهما. فإذا لم يكن المستشار كذلك فهو على المستشير مع عدوه. كالرجل الذي يرقي الشيطان ليرسله على الإنسان فإذا لم يحكم الرقية أضحى هو أسيرا للشيطان... »، وهكذا إلى أن يتهيأ لضرب المثل الذي مهد له بهذه التشبيهات.
1-    البنية الخارجية للخطاب :                                                                                                                                وستكون دراستها انطلاقا من الخاصية الحوارية للخطاب الحجاجي التداولي في هذا الكتاب، و"الحـواريّة" مكوّن أساس لكلّ كلام، وهي تتوزّع كخطاب بين متلفّظين فأكثر، وكونها من مستويات تجلّي البعـد التـداولي للخطاب الحجاجي، فهي تقوم على ركيزتين تختصران كثيرا من الخصائص الخطابية لتداوليّة الحجـاج في أي مستوى من مستويات الكتـابة خاصّـة، كونها تفسح مجـالا أوسع لاستثمـار المعطيـات المتاحـة للخطـاب، وهـاتان الرّكيزتان هما: "التّشخيص" و"المقام".
أ‌-          التشخيص:
التّشخيص لدى "بانفنيست" خاصّية تلفّظية، أوهو الإطار التّشخيصي للتّلفظ؛ لاقتضاء التّلفظ كبنية حوارية لصورتين هما: مصدر التّلفظ وهدفه. وهو نوع من أنواع الحجاج، سمّاه "طه عبد الرّحمن": "الحجـاج الّتقـويمي"، الذي يعمد المستدل فيه إلى تجريد ذات ثانية من ذاته ينزّلها منزلة المعترض على قوله، يستنبط من فعل التّلقي لديها كلّ ردود الفعل المحتملة: استفسارات، واعتراضات، ويستحضر بهذا مختلف الأجوبة عليها ومستكشفا في الوقت نفسه إمكانات تقبّلها واقتناع المخاطب بـها. والتّشخيص عند " بيرلمان "دراسـة لطبيعة العقول تستدعي أحسن السبل لمحاورتها والإصغاء إليها وحيازة انسجامها الإيجابيL ‘adition positive والتحامها مع الطّرح المعروض. وهذه الأمور النّفسية  والاجتماعية تفقد بغيابها الحجـاج تأثيره وغـايته؛ لذا فهذا النّوع من الحوارات الإقناعية يبرز على صورتين: صريحـة وضمنية ، و الحوار الضّمني هو النوع الذي انبنى عليه "التّشخيص" في كتاب‹كليلة ودمنة› ، حيث جرّد "ابن المقفع" من نفسه شخوصا كثيرة اقتسمت أفكاره وآراءه مجسدة في الشخوص التي اختارها بطلة في كتابه، والتي تنوعت بين إنسانية وحيوانية، وإن كان الحيوان أكثر حضورا وتأطيرا لفحوى الكتاب ، فكل شخصية من هذه الشخوص تشكل رمزا سياسيا حاضرا ، أو هي تشخيص مادي لقيمة مجردة « فها هنا لا يكتفي المستدلّ بالنّـظر في فعل إلقاء الحجّـة إلى المخاطب واقفا عند حدود ما يوجب عليه مـن ضوابط ومـا يقتضيه من شرائط ، بل يتعدى ذلك إلى النّـظر في فعل التلقي باعتباره هو نفسه أول متلق لما يلقي، فيبني أدلّته أيضا على مقتضى ما يتعين على المستدل له أن يقوم به، مستبقا استفساراته واعتراضـاته ومستحضرا مختلـف الأجوبة عليها ومستكشفا إمكانات تقبّـلها واقتناع المخاطب بها . وهكذا ، فإن المستدل يتعاطـى لتقويم دليله بإقامة حوار حقيقي بينه وبين نفسه ، ومراعيا فيه كل مستلزماته التّـخاطبية من قيود تواصلية وحدود تعامليّة، حتى كأنه عيّـن المستدلّ له في الاعتراض على نفسه».
          فالمخاطب المتخيّـل هو دائما بالنّـسبة لمن يحاجج عبارة عن " بنية ممنهجة " نوعا ما ؛ أي أنه يؤطّر القول، ويجعله ملائما لظروفه الوارد فيها. فهذا المحاور المتوهم الذي على الخطيب تجريده من نفسه، أو من المقام، يعد خطّـة منهجية ضرورية من صنع الخطيب ذاته، وبالتالي ممكن لنا القول إنه داخل في إطار العلاقة بين الجوانب النّـفسية البحتة بالأطر الحجاجيّة.
            والمتكلّـم ( خطيبا أو كاتبا ) لا يستطيع تخيّـل هذا المخاطب ما لم يكن على دراية عميقة  بأحـوال المخاطبين الرّاهنة، وبموروثهم الثّقافي والحضاري، وبهمـوم مستقبلهم.
ثم إنّ على المتكلّم الحذر في تخيّل هذا المخاطب، لأن الخطأ في التّقدير قد تنجم عنه ردّة فعل عكسية تودي بمسار البناء الحجاجي بكامله.
            فهذا المخاطب هو الحامل للخصائص الجماعية الكبرى التي يتقاطع فيها السّواد الأعظم، إنّـه بعبارة أخرى: الثقافة والحضارة والمجتمع والنصوص الخلفية الثّاوية في اللاوعي الجماعي الموجّهة للوعي وللفهم وللتعامـل داخل الزّمرة الاجتماعية الخاصّة، وبالتالي يكون الخطأ في رسم صورته الفعلية مؤديا حتما إلى نتائج عكسية تماما.
     وفكرة المخاطب المتخيل أو ما يسمى بـ (الخلق ) ، أخذت تجليات عدة عند " بيرلمان ":
1-      المخاطب الكوني ( من دون خصائص أو معالم محددة أي عاما شاملا ) .
2-      المخاطب المحدد النّـابع من مكونـات مقـام القـول وإمكاناته التي على المتكلم – أيا كان – الإجادة في استغلالها والاعتدال في توظيفها .
3-      المخاطب النابع من " الفاعل " أي المرسل للقول ذاته ، وجزءا من تجريداته وطموحاته.
   ب-  المقـــام 
        يقرن " صلاح فضل " مصطلح المقام بالسياق في التداولية ، وذلك لأن التداولية    << تستخدم مفهومـا تجريديا يدّل على الموقف التّـواصلي هو " السياق " . فالتداولية إذن تعنى بالشروط والقواعد اللازمة للملائمة بين أفعال القول ومقتضيات المواقف الخاصة به ؛ أي للعلاقة بين النص و السياق >>.
ولا يشمل السياق من الموقف إلا العناصر التي تحدد بنية النص و تؤدي إلى تفسيره، وهـذا يجعل من التّداولية علما يعنى بالعلاقة بين النص و عناصر الموقف التواصلي المرتبطة به بشكل منظم، أو ما يطلق عليه: سياق النّص. وهـذا المفهوم التداولي يحيل على ما كان يشار إليه في البلاغة القديمة بعبارة: "مقتضى الحال"، وهي التي أنتجت المقولة الشهيرة في البلاغة العربية: "لكـل ّمقـام مقـال".
إن دراسة المقام كمكون حواري تقتضي دراسة "النظام القولي" بما يضمه من قرائن، كونها وسيلة من وسائل التحليل الأساسية، وهذه القرائن تعمل على كشف مجموع القيم المكونة للمقام أو مجموع المقامات الموزعة على مستوى النص. وقرائن الدراسة تتمثل في:
أولا : قرائن القول :  تظهر وضعية المتكلم على مستوى اللغة من خلال:
1- السمات الذاتية: تنقسم إلى: أسماء الإشارة: تحيلنا على المتخاطبين؛ أي ضمائر الشخص الأول (المرسل )، والشخص الثاني(المتلقي ). نظام الزمن:أو علامات التحديد الزمني: زمن الإلقاء ( الحكي )، وزمن وقوع الأحداث.
2- المخصصات : وهي العبارات التي تحيل إلى درجة ثقة المتكلم فيما سيقول ، وهي نفسها التي يؤثر بها في سامعه .
3- الأفعال الذاتية: هي الأفعال أوالصفات التي يظهر بها المتكلم أو صاحب النص رد فعله بألفاظ شعورية أو تقييمية لشئ ما.
ثانيا : قرائن التنظيم: الغرض الأول والأخير منها هو تبيان وتوضيح مدى تناسق الأقوال  الحجج وترتيبها على صعيدين:
1- الصعيد الخارجي: يظهر في شكل تقديم النص، ومن خلال العناوين خاصة.
2- الصعيد الداخلي: يكون فيه التّـركيز على " الرّوابط الحجاجيّة "، وعلى كلّ ما يدل على مناحي الحجاج، كعبارات "التقديم"، و"الانتقـال"، و"الاختتـام".
 ثالثا : قرائن المعجم:  وهي مفردات النّص الحجاجي النّاتجة عن التّقابل في وجهات النّظر، وتكون هذه المفردات متضادة نظرا لكونها تعكس تضادا في الأطروحــات، يرتبط بمختلف خصائص الشخصيات، كما تعكس أيضا موقف المؤلف من شخوصه، وذلك بأن يجعل لكل منها حقلا دلاليا خاصا بها يتماشى مع حالتها ومواقفها ،وواقعها المحيط بها.   
خــاتمة:
         إن المقاربة التداولية للنص التراثي تعد ضربا من المجازفة تتأتى خطورتها من اللامنهجية التي تتسم بها التداولية وانعدام الآليات التحليلية الموحدة التي يطمئن إليها الدارس، والتي تخرجها من باب المنهج إلى باب المقاربة. كما أن للنص التراثي خصوصيته البنائية والموضوعية كذلك، فنجدنا أمام كل نص تعلونا حيرة كبيرة: بأي المناهج نقاربه؟وإذا وفقنا إلى اختيار المنهج أو نوع الدراسة، تبرز عثرة خصوصية النص أمامنا التي تجعلنا أخيرا لا نؤمن بتوحد آليات التحليل، بل تعزز مبدأ المقاربة لدينا.
-         المصادر:
§         1.    عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، تحقيق: لويس شيخو، دار الشروق، بيروت،  لبنان، ط: 14، 1994.
-         المراجع:
§         2.    فيليب بلا نشيه، التداولية من أوستن إلى غوفمان، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية، ط1، 2007.
§         3.    فرانسواز أرمينكو، المقاربة التداولية، ت: سعيد علوش، مركز الإنماء القومي، د م ط، دط، 1985.
§         4.    عمر بلخير، تحليل الخطاب المسرحي في ضوء النظرية التداولية، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2003.
§         5.    محمد مصطفى أبو الشوارب، في اللغة والأدب، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، مصر، دط، 2003م، ( بحث: الاتجاه التداولي في البحث اللغوي المعاصر، للدكتور: محمود نحلة ).
§         6.    صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، الشركة المصرية العالمية للنشر – لونجمان،  مصر، مكتبة ناشرون، لبنان، ط1، 1996.
§         7.    محمد طروس، النظرية الحجاجية من خلال الدراسات البلاغية والمنطقية واللسانية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2005م.
§         8.     فان دايك، النص والسياق، استقصاء البحث في الخطاب الدلالي والتداولي، ترجمة:  عبد القادر قنيني، إفريقيا الشرق، المغرب، لبنان، دط، 2000م .
§         9.    طالب سيد هاشم الطبطبائي، نظرية الأفعال الكلامية بين فلاسفة اللغة المعاصرين والبلاغيين العرب، مطبوعات جامعة الكويت، 1994م .
§         10.           الجيلالي دالاش، مدخل إلى اللسانيات التداولية، ترجمة: محمد يحياتن، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1992م.
§         11.           عبد السلام عشير، عندما نتواصل نغير، مقاربة تداولية معرفية لآليات التواصل والحجاج، إفريقيا الشرق، المغرب، دط، 2006.
§         12.           طه عبد الرحمن، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، الدّار البيضاء، بيروت، ط1، 1998م.
§         13.          حبيب أعراب، الحجاج والاستدلال الحجاجي ((عناصر استقصاء نظري))، مجلة عالم الفكر، الكويت،  ع1، يوليو،  سبتمبر، 2001.
§         14.           محمد سالم ولد محمد الأمين، مفهوم الحجاج عند بيرلمان، وتطوّره في البلاغة المعاصرة، عالم الفكر، الكويت، ع2، يناير، مارس، 2000 م.