البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

الجمعة، 16 مارس 2012

دراسة نقدية حديثة في القصة القصيرة العربية للباحث الدكتور عادل الفريجات


 

القصة القصيرة: مفاهيم وعناصر 

القصة القصيرة جنس أدبي عريق وتليد في التراث العربي والإنساني. وربما يرجع تاريخه إلى ما قبل عهد السومريين 
الذين وجدوا قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة ونيف. فمنذ وعى الإنسان ذاته، واحتاج إلى الاتصال بغيره، سرد وروى، 
وأشرك غيره في معرفة ما جرى له ولغيره من بني جنسه.
ومنذ أن اكتشف قدراته على الابتكار الأدبي أنشأ القصة، وأبدع الحكايات، فنقل الوقائع، وحور فيها، واختلق الأحداث وأحكم نسجها، متفنناً في حوار الناس الذين صنعوها، واقعيين كانوا أم غير واقعيين.

وقد تفاوت الناس في حذقهم لفن السرد وطرائق القص. ومن هنا كان لكل فرد سردياته، ونصيبها من النجاح أو الإخفاق، ومن الجذب أو الإملال، ومن الإيحاء أو المباشرة، ومن الإيجاز أو الإطناب. وربما كان القاصون الموهوبون هم أكثر الناس عناية وإتقاناً لفن السرد وسحر القص.
وقد كان للقص سلطان قوي على الإنسان، طفلاً ويافعاً وكهلاً وشيخاً، فهو يستهوي الناس في كل الأعمار، وخاصة في عهد الطفولة، وذلك لما فيه من إيهام وإمتاع، ومن قدرة على تنشيط المخيلة، ومن طاقة على الإيحاء بفكرة، أو إيصال عبرة، أو تصوير حالة، ومن طبيعة في اختزال الزمن، والخلوص إلى نتيجة.
والإمتاع اليوم، كما في الأمس، شرط أساسي من شروط القصة القصيرة، فهو القادر على امتلاك المتلقي، سامعاً كان أم قارئاً، وشده وجذبه كي لا يزوَّر عما بين يديه من كلام أو سطور، يتوخى منها أن تكون منسوجة نسجاً خاصاً يجعل منها جنساً أدبياً حائزاً جمالية أو أكثر، من جماليات الأدب عامة، والقصة خاصة.

ويقتضي الموقف أن نشير إلى أن السرديات عامة نوعان: نوع يؤتى به للتسلية فقط، كالقصص البوليسية أو السير الشعبية، ونوع من السرديات التي تحتقب إمكانات للتفسير متعددة. وهو النوع الذي آلت إليه القصة القصيرة الفنيَّة، بطبيعتها وعناصرها المختلفة، مبتعدة عن أن تكون مايشبه ضبطاً يحرره الكاتب بالعدل، أو شرطي المرور، إثر حادث من الحوادث.
وقد نُظِرَ إلى طبيعة القصة القصيرة ذات يوم على أنها فن قولي أو كتابي يقوم على حدث، ويتخلله وصف يطول أو يقصر، وقد يشوبه حوار أو لا يشوبه، ويبرز فيه شخصية أو أكثر، محورية أو ثانوية، تنهض بالحدث أو ينهض بها الحدث، والحدث له بيئة خاصة، وله سياق ثقافي واجتماعي وسياسي، لا مناص للكاتب من أن يعيه ويستوعب تفاصيله وآدابه وتقاليده. ويرمي ذلك كله إلى ترك انطباع واحد في نفس السامع أو القارئ، دونما شَطْح إلى ما يشتت أو يبعثر... ولهذا لا تتعدد الشخصيات في القصة القصيرة ولا الأزمنة ولا الأصوات، إلا في حدود ضيقة. وإذا كانت الرواية تصور النهر من المنبع إلى المصب، فإن القصة القصيرة تصور دوامة واحدة من سطح النهر، فهي تعزف عن تقديم حالة كاملة لقرية أو عائلة أو شخصية، مكتفية بلقطة أو موقف قصير أو لحظة مختزلة مأزومة، لتقدم فكرة أو عبرة أو إحساساً، أو لتعزز موقفاً خلقياً يحسن أن يَتَخَفَّى ولا يختفي، وأن يصور ولا يقرر، وأن يجسد ولا يجرد، فالمباشرة الصريحة، والتقريرية الفجة، والوعظ الصارخ، تضعف نسيج القصة، وتهلهل بناءها، وتصدع دعائمها، وقد تؤول إلى خلْط ما بين القصة القصيرة، وغيرها من الأشكال السردية الأخرى.
وقد مَيَّزَ الدارسون اليوم ما بين القصة القصيرة الفنية بوصفها جنساً سردياً، وأشكال سردية أخرى، كالأسطورة والخرافة والطرفة والمثل والرسالة والمعجزة والحكايات المثيرة وسير القديسين... وفي تراثنا نماذج سردية تقترب من القصة القصيرة وتشبهها، مثل تكاذيب الأعراب وقصص الحيوان وفن الخبر وقصص الأحلام وقصص الأمثال وقصص الرحلات...
ونقع في كتاب "القصة القصيرة- النظرية والتقنية"، لإمبرت، على أشكال من السرد تشبه القصة، ولكنها ليست هي، ومن تلك الأشكال:
1-مقال التقاليد: وهو نوع يقع بين علم الاجتماع والخيال، وبه يتم رسم لوحات تتضمن مشاهد أصلية مأخوذة من الحياة.
2-لوحات الأخلاق: وهي نوع يقف بين علم النفس والخيال، كأن تعرض أمامنا أخلاق جندي أو شاعر أو صعلوك أو إنسان طيب أو شرير.
3-الخبر     : ويقف بين الصحافة والخيال، ومن خلاله نعرف أحداثاً غير عادية وقعت في مسيرة الحياة اليومية.
4-الخرافة  : وتقع بين الدين والخيال، والغرض منها تفسير أصل الكون بمشاركة كائنات غامضة.
5-الأسطورة: وتقف بين التاريخ والخيال، فهي قصة غير حقيقية، وتعالج أموراً غير مألوفة وغير متسقة مع القواعد العامة.
6-الأمثال   : ويقع المثل بين التعليم والخيال، وأحياناً يقرأ المثل على أنه عمل أدبي. والسمات الخاصة بين الشخصيات هي الفيصل بين القصة والمثل، فحين تكون السمات فردية نكون في نطاق الأدب، وحين تكون ذات طبيعة عامة نكون في إطار التعليم.
7-الطرفة   : والطرفة قريبة من القصة القصيرة جداً، ولكن الطرفة قد تتوقف عند مجرد سرد حدث خارجي، دون محاولة لفهم شخصية البطل ودوافعه النفسية، ففي الطرفة يروي المرء ولا يحكي، ولا يحدث جمالية من أي نوع. أما في القصة القصيرة فيفترض وجود حدث مختلق أكثر من الأول، ونسبة الخيال فيه أكثر، بينما نسبة الحقيقة في الطرفة أكثر.
8-الحالة    : وهي تقترب جداً من القصة القصيرة، بل من القصة القصيرة جداً، فهي تعبر عن موقف طارئ أو جزئية حياتية، كأن يكون سوء الحظ أو الإخفاق أو الموت. ومن كتاب هذا اللون (بورخيس) الأرجنتيني، وزكريا تامر، وضياء قصبجي، ونجيب كيالي، ومروان المصري، من سورية.
وبعد هذا كله يبرز السؤال الأكبر، وهو: ما القصة القصيرة إذاً؟ والجواب كما يقول (امبرت): "هي عبارة عن سرد نثري موجز يعتمد على خيال قصاص فرد، برغم ما قد يعتمد عليه الخيال من أرض الواقع، فالحدث الذي يقوم به الإنسان، أو الحيوان الذي يتم إلباسه صفات إنسانية، أو الجمادات، يتألف من سلسلة من الوقائع المتشابكة في حبكة، حيث نجد التوتر والاسترخاء في إيقاعهما التدريجي من أجل الإبقاء على يقظة القارئ، ثم تكون النهاية مرضية من الناحية الجمالية. (القصة القصيرة، لامبرت ص 52).
إن العبارة الأولى في التعريف السابق تصف القصة بأنها سرد نثري موجز يعتمد على خيال قاص فرد. وهذا شأن يحتاج إلى تفصيل أوسع، فالخيال وحده غير كاف لإنشاء قصة، إذ لا بد من ملكة تركيبية تحبك الأحداث، وتحذق سوق المتواليات، وتُنظِّم تتابعها، لتحقيق غرض الكاتب، متخذة من البيئة والسياق الثقافي الذي ينتمي إليه القاص مرجعية للاحتكام، وقد تتجاوز هذه المرجعية لمصلحة ما هو قار في النفس الإنسانية في كل زمان ومكان. والقاص البارع قد ينفذ إلى أدق التفاصيل فيما يعرضه أو يعرض إليه، بغية التنوير والنقد، أو الكشف عن المخبوء بلغة رامزة، مستهدفاً الإشادة أو الإنكار، والمدح أو القدح. بيد أن الإغراق في التفاصيل لا يعني الخوض في جزئيات تبدو مقحمة إقحاماً، أو محشورة حشراً، ولا الإتيان بعناصر لا قبل لجناحي القصة القصيرة الرهيفين بحملها. وفي هذا الصدد كتب القاص الأرجنتيني (بورخيس) يقول عن سبب إعجابه بقصص (كيبيلنغ): إنه لا يوجد في تلك القصص كلمة واحدة لا لزوم لها، وأنه يريد أن يتعلم منه هذه التقنية.
ثم إن الإرضاء الجمالي الذي أشير إليه في التعريف السابق قد لا يتأخر حتى نهاية القصة، بل قد يظهر في سياق القصة من خلال مجموعة من المسائل، كالإيقاع والسخرية والشخصية القصصية الإشكالية. والإيقاع عنصر هام من عناصر الحركة السردية والسياق الحواري، وهو قد يتمثل بالتواتر أو بالاختلاف أو بالتناظر، أو بغير ذلك من الوسائل. أما السخرية فهي ظاهرة أسلوبية يختلف التعويل عليها بين كاتب وآخر. وهي- والحق يقال- من أسباب الجذب والمتعة في أية قصة تتوافر فيها. أما الشخصية القصصية فهي عنصر سردي بامتياز. ويقتضي الإتقان في كتابة هذا الجنس الأدبي أن يحذق كتابه التعاطي معه. ومؤكد أن طرائق تقديم الشخصية ووصف ملامحها المختارة الخارجية والداخلية، والسطحية والعميقة، تختلف من قاص إلى آخر. وربما تمكن بعض القاصين من الكشف عن دخيلة شخصية من شخصيات قصصهم، وعن طباعها وسلوكها، من خلال إنطاقها بعبارة أو أكثر من العبارات المفعمة بالدلالة، في زمان ومكان محددين. وقد تتعدد سمات الشخصيات في المجموعة القصصية الواحدة، كما في مجموعة "العودة إلى البحر" للدكتور أحمد زياد محبك، وقد يجمع بينها سمات مشتركة، كما هي الحال في مجموعة "الحصار" لإبراهيم خريط، التي بدت حقاً شخصيات محاصرة ومقموعة وبائسة، أو كما هي الحال في مجموعة "الحصرم" لزكريا تامر، التي ظهر لنا سلوكها غير مفهوم ومستهجن وغير منطقي، بل هي شخصيات غير نمطية ورامزة في النهاية.
وتتنوع الشخصية القصصية، من حيث انتماؤها إلى عالم من العوالم المختلفة، فهي قد تكون إنساناً أو حيواناً، أو شيئاً جامداً أنسنه الكاتب، أو شيئاً مجرداً خلع عليه القاص صفات الأحياء من نطق وإحساس وخيال، وقد يؤتى بها من عالم الأموات لتقول شيئاً وتمضي، أو لتستغل جسراً لفكرة، أو لإقامة مقارنة بين الحاضر الراهن والماضي المولي... الخ. وفي قصص مجموعة "أحلام عامل المطبعة" لمروان المصري نماذج من هذه الشخصيات. ففي قصة بطلها من عالم الطيور، لا البشر، كتب مروان المصري يقول:
"فُتِحَ باب القفص، فارتعش العصفور، وخرج للتحري، بعد بضع جولات، جاع، فبحث عن القفص"- (أحلام عامل المطبعة ص39). وهذه الأقصوصة البالغة أربع عشرة كلمة تعبر في نظري عن فكرة فلسفية عميقة، هي فكرة الحرية والضرورة. فالعصفور الجائع هنا قايض حريته بطعامه، أو قل: باع مجرد بقائه حياً، بسجنه. ويا لها من مأساة حقيقية لا توجد في عالم الطيور والحيوان فحسب، بل تلمس أيضاً في عالم البشر والإنسان أيضاً. بل إنها هي في عالم الإنسان أولاً، وقد جيء للتعبير عنا بالرمز والإيحاء، بقصةٍ بطلها من عالم الطير لا البشر ثانياً. وبدهي أن نشير إلى أن هذه القصة هي قصة
قصيرة جداً.
ويقودنا حجم هذه الأقصوصة إلى الكلام على طول القصة القصيرة وقصرها، فليس ضرورياً أن تكون موجزة إلى هذا الحد. وقد رأى النقاد أن القصة القصيرة هي ما يمكن أن يقرأ في ساعة أو ساعة ونصف، فهي أقصر من الرواية. أما القصة القصيرة جداً، فقد تكون سطراً أو سطرين أو ثلاثة، أو على أبعد حد صفحة واحدة. وقد آل هذا القصر إلى اختزال كثير من عناصر القصة القصيرة المعهودة، أو إلى تعديلها. ولا بأس في ذلك في نظرنا، إذ أننا نفهم طبيعة القوانين الأدبية، إن كان للأدب من قوانين، أنها لا توجد إلا لتخرق، لكن خرقها يجب أن يكون لمصلحة الجمال والإدهاش، وليس لصالح العبث وألعاب الصبية التي لا نظام لها. فللأدب، أياً كان، نظام، ولكن ليس له قانون ضابط صارم يمنع اختراقه. ومن هنا جاء اهتمامنا بنوع القصة القصيرة جداً، فدرسنا منها أربع مجموعات قصصية في كتابنا هذا.
ومن عناصر القصة أيضاً الزمان والمكان. والزمان عنصر يستطيع الكتاب أن يتعاملوا معه بأشكال مختلفة، فمنهم من يحن إلى الماضي ويقدمه على أنه النموذج الأجمل والأفضل مثلاً، كما في بعض قصص أحمد زياد محبك، ومنهم من يقيم نوعاً من الحوارية بين الماضي والحاضر، جاعلاً الماضي الجميل البهي يدين الحاضر الباهت البائس. وقد يختار الكتابة عن الماضي ويريد الحاضر. ومن الكتاب من يكسر أزمان السرد فينتقل نقلات مباغتة من الحاضر إلى الغابر، أو بالعكس، لأغراض سردية ودلالية بعينها. أما المكان، فتتعدد اختيارات الكتاب له، فهو قد يكون حديقة أو منزلاً أو قبواً أو غابة أو مشفى أو طريقاً أو رصيفاً... الخ. وقد يراوح القاص بين أمكنة متعددة في القصة الواحدة، أو في قصصه المختلفة، وقد يكون المكان ضيقاً أو رحباً، وقد يكون ملوثاً أو نظيفاً. وفي كل اختيار مأرب، وذلك لوعي القاص بأن المكان يؤثر في الناس ويصوغ مفاهيمهم وتقاليدهم وقيمهم، ويحدد مسارات الكثيرين منهم، كما يحدد النهر مسار الماء الذي يجري فيه. ومن الكتاب من يجعل من المكان حيزاً رمزياً، كما في قصص زكريا تامر في مجموعته "دمشق الحرائق"، فهو حارة السعدي، أو في مجموعته الأخيرة "الحصرم"، فهو حارة قويق. والحارتان كلتاهما مكان مجازي وجوده غير محقق. وهو عنوان موح بمعان يريدها القاص. وهي لا تخفى على كل ذي بصيرة.
ومن عناصر القصة القصيرة البداية والنهاية. ومن زمن بعيد رأى (ادغار آلان بو) الذي وصف بأنه أبو القصة القصيرة، أن البداية الناجحة هي التي تحدد نجاح القصة أو إخفاقها. وكذلك كان (يحيى حقي)، وهو من هو في فن القص، يرى أن القصة الجيدة هي ذات مقدمة جيدة محذوفة، لأن هذا الحذف يدفع بالقارئ إلى الإحساس بأنه إزاء عمل حي وجو فني متكامل (انظر مقدمة عنتر وجولييت، لحقي ص 4). بيد أن هذا الحكم إنْ صحَّ على بعض القصص، فقد لا يصح على قصص أخرى، ذلك لأن للقصة مستلزمات أخرى لا بد من توافرها لتنجح وتمتع وتعني. أما النهاية، ففيها يكمن التنوير النهائي للقصة، وهي اللمسة الأخيرة التي تمنح الكشف عن الشخصية، أو السلوك، أو المعنى. وفيها المفاجأة التي قد تثير السخرية أو الابتسام أو الارتياح أو حتى القلق والتساؤل. ومن المعروف مثلاً أن القاص السوري زكريا تامر قد عني بنهايات قصصه، فراح يؤجل تنويرها حتى النهاية، فهو يقول في قصته (انتصار) من مجموعته "النمور في اليوم العاشر" ما مؤداه: أن الملك بعد أن اتفق مع وزيره على فرض ضريبة جديدة، سمع احتجاجات الرعية على المظالم الكثيرة التي يسببها الجباة، فتأثر، وهو صاحب القلب الرقيق، وتحنن على رعيته، فعزل الوزير، وصادر أملاكه، متهماً إياه بأنه المسؤول عن هذه المظالم، ففرح المواطنون، غير أن الجباة في اليوم التالي تابعوا طوافهم على البيوت والدكاكين. وهذه نهاية فاضحة وكاشفة وساخرة من سلوك الملك، الذي يوقع المظالم على المواطنين، ثم يحمل وزيره وزر ذلك.
وتعددت أشكال النهايات في القصة القصيرة، وأمكن للنقاد أن يروا فيها ستة أنواع من النهايات، هي: النهاية الواضحة، وفيها تحل المشكلة دون تعقيدات تذكر. والنهاية الإشكالية، وفيها تبقى المشكلة دون حل. والنهاية المعضلة، وفيها يمكن أن يكون الحل من خلال مشاركة القارئ في التوقع، دون أن يكون هذا الحل هو الحل المثالي الوحيد. والنهاية الواعدة، وفيها يتم التنويه بمخارج كثيرة دون ذكرها صراحة. والنهاية المقلوبة، وفيها يتخذ البطل موقفاً مناقضاً لما كان عليه في البداية، فإذا كان يكره شخصاً في البداية، ينتهي به الأمر إلى أن يحبه في النهاية. والنهاية المفاجئة، وفيها يفاجئ السارد القارئ بحل غير متوقع-(أنظر القصة القصيرة- النظرية والتقنية ، لامبرت ترجمة علي منوفي ص 135)...
ومن عناصر القصة القصيرة، العنوان. ويمثل العنوان عنصراً هاماً من عناصر تشكيل الدلالة في القصة، وجزءاً من أجزاء استراتيجية أي نص أدبي. وتتنوع العناوين، من حيث وظيفتها في القصة، فثمة عناوين تحيل إلى مضمون القصة، أو تُسْتَمَدّ من مغزاها، وعناوين لها طبيعة إيحائية، وعناوين لها وظيفة تناصية، وعناوين لها طبيعة استعارية، وعناوين يؤتى بها لتشوش الأفكار. وهذه الوظيفة الأخيرة للعنوان هي التي أرادها (امبرتو ايكو). ومن أمثلة هذا العنوان مثلاً عنوان قصة قصيرة جداً لعدنان كنفاني نصه: (مصير العظماء)، ورد في مجموعة "بروق"، على نحو ما سنرى.
وكذلك تختلف العناوين من ناحية البناء اللغوي، فبعضها يأتي كلمة واحدة، وبعضها كلمتين أو ثلاثة. ومن القاصين من يعول على أسماء الأمكنة، فيتوج بها هامة قصته، ومنهم من يركز على الأزمنة، ومنهم من يختار جملة اسمية، ومنهم من يختار جملة فعلية، ومنهم من يلجأ إلى أساليب لغوية أخرى كالاستفهام أو التعجب أو التوكيد أو النداء أو غير ذلك... ولكل قاص غرض في اختياره. والعنوان قراءة من المؤلف لنصِّه، وقد يكون هوية له، أو بؤرة من بؤره، أو مفتاحاً من مفاتيحه.
ومهما يكن الشأن، فإن القصة القصيرة العادية يحسن بها أن تجمع حسن العرض إلى نمو الحدث إلى المشهدية المسرحية، كما يتوخى من كاتبها أن يحكم بنائه ويحذق حبكته، ويختار مفرداته دونما ترخص في الفصحى ودونما إغراق في التقعر، مراعياً اللغة الوسطى، وذلك لأن تضحيته بما سبق، أو انحرافه إلى لغة شاعرية مفعمة بالتأنق والزخرف والصنعة، يجعله بعيداً عن السمت المقصود، وقريباً من فنون أخرى، قد لا تحتمل القصة أعباءها. ولا بد أخيراً من التكثيف والتركيز اللذين يجعلان من القصة القصيرة لقطة سينمائية أو قطعة من نسيج أو ومضة من ضوء، تكتنز المعنى والمتعة معاً.
أما القصة القصيرة جداً، وقد درست من مجموعاتها : الحصرم لزكريا تامر، فقد شبهتها بسبيكة الذهب، التي لا يخلط صانعها ذهبها بما عداه من المعادن الأخرى، إلا بمقدار ما يقويه. وهي سبيكة يكد الصائغ، مقاوماً نفاذ صبره، ليخرجها للناس لامعة مصقولة فيها من الجمال والقيمة قدر كبير. فإذا كان لكتاب هذا اللون النثري الحكائي الجديد القديم أن يطوروه، فلا بد لهم من أن يتخذوا من عمل ذلك الصائغ هادياً ونموذجاً، ليخرج من بين أيديهم شيء نافع ومدهش يسحر العين ويسر القلب ويعجب الفكر في الوقت ذاته. وما أجدر هؤلاء بأن يتذكروا ما كان (فلوبير) يوصي به (موباسان) قائلاً: "الجمْ نفاذ صبرك، ابحثْ تجدْ، وعندما تجد الكلمة الملائمة، اقبض عليها، ضعها في مكانها الذي وجد لها وحدها، ووجدت له وحده".

¾¾¾






لــزكــريا تامـــر


مع إصدار (زكريا تامر) لمجموعته "الحصرم" يكون هذا الكاتب قد أنشأ ونشر ما يربو على (300) قصة قصيرة، عدا 
قصص الأطفال لديه. وقد بلغ مجموع قصص "الحصرم" وحدها (59) تسعاً وخمسين قصة. وبعض هذه القصص كان يقع في (حارة القويق)، كما كان بعض قصص مجموعة (دمشق الحرائق) يقع في (حارة السعدي). والحارتان كلتاهما مكان مجازي، وجوده غير محقق، ورغم ذلك فنسبة الحارة الثانية إلى (القويق) تثير في الذهن مشاعر القرف والاشمئزاز عند القارئ السوري، لمعرفته بأن (نهر قويق) في مدينة (حلب) يشكو قلة النظافة وانعدام الرائحة الطيبة. فالتسمية لا تبدو مجانية البتة.
ومن الملاحظات الشكلية حول هذه المجموعة أن الأغلبية الساحقة لقصصها كانت قصصاً قصيرة جداً لا تتجاوز الواحدة منها صفحة واحدة، أو صفحة وبعض الصفحة. أما القصص المتوسطة الطول فلم تتجاوز ست صفحات أبداً، وهي خمس قصص: المهارشة، ومغني الليل، ونهار وليل، ورجل كان يستغيث، والمطربش. وهذا يدل على أن (تامراً) الذي كتب القصة القصيرة جداً، سابقاً، على نحو متقطع، قد انحاز إليها هنا بوضوح.
ولقصر القصة المفرط علاقة بسردها، إذ تقل فيها المتواليات السردية، وتضعف فرص نمو الحدث، وتصبح القصة أشبه ما تكون بـ(الحالة) التي مرَّ الحديث عنها من قبل. وهذا يرتّب على القاص أن يتحلى ببراعة كبرى تتمثل بالإيجاز الشديد والتكثيف الواضح والاقتصاد في اللغة والخبرة المميزة في اختيار المفردة الدالة وصنع القفلة المحكمة. وهذه القفلة المحكمة هي مما برع فيه (تامر) في قصصه عامة. وقد شبهها الكاتب (وليد إخلاصي) ببيت القصيد الذي تتكثف فيه شاعرية الشاعر، كما هي الحال عند الشاعر عمر أبو ريشة. (انظر مجلة الناقد، بيروت، العدد 82، ص 28). ونجد مثالاً على ما تقدم في قصة الكاتب المعنونة بـ"التصغير الأول" فعبد النبي الصبان رجل ضخم، طويل القامة، واسع الصدر، اعتقل يوماً ليواجه تهمة مؤداها أنه يستنشق من الهواء أكثر من حصته المقررة، فلم ينكر، وأرجع السبب إلى كبر رئتيه، فأُحيل حالاً إلى المشفى، ليغادره بعد أسابيع رجلاً جديداً ذا قامة قصيرة وصدر ضيق ورئتين صغيرتين، يستهلك يومياً هواء يقل عن الحصة المخصصة له رسمياً- (الحصرم ص 167).
ولا شك أن فضاء هذه القصة التي تفضح أداء سلطة غاشمة مجهولة توزع الهواء على الناس على هواها، وتتحدى طبيعة الخلق وإرادة الخالق، يذكِّر بفضاء حارة القويق الذي أشرنا إليه من قبل... كما أن القفلة المحكمة للقصة تنطوي على سخرية مبطنة من تلك السلطة الغاشمة، فعملها الجراحي، بل عملياتها، على عبد النبي الصبان لم تسفر عما أرادته، ومن يدري فربٍَّما كانت تريد أن يجور الجراحون على ذلك الرجل، فيخرج من المشفى ليتنفس هواء أقل من الحصة المخصصة له رسمياً.
وقد تكرر ما يشبه هذه القصة شكلاً، لا مضموناً، في المجموعة، وكان ذلك في قصص (في انتظار امرأة) و(نهاية انتظار طال) و(ووعدها الرابع) و(الحكاية الأخيرة).
وتفضي قراءة هذه القصص والقصص الأخرى في المجموعة إلى الوصول إلى أن معرفة مظاهر السرد (التامري) يمكن أن تتم من خلال فحص ثلاثة عناصر هامة، هي: الإيقاع، والسخرية، والشخصية القصصية، مع الإشارة الباكرة إلى أن هذه العناصر قد نجدها في قصة واحدة جميعاً، وقد نجد واحداً منها أو اثنين، وقد يغيب واحد أو اثنان.
وأقف أولاً عند الإيقاع، لأنه سمة الفن الأساسية وسمة الحياة من حولنا أيضاً. ومن أمثلة الإيقاع في الحياة توالي الليل والنهار كل يوم، وتعاقب الفصول الأربعة كل سنة، ومرور الناس كلهم، أو أكثرهم، بمراحل متشابهة في حياتهم هي: الطفولة، فالفتوة، فالشباب، فالكهولة، فالشيخوخة، واختبار الأشجار لتعاقب الإيراق فالإزهار فالإثمار، في كل عام. أما الإيقاع في الفن فلا يقوم على التكرار والتشابه والتناظر فحسب، بل قد يقوم على التباين والمفارقة والتناقض، كما يقوم على الحذف والإثبات، أو الإضمار والإظهار، والسلوك السوي والسلوك المنحرف، وقد تجسده ردات الفعل المتشابهة، والمعاملة بالمثل، والحركة المكافئة، والموقف النظير، وأشياء أخرى غير هذه وتلك.
والإيقاع عنصر فني تشكله الحركة السردية بكامل تفصيلاتها، بدءاً من اختيار العناوين، وانتهاء بأصغر جزئية تتغلغل في ثنايا السرد، مروراً بالشخصية والحدث والحبكة والحوار والحركة... الخ.
وأول ما يلحظه الدارس في مجموعة الحصرم هو التشابه بين أثر طعم الحصرم، وأثر قلم الكاتب في جسد مجتمع حارة القويق، فطعم الحصرم وطعم الكتابة كلاهما مزٌّ لاذع جارح، ولكن مع الفارق، فالقصة المكتوبة بقلم كاتب لوذعي، والتي تندد بسلوك مغلوط أو تسخر منه، ترسم على الشفاه أحياناً بسمةً تخفف من ضرس الأسنان الذي يخلفه مذاق الحصرم.
وقد بدا لي (زكريا تامر) في مجموعته هذه، وفي مجموعاته الثماني السابقة شغوفاً بتكريس فكرة فحواها: أن على الإنسان أن يصوغ وجوده بانسجام، لا أن يحيا التناقض في سلوكه الظاهري والصراع في عالمه الباطني. وقد ركز الكاتب على هذه الحقيقة الفلسفية والنفسية من خلال عرضه لشخصيات مأزومة في الغالب، وغير منسجمة في العموم، مما يجعل قراءة قصصه في ضوء الفلسفة وعلم النفس لها ما يُسوِّغها.
وإذا عدنا إلى مفهوم الإيقاع، فإننا نراه يطالعنا في القصة الأولى من المجموعة، وعنوانها "المهارشة" فقد حَرَّشَ نجيب البقار من حارة قويق السيدة (أم علي) لتحقِّر (خضر علون) وتبهدله، واستجابت أم علي، وحدث ما هو مُخَطَّطٌ له... ولكن خضراً لم يسكت على شتمه وسبه وإهانته والهزء به، بل اختار أن يثأر من شاب يدعى (سليمان) كانت أم علي تحبه كابن لها، وطعن خضرٌ (سليمان) بخنجره طعنات عديدة وقتله... وبُرِّئ فيما بعد من هذه الجريمة، واحتفل نجيب البقار ببراءة خضر، فيما راحت أم علي تستبدل بالوداعة شراسة وبالحزن فرحاً.. وقد كثر عدد الطامعين بالزواج من ابنتها الوحيدة الجميلة، بعد أن كانوا ينفرون منها بسبب سلوك أمها المشين.
لقد عنون تامر قصته هذه بالمهارشة. والمهارشة هي عراك الكلاب. وعليه فإن رائحة الإزراء تفوح من العنوان، كما تفوح من الوصف الموجز لحالة حارة القويق. ثم إن القصة تبدو هنا وقد استجمعت أشكال الإيقاع القصصي كلها، حسبما يراها (جيرار جينيت) وهي: الحذف الزمني والوقفة الوصفية والمشهد الدرامي والسرد الموجز. ففي الحذف الزمني يغفل السارد أزمان الأحداث غالباً، وفي الوقفة الوصفية أوقف الكاتب سرد الأحداث ليصف بعض الأشياء والمشاهد، وفي المشهد الدرامي لاحظنا معارضة أم علي للقاء بنجيب البقار، ثم موافقتها على ذلك، ولاحظنا فعل التحريش على خضر، ثم فعل القتل الدموي، الذي أعقبه سخرية مرة من تبرئة علون، ثم التحول في موقف الطامعين في خطوبة الابنة الوحيدة الجميلة. أما الإيجاز في السرد فقد تمثل في القفز عن تفصيلات كانت تثقل السرد لو وجدت، وذلك لمصلحة التكثيف والجذب. وقد تمثل الإيقاع هنا بوضع (خضر) في دائرة الاتهام أولاً، ثم إخراجه منها، وبحالة الشراسة إزاء حالة الوداعة، وبحالة الإحجام عن طلب الخطوبة، ثم الإقدام عليها. وقد وجد الإيقاع في قصص أخرى في المجموعة، ففي قصة (الشركة) تبادل الزوج والزوجة، كل منهما خيانة الآخر، بدأ بذلك الزوج، ثم لحقته الزوجة. وكانت حجة الزوج هي أنه يفعل ذلك ليكتشف حبه لزوجته! وكانت حجة الزوجة مماثلة لتلك! وقد ظهرت السخرية في القصة حين كتب تامر يقول في النهاية: "ولم يتجرأ مصطفى على تطليقها لأن أباها غني وغير بخيل واستمرا في العيش معاً زوجاً وزوجة يحاول كل منهما أن يثبت حبه للآخر"- (الحصرم ص 100). وبعبارتنا نحن نقول "يحاول كل منهما أن يخون الآخر" وواضح هنا أن الكاتب يشنع على الزوجين السلوك المنحرف فيلذع، وهو الحداد القديم، بنار كيره جلدهما، ويقوّم بثقافهِ المنآدَ من منطق حياتهما. ومثل هذا اللذع والتقويم والسخرية نراه يتكرر في قصص (عفاف) و(رجال) و(المستشارون).
والحق أن الكاتب لم يقتصر في لذعه ونقده على الفرد دون المجتمع، بل تجاوز ذلك إلى التنديد بالظرف المحدق والمناخ المهيمن اللذين يفضيان إلى الاستبداد واستلاب الإنسان وقهره وعجزه. ففي قصة (صامتون) كان الصفع هو سيِّد الموقف، فقد صُفِع (زهير صبري) لأنه لم يبالِ بحب امرأة جميلة ولم ير الصافع، وصُفِع لأنه قال لرجل ثري إنه أعظم رجل أنجبته البلاد ولم ير الصافع، وصُفِع بعد أن قبَّل يد رجل ذي لحية طويلة مشعثة، ولم ير الصافع... "وصُفِع زهير صبري كثيراً وفي كل يوم، من دون أن يرى الصافع المجهول، ولم يكلم أحداً عن تلك الصفعات السرية حتى لا يُسْخَر منه ويتهم بالجنون، ولكنه كان واثقاً بأن الناس أجمعين يصفعون مثلما يصفع، ويلوذون بالصمت". (الحصرم ص 75).
فالكاتب هنا يصور ما يشبه القدر الاجتماعي والسياسي الغاشم الذي يصفع فيه المرء، ولا يجرؤ على أن يجأر مستنكراً أو ثائراً. وهو بهذا يلامس حقيقة نفسية تتجسد في عبارته الأخيرة التي تبدأ بكلمة (لكن)، فزهير صار يظن أن ما يلقاه هو، يلقاه الناس كلهم، وأن صمته ليس فردياً بل جمعي أيضاً. وفي ذلك استلاب عميق ومؤلم في الوقت نفسه.
إن رصد هذه الحالة في أقصوصة لا تتجاوز مئة كلمة يدل على أننا أمام كاتب معني بالحركات العميقة للنفس الإنسانية، وبالآليات النفسية التي يجابه بها المرء ما ينتابه من قهر وإذلال وهوان. وقد توصل (تامر) إلى ذلك من خلال إيقاع سردي بسيط، وهو عملية الصفع المتواترة، ثم جهل المصفوع المتكرر بالصافع. وهذا شأن يثبت مرة أخرى أن الإيقاع يخدم الفكرة، بل هو أداة موفقة لكشفها وإظهارها.
وإذا كان (زهير صبري) قد تعايش مع قهره وهوانه فاستمرأ صفعه، فإن شخصية أخرى في المجموعة كانت تفعل فعلاً معاكساً، ففي قصة (الأدغال) يقتل (معروف السماع) زميلاً له في لعبة ورق، لأنه عيَّره بأن رجال الحارة يعرفون من جسد أخته أكثر مما تعرف أمها، فقد أطرق معروف رأسه أولاً ولم يفهْ بكلمة، ولكن همسات راحت تصَّاعد من أعماقه، وهي همسات الأرنب الخواف والنعامة الجبانة من جهة، وهمسات الضبع الآكل والذئب المغير والحية اللادغة من جهة ثانية. وانتصرت الهمسات الأخيرة فطعن (معروف) من عيَّره وقتله، وراح يعدو مسرعاً، ولكنه، وهو في أقصى سرعة له، تنبه إلى أنه وحيد لأبويه ولا أخت له!
وعلى الرغم من السخرية المرة من سلوك (معروف) المتهوِّر، فإننا نرى القصة تنصرف إلى منحى آخر، هو قاع النفس الإنسانية العميقة، وقد أصابه جرح بليغ وهزة قوية، فعبارة زميل (معروف) أذهلت معروفاً عن الحقيقة والواقع، ففعل ما فعل، مؤكداً أن تجاوز الحدود من الخصوم له ثمنه، وعلى الباغي أن يدفع ثمن بغيه.
إن دراسة شخصيات هذه المجموعة تبلغ بالدارس حد الاستنتاج أن تشابهاً قوياً كان يقوم بينها وبين شخصيات (تامر) في مجموعاته الأخرى، فأبطال (تامر) عامة ذوو طباع حادة وغريبة، أو هم ذوو صفات باردة أو جامدة لا حياة فيها، وسلوكهم غالباً مستهجن وغير مفهوم للوهلة الأولى، وربما كان غير منطقي البتة، وبعض هذه الشخصيات يدخل الحدث فلا يغير الحدث فيه شيئاً، وبعضها يدخله فيتغير ويغير الحدث معه، بل قل يصنع انعطافة مفاجئة فيه. فالشخصيات التامرية شخصيات فنية ورامزة وغير نمطية. وإذا كان بعض أبطال هذا الكاتب يظهرون وهم في أزمة، فلأن وضع البطل في الأزمة، هو الوسيلة الأنجع لرسم الملامح، والطريق الأقصر لإبراز الأفكار.
واللافت للانتباه أيضاً أن بعض الشخصيات التامرية تظهر مسلَّحة بالخنجر أو بالسكين على نحو مفاجئ، والخنجر أو السكين مسخَّر للقتل أو للتهديد به. وإذا كان هذا الملمح يذكر ببرهة تاريخية بدائية كان المرء يمشي فيها وخنجره إلى جنبه، فإنه ها هنا يبدو موظفاً لإبراز ظاهرة، أو فرض مفهوم، أو إيضاح فكرة، فخنجر (خضر علون) حوَّل (أم علي) من امرأة شريرة إلى امرأة حزينة وادعة من جهة، وقدَّم تجسيداً لفكرة القدر الغاشم الذي قد يحل بالناس، فليس لسليمان ذنب اقترفه كي يذهب ضحية شراسة خالته ( أم علي) من جهة ثانية، وهو خنجر كشف سلوك (نجيب البقار) الذي يخطط للجريمة، ثم يسعى لتبرئة المجرم، ويحتفل بذلك من جهة ثالثة. وأخيراً، فإن هذا الخنجر يذكر بخناجر رجال أخر في قصص المجموعة، كما في قصص (مصرع خنجر) و(الطالق) و(الشهادة).
وقد تنوعت شخصيات مجموعة (الحصرم) فكان منها ما هو بشري، وما هو غير بشري، ومن أبطال القصص غير البشريين بطل قصة (الوطن المفدَّى) فهو غصن من شجرة قوية، وقد تطاول هذا الغصن وانفرد عن أقرانه حتى وصل إلى نافذة من نوافذ بيت ما، ومن النافذة راح الغصن يرقب ما يدور في ذاك البيت، وكان في كل مرة يشهق متعجباً أو مذعوراً أو مدهوشاً أو متألماً أو متحسراً أو مستنكراً... وعندما أراد أن يكلم زملاءه من الأغصان الأخرى عجز عن الكلام ولم يستطع وصف ما رأى، ثم ضعف وذوى وشاخ باكراً ويبس. وأخيراً انفصل عن أمه الشجرة، في حين بقيت الأغصان الأخرى خضراء طرية. ولكن- (ولنلاحظ تكرار كلمة ولكن في نهاية القصة التامرية)- أحداً منها لم يعد يجرؤ على الاقتراب من نوافذ ذلك البيت.
والذي يبدو للناقد أن جفاف ذلك الغصن المتطاول والمتحشر والمتطلع إلى الكشف والمعرفة كان بفعل فاعل، ولم يكن هذا الفاعل، المسكوت عن صفاته لغرض تشويقي، فاعلاً ذا سمات محمودة أو مزايا ممدوحة، وإلا لما شهق الغصن متعجباً أو متألماً أو مستنكراً ما تعاينه عيناه..
وقد اختار الكاتب عنوان قصته بحذق وبراعة، وهو الخبير باختيار العناوين، فجعله (الوطن المفدَّى) وذلك توجيهاً للقارئ ليرى البيت، وقد راح يكبر ويكبر، حتى يصبح بيوتاً وأحياء وقرى ومدناً، بل قُلْ: وطناً. وبما أننا بدأنا نفك رموز هذه الأقصوصة، فإننا نرى الأغصان التي دبَّ الخوف في ثناياها وأنساغها، ولم تعد تجرؤ على الاقتراب من البيت، هي المعادل الموضوعي للمواطنين الذين دُجِّنوا ومُورِس عليهم ما مورس على المواطن المصفوع مراراً في قصة (صامتون). وهكذا تبدو بعض قصص زكريا تامر تتجاوب فيما بينها، وتعين إحداها على فهم الأخريات من أخواتها. ومما يتجاوب صداه مع صدى قصة (الوطن المفدى) قصص (المفتضح) و(المستشارون).
وإذا رحنا نحصي الموضوعات التي سخر منها (تامر)، وسخَّر كتابته من أجلها، فإننا نراها تتمثل برذائل الناس من خنوع وطمع وكذب وغباء ونذالة. ولا شك أن أدباً يندد بهذه الأشياء، هو أدب يمجد البطولة والزهد والصدق والذكاء والشهامة.
وبعد، فإننا، وإنْ توقَّفنا عند الشأن السردي في هذه المجموعة خاصة، لم نر الصواب في الاقتصار على الشكل فحسب، فالسرد كان وما زال الوسيلة التي نعقل العالم بها ونعقل أنفسنا، كما يرى (جوناثان كوللر)- (انظر زمن الرواية، لجابر عصفور ص 91)، وعليه، فالسرد يبدو لنا مُتماهياً مع علم الدلالة الذي يقيه من أن يكون لعبة شكلية فحسب. وربما ساغ لنا الزعم أننا لم نقم ها هنا بشرح تقنيات السرد دون أن نعطيها دلالات من نوع ما، ذلك لأن النموذج المختار من أدب (زكريا تامر) كان مثالاً على سردٍ مُفْعَم بالمعاني، وأدب ضاجٍّ بالرموز والدلالات والإشكالات أيضاً. وهذا سر من أسرار العظمة والخلود في الآداب كلها.
¾

¡ المراجع:

1- القصة القصيرة- النظرية والتقنية، لانريكي اندرسون امبرت، ترجمة علي إبراهيم علي منوفي، القاهرة 2000.
2- نظريات السرد الحديثة، لوالاس مارتن، ترجمة حياة جاسم محمد، القاهرة 1998.
3- الحصرم، لزكريا تامر، بيروت 2000.
4- زمن الرواية، لجابر عصفور، القاهرة 1999.
5- مجلة الناقد، بيروت، دار الريس، العدد 82، نيسان 1995.

ليست هناك تعليقات: