للباحث : د/ حسين جمعة
1-
لِمَ
هذه القراءة ؟
2-
مصطلح
القراء في ضوء الواقع النقدي.
3-
كيفية
قراءة النص.
4-
خاتمة.
5-
الحواشي
والمصادر.
كثرت القراءات والدراسات المتخصصة بالأدب القديم
منذ عهد الرواد حتى اليوم وحاولت السعي إلى تأسيس مفهوم نظري وتطبيقي له، مهتدية
بما ورد لدى الدراسات النقدية والأدبية القديمة عند العرب وغيرهم، ومستفيدة أيما
إفادة من حركة النقد والأدب الغربية الحديثة.
وحاول هذا البحث الإفادة منها جميعاً دون أن
يكون هدفه الردّ عليها، أو تعقبها في أفكارها ومصادرها الأجنبية خاصة، لأنه لم
يعقد لهذه الغاية. ولهذا فهو مدين لها جميعاً وللمناهج النقدية والأدبية التي
شهدها العصر الحديث؛ وقد شكلت مجتمعة حركة نقدية أسهمت ـ على نحو ما ـ في خَلْق
وعي نقدي أدبي وفكري.. ملموس. ولعل أبرز ما يؤخذ على حركة النقد العربي الحديثة
أنها لم تستطع أن تؤصّل نظرية نقدية عربية شاملة؛ إذ ما زالت أكثر طرائقها العلمية
فردية، أو قاصرة، أو ضعيفة(1).
والنص الأدبي ـ أياً كان زمنه ـ بقي يمثل صورة
التجربة الإبداعية في مادة الاتصال بين المبدع (المؤلف الأول والقارئ الأول) وبين
المتلقي (المؤلف الثاني والقارئ الثاني). وكلنا يرغب للنّص الجاهلي في الانطلاق من
أسْر القيد إلى فضاء الحرية وحيويتها، ومن احتجابه وراء الماضي إلى تنفس ألق
الحاضر، والوجود الإنساني؛ وهو يقدم ذاته للأجيال على أنه إبداع فني أولاً، ورسالة
تعبر عن مشاعر أصحابه وأفكارهم ومعاناتهم وتاريخهم ومعارفهم ولا تنفصل عن العصر
والمجتمع والطبيعة؛ أي عن الوسط الذي نشأ فيه ذلك الإبداع ثانياً. فالشعر حقاً ـ
كان ـ ديوان العرب "ومنتهى حكمهم به يأخذون وإليه يصيرون" وهو علمهم الذي
"لم يكن لهم علم أصحُّ منه"(2)... ولما أردت لـه ذلك كله جعلته مادة
للقراءة، يشدني إليه أمران: الأول يؤكد أنه ما زال أصلاً في مواكبه النقد المتطور؛
وثانياً ما يتوافر فيه من قدرة لغوية حيَّة، وطبيعة فنية عظيمة. ولما كانت هذه
المادة غزيرة في ذاتها وفي تناول النقاد لها كان لابد من الانتقاء والاختيار من
النُصوص المقروءة وفق منهج القراءة؛ والاصطفاء الدقيق بين الدراسات التي تناولتها؛
إذ لا يستطيع باحث ـ أي باحث ـ أن يحيط بذلك كله.
وأتوخى للنص الجاهلي ألا يغرق في حدود المصطلحات
الفنية، وضبابية الحركة النقدية؛ وعمومية الحدود الزمانية والمكانية، ومحدودية
المناهج النقدية والأدبية التي تنفرد بدراسته... فالنظام البنائي في أنساق النص
يتحدد بالعلاقات الدلالية الكامنة فيها، والموزعة على أجزاء العبارة... ولو
تناسينا هذا النظام لأدى إلى ضياع الحقيقة بين قطرات المداد التي يبذلها الباحثون
في اتجاهاتهم المتعددة، ومن ثم أدى إلى مخالفة مفهوم المنهج ذاته وهو "الطريق
الموصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب؛ وبالمعنى العلمي هو مجموعة الإجراءات التي
ينبغي اتخاذها بترتيب معين"(3). وهذا التعريف العام بعناصره الثلاثة (المفهوم
المرجعي ثم تقنياته ووسائله ثم الخطوات الإجرائية لهما) محكوم بدراسة النص الشعري
القديم باعتباره نظاماً شمولياً غالباً... وكذلك نرى في أي نصّ أدبي آخر؛ لأن
التجربة الإبداعية ليست وليدة مؤثر واحد، ودافع معين... على الرغم من أن واقع النص
الإبداعي إنما هو واقع الشاعر والشعر لا غير. وهذا وذاك يرجّح لدى قراء الشعر
القديم خاصة أن يعززوا فكرة منهج القراءة التكاملية التي تجعل الظاهرة الأدبية
أصلاً لها، والمناهج الأدبية والنقدية والعلوم المساعدة الأخرى فرعاً... وكلها
تجتمع لتكوّن فكرة أقرب إلى تلك التجربة الشعرية والأدبية، ومن ثم سد الثلمة في
هذه الدراسة أو تلك... فالأدب يمثل عند أي أمة خَصائصها الثقافية في كل زمان؛ إن
لم نقل: إنه يجسد شؤونها كلها في الحياة والفكر والفن.
ولعل هذا كله يهيئ للأمة تأسيس ملامح صياغة
نظرية نقدية عربية أصيلة قابلة للممارسة العملية في تلقي النص الإبداعي وفهمه
وتحليله وتفسيره، على اعتبار أن النقد معرفة؛ لـه طبيعة خاصة في الأدب تتجه إلى فن
القول؛ بينما تتجه في اللغة إلى القول الفني... على حد قول الدكتور عبد السلام
المسدي.
وإذا كنت قد مارست تطبيق هذه الرؤية عملياً في
كتابي (قصيدة الرثاء ـ جذور وأطوار)(4) فإنني أطرحها نظرياً في هذا المقام لعلها
تقدم خدمة ما لأبناء العربية؛ وهي تستمد معينها من مفهوم النقد الداخلي والخارجي
على نحو ما، كما عرف للقدماء والمحدثين؛ علماً أنه قد يقرأ نصّ ما في ضوء سيطرة
منهج نقدي على آخر... في صميم القراءة التكاملية.
ومن هنا ننتقل إلى إلقاء الضوء على مصطلح
القراءة في ضوء الواقع العام لحركة النقد العربي؛ وخطابها النظري والتطبيقي.
نعتقد بأن العصر الحديث يعيش حركة نقدية تلقائية
تارة وموجهة مركزة تارة أخرى... وفي الحالتين ظلت مبنية على أساس تراكمي جمعي،
وعدم وعي لطبيعة الأدب القديم ووظيفته؛ لأنها نشأت غالباً في أحضان تأثير المدارس
الأدبية في الغرب ومناهجه النقدية(5) كالمنهج التاريخي والاجتماعي والنفسي
والتحليلي... وكلنا يعرف أن تاريخ الدراسات الأدبية لدينا في مطلع القرن العشرين
كانت متأثرة بالغرب ولا سيما ألمانيا. وربما يعزز هذا الرأي كثرة المصطلحات
النقدية التي غزت الحركة النقدية العربية؛ ومن ثم تشتت الجهود والآراء وراء كل
نظرية نقدية أو مدرسة أدبية. ولهذا لم يتحقق مصطلح النقد باعتباره مفهوماً شمولياً
ينتظم حركة النقد بمعايير محددة؛ أو متخصصة بكل جنس أدبي؛ ولا باعتباره حركة
ثقافية عربية منهجية موحدة ومتعاونة بين أبناء الأمة على ساحة الوطن العربي...
ولعل قلة قليلة منهم من فكر بذلك.
في ضوء هذا الواقع النقدي نرى أن هناك مشكلة
كبرى في المصطلح ومن ثم في بناء نظرية نقدية عربية أصيلة ما زالت قائمة... فحالة
الضعف التي نعيشها على عدد من الصُّعُد تؤكد تبعية التجدد والابتكار في الثقافة
عامة والأدب والنقد خاصة. والمثقف الناقد القارئ المدقق المتوازن الموهوب في
حساسيته وفطرته وعلمه هو من يصنع الفكر؛ ويبدو أنه لمّا يظهر ... أمّا ما نراه على ساحة الأدب والنقد فهناك أشكال
غير قليلة انتهت إلى الاستلاب الإرادي والثقافي؛ وإلى بلبلة فكرية وسياسية وشللية
ودينية وقومية... فكلما اخترع الغرب مصطلحاً ما؛ أو منهجاً طفقنا ننتصر لـه ونحن
نمارس تبعيتنا بلذة مغرية... وشرعنا نعيب على نقادنا القدامى تقصيرهم عما وصلت
إليه حركة النقد الحديثة... بل كلما ظهرت في الغرب مفاهيم جديدة أقلع نقادنا
المحدثون عن السابقة وألغوا ما قاموا به. "إن المقاييس الغربية ـ حتى إن
فُهمت أحسن فهم وأصحه ـ لن ينتج تطبيقها على الأدب العربي خيراً. ذلك لأنَّ هذه
المقاييس قد استخلصت من دراسة أدب تختلف طبيعته عن طبيعة الأدب العربي اختلافاً
عظيماً"(6).
ولعل البنيوية أقرب مَثَل لذلك؛ فقد وُلد لها
بنات حملت اسم (التفكيكية والتحطيمية والتركيبية). ويكفي التنبيه في هذا الشأن على
أن بعض الدارسين المحدثين العرب تأثر في دراسته بنموذج واحد هو "يوري
لوتمان" في كتابه (بنية النص الفني) وبخاصة الفصل السادس: "عناصر
ومستويات الإبدال في النّص الفني"(7). ولعل أعظم هَدْم قامت به البنيوية في
حياتنا المعرفية والأدبية أنها قضت على المفهوم الشائع للناقد بين الناس، باعتباره
جسراً مفيداً بينهم وبين الأدب واللغة... فاكتفت بالناقد المتلقي.
وهناك السيميائية والتناصية والتداولية
والاستقبالية والماركسية والأسلوبية البلاغية والتقليدية... وهناك المنهج التحليلي
الجمالي والنفسي والاجتماعي والتاريخي والأسطوري(8). وفي هذا الاتجاه يكفي أن نشير
إلى التحليل النفسي عند النقاد العرب، فأكثرهم لم يخرج عن مدرسة فرويد في تحليل
الأدب القديم والحديث(9)، خروجاً يستدعي الذكر.
ولم يتوقف الأمر عند هذا بل إن جملة من
المصطلحات النقدية التي اخترعها العرب القدماء نُسبت إلى الغرب، وتجاهلت حركة
النقد الحديث أصحابها الحقيقيين كالشعرية والصورة والبنية ونظرية السياق المعروفة
عند الغرب بالتداولية(10). وبهذا كله لم ينشأ لدينا ـ حتى الآن ـ إلا تراكمات
مشوهة من الدراسات النقدية الحديثة؛ في المنهج والمصطلح/ وفي الأساليب التي يعالج
بها أدبنا...
ومن ثم نشأ مصطلحان آخران عرفا باسم (دراسة ـ
دراسات) و (قراءة ـ قراءات) كما هو في كتاب الدكتور يوسف خليف (دراسات في الشعر
الجاهلي) أو في كتاب الدكتور مصطفى ناصف (قراءة ثانية لشعرنا القديم) . وهذان
المصطلحان يؤكدان عدم اتفاق النقاد العرب المحدثين على مفاهيم نقدية محددة؛ فضلاً
عن عدم اتفاقهم على آلية موضوعية لتحليل النّص القديم؛ ثم الحديث وفق كل منهج نقدي
وأدبي. ولما اختار (خليف) المنهج البيئي طريقة لـه فَضَّل (ناصف) المنهج الجمالي ـ
ولكل منهما آليته ـ ثم إن هذه الآلية تباينت لدى كل منهما من كتاب إلى آخر...
فناصف في كتابه (قراءة ثانية لشعرنا القديم) مارس آلية مغايرة عما هي عليه في
كتابه (صوت الشاعر القديم). ونظن بأن غير ما دراسة حملت عنوان (قراءة) أصيبت بما
أصيب به أخواتها، فهي محاولة لتفسير نصّ ما، أو مجموعة من النصوص في ضوء التأثر
الذاتي والذوق القائم على التخير والانتقاء، وسيطرة النظرة الجزئية، وإن ادعى
أصحابها أنهم يتناولون النص بتمامه... فضلاً عن إخضاع النص لمعايير التطبيق
المستمدة من التجربة الغربية.
ولعل أمثال هذه الأنماط النقدية بدأت على يدي
الدكتور طه حسين؛ ولكنها انحرفت إلى ذاتية مُفرطة ومنهج أُعدّ سلفاً؛ بينما
رأيناها عنده قائمة على مقياس مركب منفتح على المناهج النقدية والفكرية والأدبية
والثقافية... فالقراءة لديه قراءة واعية متنوعة منفتحة على الغرب، ولم تقطع صلتها
بالتراث... وقد استمد وعيه النقدي والأدبي والعلمي من تأثير قراءته للأدب الفرنسي
وثقافته... وقد صدر عن هذه التجربة في كتابه (في الأدب الجاهلي) وغيره.
ويظل مصطلح القراءة مصطلحاً منفتحاً بإجراءته
النقدية على المناهج النقدية والأدبية مجتمعة أو منفردة، وعلى تقنياتها؛ فيبيح
الشمولية والموازنة والمقارنة... وبهذا آثرناه ليس باعتباره مصطلحاً نقدياً ونظرية
محددة؛ وإنما باعتباره طريقة فنية تؤدي إلى تأسيس منهج نقدي عربي تكاملي أصيل غير
معزول عن المناهج النقدية والأدبية؛ وعن العلوم المساعدة الأخرى. وإننا لنزعم أن
القراءة المتقنة الواعية المدققة.... والمتوازنة و.... إذا دعمت بمنهج نقدي متميز
وقارئ مرهف موهوب يملك حساسية نقدية ومعرفة لغوية وثقافية ونفسية.... يمكن لها أن
تفتح آفاق التجربة الإبداعية... ومن ثم تتحقق لنا تجربة نقدية إبداعية صحيحة. لأن
مفهوم القراءة ـ لغة ـ يحمل معاني الجمع والإبلاغِ والدراسةِ والتفقُّهِ في الشعر
وتفسيره(11).
ولعل ذلك يشجعنا على وضع تعريف للقراءة النقدية؛
فهي قراءة ذوقية حَدْسية ومعرفية جادة وواعية وجريئة ومتوازنة لفهم النّص الأدبي
واستيعابه ومن ثم تحليله وتفسيره وإبلاغه. فالقراءة الحقيقية لا تعترف بالنقد الذي
يحاول السيطرة على النص بأدوات معرفية ذهنية عقلية خالصة من دون العناية بذاتية
الناقد التي ألح عليها عبد القاهر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز).
فالأدب ـ باعتباره نسيجاً فنياً متلاحماً كالثوب
الموشى ـ إنما يجسد في بنياته الفنية أبعاداً فكرية وفلسفية؛ نفسية واجتماعية؛
وتاريخية ومعاصرة؛ أدبية ولغوية... لذلك تصبح زاوية النظر إليه من جهة مصطلح
القراءة (كما أوضحناه) أعمق وأشمل... لأنها تشتمل على وظائف النقد مجتمعة: الوظيفة
الثقافية التي ترتقي بذوق الناس ومعارفهم الفكرية والفنية، والوظيفة النقدية
العلمية التي يمارسها الناقد على النص لحساب النص؛ فيقيل فيها عثراته ويكشف عن
جمالياته؛ وما تميز به صاحبه، فيغنيه ويثريه...؛ والوظيفة المعرفية التي تجري بين
النقاد، أو بينهم وبين الأدباء والمثقفين... في جو من الحوار المفتوح والمناقشة
الدقيقة.
فالقارئ ـ وإن كان متلقياً ـ إنما هو وسيط بين
المبدع والناس والنقاد بوساطة النص في زمن ما، ومكان ما... مما يثبت أنه ليس
القارئ الوحيد والأخير.
فالقراءة ـ وفق ذلك كله ـ استشراف حقيقي فاعل
للنص؛ وإدراك واع لدلالاته ومعطياته الفنية، في الوقت الذي تتيح للمبدع الأول أن
يظهر في نصّه، لا يغيب عنه؛ ولا يتراجع لحساب الناقد المتلقي.
ولهذا وذاك نتساءل من ذاك القارئ وما صفاته؟ وما
الآلية أو الكيفية التي يستند إليها في قراءة النص؟! هذا ما يحاول القسم الآتي أن
يوضحه.
أدركنا في ضوء التجربة الإبداعية لعدد غير قليل
من الشعراء الجاهليين أنهم كانوا أول متلقين لأشعارهم، ومن ثم انتقلت تجربتهم إلى
المتلقي القارئ في إطار من الاتفاق الروحي العفوي بين عالمهم وعالمه.... وهو اتفاق
يربط الإنسان بالإنسان بشكل فطري ثم ينتهي من تذوق التجربة إلى فهمها واستيعابها
على بعد المسافة والزمان... فالزُّجاج- وإن أخذ حيّزاً واقعياً ـ لا يحجب الرؤية
بين الأماكن... وكذا النص الشعري يصل بين المبدع والمتلقي. وقد ثبت أن النص
الجاهلي ثابت الجذور، ومرتفع القامة فناً وتاريخاً لأربعة قرون خلت من البعثة
الإسلامية. وهذا وحده يبعده عن مرحلة الطفولة؛ وهذه مرحلة تدل ـ في مفهوم علم
النفس ـ على ضآلة التجارب... بينما أثبت الشعر الجاهلي على الدوام أنه عملية فنية
إبداعية إنسانية طويلة مختصة بملامح مثيرة ومؤثرة؛ وقائمة على وظيفة تعبيرية دلالية
تربط المبدع والعصر والمكان بالمتلقي؛ فهو بفضائه الروحي مادة الاتصال. فإذا كان
الشاعر خالقاً للنصّ فإن القارئ المتذوق المرهف يتلقاه مرة بعد مرة فينتهي منه إلى
ما يغني تلك التجربة ويعمقها في نفوس الأجيال دون أن يشوه صورتها الحقيقية. فقد
تكون حياة الشاعر أو بيئته أو حياة مجتمعه وتاريخه موضوع أشعاره؛ وما شكله الخيال
لم يخترع من فراغ؛ وإنما قام بعملية تأليف واصطفاء لمواد تصويرية مختزنة في
الذاكرة؛ بشكل شعوري أو لا شعوري، ثم صاغها بأنماط تعبيرية موشاة وشائقة.
وبهذا يصبح مضمون النص تجسيداً لذلك كله؛ ورسالة
ذات وظائف كبرى(12). فالقارئ يعمد إلى ربط الماضي بالحاضر، ليجعل الحاضر منطلقاً
للمستقبل بمثل تلك التجارب الإبداعية... ولن يستطيع أن ينفتح عليها إلا إذا تهيأت
لـه صفات وشروط وتسلح بمنهج تكاملي يعينه على قراءتها.
ومن هنا نعرض لأبرز ما نراه في هذا المقام.
تتجمع القابلية النفسية والعقلية لدى المتلقي
القارئ للنص الأدبي قبل الشروع بالقراءة... وتخلق العاطفة لديه بواعث كثيرة ذاتية
وموضوعية... وهنا يصبح من الضروري أن يطوف القارئ شاعرياً بالتجربة الإبداعية في
مستوياتها الفنية ومكوناتها عند الشاعر محاولاً أن يعيش حالته النفسية، ومن ثم
الانتقال إلى زمان التجربة وطبيعتها ووظيفتها... وهو يتوجه إليها قبل أن يطوف ـ
بوساطة الاستدعاء والتداعي- بأية تجربة نصّية أخرى... وبكلام آخر لابد لـه من
الارتقاء إلى مستوى حالة الإبداع نفسياً وذهنياً وتاريخياً وفنياً... ومنطلقهُ في
هذا قابلية خاصة يتمتع بها في الإقبال على قراءة النص قراءة أولى تذوقيه للغته
وصوره وموسيقاه وعاطفته وأخيلته... فالمتلقي يتهيأ بما يملكه من تقنيات نقدية،
وانفتاح على أشكال النقد القديم والحديث، وقبوله لنقد الآخر وفهمه ليعيش التجربة
الإبداعية من الداخل بكل مكوناتها؛ قبل أن يربطها بمكوناتها الخارجية، إذ لا يمكن
تفسير كثير من الإشارات النصية بمعزل عنها في الأدب عامة وفي الشعر الجاهلي خاصة.
فأي إبداع يبدأ بمرحلة كمون في الذات المبدعة؛ ثم يتفاعل فيها لتبدأ مرحلة التكوين
والإعداد التي تصل إلى مرحلة الإشراق والانبثاق؛ ومن ثم معاودة النظر فيها
لإنجازها في الواقع. ولعل في تجربة زهير بن أبي سلمى وأشباهه من عبيد الشعر(13) ما
يقوّي مفهوم الاستعداد للقراءة. فقد قدموا لنا ممارسة فعلية لقراءة النص وتلقيه
لذاته؛ فكانوا يقفون في صميم التجربة الإبداعية ويحاولون تمثلها وكشف عثرات
البديهة والارتجال؛ إذ "كل شيء للعرب بديهة وارتجال" في العصر الجاهلي
كما يقول الجاحظ(14). ولو لم يدركوا حالة الخَلْق الأولى بكل أبعادها لمَا
استطاعوا أن يتمثّلوا الثانية. ولهذا قال الحطيئة: "خير الشعر الحوليُّ
المُحكَّك". وهذا يعني أن البديهة والارتجال يقفان في مقابل الرويّة؛
والبديهة "فيها الفكرة والتأيد، والارتجال ما كان انهماراً وتدفقاً لا يتوقف
فيه قائله" كما قال ابن رشيق(15).
وفي ضوء ذلك يتضح أن المتلقي يرتبط بجو النّص ثم
ينفتح عليه بما يساعده على تصوره تصوراً دقيقاً ليقبل على قراءته الأولى قراءة
تقرّبه من مستوياته الفنية وقيمه الجمالية... وتصبح العناصر الفنية والحصيلة
اللغوية والفكرية والاجتماعية... أجزاء كامنة في النص، ومن ثم تكون متصلة بالعناصر
الخارجية. فالأدب بكل تعريفاته التي وصلت إلينا لـه هدف غير هدف النقد؛ وتعريفات
الأدب عامة تشتمل على هدفه؛ فهو فن صناعة الكلام بشكل جميل ومثير للفكر ومؤثر في
النفس؛ أو هو "العبارة الفنية عن موقف إنساني؛ عبارة موحية؛ إذ من البيّن أن
كل أدب هو قبل كل شيء صياغة لموقف إنساني، وأن بين الأمرين رابطة وثيقة". أما
النقد فهدفه "استكشاف مادة الأدب عن طريق مقاييس العقل؛ وضوابط المنطق،
وأدوات الإدراك بغية الوعي بخبايا الظاهرة الجمالية"(16).
وهذا ينقلنا إلى القيم الفنية في النص ومستويات
القراءة.
لم يعد يخفى على الدارسين أن لكل نصّ عناصره
الأولية وقيمه الجمالية التي تدخل في نسيج متعاون لأداء وظيفة ما وغاية ما....
وهذه العناصر والقيم قد تظهر في وقت واحد ثم تتميز تباعاً لتقدم ما تحمله من رسائل
وإشارات ورموز؛ دون أن ننسى لحظة واحدة أن الشاعر العظيم هو الذي تبقى شخصيته
متجددة بارزة في شعره، ويبقى ذوقه الخاص يميز طبيعته الفنية... ولعل هذه السمة
أبرز ما في النصوص الجاهلية. ولعل ذلك كله ينطبق على المفهوم الفيزيائي للوجود...
فحين نقرأ الوجود إنما نقرؤه من خلال استمراريته في الوجود...
ومنذ البداية نبين أن دراسة الأدب ليست منصبة
على النحو والصرف والفصاحة والبلاغة والموسيقى والعاطفة والخيال والفكرة والأسلوب،
أو دراسة الحياة(17)، التي تشيع في بنية النص؛ وإنما تتجه إلى هذه الأمور مجتمعة
وعلى رأسها اللغة. فالدراسة أو القراءة تعدُّ جوهر النقد؛ والنقد "فن
دراسة النصوص وتمييز الأساليب؛ وهذا الفن يستعين بضروب المعارف
المختلفة"(18). وحينما يصبح المجتمع كله متلقياً لأي نص أدبي تصبح مستويات
القراءة أو النقد أكثر مسؤولية وارتقاء... فالقارئ سيقف أمام عقول كثيرة،
وانطباعات شتى...
ولهذا كله سنتوقف عند بعض القيم الفنية دون
الأخرى؛ لأنها مدارُ التناول ـ غالباً ـ في قراءة النص الجاهلي كاللغة والصورة
والموسيقى والعاطفة... ومن ثم ننفذ إلى مستويات القراءة وارتباطها بالوظيفة
والهدف.
وتظل اللغة الموحية الفجائية المثيرة ـ وإن كان
لكل نص لغته الخاصة
ـ(19)، مرتكز الدلالة؛ سواء أكانت تعبيرية أم مرجعية أم ندائية أم اتصالية، وفيها
تكمن الإثارة الجمالية والروحية والمتعة الذاتية على أهمية القيم الجمالية الأخرى
كالموسيقى والوزن والإيقاع والصور والتركيب والعاطفة..(20)، ولا غرو بعد هذا أن
يجعلها مندور أساس منهجه فيقول: "المنهج الذي أدعو إليه هو المنهج الفقهي ـ
منهج فقه اللغة ـ وسوف نرى ذلك المنهج يبتدئ بالنظر اللغوي لينتهي إلى الذوق
الأدبي الذي هو ـ لا شك ـ متحكم في كل ما يمتّ إلى الأدب بصلة؛ سواء في ذلك أردنا
أو لم نرد"(21).
فهذه الوقفة التأثرية التي نادى بها مندور
مرتبطة بضروب المعرفة الأخرى لديه، وإن كانت اللغة أصلاً لها. واللغة مرتبطة
بالبيئة والثقافة، والشخص والزمان والموضوع مما يستدعي بالقارئ أن يرتقي إلى مستوى
هذه الأبعاد كلها... ولهذا كانت لغة عدي بن زيد الذي عاش في الحاضرة أرق وأسلس من
لغة ذلك الذي عاش في البادية... فاللغة تنفتح ـ بالضرورة ـ على مبدعها وواقعها
وزمانها وموضوعها.. وهي تنفتح على القارئ في الاتجاهات ذاتها حين يدرك خصائصها...
فلا يكفي أن ننظر إلى لغة النص في ذاتها وإنما ننظر إليها ونحن في "حضرة
إنسان يفكر ويشعر"(22)، في رؤية شمولية تتخيل الوضع النفسي والاجتماعي
والتاريخي والطبيعي والفني، ثم تقوم
بإجراء عملية فنية تقابلية موازنة للغة النّصوص الأخرى للشاعر ولغيره من
معاصريه وسابقيه ولاحقيه. "فقراءة الشعر الجاهلي تجعلنا نألف طرائق العلاقات
بين أجزائه"(23)، ومن ثم طرائق الحوار العفوي التي يقيمها نصّ ما مع النّصوص
الأخرى في ضَوْء الشعرية الذاتية المميزة لسمة الجمال الفني في سياق أسلوبي
ودلالي، والمستندة إلى الحدس والشعور والوعي... و...
فالقارئ يقبل على لغة النص الجاهلي ـ وأي نص ـ
بقلب مفتوح يقظ، بمعنى أنه يقبل على قراءة النص دون حكم مسبق، ودون عصبية لهذا
النص أو ذاك متوقفاً عند لغته وصوره؛ لأنه يدرك أنها لغة انزياحية في الدلالة
والأسلوب في حالتي الحقيقة والمجاز. فاللغة ليست مجرد صوت وإيقاع ولون و... وإنما
هي بنية لغوية وصوتية وتركيبية وإيقاعية وتصويرية ذات دلالة تتوزع في أساليب مكثفة
تارة ومُفَصَّلة تارة أخرى، حقيقية أو مجازية...
وتقوم على علاقات متفقة وموحية(24). إذاً، اللغة ليست بنية لغوية جمالية فحسب؛ فهي
ليست معزولة عن الغرض والوسط المحيط كما ذهب إليه أحد الباحثين(25). فهي ـ أيضاً ـ
بنية ذات دلالة زمنية ونفسية ومكانية واجتماعية... علماً أن اللغة الشعرية تختلف
في وظيفتها عن لغة الإخبار؛ فلغة الشعر تعتمد على العلامة اللغوية ذاتها، لتصبح
الشعرية مجانسة لعلم الشعر المستند إلى نظام يسعى العقل إلى استنباطه... وهو مغاير
لنظام الشعرية في النثر أو النقد(26).
فالكلمة الشعرية كما وجدناها في الشعر الجاهلي ـ
وتبعاً للمنهج التحليلي ـ ذات طبائع فنية عدة منها ما هو رمزي ومنها ما هو حقيقي
أطالت أم قَصُرت، أو اعتمدت على التناظر أو التقابل... ولعل القراءة الطباقية أو
التقابلية للغة وهي مرتبطة بالإيقاع في حالة الموافقة والمخالفة ـ وهما ميدان
المنهج البنيوي ـ تقدم للنص الجاهلي خدمات كثيرة... لأنه يتصف في كثير من بنيته
بالتقابلية الثنائية المطردة والمبتكرة في إطار من القوالب اللفظية والتعبيرات
اللغوية(27). وربما يعد كمال أبو ديب من أبرز المهتمِّين بهذا الاتجاه وتطبيقه على
الشعر الجاهلي... وقد أَخذه ـ خاصة ـ من (ليفي شتراوس) ومن دراسته لحكايات
(فلاديمير بروب)؛ علماً بأن القراءة الطباقية المرتبطة بالإيقاع مفهوم إنكليزي،
وكان أبو ديب قد طبقه على معلقتي امرئ القيس ولبيد(28).
فاللغة في عملية القراءة النصية ـ في مفهومنا ـ
لغة أدبية تربط المبدع بالقارئ المتذوق المرهف؛ وهي في الوقت نفسه جوهر القيم
الفنية الأخرى. فاللغة ـ صوتاً وجرساً وإيحاءً ورمزاً وتصويراً وعاطفة وإيقاعاً
ودلالة ـ مفردة ومركبة- تؤكد اتصالها بالهدف أو النية والغرض، وكذلك تؤكد صلتها
بمبدعها والوسط الذي نشأت فيه... ولهذا علينا ألا نستولد دلالات سياقية لا تتفق مع
ذلك؛ وهذا بالتأكيد سيوصلنا إلى معجم خاص للغة الشاعر؛ وبيان سماتها وما تتفرد به
عن لغة شاعر آخر؛ هذا من جهة ومن جهة ثانية ستوصلنا إلى لغة العصر الذي ينتمي إليه
النص، وتميزها من لغة عصر آخر.
وإذا كنا ـ حتى الآن ـ لم نضبط اللغة الشعرية؛
ثم اللغة عامة ضبطاً تاريخياً دقيقاً وصحيحاً(29)، فإن القارئ العالم المدقق يمكنه
معرفة لغة الشعر الجاهلي ـ غالباً ـ. وعلى أهمية ما قدمه الأزهري في معجمه (تهذيب
اللغة) في الوقوف عند الأصول؛ وعلى القيمة الكبرى (لمعجم مقاييس اللغة) لابن فارس
و(أساس البلاغة) للزمخشري فإننا لا نملك معجماً لغوياً خاصاً بتطور لغة النّص
الجاهلي خاصة واللغة عامة، ولا نعرف التمييز الدقيق فيها بين ما كان حقيقياً وصار
مجازياً والعكس صحيح.
ولهذا فإنني أظن أن القراءة النصية للغة الشعر ـ
وحدها ـ ما زالت مستعصية في هذا الشأن على الوصول إلى كشف زمانية اللغة والوسط
الذي نشأته فيه إن لم تكن هناك علامات واضحة لفهم ذلك... ومن ثم أغلقنا عقولنا على
ما قام به القدماء من نقد تلك اللغة وتحليلها في عدد كبير من الدراسات النقدية
والجمالية التي تركزت في أكثرها حول مفهوم اللفظ والمعنى أو الشكل والمضمون. فكلنا
يقر بالفضل للجاحظ وابن قتيبة وقدامة وابن طباطبا، وأبي هلال العسكري والمرزوقي
وغيرهم في هذا المجال. ويبقى الجرجاني الذي أفاد من ابن جني متفرداً في هذا النسق؛
فهو لم يكتف باستقلالية اللغة في بناء الجملة المنظومة؛ بل بيّن أثر العلاقة
النحوية في المعنى، وما تقدمه للنص من جمال فني قائم على النظم والصورة(30).
فالنظم هو "الذي يتواصفه البلغاء، وتتفاضل مراتب البلاغة من أجله؛ صَنْعة
يستعان عليها بالفكرة لا محالة"(31)، ومدار "أمر النظم على معاني النحو،
وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه... ثم اعلم أنْ ليست المزية بواجبة
لها في نفسها، ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع
لها الكلام"(32).
وقدَّمت الدراسات البلاغية القديمة للنص القديم
فوائد ملموسة أسهمت في إثراء الدراسات اللغوية ولا سيما حين وقفت على أساليب
التناظر والتضاد وبينت ما تؤديه من خصائص فنية في بنية النص. وقد أفرد بعض
الدارسين المحدثين كتباً لهذه الغاية؛ وتعمقوا في بحثها؛ لهذا اقتضت الإشارة إليها
ويمكن الاستغناء بها(33)؛ لنقول: إن الممعن في الدراسات القديمة جميعها لغوية
وبلاغية يدرك أنها لم تكن بمستوى الدراسات الحديثة ـ على أهميتها ـ فقد توقفت عند
ظواهر بعينها من اللغة وبعض الحالات المتعلقة بالإخبار والتفسير والشرح، فضلاً عن
تحكيم الأذواق والانطباعات في دراستها... ولم تصل إلى تكوين صورة متكاملة ودقيقة
لدراسة لغة النصوص المتماثلة في الموضوع وأسبقيتها الزمانية؛ إذا استثنيت بعض
الدراسات المعجمية التي اتجهت اتجاهاً لغوياً خاصاً كالمخصّص لابن سيده؛ وفقه
اللغة للثعالبي.... فقد اتجه كل منهما إلى إثبات معجم لغوي للناقة أو الفرس، أو
الأسد... و.... ولكن التطور الزمني لاستخدام مفردات كل مادة ضاع في غمرة الدلالة
الموضوعية، كما ضاع مفهوم السياق الدلالي لأي كلمة لعدم ارتباطها بالنص، أو أنها
منقطعة عن وحدته الشمولية.
ولهذا كله لا يجوز أن تُقرأ لغة النص قراءة
معجمية خالصة، ولا منفردة في بيت دون الآخر؛ فلا بد من أن تقرأ في إطار سياق
البنية المتكاملة للنص، وربطها بالوسط الذي نشأت فيه؛ لأنه إطار للبنية العاطفية
والإيقاعية... والتصويرية... الموحية بدلالتها وزمانيتها. ومن ثم فاللغة قراءة
للعاطفة والفكرة والموسيقى؛ والفكرة تبرز في حالة تبدل الإيقاع والأسلوب وهي تتحدر
في أسلوب نغمي خاص تتمايز فيه التراكيب تبعاً للغرض والحالة العاطفية. فالأوزان
الشعرية مرتبطة بأحوال النفس؛ والشكل الموسيقي للبيت في تكرار حركاته وسكناته إنما
هو تكرار لغوي نغمي. والتشكيل اللغوي يؤصل لدلالته التي تظهر بأشكال صوتية
وإيقاعية متعددة وغنية وهي تتعمق بالنبض الترددي الذي يختزنه الحرف... والكلمة
والتركيب تقسيماً وتشطيراً وترصيعاً وتصريعاً... أي إن التشكيل اللغوي في أي نص
أدبي مرتبط بالوظيفة والعاطفة؛ والوزن مرتبط بكلتيهما معاً(34)؛ وليس بحالة واحدة
كما انتهى إليه الدكتور عز الدين إسماعيل(35).
ومن أخص خصائص اللغة في النص الجاهلي أنها لغة
تصويرية حسية واقعية واضحة، لا تكلُّفَ فيها؛ مشخصة حيوية؛ أياً كانت مصادرها
ووسائلها. فقد استُمدت من الطبيعة الحية أو الجامدة.... و... ومن العناصر الذاتية
والاجتماعية أو التراثية والفكرية... وحوت في إطار ذلك كله ما يعرف اليوم بمفهوم
الشعرية وعناصرها.
فالصورة الشعرية في شعر امرئ القيس ـ غالباً ـ
ومعلقته خاصة صورة واقعية حسية قريبة ومباشرة لا مبالغة فيها ولا تزييف حُشد بعضها
قرب بعض كأنها عقد منظوم. وهي تتشكل في الذهن بمجرد عملية استرجاع للأشياء
المنقولة من عالم المرئيات(36). فالأثر الفني القائم على حشد العديد من الصور في
سياق واحد إنما يفرغ فيه طاقته العاطفية وتأملاته الفكرية؛ كقوله:(37)
إذا
ما الثريا في السماء تعرَّضَتْ
|
|
|
تعرُّضَ
أثناءِ الوشاح المُفَصَّلِ
|
فجئتُ
وقد نَضَتْ لنومٍ ثيابَها
|
|
|
لدى
السِّتْر إلا لبسةَ المُتَفَضِّلِ
|
|
|
|
فالقارئ يمكن أن يدرك طبيعة الصورة إذا أمكنه
التوفيق بين عناصرها الفنية؛ وكان على معرفة دقيقة بحركة مجموعة الثريا في السماء
ساعة بعد ساعة؛ وعلى يقين من كيفية لبس المرأة الجاهلية للوشاح... وفي هذه الحال
تكون الصورة الشعرية في أبنيتها اللغوية قائمة على الإيحاء المباشر والمرسل بأسلوب
تشخيصي واضح يجسد عدة وظائف أبرزها الوظيفة النفسية والاجتماعية.
وقد تمتاز الصورة الشعرية بخيال تصويري يصور
الأشياء ويسترجع التجارب ويصهرها بشكل جديد مع الالتزام بالمبدأ الفني السابق كما
نجده في شعر لبيد بن ربيعة. فاللغة التصويرية أصبحت لديه "من حيث هي تعبير عن
فتنة شاعر بالطبيعة فتنة طاغية جعلت الطبيعة تشغله عن الأطلال وصاحبة
الأطلال"(38)، كما في قوله:(39)
عَفَت
الديار محلُّها فمُقَامها
|
|
|
بِمنى
تأبَّدَ غَوْلُها فرِجامُها
|
فمدافع
الرَّيَّان عُرِّيَ رسمها
|
|
|
خَلَقاً
كما ضمن الوُحِيَّ سِلامُها
|
دِمَنٌ
تجرَّم بعْدَ عَهْدِ أنيسها
|
|
|
حِجَجٌ
خلَوْنَ حلالُها وحرامُها
|
رُزقت
مرابيعَ النجوم وصابها
|
|
|
وَدْقُ
الرواعدِ جَوْدها فرِهامها
|
من
كل ساريةٍ وغادٍ مُدْجِنٍ
|
|
|
وعشيةٍ
مُتَجاوبٍ إْرزامُها
|
فعَلا
فروع الأيْهُقَان وأطفلَتْ
|
|
|
بالجَلْهَتين
ظباؤها ونَعامها
|
والعِيْنُ
ساكنة على أطلائها
|
|
|
عُوْذاً
تأجَّلُ بالفضاءِ بِهَامُها
|
|
|
|
فالشاعر يسمي المواضع بأسمائها كما يعرفها؛
ويفتنُّ بتصوير الطبيعة ويدقق في صفة المطر والرعد... ثم يرتفع في تصويره إلى حيوان
الوحش فيجد لـه "مأمناً ومرتعاً وفراغاً للحنان والعناية بالأطفال"(40).
وبهذا تصبح لغته لغة انزياحية تلبي الهدف الحقيقي الذي ينشده، وهو رسم صورة الواقع
الذي يعيش فيه.
وهذا كله يؤكد أن الصورة في النص الجاهلي عنصر
أصيل لا يقل أهمية عن اللغة؛ على شدة الاختلاف بين "التفكير الحسي والرؤية
البصرية للشيء... التفكير الحسي أكثر إيغالاً في صميم الأشياء من مجرد الوقوف عند
سطحها وأشكالها المرئية... فلم يعد المصور
يُعْنَى بحرفية الشكل الخارجي وما فيه من تناسق وجمال بمقدار عنايته بتناسق الحركة
الماثلة في الأشياء في صميمها؛ وفي علاقتها بعضها مع بعض"(41).
وقد أصبحت الصورة الشعرية عملاً فنياً ذهنياً
بعد أن كانت حساً عاطفياً خالصاً؛ وإن ظلت مخلصة لمبدأ التشخيص الحسي(42). فبنية
الذهن الفني للشاعر الجاهلي ومن ثم الجاهلي عامة تُشَخِّص كل فكرة مجردة؛ وهذا ما
فعله في حكاياته مع الجن والعفاريت أو خرافاته وأساطيره المنقولة بالرواية التي
حفظتها الذاكرة الجماعية(43). فمن يقرأ معلقة زهير ـ مثلاً ـ يجد فيها "طاقة
تعبيرية وتصويرية بارعة"؛ والصورة الفنية الدقيقة المحكمة قد تطورت عنده عما
كانت لدى الشعراء الجاهليين السابقين له؛ وكذا عند معاصريه من الشعراء كالنابغة
وأمية بن أبي الصلت والأعشى على سبيل المثال. فقد حرص زهير على استخدام الألوان
والمزج بينها وبين ألوان جديدة في حركة ذهنية حسية؛ فضلاً عن اتكائه على عناصر
تراثية، واجتماعية، وحياتية، وطبيعية(44)، كقوله الذي يصور فيه نتائج الحرب:(45)
متى
تبعثوها تبعثوها ذميمةً
|
|
|
وتَضْرَ
إذا ضَرَّيتموها فتَضْرَمِ
|
فتعرككُم
عَرْكَ الرَّحَى بِثفالها
|
|
|
وتَلْقَحْ
كِشافاَ ثم تحملْ فتُتْئِمِ
|
فتُنْتَجْ
لكم غلمانَ أشأمَ؛ كلُّهُم
|
|
|
كأحمرِ
عادٍ؛ ثم تُرضعْ؛ فتَفْطمِ
|
فتُغِللْ
لكم مالا تُغِلُّ لأهلها
|
|
|
قُرًى
بالعراقِ من قَفيزٍ ودِرْهمِ
|
|
|
|
فالصورة الشعرية الذهنية المتخيلة ملأى بالعناصر
التراثية القديمة من حكايات وأخبار متداولة، وتغدو صالحة للترميز والإشارة إلى عدد
من المعاني والأفكار؛ وبمعنى آخر تنقلب اللغة إلى لغة مجازية استعارية... ويغدو
تأثيرها أبعد في النفس من الصور المباشرة على حيويتها. وهذا ما يمكن أن يستشفه
القارئ من حكاية الحية الصفراء التي عرض لها النابغة الذبياني ـ وتتحدثُ عنها
العرب وتذكرها في أشعارها ـ وقد ضمنها قصيدة لـه في معرض الحديث عن فساد العلاقة
بينه وبين قومه، فجاءت ممثلة للعبرة والموعظة؛ ومنها قوله في البيتين السادس
والسابع(46):
وإني
لألْقى من ذَوي الضِّغْن منهم
|
|
|
وما
أصبحت تشكو من الوَجْدِ ساهِرَهْ
|
كما
لقِيَتْ ذاتُ الصَّفَا من حليفِها
|
|
|
وما
انفكَّتِ الأمثالُ في الناس سائرَهْ
|
|
|
|
فهذه القصيدة البالغة ثمانية عشر بيتاً بنيت على
قصتين مكثفتين ممتلئتين بالمعاني والرموز، الأولى واقعية موجزة في خمسة أبيات
وكأنها القرار؛ والثانية خرافية رمزية جاءت تفسيراً وجواباً للأولى.. وكلتاهما
تتهادى على صور شعرية مثيرة مستمدة من الواقع الحسي المتخيل في ذهن النابغة. وعلى
أهمية المجاز واللغة الاستعارية في القصيدة السابقة وأمثالها تبقى مؤطرة في البيان
الوظيفي الذي وُضعت له، وهي من ثم مرتبطة بمفهوم المبدع وعصره (وما انفكت الأمثال
في الناس سائرة) ثم تتجاوزهما لتصبح حكاية إنسانية. والقارئ المرهف من تنكشف لـه
خبايا القصتين في أسلوبهما السردي التصويري الشائق الممزوجتين بالألوان والحركة
والإثارة الجذابة في العناصر التراثية أو الواقعية.. وهي في ذلك كله لم تقترب من
حدود النثرية، لأنها حافظت على عناصر الشعرية (العاطفة والرؤية والخيال والإيقاع)
ووظفت السردية لها.
ومن الواضح أننا انتزعنا البيتين السابقين من
القصيدة لأنهما نقطة التقاء وانتقال بين القصتين اللتين تنتميان إلى مفهوم النص
السردي؛ وهو لا يدرك إلا بإيراد القصيدة كاملة. فالنص "السردي يهب نفسه
للمتلقي في توافق مدهش يدعوه لاحتوائه مرة واحدة"(47) حين يبعث فيه ألق
التوهج العاطفي الذي يختلف بين متلقّي النص السردي الشعري ومتلقي النّص السردي
النثري... وفي كليهما تسهم العناصر التراثية المختزنة في الذاكرة الشعبية في تشكيل
النصوص السردية؛ وبأشكال سمعية وبصرية وحركية. وهذا ما نجده في أسطورتي الحمامة
والغراب اللتين تناولهما أمية بن أبي الصلت. ويذهب محقق الديوان إلى أن قصة
الحمامة مأخوذة من التوراة وكان أمية يقرأ الكتب الدينية فنقلها في شعره،
ومنها(48):
بآيةِ
قام ينطقُ كُلُّ شيءٍ
|
|
|
وخانَ
أمانةَ الديكِ الغرابُ
|
وأُرسلَتِ
الحمامةُ بعد سَبْعٍ
|
|
|
تدل
على المهالك لا تَهابُ
|
تلمَّسُ
هل ترى في الأرض عَيْناً
|
|
|
وغايتها
من الماء العُبابُ
|
فجاءَت
بعدما ركضت بِقطْفِ
|
|
|
عليه
الثَّأْطُ والطينُ الكُبابُ
|
فلما
فرَّسوا الآياتِ صاغوا
|
|
|
لها
طوقاً كما عُقِدَ السِّخَابُ
|
|
|
|
فالأبيات الخمسة جزء من قصيدة مجموعة في الديوان
في اثنين وعشرين بيتاً؛ تحدثت عن قصة طوفان نوح (عليه السلام) وجاءت قصة الحمامة
التي دلت على اليابسة في معرضها؛ فوُهبت عقداً جزاء فعلها الحسن؛ حتى صارت هذه
القصة تفسيراً للطوق الذي يزين عنق الحمائم. ولما كسبت في رحلتها هذه الزينة فقدت
ابنها (ساقَ حُرّ)، فطفقت تنوح عليه؛ وأصبح صوتها رمزاً للحزن منذ ذلك الحين، أي
جعلت تلك القصّة لتفسير رنة الحزن على ابنها؛ بمعنى أنها وُضِعت العلة لغير
المعلول عند الجاهليين، مثلما قام عدد من الدراسات الحديثة باغتصاب العناصر
التراثية من سياقها وتوجيهها وفق نزعات شتى... فقد امتزج كثير من التحليلات
بتأويلات مشبعة بالتخييل والإيهام مستمدة من مناهج عديدة أبرزها المنهج الأسطوري،
والمنهج النفسي وعالم كل واحد منهما...
نحن نقر بأن التكوين النفسي، أو ما سماه القدماء
(الطبع)، يدفع المبدع إلى إطار ما؛ فالشاعر "يلزمه إطار شعري؛ والقَصَّاص
يلزمه إطار اكتسب بكثرة الاطلاع في ميدان القصة... إن الشاعر بالمعنى الدقيق لهذه
الكلمة شخص يحمل إطاراً شعرياً أقوى من كل أطر التعبير الأخرى؛ وهذا ناتج إلى حد
ما عن كونه اهتم بتذوق الأعمال الشعرية أكثر من غيرها"(49)... ولكننا لا نقر
بأن مدخلاته الثقافية حكر على الأعمال الشعرية. فأمية كان يقرأ الكتب الدينية،
ومنها استمد قصة الحمامة المطوقة، وفصّل فيها دون غيره من الشعراء الذين لم يطلعوا
على تلك الكتب. لهذا جاءت حكايتها لديهم إشارات يسيرة بخلاف ما لديه. وأياً ما يكن
أمر هذا المنهج أو ذاك فإنهما قدَّما تفسيرات مثيرة، قد نقبل عدداً منها؛ لأن
الصورة الشعرية مشبعة في بعض جوانبها بالرمز والمجاز والإيماء؛ وباعتبار أن
"تشكيل الصورة الشعرية معضل ـ ولا شك ـ وتشكيل صورة القصيدة أكثر إعضالاً.
وما زلنا في حاجة إلى إضافات علمية تلقي مزيداً من الضوء على هذه القضيّة. فلماذا
يلجأ الشاعر إلى تشكيل الصورة على هذا النحو... وما المعايير التي يصدر عنها في
خلق علاقات بذاتها بين هذه الرموز المتباعدة غير المرتبطة من قبل"(50).
بهذا كله ندرك أن القيم الفنية المتعددة قد تدفع
القارئ إلى اتجاهين أو مستويين من القراءة؛ المستوى الظاهري المباشر والقريب،
والمستوى الباطني الخفي البعيد.... ولن تنكشف وظيفة أي مستوى ولا غايته إذا عجز
القارئ عن فهم العناصر الفنية والقيم الجمالية التي يستند إليها النصّ الشعري....
ودون أن يغفل لحظة واحدة عن التفريق بين أشكال النصوص وهيكلها فمنها القصائد
البسيطة ومنها المركبة. فالوظيفة والهدف يستفزان العقل والمشاعر في كل زمان ومكان
ولكنهما محمولان بوساطة تلك القيم، ومرتبطان زمانياً ومكانياً ونفسياً بالمبدع
ومجتمعه وتاريخه وواقعه... فأينما تطلعت إلى الشعر الجاهلي في أي مصدر من المصادر؛
ديوان شعر أو مجموعة أشعار، وقصائد أو مقطعات فإنك ستجد "أنه إحساس بجوانب
الحياة المختلفة؛ وأنه جزء من حياة قائليه على كبرها أو صغرها وثروتها... أو لم
يكن موضوع حياتهم هو موضوع شعرهم، وموضوع شعرهم هو موضوع حياتهم"(51)؟ ولعل
"فهم مهمة الإطار عند الشاعر لا يتأتى إلا بإدراك دلالته في الكل النفسي لهذا
الشاعر. وإلا فالحدود لا تزال مختلطة بين الإطار لدى المتذوق والإطار لدى
المبدع"(52).
فأي مبدع ينطلق من أثرٍ ما أو فكرة ما؛ ولهذا
استقرت فكرة الدوافع والمواقف والأوقات والمؤثرات العديدة الصانعة للإبداع عند
القدماء العرب شعراء ونقاداً. وهو ما كنا فصّلناه في كتابنا (إبداع ونقد) وبينا
فيه ماهية الإبداع ومراحله ومستوياته... ونعتقد بأن الدوافع مرتبطة بالحياة عند
ابن قتيبة بمثل ارتباطها بالنفس(53)، والشعر وفق هذا المبدأ ينطلق من النيّة عند
ابن رشيق(54). وكذا هو الناقد الحديث ينطلق إلى نَص ما بإرادته واختياره، على ألا
يحمل تجاهه رأياً مسبقاً على معرفته به... وإنما يترك الحكم للنص نفسه. فالطرائق
الفنية متلبسة بالحالة الشعورية والاجتماعية والثقافية باتجاهها العفوي أو
المقصود. ومن هنا تتنوع الرسائل التي تحملها الطبيعة الفنية للنص منذ المطلع حتى
النهاية؛ مع الإشارة إلى أهمية ما قاله طه حسين في الوحدة المعنوية للنصّ الجاهلي.
وما أخَلَّ بهذه الوحدة عنده إلا الاضطراب الذي أحدثته الرواية الشفوية لأن
"الشعر القديم لم ينقل إلى الأجيال مكتوباً، وإنما نقلته الذاكرة، فأضاعت
منه، وخلطت فيه"(55).
فالقصد متجه إلى المَطْلع والوَسط والخاتمة في
بنية فنية معنوية كما يستدل عليه من وقوف القدماء عند مفتتح القصائد. فابن قتيبة
مدح الشاعر الذي يريك القافية في صدر البيت(56)، وحازم القرطاجني يقول:
"وملاك الأمر في جميع ذلك أن يكون المفتتح مناسباً لمقصد المتكلم من جميع
جهاته. فإذا كان مقصده الفخر كان الوجه أن يقيم من الألفاظ والنظم والمعاني
والأسلوب ما يكون فيه بهاء وتفخيم... وكذلك سائر المقاصد. فإن طريق البلاغة فيها
أن تفتتح بما يناسبها ويشبهها من القول من حيث ذكر"(57).
فالشعر لـه وظيفة وهدف يؤديهما في الحياة قديماً
وحديثاً. ورسالته تختلف عن الرسائل التي تحملها الأنماط الفنية الأخرى(58). وما
انتهى إليه النقاد العرب القدماء يشبه دراسات الشكلانيين في الغرب؛ وإن اهتم هؤلاء
بالرسالة الشعرية في حد ذاتها؛ واللغة الشعرية عندهم لها عدة وظائف إحداها الوظيفة
الشعرية(59).
فهناك حلول للحياة "ولعقل المبدع وروحه في
عمله بشكل حي
محسوس"(60)، أو بشكل ذهني متخيل. ولهذا فإن خصوبة المشاعر والأفكار تكمن في
العناصر الفنية وطريقة طرحها في السياق الفني... والسياق الفني وحده يملك الحق
بتوجيه القارئ إلى إدراك المستويين الظاهري والباطني للرسالة التي يحملها النص
الشعري. ولا شيء أدل على تمايز الهدف والوظيفة من تنوع الأغراض والموضوعات وطبيعة
نشأتها. فالمدح ـ مثلاً ـ نشأ على يد امرئ القيس في الممتازين الذين أعجب بصنيعهم
وأثنى على فعلهم دون إِرْبَة أخرى(61). ثم تطور ليتصل بالملوك والأمراء والسادة؛
ومن ثم ليغدو مادة للتكسب في أواخر العصر الجاهلي؛ وكان قد بدأ بالمقطعات ثم انتهى
إلى القصائد وغيرها .
وفي مثل هذا المقام تتأصل فكرة الزمن للنص
الإبداعي في تطوره التاريخي؛ إن استطعنا أن نقف على تاريخية نشأة موضوع من
الموضوعات كما اتضح لدينا سابقاً. وهذا وحده يمثل قيمة فنية لجيل من الأجيال
ولمبدع من المبدعين، لأنه يوقفنا عند أبعاد التطور الفني، في الوقت الذي يحدد
تاريخيته الزمانية للموازنة مع غيره، ومن ثم فالتحليل الجمالي القائم على إدارك
العناصر الفنية ووحدة القصيدة وأسرارها يصبح جزءاً أصيلاً مرتبطاً بالغرض والوظيفة
اللذين يرمي إليهما النص، لأنه هو نفسه مرتبط بالمبدع والوسط المحيط. وقد كان
الشاعر الجاهلي متقدماً في هذا الاتجاه حين بنى شعره على غرض ما؛ ومن ثم رأينا
الشاعر المتكسب يصرح بطلب العطاء...
وذلك كله ما أدركه من قبل ابن قتيبة وابن رشيق
وحازم القرطاجني، وغيرهم. وكأنهم أحسوا قبل المحدثين أن هناك مستويين للنص مستوى
ظاهرياً ومستوى باطنياً خفياً. والشعر الصحيح "لا يكذب وإذا بدا مخالفاً
للواقع، فذلك لأنه يهتم بالباطن لا بالظاهر"(62). ويقول حازم القرطاجني:
"والأغراض هي الهيئات النفسية التي ينحى بالمعاني المنتسبة إلى تلك الجهات
نحوها، ويمال بها في صَفْوها لكون الحقائق الموجودة لتلك المعاني في الأعيان مما
يهيئ النفس بتلك الهيئات"(63). "وكل غرض من تلك الأغراض يتطور معجمه
تطوراً ما تابعاً للتحولات المجتمعية"(64).
لهذا كله فإن للشعر جهات يتوجه إليها متعلقة
بالأغراض سواء أكان ذلك على المستوى الظاهري أم الباطني.
فالمستوى الظاهري يتجه إلى وظيفة محدودة بموضوع
يلح عليه المبدع، وكأنه أشبه بخبر أو حقيقة مؤكدة يبلغها الآخرين. وقد يعرض هذا
الموضوع بشكل مباشر ومكثف؛ أو بشكل مطوّل تكتنفه لغة مثيرة وصور تحتاج إلى التأمل
ولكنها غير عويصة الفهم؛ وغالباً ما تكون مستمدة من البيئة. فهي تعتمد على الخيال
المحافظ أو المبتكر في إطار من الواقعية والصدق وقد انتزعها بوساطة الحواس. ويصبح
الخيال في مثل هذه الحال "سبيل العاطفة لإدراك حقيقة أسمى من حقائق
العلم"(65). وهذا ما نجده في عدد من النصوص الجاهلية كما في شعر لقيط الإيادي
إلى قومه. وهو شعر ينتمي إلى فن
الرسائل الشعرية بما تقوم عليه من هدف وفن ذي ملامح خاصة يفرقه من غيره؛ وهو(66):
سلامٌ
في الصحيفة من لقيطٍ
|
|
|
إلى
من بالجزيرة من إيادِ
|
بأنَّ
اللَّيْثَ كِسْرى قد أتاكم
|
|
|
فلا
يَشْغلْكُمُ سَوقُ النِّقَادِ
|
أتاكم
منهمُ ستون ألفاً
|
|
|
يَزُجُّون
الكتائبَ كالجَرادِ
|
على
حَنَقِ أتَيْنَاكُمْ فهذا
|
|
|
أوانُ
هلاككم كهَلاك عادِ
|
|
|
|
فهذا النص الشعري يمثل بتمامه رسالة قصيرة واضحة
الغاية والوظيفة، وقد انبثق قصر حجمها من هذا الهدف، وتلك الوظيفة التي بنيت عليها
وهي إعلام بني إياد بجموع كسرى الزاحفة للاقتصاص منهم... وإن لم يأخذوا بنصيحته
فسيصيبهم ما أصاب قبيلة عاد... فالعنصر التراثي التاريخي (هلاك عاد) كان معروفاً
للقيط وقومه ولأبناء القبائل العربية... ولهذا صاغه في إطار رمز فني يدل على
الإنذار المخيف، الذي يقطع دابرهم عن بكرة أبيهم كما حصل مع عاد... فجموع كسرى في
هذه الرسالة الشعرية تمثل الموت المحقق الذي أحدثته أسباب موت عاد...
وإذا كنا لا نرغب في أن نتحدث عن الرسائل
الشعرية الجاهلية في هذا المقام، لأنه ليس مخصصاً لها؛ فإننا نرجح أن هذه الرسالة
(النص) ينتمي إلى المستوى الأول الظاهري الواضح للناس ثم لنا... وهو غير ملبس في
الصورة الشعرية، لشهرة الحادثة بين القوم وتناقلهم لها جيلاً إثر جيل... علماً أنه
قد تقع نصوص أخرى من الرسائل في مستوى بعيد الغور. فمستويات النصوص متفاوتة
فالظاهر يختلف عن المستوى الباطني الخفي الذي ينفتح في بنيته اللغوية والتركيبية
والتصويرية على احتمالات عديدة ذاتية ومعرفية... علماً أن لغة "الشعر ليست
إشارية بمقدار ما هي شعرية؛ وهي شعرية كلما ابتعدت عن الإشارية"(67). فلغة
الشعر لغة مجازية تقترب من الرمز في بعض الأحيان؛ ولهذا يصبح الرمز "وسيلة
إدراك مالا يستطاع التعبير عنه بغيره، فهو أفضل طريقة ممكنة للتعبير عن شيء لا
يوجد لـه أي معادل لفظي، وهو بديل من شيء يصعب أو يستحيل تناوله في
ذاته"(68).
وهذا ما نراه في حكاية الذئب الجائع التي حكاها
المرقش الأكبر في صميم قصيدته التي تبلغ عشرين بيتاً. وكان المرقش أول من تحدث عن
صورة الذئب رامزاً به إلى البدوي الجائع الذي يضرب في عرض الصحراء وطولها... وساق
ذلك بصور واقعية حسية ذات دلالات ذهنية. فالمرقش ما حكى هذه القصة الشعرية إلا
ليبزر ازدهاءه بكرمه الذي خرج في تلك البادية الشحيحة الموارد إلى من لا يستحقه
ممثلاً بالذئب الغادر... على الرغم من حاجته هو وأصحابه إلى الطعام؛ فقال ابتداء
من البيت الرابع عشر: (69)
ولما
أضأْنا النار عندَ شِوائنا
|
|
|
عَرانا
عليها أَطلس اللَّون بائسُ
|
نبذْت
إليه حُزَّةً من شوائنا
|
|
|
حياءً،
وما فُحْشي على من أُجالسُ
|
فآضَ
بها جذلان ينفضُ رأسهُ
|
|
|
كما
آب بالنَّهبِ الكَميُّ المُخالِسُ
|
|
|
|
ولا يشك باحث ما، في أن الهدف الوظيفي لهذا المقطع
وما ماثله من المقاطع الأخرى في القصيدة الجاهلية؛ لهذا الحيوان أو غيره(70)، يكمن
في ذهن المبدع، وعلى القارئ أن يدركه، ولعل بعض الباحثين قد حاولوا تحليل ذلك حين
توقفوا مفسرين لمفهوم المقدمة الطللية وسكنى حيوان الوحش فيها... ولعل أهم ما
وقعوا فيه من مزالق أنهم جمعوا سياقات فنية متعددة من قصائد شعراء آخرين واستخرجوا
لها نظاماً واحداً يجمعها(71). وهذا غير دقيق ـ على أهمية اجتهادهم ـ فكل قصيدة
تملك سياقاً فنياً خاصاً بها؛ وإن ما نقوم به في حالة الموازنة من السياقات الأخرى
إنما يكون لإيضاح ما نحلله من نصوص... فاستدعاء أي نص للموازنة يقوم على شروط
موضوعية وأهداف منطقية تتطلبها طبيعة المعالجة والتفسير المستمد من النص، وليس
بناء على رغبة مسبقة لهدف ما.
وعلى أهمية مبدأ النقد الداخلي الذي يقارب
كثيراً منهج التحليل الجمالي وما ينتهي إليه من مفاهيم دلالية في جعل التجربة
الحياتية والوجودية تتحقق في العمل الأدبي؛ لأن التجربة الأدبية ذات جوهر روحي ـ
وهذا مستمد بتمامه من النقد الموضوعي في الغرب(72) ـ نقول على أهمية ذلك فإننا لا
نرى نظاماً ثابتاً لهذه الجمالية عند شاعر واحد.... ومن ثم عند الآخرين... وهذا
كله نتيجة لاختلاف الهدف والوظيفة ومن ثم المؤثرات والدوافع الأخرى.
وهناك من يعتقد أن لكل ظاهر باطناً(73)؛ ولكن
ليس بالضرورة أن يكون هذا مطرداً. فالقارئ عليه أن يفكك العناصر الفنية للنص
بحساسيته النقدية وأدواته التي خبرها بدقة واتزان موازناً بين النصوص المماثلة
والمخالفة؛ بل بقية الآثار التراثية(74)، لفهم التجربة الإبداعية وإعادة تركيب
عناصرها بشكل لا يشوهها وإن أتاحت لـه فرصة الإثراء والتفسير. وعلى قيمة ما انتهى
إليه من تأويل وتفسير في ضوء المناهج النقدية والاتجاهات الأدبية والعلمية لا يجوز
أن يحاكمها في ضوء هذا كله... بل تظل محكومة بالتحولات الفنية والنفسية
والاجتماعية والثقافية للمبدع والعصر...
ومن هنا وجدنا خبطاً عجيباً في النصوص التي
انفتحت على احتمالات عدة كالمقدمة الطللية، ومشاهد حيوان الوحش، وجملة من العناصر
التراثية القصصية والإخبارية... وربما انتهى هذا الخبط إلى جملة من الأغراض
الشعرية أيضاً(75). وهناك من استخدم نتائج التحليل النفسي التي انتهى إليها فرويد –ولا
سيما ظاهرة الكبت وارتباطها بالدوافع الجنسية(76)- في ممارسة عقد على عدد من
الشعراء القدامى كالخنساء مثلاً(77). فمن لم يستطع الوصول إلى النشوة الجمالية
الفنية الخالصة، واللذة المثالية مارس دوافع الكبت لديه على الفن.. وهذا لا يعني
أنه لا يوجد جملة من الدوافع وراء الفن؛ ولكن ليس بالضرورة أن تكون شاذة كتلك التي
ساقها فرويد ومن تبعه.. فالدوافع الجنسية الطفولية ومن ثم البهيمية ليست بدائية في
أشكال الفن فهي تتطهر مع نمو الشخصية الذاتي والمعرفي والأخلاقي.. وهذا ما رأيناه
في شعر امرئ القيس مثلاً، على الرغم من صور التصريح لمغامراته الجنسية(78)، وكان
متعهراً بشعره.
هكذا ندرك أن "هدف الشعر والفنون نقل فكرة
أو موضوع متخيل" حيناً؛ وعفوياً فطرياً حيناً آخر.. وفي الحالتين يبرز الانفعال
الشعوري متلبساً بالوظيفة والهدف وليس عرضياً(79). وفي الوقت نفسه ندرك أن
"الشعر الجاهلي من أروع ثمرات الأدب العربي؛ بل اللذة الفنية التي يعطينيها
لا تقل في إمتاعها –وإن اختلفت في نوعها- عن اللذة التي أحصل عليها من الشعر
الإنكليزي.. وجمال الشعر الجاهلي يقوم على صدق تصويره لحياة أهله في بيئتهم وفي
زمنهم وفي دقة هذا التصوير واستيفائه، دقة واستيفاء نتج عنهما أنه لا يقتصر على
أحوال عصره الوقتية المنحصرة في حدود الزمن والبيئة؛ بل يضرب إلى جذور العاطفة
الإنسانية على تعدد مظاهرها"(80).
ولا ننكر أن نظام الحياة الجاهلية نظام محدود
بالفردية والقبلية(81).. غير أن هذا النظام لم يجعل الفرد يذوب ذوباناً في القبيلة
–كما نراه لدى عدد من الدارسين- وإنما جعل حياته لا تقوم إلا بآصرة القبيلة، لأن
البيئة والطبيعة فرضت ذلك. ولهذا وجدنا الشاعر الجاهلي أو غيره يضع نفسه طواعية تحت
لواء الجماعة ويصبح صوته صوتاً جماعياً، وعاطفته الشخصية عاطفة جماعية في أغلب
الأحيان؛ وإنّ خيّل لأول وهلة أنها عاطفة فردية، وهي ليست طاغية على الشخصية
الجماعية. ومما يدل على هذا كله شعر الهجاء الجاهلي؛ فهو شعر يظهر في طبيعته أنه
شعر فردي شخصي، وليس هجاء اجتماعاً محضاً، ولكنه في حقيقته شعر اجتماعي خالص
"فكان الرجل يهجى لا لأنَّ به صفات شخصية رديئة؛ بل لأنه تنقصه فضائل
اجتماعية يعدها العرب واجبة الوجود في الرجل ذي المنزلة في المجتمع
الجاهلي"(82).
وفي ضوء ذلك يطرد مفهوم العاطفة الجماعية في
النماذج الشعرية الجاهلية دون أن تلغي العاطفة الفردية. وهذا يغاير ما ذهب إليه
أحد الباحثين من ارتباط النص الإبداعي "بالمنفعة والمتعة الشكلية
الخالصة"(83). فهناك "نماذج أمكن لها أن تتجاوز هذه الحرفية إلى التعبير
عن تجارب إنسانية خالدة؛ تنبَّه عليه الجاحظ في بناء قصيدة الرثاء والمدح التي
استخدمت الكلاب وبقر الوحش(85)، ومن ثم تنبه عليه ابن قتيبة في بناء منهج
القصيدة(86)، المعبر عن حياة العرب.
ونستذكر مرة أخرى في مستويات قراءة النص الجاهلي
أنه ينتمي إلى عصر واحد من عصور الشعر العربي؛ ونظامه الفني ومضمونه الوظيفي يعبر
عن العصر الذي ولد ونشأ فيه. وهو غير محدود إذا قيس بمن سبقه من العصور لا في
ثقافته ولا في تقاليده الاجتماعية والفكرية.. أما إذا قيس بالعصور اللاحقة كالعصر
العباسي فإنه ظلم له، ولطرائقه الفنية ونظام القصيدة والحياة(87)، دون أن ننسى
لحظة واحدة أن آلية الثقافة كانت تعتمد آنذاك على الرواية التي تختزنها الذاكرة
الشعبية. والنص أولاً وآخراً منتم إلى مبدعه بكل سمات الإبداع.. وهذا لا يعني أن
عناصر النص عناصر جامدة؛ غير متحركة، ولا فاعلة؛ ولا توحي إلا بتلك الحالات من
الانتماء.. وكأنها أكفان موتى.. ولو صدق هذا لانتفى الإبداع والتقدم الفكري والفني
والأدبي.. وبقي كل منا عند قدم المبدع الأول.. ونحن –وإن كنا نؤكد مفهوم انتماء
النص؛ لأننا لا نؤمن بقتل الآباء –نؤمن بأن النص بكل مقوماته الفنية يغدو بين يدي
القارئ الناقد وسيلة إبداع على إبداع وهو ينفتح منه على الماضي والحاضر بكل حيوية
الاستجابة له.
فالقارئ الواعي المتوازن المرهف المثقف صاحب
الأدوات النقدية والمنهجية من يرتقي إلى الانفتاح على النص الإبداعي.. ولذلك لا بد
لهذا القارئ من شروط ذاتية ومعرفية.. وهو وحده الذي يغني القراءة وتتنوع على
يديه.. وهذا ما نتحدث عنه فيما يلي.
ثبت لنا مما تقدم أن مبدع النّص يلتقي بالقارئ
مرتين مرة بالحس والمشاعر فيترك لديه أثراً ذاتياً تلقائياً وعفوياً، ومرة أخرى
بالوظيفة (المضمون والهدف) التي تقدمها العناصر الفنية وتختلف في مستوياتها الفنية
والإبداعية تبعاً لذلك. وهذا الثنائية قائمة، ما وجد للنص غرض وقيم جمالية، وما
وجد القارئ المتذوق المثقف. فالقراءة حالة فنية شعورية وذهنية ثقافية؛ تتنوع بتنوع
التجربة الإبداعية، وبمقدار ما يتصف به القارئ من خصائص. ومن هنا فإن درجات
التفاوت في القراءة كامنة بين يدي متلقي التجربة الإبداعية؛ وإن حدث للوهلة الأولى
أثر ذاتي ما في النفس. فالجانب الذاتي والموضوعي المعرفي أساس تنوع قراءة النص
الأدبي وإثرائها.. فكل عمق عاطفي يموج في صميمه كل ما هو نفسي واجتماعي وثقافي
وتاريخي وديني ومكاني وطبيعي.. و.. وإن كان المنطق الأساسي يتمثل بمواجهة النص
الإبداعي.
وفي صميم هذا الإدراك لسنا مع اتهام المبدع بمرض
ما؛ وإن كان بعض المبدعين غير بريء من علة ما(88)؛ وإلا لأصبح المبدعون جميعاً
مرضى. ولعل مسبار النقد الحقيقي يتحسس مقومات كل نص في إطار منهج تكاملي يوفق بين
المناهج الحديثة كلها لتصبح نظاماً نقدياً إبداعياً للتعامل مع النص الأدبي.
وبهذا كله يكمن سر التناغم العاطفي والفكري
والمعرفي بوساطة التجربة الإبداعية بين المبدع والمتلقي؛ دون إغفال لتجربة الحركة
النقدية والأدبية القديمة والحديثة. ويدل على ذلك أن يونس سُئل عن ابن أبي إسحاق
وعلمه: أين "علمه من علم الناس اليوم؟ قال: لو كان في الناس اليوم من لا يعلم
إلا علمه يومئذ لضُحك منه؛ ولو كان فيهم من لـه ذهنه ونفاذه، ونظر نظرهم كان أعلم
الناس"(89).
فابن سلام في نقله هذا الخبر يؤسس مقولة
الانتقال إلى رحاب النص وتأمله، والوقوف في محراب المعنى الحقيقي؛ ولا يعزله عن
المؤثرات والعلوم والمعارف التي تتغير بتغير الزمان والمكان.
وبهذا فإن التجربة الإبداعية بين حالتين إما أن
تجد قارئاً واعياً مدققاً مقارناً متتبعاً جريئاً.. وإما أن تجد قارئاً لم يستطع
أن يرتقي إلى مستوى التجربة الإبداعية فنياً وذاتياً ومعرفياً ومنهجياً.. فلم
يتهيأ لـه الانفتاح عليها في مستوياتها الوظيفية والفنية. بيد أنها قد تجد قارئاً
امتلك أدوات النقد الذاتي والمعرفي ولكنه سخر قدرته وذاتيته ومعرفته لعصبية قاتلة
أو هوى جارف، أو رغبة آنية.. فانتهى إلى تأويلات لا تتفق بأية حال مع التجربة
الإبداعية؛ بل إن قراءتين لشخص واحد قد تختلفان في "وقتين مختلفين إما لأنه
نضج إدراكه العقلي وإما لأنه ضعف لظروف عارضة". فالتجربة لن تتساوى
أبداً"(90)، في مثل هذه الظروف.
فالنّص الإبداعي أياً كان مستواه الفني والوظيفي
في أي زمان ومكان يحتاج إلى قارئ ناقد مثقف موهوب.. يدرك جنس المقروء ولغته
وخصائصه وتحولاته اللغوية والفنية والوظيفية ويربطه بالمخزون الثقافي والاجتماعي
والتراثي.. بحساسية الناقد الفني المنفعل بكل أثر جميل.. وهذا يعني ألا نحسن الظن
بكل متلق أو قارئ إذا تعلق الأمر بالنتاج الأدبي.. فكم من ناقد قارئ شوه ملامح
العديد من النصوص الإبداعية؛ ظناً منه أنه الناقد الوحيد العالم بالأسرار، وهو غير
دارٍ بما يفعل. ومن هنا لا بد لـه من امتلاك الشروط الذاتية والمعرفية للقراءة
ليستطيع بها أن يغني النصوص ويقدمها على وجهها الحقيقي. لأنه ما من نص إبداعي –أياً
كان نوعه- إلا وهو يتأثر بآليات القراءة مثلما يتأثر بالعناصر الفنية والقيم
الجمالية التي يتكون منها.
ويجب أن تكون الشروط وآليات القراءة شروطاً
عفوية فطرية.. ومن ثم مكتسبة وأصيلة ومتوازنة وموضوعية ومتعاونة في إطار شمولي
موحد.. وقد استندت إلى طبيعة كل أدب وجنسه ووظيفته.. ومن ثم يتهيأ صاحبها للدخول
إلى القراءة بذهن منفتح على كل الاحتمالات سواء أكانت ذاتية أم معرفية؛ ونبدأ
بالذاتية.
حينما تكون العاطفة إحدى أهم عناصر النّص فنياً؛
فإن هذه العاطفة هي التي تحرك القارئ للقراءة التكاملية؛ فتترك فيه انطباعات
مبدئية قد تكون صحيحة وقد تكون خادعة. لأن هذه الانطباعات الذوقية تمهد لعملية
الاختيار والاصطفاء وإصدار الأحكام النقدية.. ولهذا لا بد للقارئ أن يتسم بشروط
ذاتية أهمها:
1- التوازن والاتزان العاطفي والجسدي: إن الأثر
الذي يتركه نص ما قد يكون سلبياً أو إيجابياً؛ بسبب من التوتر النفسي أو التعب
الجسدي أو العكس تماماً. ولهذا يمكن للقارئ أن يتهيأ تهيؤاً كاملاً بكليته
المتوازنة الهادئة لكي يجري عملية تفاعل مع النّص قائمة على المعايشة المتزنة
الموضوعية المستندة إلى العلاقات الفنية فيه بمعزل عن أي تأثر ذاتي من أي نوع كان
دينياً أو مذهبياً أو قومياً..(91)، أو جسدياً أو نفسياً.
2- الموهبة الفطرية والذكاء العفوي والفطنة
الحذرة والحساسية الفنية والنقدية الأصيلة والمكتسبة؛ والإرهاف الحسي الدقيق..
فهذه
الصفات الذاتية –إذا توافرت في القارئ الناقد- تجعله يدرك روح النّص ويفك
الملابسات الخفية، ويستوعب قيمه الجمالية التي تتقاطع ذاتياً مع مثيلاتها في تجارب
إبداعية أخرى. وبهذا لا ينعزل الحس النقدي العقلي المكتسب عن الحس الفطري الصادر
أصلاً عن القيم الجمالية والفنية لبنية النص ووحدته.
3- الحياد والنزاهة: النية المفترضة في القراءة
تحاول جاهدة إدراك ذاتية المبدع وفهم وسطه المعيش وما توحيه العناصر الفنية.. وليس
ما يُوحيه انتماء القارئ أو جنسه أو هواه.. فلا يجوز إكراه المستويات الوظيفية
المنفتحة على احتمالات فكرية ومنهجية وثقافية.. لفكرة ما، أو لحزب ما، أو لرغبة
آنية وميول خاصة دائمة أو مؤقتة.. فالقارئ الدقيق المتزن الذي يُغَيّب ذاتيته
المُسْبَقة – مؤقتاً- وهو مقبل على قراءة نص ما يستطيع أن يدرك جوهره ويحلّق في
فضائه الروحي دون أن يشوهه. وبهذا يصبح باعثاً للنص محيياً إياه لا مشوهاً لـه ولا
ناسخاً ولا مقلداً.. و.. ويبرأ هو ومبدعه من الأحكام المعدة سلفاً والمبيتة
مسبقاً. ولعل أكثر ما ابتلي به الشعر الجاهلي إنما جاءه من قراء لم يتحلوا بالحياد
والنزاهة والتوازن والموضوعية.. ودخلوا يحللونه في ضوء أحكام جاهزة مستمدة من هنا
وهناك..
وقبل
أن نضرب أمثلة لذلك لا بد من استكمال الشروط المعرفية..
إذا كان من واجب القارئ الناقد أن يغيب ذاتيته-
مؤقتاً- في مواجهة التجربة الإبداعية فمن وجه أولى أن يُسْكت وعيه المعرفي والفني
والمنهجي والعلمي واللغوي الحديث(92)، لمرحلة زمنية مؤقتة ريثما يستوعب الحركة
الزمانية لأي تجربة إبداعية؛ ومن ثم يمارس كل ما يملكه لكشف أسرارها..
ويعد هذا المبدأ ضرورة في دراسة الشعر القديم
عامة والجاهلي خاصة؛ ليكون النص الإبداعي وحده مصدر الإلهام للتحليل والتفسير، أي
علينا ألا نجعله يخرج من روح نصوص أخرى في البداية؛ فندخل في رحابه، ثم نستدعي إلى
الذاكرة النصوص الجاهلية الأخرى؛ لأن دائرة التشابه في الشعر الجاهلي كبيرة في
الصور واللغة بل المعاني. وهذه هي الصورة الوحيدة لأصل الشعر عند بعض النقاد
الغربيين(93). وهي جزء من منهج التناص، لأن المخيلة الشعرية تستدعي عدداً من
النماذج في بناء صورها الشعرية.
ولهذا كله نعتقد بأن القارئ الجيد المتمتع
بالصفات الذاتية السابقة يتصف بعدد من الصفات الموضوعية الأخرى وأهمها:
فالقارئ الذي يتحلى بهذه السمات يرفع درجة
الفطنة والحذر لديه، وينمي أصالة الحس والذوق المرهف، ويقوي قدرة المحاكمة الذاتية
والعقلية الفطرية والمكتسبة؛ ويصقل خبرته. فالوعي يقوى بالممارسة الهادئة المستمرة
فيصبح قادراً على تلقي النّصوص على اختلاف الأوقات والأماكن؛ ولن يتأثر بأي عامل
في إدراك الأبعاد الفنية والفكرية..
نحن نتوخى من القارئ أن يمتلك وعياً معرفياً في
اتجاهات عديدة أدبية وفنية ونقدية ومنهجية وثقافية ودينية.. وأن يطلع على عدد من
العلوم المساعدة الأخرى، التي تردف وعيه المعرفي واللغوي والموسيقي سواء كانت
علوماً قديمة أم حديثة؛ عربية أم أجنبية. ومن ثم يمكن أن يستفيد من نتائج ذلك كله
لدراسة الظواهر الأدبية والنصوص الإبداعية؛ منطلقاً منها، ساعياً إلى فهمها ومن ثم
استيعابها وتحليلها.. دون أن يُكْره السياق الفني على أي تصور يميل إليه مسبقاً،
أو أي مذهب يتبناه من أي نوع كان. "إن معنى الشعر يعتمد على السياق: فالكلمة
لا تحمل معها فقط معناها المعجمي بل هالة من المترادفات والمتجانسات. والكلمات لا
تكتفي بأن يكون لها معنى فقط بل تثير معاني كلمات تتصل فيها بالصوت أو بالمعنى أو
بالاشتقاق"(94).
فالوعي المعرفي العلمي واللغوي الشامل يلقي
مزيداً من "الضوء على العمل الفني واستكشاف أبعاد التجربة، أو التجارب التي
يقدمها، وتفسير الدلالات المختلفة التي تكمن" في بنية النص اللغوية
والتصويرية والموسيقية والعاطفية.. وفق التحولات الكبرى للعملية الفنية أولاً
ولمجتمعه وعصره وثقافتهما ثانياً(95).
ومن هنا يلتزم القارئ المعايير المنهجية
والنقدية والوعي المعرفي واللغوي في إطار ما يبيحه لـه السياق الفني من تدخل فيه.
أي إنه يُسخِّر وعيه الشامل والأصيل لإغناء النّص لا تحميله مالا يطيق.. وهذا
يلزمه دائماً بالتحفز والحذر والحيطة من الإيغال أو الإفراط أو التقصير والفوضى.
ونحن ممن يؤمن بأن القارئ الجيد الواعي المتزن..
يوظف ما يملك لتحليل نصّ ما؛ أو إعادة تشكيله في سياقات دلالية متنوعة ونابعة من
بنيته وعناصره في إطار المظهر اللفظي والتركيبي والإيقاعي والتصويري والدلالي.
وإذا توافرت هذه القراءة الواعية العميقة
المدققة أصبحت القراءة النقدية بناء هرمياً مبنياً على أسس منهجية صحيحة، وهي تؤدي
إلى نقل التجربة الإبداعية بدقة إلى الأجيال المتعاقبة. فالقراءة الصحيحة السليمة
من كل العلل والأدواء تعيد تشكيل النص الإبداعي بأسلوب جديد جذاب واعٍ، بديع،
ممتع، مفيد، مما يرشحها للقضاء على عبثية القراء الذين يتطاولون عليه دون أن
يملكوا أكثر الشروط من صفات القارئ الذاتية والمعرفية الشمولية والأصيلة. لهذا كله
شن الدكتور (رومية) هجمة كبرى على كثير ممن تناول الشعر القديم بالدرس ولا سيما
أصحاب المنهج الأسطوري؛ فانتهى إلى أن النقد العربي نقد مأزوم بأمثالهم بما ظنوه
من حداثة مموهة لم تستطع إدراك الأسرار العظيمة التي يكتنزها النص القديم على
الرغم من أنه بوّاح بمعانٍ كثيرة، فهو رؤية للذات والكون(96).
وبناء على ما تقدم من شروط القارئ الواعي الحر
المتسلح بالمنهج العلمي الدقيق وفي إطار اطلاعنا على غير قليل من الدراسات النقدية
والأدبية للشعر الجاهلي لاحظنا أن كثيراً من نصوصه عاش أزمة حقيقية حين وقع في
أيدي بعض من استبدت بهم ذاتية مغرقة أو معرفة قاصرة أو عصبية قاتلة.. فأخضع كل ما
قرأه لتحولاته الذاتية والمعرفية. وعمّق مفهوم هذه الأزمة عدد من الدارسين
المبدعين من النقاد العرب الذين استوعبوا أحدث أنماط المعرفة النقدية والأدبية
والعلمية واللغوية والفلسفية.. عند الغرب، فضلاً عما يمتلكونه من صفات ذاتية
ومعرفية أخرى.. ولكنهم كانوا في دراساتهم أسرى لتلك المعرفة الغربية وآليات
تطبيقها.. وهم كثرة على الساحة العربية. فلم يكوِّنوا تجربة نقدية معيارية أصيلة
وعامة تنطلق من طبيعة الأدب العربي، إذ كانت تجربة عدد منهم مصبوغة بالتجربة الإبداعية
الغربية، وسمي عدد من الشعراء العرب القدامى بأسماء شعراء غربيين مثل رامبو
ومالارميه.. وهي تجربة على مرارتها قد أحرزت فوائد متعددة في دراسة الأدب العربي
عامة والجاهلي خاصة. فرؤية ليفي شتراوس للثنائيات، ثم بنية حكايات (بروب) انتقلت
لتصبح دراسة طباقية وثنائية في معلقة لبيد بن ربيعة وطرفة بن العبد.. والرؤية
الواقعية الاشتراكية انتقلت إلى الجزيرة العربية في العصر الجاهلي لتربط الصعاليك
بها..
ومن يتعقب أمثال هذه الدراسات يجد أن الاتجاه
إلى الأسلوبية أخذ يطغى على غيره في الستينات والسبعينات؛ ثم أدى إلى تراكم كمي
عظيم للدراسات النصية تفجّر معينها من طبيعة الأدب الغربي؛ فضلاً عن التكرار في
كثير منها، أو الانطباع بطابع الرؤية الجزئية الضيقة ثم ظهر تيار ما بعد الحداثة،
وظهرت نظرية التناص فاندفعنا إليها. فإذا كان ما جرى في الغرب إبداعاً في التنظير
والتطبيق لأنه نبع من طبيعة آدابهم وأجناسها فإن ما جرى عندنا إنما هو فعل هجين
مشوه. بل إن عدداً من النقاد العرب المحدثين ما زال يمارس عملية اغتصاب للثقافة
العربية وتراثها؛ -ومن ثم العقلية العربية- وهو يدعي حمايتها وحراستها وتجديد
الحياة فيها؛ مما جعله يطير بها خاطفاً إياها ليلحقها بالآخر؛ وقد استبدت به نزعة
الاستلاب الحضاري. فإننا قد نقرأ دراسة نقدية لهذا الناقد البنيوي أو ذاك فلا نسمع
إلا صوت الآخر المجلوب الذي يرطن بلغة عربية..
ولا شك أن المرء متيقن من أن البقاء للأصلح،
فإذا كانت هناك دراسات نقدية أو أدبية قد ضغطت على أعصابنا وذاكرتنا وفَرَّطت في
بعض الاتجاهات الفكرية أو الفنية فإن هناك دراسات أخرى استطاعت أن تؤسس نمطاً ما
من حركة نقدية عربية تُفيد من الآخر على نحو ما.
وهي ما تزال تسعى إلى إثبات وجودها، وإن لم
تستطع حتى الآن أن تؤسس نظرية نقدية منهجية عربية أصيلة وشاملة.. ولا يضيرها عجزها
حتى الآن ما دامت مصممة على بلوغ غايتها.
ولهذا كله نعود إلى مرحلة
الريادة لحركة النقد العربية ممثلة بالدكتور طه حسين.. فهو قارئ نَهِم متتبع دقيق
واعٍ مقارن.. متنوع المعرفة.. وقد قرأ الشعر الجاهلي في ضوء الوظيفة النوعية
الموجهة بثقافة معينة ووعي علمي خاص. وكان قد حاكم هذا الشعر؛ ومن ثم خطفه على
طائرة مذهب الشك الديكارتي. وهذا من أسوأ ما وقع في البدايات المبكرة لقراءة الشعر
القديم.. وقد أقر بمنهجه ذلك، وبأنه سيسلك "من البحث مسلك المحدثين من أصحاب
العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة. أريد أن أصطنع في الأدب هذا
المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر
الحديث"(97).
صحيح أن ابن سلام أول من عالج ظاهرة النحل في
الشعر الجاهلي، ولكن الدكتور طه حسين بعثها من مرقدها وصب فوقها النار المشتعلة
فانتهى بوساطة شكّه الديكارتي إلى اتهام جلّ الشعر الجاهلي بالنحل والصَّنْعة؛
وإلى تكذيب القدماء الذين قدموا لنا ذلك الشعر بصورة مفيدة. فشعر امرئ القيس عند
الدكتور "لا يمثل شيئاً ولا يصلح إلا نموذجاً لعبث القصاص وتكلف الرواة"
على الرغم من أن شعره في وصف الخيل والصيد والمطر قد صدمه؛ فراح يتعلل لـه بأسباب
ليست جديرة بالاعتبار.. وهكذا كان دأبه في غيره(98).
وتطول الوقفة مع الدكتور طه حسين لو أردنا تتبعه
في منهجه الذي جعله قانوناً يحكم به مسبقاً على النص الجاهلي.. ولو احترزنا من هذا
المنهج ووقفنا عند نقده الداخلي لعدد من النصوص الجاهلية التي مال إلى توثيقها؛
كما في بعض معلقة طرفة أو معلقتي زهير ولبيد لتيقنّا أنه قدّم لدراسة الشعر
الجاهلي بواكير تحليلية رائعة أفادت كل من جاء بعده.. وظهرت قراءته للأدب الفرنسي
على أحسن وجوهها في قراءته الفنية للأدب القديم.. وكان قد صحح لطرفة أبياتاً لـه
من المعلقة يفتخر بها ويتحدث عن مفهومه في الحياة تبدأ بالبيت الرابع والأربعين في
الديوان؛ منها(99):
ولستُ
بِمحْلالِ التلاع مخافة
|
|
|
ولكن
متى يسترفدِ القوم أرفد
|
وإِنْ
تبغني في حلقة القوم تلقني
|
|
|
وإِنْ
تقتنصني في الحوانيت تصطدِ
|
متى
تأتني أصبحْكَ كأساً رَويِّةً
|
|
|
وإن
كنت عنها ذا غنى فاغنَ وازدد
|
وإِنْ
يلتقِ الحيُّ الجميعُ تلاقني
|
|
|
إلى
ذروةِ البيت الكريم المُصَمَّد
|
|
|
|
ومما علق به الدكتور طه حسين على هذه الأبيات
قوله: "فسترى في هذه الأبيات ليناً ولكن في غير ضعف، وشدة ولكن في غير عنف.
وسترى كلاماً لاهو بالغريب الذي لا يفهم ولا هو بالسوقي المبتذل، ولا هو بالألفاظ
التي رُصفت رصفاً دون أن تدل على شيء. وأَمعِنْ في قراءة القصيدة فستظهر لك شخصية
قوية ومذهب في الحياة واضح جلي: مذهب اللهو واللذة يعمد إليهما من لا يؤمن بشيء
بعد الموت، ولا يطمح من الحياة إلا فيما تتيح لـه من نعيم بريء من الإثم والعار
على ما كان يفهمها عليه هؤلاء الناس".
ويمضي على هذه الصورة الرائعة من التحليل
الجمالي المرتبط بالبيئة والواقع ومفاهيمها؛ ولكن مذهبه في الشك كان ينتهي به إلى
أشياء غير دقيقة.. فبعد ذلك يقول: "وليس يعنيني أن طرفة قائل هذا الشعر، بل
ليس يعنيني أن أعرف اسم صاحب هذا الشعر؛ وإنما الذي يعنيني هو أن هذا الشعر صحيح
لا تكلف فيه ولا نحل، وأن هذا الشعر لا يشبه ما قدمناه في وصف الناقة ولا يمكن أن
يتصل به؛ وأن هذا الشعر إنما هو من الشعر النادر الذي نعثر به من حين إلى
حين"(100).
فالدكتور ينكر صحة شعر طرفة، بل يتهم جُلَّ شعره
بالنَّحل ولا يصحح منه إلا مقاطع يسيرة سواء نسبت إلى طرفة أم إلى غيره –وكان قد
وقف مع طرفة مرتين في تحليل القصيدة ذاتها في حديث الأربعاء وأثبت ما انتهى إليه
سابقاً ولكنه في دراسته الجمالية كان أكثر تدقيقاً ومحاجة(101). وكذا فعل في
تناوله لمعلقتي لبيد وزهير وبعض أشعارهما الأخرى. وظل عدد من الدارسين يمتحون من
معينه ويصدرون عنه(102). ولعل الدكتور النويهي كان ينظر إلى مثل هذه التجارب
الإبداعية قبل غيرها ليصدر حكمه العام على الجاهليين قائلاً: "ليس الجاهليون
إلا عابدين للحياة، مقبلين عليها، منهمكين فيها، منقطعين إليها بخيرها وشرها،
بلذاتها وألمها؛ بخمرها ونسائها وميسرها وحروبها وثاراتها وشدائدها.."(103).
فمزية الشعر الجاهلي الأولى انطباقه انطباقاً
تاماً على الحياة عند الباحث السابق، وكأنه في هذا المفهوم قد جعل التجربة الشعرية
الجاهلية تصدر عن مفهوم المنهج البيئي فقط.
من هنا نحس بأن هناك تطرفاً في المعالجة التي
تقتصر على منهج دون منهج؛ لأن التجربة الإبداعية ليست متشابهة عند شاعر واحد، ومن
ثم عند الشعراء دون أن ننكر أثر البيئة فشعر من يعيش في الساحل يتأثر بالمرئيات
لديه وهي تختلف عن ذلك الذي يعيش في الداخل، أو البادية أو الجبال..
ومن يعش في مجتمع المدينة والحواضر يختلف عمن
يعيش في الصحراء وكل لـه مقاييسه الفردية والاجتماعية والثقافية.. و.. الفنية.
وكلنا يدرك أن الاصطراع الذي نشأ في البادية ولد في صميم التنازع على البقاء
والوجود في أرض قليلة الموارد وسماء شحيحة بالمطر؛ حتى لُقّب بالغيث. وفي صميم هذه
الظاهرة الاقتصادية نشأت جملة من الظواهر الاجتماعية والنفسية وربما الثقافية
والأخلاقية والسلوكية. وليست ظاهرة الصعلكة التي نشأت في العصر الجاهلي إلا
تعبيراً عن ذلك. فالصعاليك اتخذوا لنفسهم مبدأ الغزو والسلب الممثل باللصوصية
والقتل أساساً لحياتهم فلقبوا ذؤبان العرب(104). فشذاذ الآفاق هؤلاء "لم
يجدوا عيباً في عملهم، بل إنهم فاخروا به، ورأوه نوعاً من الفتوة والقصاص من
البخلاء والاشتراكية القسرية والتضامن الاجتماعي" كما يقول الحوفي(105).
ثم أخذ الدكتور خليف هذا الرأي وطوّره دون إشارة
إلى الحوفي السابق له؛ فجعل من ظاهرة الصعلكة "نزعة إنسانية نبيلة؛ وضريبة
يدفعها القوي للضّعيف والغني للفقير؛ وفكرة اشتراكية تشرك الفقراء في مال
الأغنياء، وتجعل لهم فيه نصيباً، بل حقاً يغتصبونه إن لم يُؤَدّ لهم، وتهدف إلى
لون من ألوان العدالة الاجتماعية والتوازن الاقتصادي بين طبقتي المجتمع
المتباعدين؛ طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء. فالغزو والإغارة للسلب والنهب لم يعدّ
وسيلة وغاية [عند عروة]، وإنما أصبح وسيلة غايتها تحقيق نزعته الإنسانية وفكرته
الاشتراكية"(106).
ولا يمكن لأي باحث أن ينكر بعض الملامح الباهتة
للاشتراكية، ولكنها ليست على الصورة التي يراها خليف أو من نفخ فيها بعده(107).
فقد ظهرت في هذه الدراسات على أنها ثورة اجتماعية اقتصادية ذات مبادئ نظرية تسعى
إلى تحقيق السعادة للفقراء والاقتصاص من الأغنياء.. فأين هذا كله مما كانت عليه
ظاهرة الصعلكة؟!! فالدكتور خليف وتابعوه مارسوا عملية تطبيق لتصورات محدثة
اجتماعية وفكرية واقتصادية على الصعلكة؛ وتخيلوها في ضوء النظريات المعرفية
والنقدية الحديثة. والبحث المنهجي العلمي ينظر إلى أية ظاهرة في إطارها التاريخي
والاجتماعي، أو لنقل الحضاري.
ولهذا لا يجوز –لنا أيضاً- أن ننظر إليها في
إطار الرؤية الإسلامية، ولا في إطار رؤيتنا المحدثة؛ وإنما تفسر في ضوء انتمائها
إلى زمانها وظروف نشأتها اجتماعياً ونفسياً واقتصادياً.. وفنياً. والشعر –على
أهميته بين الوثائق –ليس الوثيقة الوحيدة؛ ومن ثم علينا أن نَعيش مفاهيم العصر
والمجتمع والمكان آنذاك. ومَن يتناول ظاهرة أدبية عامة بالتفسير لا يعتمد على
أبيات قليلة لشاعر ما لتكوّن لديه حكماً عاماً على شعره.. ولا يجوز أن يكون شعر
شاعر ما شاملاً للحكم على ظاهرة الصعلكة كما حدث في شعر عروة بن الورد. فلا بد من
إجراء تقاطع معرفي وفني مع النصوص الوثائقية والشعرية لزمن الشاعر.
ومن يتعقب أشعار الصعاليك يجد أن قطعاً غير
قليلة لا تخرج عن الدلالة المعنوية التي سادت في أشعار الجاهليين؛ وإن اختلفت
فنياً عنها(108).
فهناك جملة من أشعارهم تصوّر حياتهم وأخلاقهم
ومغامراتهم.. فحياتهم قائمة على القوة والغزو؛ وإن اتخذت –غالباً-اتجاهاً فردياً،
ولكنها تميزت من مفهوم الجاهليين بالجرأة على غزو المال أينما لاح لهم، وهذا ما
يقوله عروة على لسان زوجه؛ ومنه(109):
خَاطرْ
بنفسِك كي تصيبَ غَنيمةً
|
|
|
إنَّ
القُعودَ معَ العيالِ قبيحُ
|
المالُ
فيه مَهابةٌ وتَجِلَّةٌ
|
|
|
والفَقْرُ
فيه مَذَلَّةٌ وفُضوحُ
|
|
|
|
وكرم عروة جزء من ظاهرة الكرم في الجاهلية؛ لكن
الجاهليين لم يروعوا الآمنين في ليلة ليلاء؛ أو في غفلة من الزمن.. فعُروة أصبح
رمزاً للرعب والخوف والنهب كما يصور حالة بعض الناس في قوله(110):
ستُفزِع
بعد اليأس، مَنْ لا يخافُنا،
|
|
|
كواسع
في أخرى السَّوَام المُنَفَّرِ
|
فيوماً
على نَجْدٍ وغارات أهلها
|
|
|
ويوماً
بأرضٍ ذاتِ شَثٍّ وعَرْعَرِ
|
|
|
|
ولهذا صار الناس جميعاً أعداءه كما يقول(111):
أرى
أُمَّ حَسَّانَ الغداةَ تلومني
|
|
|
تُخَوّفُني
الأعداءَ، والنفسُ أخْوَفُ
|
|
|
|
فليس غريباً بعد هذا كله أن تفارقه سلمى
(سَبِيَّتُه) بعد أن أنجبت منه، فلم تطق العيش سبية لرجل امتهن اللصوصية إِرْبة
للغنى، ومن ثم يتفاخر على الناس بكرمه(112). وتتأكد ظاهرة الصعلكة في وجوهها
العديدة في أكثر شعر عمرو بن برّاقة، كما في قوله(113):
تَقولُ
سُليمى: لا تَعرَّضْ لتَلْفَةٍ
|
|
|
وليلُك
عن ليلِ الصعاليك نائمُ
|
وكيف
ينام الليلَ من جُلُّ مالِه
|
|
|
حسامٌ
كلون المِلْحِ أبيضُ صارمُ؟
|
غَموضٌ
إذا عضَّ الكريهةَ لم يَدعْ
|
|
|
له
طمَعاً طوعُ اليمين ملازمُ
|
أَلَمْ
تعلمي أنَّ الصعاليك نومُهم
|
|
|
قليلٌ
إذا نام الخَلِيُّ المُسَالمُ
|
إذا
الليل أَدْجَى واكْفَهَرَّ ظلامُهُ
|
|
|
وصاحَ
من الأَفْراط بُوْم جواثمُ
|
ومالَ
بأصحاب الكَرى غالباتُه
|
|
|
فإني
على أَمْرِ الغَوايةِ حازمُ
|
|
|
|
فهذه الأبيات تضع المرء أمام مبادئ الصعلكة التي
اختار أصحابها طواعية خلع أنفسهم من قبائلهم، أو طردوا منها لجريرة ارتكبوها،
وحاربوا الناس والمطمئنين في منازلهم فسرقوا أموالهم وانتهكوا حرماتهم، وربما
قتلوهم في نهاية الغزوة.. متخذين غالباً من الليل ستاراً يحميهم؛ لا يختلفون عن
الذئاب.
بهذا كله لا يمكن لظاهرة الصعلكة في أزهى صورها
عند عروة أن تكون صورة من صور المبادئ الاشتراكية.. ولا العدالة الاجتماعية، أياً
ما يكن في تلك الظاهرة من أشكال شعرية تشي بجملة من المفاهيم الحديثة..
فما بني على باطل فهو باطل؛ ولم تكن يوماً
الغاية المشروعة تسوغ لصاحبها أن يسلك سبلاً دنيئة أو غير مشروعة. صحيح أنه مطلوب
من الباحث أن يستفيد من المناهج النقدية والنظريات الأدبية؛ والعلوم المساعدة
الحديثة.. ولكنه لا يجوز لـه في أي منظار أن يطبقها برمتها على شخصية ما، أو ظاهرة
ما في العصر الجاهلي أو الإسلامي.. أو.. ولا أن يَدخل إلى النَّص بمفاهيم مسبقة..
فالباحث مطالب بالتعاون المتجدد في إطار النّص وما توحيه قيمه الفنية والجمالية في
سياقاتها البنائية، وفي إطار من الوحدة والشمولية؛ وفي تقاطع فني ومعرفي مع النصوص
الأخرى والوثائق التاريخية دون قسر أو إكراه.
فالشاعر الجاهلي ما تحدث عن شيء لم يعاينه ولكنه
لم يجعله غاية في حد ذاته –ككل فن أصيل- وإنما صوره جزءاً من ذاته ومعرفته
وواقعه.. فالصور القاتمة صورة الحَدْس والحس والمخيلة في وقت واحد، ومثلها الصور
الفرحة.. وكل صورة تكتسب بعداً فكرياً وقيمة عاطفية في ضوء ذلك كله، ولهذا تتباين
بين موقف وآخر عند الشاعر ذاته، ومن ثم تتباين بين شاعر وشاعر.
وإذا كانت القراءات النصية قد غنيت وتنوعت بتنوع
المناهج والنظريات فإن بعضاً منها قد انحرف عن الجادة الصحيحة.. ولعل أكثر
الدراسات انحرافاً تلك التي جعلت المنهج الأسطوري طريقة لقراءة الشعر القديم.
وتنبع أهمية هذا المنهج عند الغربيين –بدءاً من جيوفاني فيكو (1668-1744م)
الفيلسوف الإيطالي المؤسس لـه ومروراً بهيردر وشلنج وانتهاء بكاسيرر وغيره-(114)
من اعتماده على المبادئ النظرية للمنهج وتطبيقاتها على طبيعة الأدب في الغرب
ووظيفته. بينما وجدنا الدراسات العربية تعيش حالة من البلبلة والخلخلة الفكرية في
تصور هذا المنهج وتطبيقه على الشعر الجاهلي.. ومما زاد من ضياع الحدود في أذهان
أصحابها أنها كانت تستند إلى مقولة الجاحظ في تفسيره لمصرع بقر الوحش أو نجاتها في
المرثية والمدحة وتعممها(115)، ومن ثم تنحرف إلى آراء الغربيين وتجهد في تطبيقها
على الشعر القديم كما وجدناه في دراسة عبد الجبار المطلبي وأحمد كمال زكي ونصرت
عبد الرحمن وعلي البطل وآخرين(116).
فهؤلاء جميعاً جعلوا الأسطورة أصلاً والنص
القديم فرعاً، ثم حاكموه في ضوء نشأة الأسطورة ومفاهيمها التصورية لدى الغرب؛
والنابعة –غالباً- من التوراة(117). خذ مثلاً ما فعله علي البطل في تحليله لصورة
الثور الوحشي الذي يرمز للقمر –عنده- أو صورة الحمار الوحشي المرتبطة بأسطورة تتصل
بالشمس. فهو يخترع لنا قصصاً ساذجة معتمداً فيها على ضياع المقاطع الشعرية؛
محتذياً بذلك منهج الدكتور طه حسين في ضياع بعض مقاطع الشعر القديم.. ثم يسعى إلى
تكملة خيوط خرافته كما يصورها لـه عقله بعبارات مثل (يمكن ربطه، ويمكن تخيل الأصل،
وتنبئ..). ولم يكتف بهذا بل طفق يكمل خيوط خرافته بالقياس إلى الخرافات المتداولة
في التوراة.. أو تلك التي ستظهرها المكتشفات الأثرية التي يتخيلها مكملة
لزعمه(118).
والسؤال الذي يطرح نفسه هل المقاطع الاتصالية
كلها ضاعت عند الشعراء الجاهليين حتى يذهب ذلك المذهب؟ وأين الأخبار الموثقة التي
تؤيده، أو أنه سينتظر المكتشفات الأثرية طويلاً؟!. فكل افتراض خيالي وهمي لا يحقق
دراسة علمية منهجية.. يبقى في إطار الظن والوهم.. والفصل الثاني سينهض بدراسة
تطبيقية لذلك المنهج في بعض الدراسات.
وهذا كله لا يلغي الدلالات المجازية الموحية
والخفية، أو بمعنى آخر لا يلغي الدلالة الرمزية لكثير من المشاهد الشعرية في
المقدمات الفنية أو في مشاهد الحيوان.. خاصة. فالشعر يخلق أشكاله الرمزية الخاصة
به من الوسط المحيط ومن العناصر التراثية التي تتجه إلى أهل العصر الذين يخاطبهم
المبدع، ولهذا لا بد أن تكون متداولة ومعروفة لهم. والعصر الجاهلي بأي صورة من
الصور لا يحاكم بمنطق المنهج الأسطوري الذي أبدعه الغرب؛ فشتان ما بين هذا العصر
وما تعالجه الأسطورة من ضروب التكوين الأولى للفن والمجتمع. فالأسطورة تنشئ رموزاً
تتجاوز المنطق لأنها متصلة بالدين والسحر بل ببعض المتناقضات المتعددة. والشعر
الجاهلي أو غيره لا يقوم
مقام الديانة وإن كانت الأسطورة الدينية مصدراً للمجاز الشعري في بعض
الأحيان(119)، فضلاً عن أن أهم سمة للشعر الجاهلي إنما تكمن في واقعيته والتعبير
الصادق عن البيئة. والجاهلي بشكل عام يستند إلى ثوابت واقعية تقرر وجوده، وهي تشبع
رغباته وتصوراته لأنه يملك نوعاً من الحرية التلقائية الملتزمة بالقبيلة أو
الجماعة، ولأنه يرى أن حياته منقضية ولا سبيل إلى الخلود.
وبعدُ؛ فهذا آخر ما نشير إليه في هذه الدراسة؛
إذ البحث في كيفية قراءة النص الأدبي عامة والجاهلي خاصة متشعب الاتجاهات؛ وهو
يحتاج إلى أبحاث مطولة وعديدة تتناول الحركة النقدية والأدبية قديماً وحديثاً، في
الوقت الذي تحدد الموضوع الذي تتناوله لتغدو أكثر خُصوصية في العمل النقدي، ومن ثم
يضاف بعضها إلى بعض.
وهذه الأبحاث المتنوعة تنطلق من التجارب
الإبداعية العديدة والمتنوعة؛ في أي جنس أدبي؛ شعراً كالرثاء أو المدح أو الفخر أو
الهجاء.. أم نثراً كالخطابة والرسائل.. وكلها تسهم في خلق وعي نقدي نوعي يسعى إلى
تكوين رؤية عربية أصيلة ومعاصرة لنظرية نقدية نابعة من طبيعة أدبنا ووظيفته.
ومن هنا أختم هذا الفصل بتصور سريع لرؤية عامة
شمولية موحدة في قراءة الشعر القديم خاصة والأدب العربي عامة.
لا شك في أن حركة النقد العربي قد تطورت في
امتلاك أدوات التعبير الفنية والجمالية على مستوى الصورة والبنية؛ على ارتباطها
بذاتية الناقد وفهمه للتجربة الغربية. ولعلهما قادتا النقد العربي إلى بطء التطور،
لأنهما أنتجتا كماً تراكمياً من الدراسات على الساحة الثقافية؛ إن لم تكن نُسَخاً
مُسْتَلَبة مكرورة.. في إطار من الآلية الغربية في قراءة النصّ الجاهلي؛ وفي غيره؛
ومن ثم سيطر عليه التنظير؛ بينما كان الشكل التطبيقي سمة للنص الغربي.
ومن هنا أصبح لزاماً علينا أن نتخلص من الخطاب
التنظيري، ومن التبعية والاستلاب للآخر؛ وتكوين حركة نقدية أدبية جماعية متجانسة
وشمولية على ساحة الوطن العربي، تقوم على تعاون المؤسسات في المؤتمرات وما
ماثلها.. ثم تتخلص من التباين لتجعل النص منطلقها في إطار تطبيقي لكل ما هو أصيل
ومحدث من المناهج النقدية والدراسات الأدبية والعلوم المساعدة؛ في دائرة استيعاب
حركة النقد القديمة والحديثة، بكل ملامحها الفنية وأجناسها الأدبية..
وبهذا يمكنها أن تطبق آلية قراءة النص المستمدة
من طبيعة الأدب العربي ووظيفته، والملبية لتنوع التجارب الإبداعية، كما كان يفعل
بعض القدماء؛ أمثال الباقلاني وعبد القاهر الجرجاني وابن رشيق، وابن الأثير..
وغيرهم.
إن محاولة تأسيس رؤية
نقدية عربية أصيلة شمولية وإبداعية ذات قيمة كبرى لا تقل عن التجربة الإبداعية
الشعرية أو النثرية.. وفي هذا الإطار يبقى المنهج التكاملي أحسن الصور المنهجية
التي تحقق ذلك.. وكان سيد قطب أول من أطلق عليه هذا الاسم ودعا إليه في كتابه
(النقد الأدبي) بطبعته الأولى (1946م).
أما الدكتور طه حسين فقد دعا إلى شبيه بذلك سماه
المقياس المرّكب وتابعه في هذا الدكتور شكري فيصل في المنهج التركيبي. وحين اكتفى
الثاني بالتنظير كان يسعى الأول إلى شيء غير قليل من التطبيق(120).
واستطاع المنهج التكاملي أن يفرض وجوده منذ وقت
مبكر؛ فتحدث عن سماته غير واحد من الدارسين مثل عبد القادر القط، وعالجه بتوسع
شوقي ضيف في كتابه (البحث الأدبي) ويعد إبراهيم عبد الرحمن واحداً ممن حدد عناصره،
مثل استناد النص إلى الواقع الذاتي والاجتماعي والطبيعي وانفتاحه على أشياء أخرى
ومن ثم إعادة تشكيله فنياً، لأنه قابل للإجراء الفني والنقدي، وغير قائم على
التناقض مع المناهج النقدية القديمة والحديثة؛ وإنما يتعاون معها بشكل شمولي في
إطار الوحدة في الموضوع والقصيدة والمواقف.. دون إهمال لتحديد وظيفة الأغراض(121).
وحينما أشير إلى المنهج التكاملي، وذاكراً هذا الاسم أو ذاك ليس من باب التحيز له؛
أو جعله السابق فيه وإنما باعتباره واحداً من رواد هذا المنهج.
وفي ضوء ذلك نتوخى أن يكون المبدع ممثلاً للنسيج
الأول لبنية النص وسياقاته؛ وهو نسيج مرتبط بالزمان والمكان والتاريخ.. و.. أما
القارئ فيمثل وحدة النسيج الثانية بما يملكه من خصائص ذاتية ومعرفية ومنهجية..
ويبقى النص مختزناً لعالم لا متناهٍ من الصور والاحتمالات حين ينتهي إلى المستوى
الباطني..
وهذا كله يفرض على القارئ أن ينفتح على التراث
عامة والأدب والنقد خاصة في ظل انفتاحه على النص الإبداعي وفي إطار وحدته وسياقاته
الفنية، والتخلص من حالة الانتقاء النفعية والتبعية، وتوخي الحذر من تحكيم المناهج
النقدية والأدبية والنظريات الفكرية والعلوم المساعدة برمتها عليه(122). فالقارئ
ينفتح على النص برؤية ذاتية معرفية موحدة وشاملة؛ وفق حالة فطرية نفسية محايدة،
وحالة ذهنية لا تلغي الآخر وما يذهب إليه.. أي أنها رؤية تستوعب الذات الشاعرية
والكون والزمان والمكان واللغة والأسلوب والوظيفة والهدف.. وإدراك طبيعة الفن
والغاية من الموضوع وربطه بالظواهر المتعددة واستيعاب آلياتها، على استبعاد
الحقائق المسبقة والهوى والعصبية.. ومن ثم إجراء تقاطع فني مع النصوص الأخرى، دون
أن ينسى جنسه، وانتماءه.. ومن ثم فإن قبول الإجراءات النقدية السابقة لا يمكن
عزلها عند القارئ عن انفتاح آخر يتجسد بانفتاح المناهج النقدية بعضها على بعض بشكل
شمولي واع ومقصود في التجربة النقدية للقراءة.. تفكيكاً وتركيباً لإعادة إنتاج
المفاهيم والرؤى الدقيقة. تلك هي رؤيتنا لمفهوم القراءة في ضوء المنهج التكاملي
وانفتاح الناقد على الآخر دون حكم مسبق.
ومن هنا نحاول في الفصل الثاني "شعرنا
القديم-صورة ودلالة" معالجة عدد آخر من الآراء النقدية للشعر القديم منذ
العصر الجاهلي حتى نهاية العهد الأموي، لتصبح تجربة القراءة النقدية من صميم نقد
النقد، فضلاً عن النقد الأدبي للإبداع ذاته. وحينما تتسع المجالات التطبيقية يتطلب
منا ذلك وقفة فاحصة وموضوعية لكل ما نتناوله، لعلها تكون أنموذجاً يحتذى في
التحليل والتفسير.
وإذا كنا نؤمن بقوة بما قدمه لنا الجرجاني من
مفهوم نظرية النظم المستند إلى اتحاد التركيب النحْوي بوظائفه ودلالاته سواء كانت
صريحة أم ضمنية فإننا نؤمن بأن القارئ المكتسب للشروط الموضوعية والمتصف بالشروط
الذاتية يستطيع أن يجعل النّص قيمة فنية متجددة العطاء دون أن يفقدها صورة
أَصالتها.. وهذا يتطلب منه حيوية خاصة وفعّالة في ربط اللغة ورموزها وإشاراتها
بدلالاتها ووظيفتها وأهدافها..
ولهذا نتساءل: إلى أي مدى يُعَدُّ الشعر القديم
وثيقة دلالية تاريخية في الوقت الذي يحافظ فيه على مفهوم الصياغة الشعرية؛
باعتبارها انزياحاً عن اللغة العلمية الحقيقية؟! هذا ما يجيب عنه الفصل القادم بعد
إثبات حواشي الفصل الأول ومصادره.
Þ
¡ الحواشي:
(1)-انظر ثقافة الناقد
الأدبي 4 و6 و32.
(2)-انظر طبقات فحول
الشعراء 1/24.
(3)-المعجم الفلسفي 340
وانظر المذاهب الأدبية والنقدية 11 وما بعدها.
(4)-انظر كتابنا: قصيدة
الرثاء –جذور وأطوار- فهو دراسة تحليلية لعدد من النصوص في ضوء الوحدة والشمولية،
وتغليب الرؤية التكاملية –وإن سيطر منهج ما على دراسة قصيدة دون الأخرى، وانظر
المصطلح النقدي 19.
(5)-انظر ثقافة الناقد
الأدبي 13-24 و31-38 والمذاهب الأدبية والنقدية 17 ومابعدها و77 ومابعدها،
والمصطلح النقدي 27-28 و56 و84-85 والنقد البنيوي والنص الروائي 26-29 و34 و121
و125..
(6)-انظر ثقافة الناقد
الأدبي 33-34 وبلاغة الخطاب وعلم النص 38 ومابعدها و45 ومابعدها.
(7)-انظر في سيماء الشعر
القديم 41.
(8)-انظر مدخل إلى مناهج
النقد الأدبي 59 و165 و209 وبلاغة الخطاب وعلم النص 25 و97.
(9)-انظر التفسير النفسي
للأدب 16 و20-26 وبلاغة الخطاب وعلم النص 30.
(10)-انظر منهاج البلغاء
وسراج الأدباء 22-23 و76-77 وبلاغة الخطاب وعلم النص 25 و53 و97 و133 و151 وفي
سيماء الشعر القديم 43 و50.
(11)-لسان العرب –(قرأ).
(12)-انظر ثقافة الناقد
الأدبي 202-203 والشعر كيف نفهمه ونتذوقه 29 والرمز الشعري عند الصوفية 69 و78
و93. وانظر ما ورد عن احتفاء العرب بولادة الشعراء وأسباب ذلك في كتاب العمدة
1/65.
(13)-انظر الشعر
والشعراء 1/78 و144 وانظر حاشية (98) من الفصل الثاني، وكتابنا إبداع ونقد (ماهية
الإبداع)21.
(14)-البيان والتبيين
3/28 وانظر حاشية 71-74 من الفصل الثالث.
(15)-الشعر والشعراء
1/78 والعمدة 1/189.
(16)-في الميزان الجديد
125 والمصطلح النقدي 21 (على ترتيب المقبوسين في المتن).
(17)-انظر ثقافة الناقد
الأدبي 335.
(18)-في الميزان الجديد
172.
(19)-انظر بلاغة الخطاب
وعلم النص 18 و229 و253 وسايكلوجية الشعر 9 وما بعدها.
(20)-انظر فصول في الأدب
والنقد 133 و139 و140 و150 و154 و157 و160 والتفسير النفسي للأدب 77 وما بعدها و89
وما بعدها ونظرية الأدب 203-204 و225 وبلاغة الخطاب وعلم النص 253 وما بعدها
وإبداع الدلالة في الشعر الجاهلي 52 وما بعدها.
(21)-في الميزان الجديد
182.
(22)-الشعر كيف نفهمه
ونتذوقه 339.
(23)-قراءة ثانية لشعرنا
القديم 136 وانظر ما أورده القرطاجني في منهاج البلغاء 48 وما بعدها و71 وما
بعدها.
(24)-انظر دلائل الإعجاز
34-35 و66 وما بعدها و70-79 وأسرار البلاغة 21 وما بعدها وفي الميزان الجديد 185
وموسيقى الشعر 17 و28 وما بعدها و65 وما بعدها و193 وما بعدها و196 ونظرية الأدب
29 و31 وما بعدها وبلاغة الخطاب وعلم النص 18 و229 و253 وفي سيماء الشعر القديم 28
وما بعدها و36-38.
(25)-انظر قراءة ثانية
لشعرنا القديم 6 وما بعدها.
(26)-انظر التفسير
النفسي للأدب 55 وما بعدها و63 وما بعدها والمصطلح النقدي 92-96 و100-104.
(27)-انظر إبداع الدلالة
في الشعر الجاهلي 51-99 و101-124.
(28)-انظر نحو تحليل
بنيوي للشعر الجاهلي (مجلة فصول –مج3-ع3-/ومج4-ع2/ والمنهج الأسطوري في تفسير
الشعر الجاهلي 211-222.
(29)-انظر في الأدب
الجاهلي 257.
(30)-انظر دلائل الإعجاز
34-36 و43 وما بعدها و49 وما بعدها و55 وما بعدها و80 وما بعدها وأسرار البلاغة 5
و20 و50 و61 و71 وفي سيماء الشعر القديم 45.
(31)-دلائل الإعجاز 51.
(32)-دلائل الإعجاز 87.
(33)-انظر بلاغة الخطاب
وعلم النص 192 وما بعدها و306 وفي سيماء الشعر القديم 26-27 والتفكير البلاغي عند
العرب 146 و185 و275-444 واللفظ والمعنى 37-
128.
(34)-انظر موسيقى الشعر
193-202 ونظرية الأدب 203 و225-226 وإبداع الدلالة في الشعر الجاهلي 14-48 وفي
جمالية الكلمة 15-17.
(35)-انظر نظرية الأدب –فصل
وظيفة الأدب-31-43 والتفسير النفسي للأدب 81.
(36)-انظر الأساطير
والخرافات عند العرب 33-37 ونظرية الأدب 240-242.
(37)-ديوان امرئ القيس
14.
(38)-دراسات في الشعر
الجاهلي 142.
(39)-شرح ديوان لبيد بن
ربيعة 297-299 وانظر فيه مثلاً: 6-20 و25-33 و58-63 و72-73.
(40)-حديث الأربعاء 1/21
وانظر فيه ساعة مع لبيد 18-54.
(41)-التفسير النفسي
للأدب 105.
(42)-انظر الصورة
الأدبية 10 ومابعدها و16 ومابعدها والأساطير والخرافات عند العرب 33 وإبداع
الدلالة في الشعر الجاهلي 142 و154.
(43)-انظر الأساطير
والخرافات عند العرب 40 والحيوان في الشعر الجاهلي 159-184. ومبدأ التشخيص يقوم
على العقل والخيال معاً، والخيال هو تخيّل وتخييل، ولكل منهما مهمته النقدية
والإبداعية والنفسية كما يراه ابن سينا وغيره من القدماء، انظر فصول في الشعر
ونقده: 52-54 وراجع فيه 16-17 و40-47، وراجع كتابنا (إبداع ونقد) الفصل الثاني 107-
111.
(44)-انظر حديث الأربعاء
1/86 وانظر فيه ساعة مع زهير 77-113 ودراسات في الشعر الجاهلي 133-136.
(45)-شعر زهير بن أبي
سلمى 14-17 و23 و25 و36 و40 و78-89 و103 وانظر شرح ديوان لبيد 3-6.
(46)-ديوان النابغة
الذبياني 154 ومجمع الأمثال 2/145 (رقم المثل 3046).
(47)-بلاغة الخطاب وعلم
النص 275.
(48)-ديوان أمية بن أبي
الصلت 177-179 و338-339 (الثأْط: الطين الأسود. الكباب: الطين الملتصق. السخاب:
القلادة) وانظر لسان العرب (هدل –حر) والحيوان في الشعر الجاهلي 39.
(49)-انظر الأسس النفسية
للإبداع الفني 175-176.
(50)-التفسير النفسي
للأدب 74-75 وانظر فيه 89 ونظرية الأدب 243-244.
(51)-ثقافة الناقد
الأدبي 203.
(52)-الأسس النفسية
للإبداع الفني 183 وانظر كتابنا (إبداع ونقد) المدخل 15- 38.
(53)-انظر مثلاً في
(الشعر والشعراء 1/74-82 و121-125 و135-136 والأغاني 9/108 والعمدة 1/120 و204-217).
وانظر في كتب المحدثين مثلاً: نظرية الأدب 224-225. وتتمثل الوحدة النفسية لبناء
القصيدة في قول ابن قتيبة؛ ومنه: "أن مقصد القصد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار
والدمن والآثار؛ فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها
الظاعنين عنها؛ إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة
المدر.. ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد، وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق؛
ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه.."
فالوحدة النفسية في هذا الكلام تتعلق بالنّص من جهة وبالمتلقي من جهة أخرى ومن ثم
بالحياة.
(54)-انظر العمدة 1/120
وانظر كتابنا (إبداع ونقد) الفصل الثالث 149- 177.
(55)-حديث الأربعاء
1/31.
(56)-انظر الشعر
والشعراء 1/90 ومثله في العمدة 1/215-241.
(57)-منهاج البلغاء 311
وانظر فيه 306، وانظر بلاغة الخطاب وعلم النص 178.
(58)-انظر سايكلوجية
الشعر 103 وما بعدها.
(59)-انظر في سيماء
الشعر القديم 54.
(60)-الشعر كيف نفهمه
ونتذوقه 347.
(61)-انظر مثلاً: ديوان
امرئ القيس 83 و94 و132 و140 و142 و197 و199 و207.
(62)-المذاهب الأدبية
والنقدية 106 وانظر الشعر والشعراء 1/74 والعمدة 1/120 وقراءة ثانية لشعرنا القديم
6-7 و75 وبلاغة الخطاب وعلم النص 100-103 و144.
(63)-منهاج البلغاء 77
وانظر فيه 302-303.
(64)-في سيماء الشعر
القديم 43 وانظر فيه 23-26.
(65)-المذاهب الأدبية
والنقدية 106.
(66)-ديوان لقيط بن يعمر
35-36 وانظر فيه العينية 36-51 وانظر الشعر والشعراء 1/199-200.
(67)-بلاغة الخطاب وعلم
النص 137.
(68)-الصورة الأدبية 153
وانظر فيه 182.
(69)-المفضليات 226
وانظر مشهد الحيوان في القصيدة الجاهلية 268.
(70)-انظر كتابنا: مشهد
الحيوان في القصيدة الجاهلية 263-271 وراجع فيه بنية مشاهد الحيوان كل حسب نوعه
وجنسه.. فقد خصص لتفسير المشهد في بنية القصيدة الجاهلية.
(71)-انظر مثلاً لتلك
الدراسات: قراءة ثانية لشعرنا القديم 57-58 و68 و133 والصورة الأدبية 182 وما
بعدها والشعر الجاهلي –منهج في دراسته وتقويمه- 2/551.
(72)-انظر نظرية الأدب
231-234 ومدخل إلى مناهج النقد الأدبي 118 وما بعدها و131 وما بعدها.
(73)-قراءة ثانية لشعرنا
القديم 58.
(74)-في سيماء الشعر
القديم 21.
(75)-انظر على سبيل
المثال لا الحصر: الأساطير. دراسة حضارية مقارنة –د.أحمد كمال زكي، وشعر الرثاء في
العصر الجاهلي- د.مصطفى عبد الشافي الشورى واهتدى بالدراسة السابقة؛ والصورة
الفنية في الشعر الجاهلي –د.نصرت عبد الرحمن.. وانظر ما يأتي (حاشية 116).
(76)-انظر التفسير
النفسي للأدب 47 وثقافة الناقد الأدبي 117-119.
(77)-انظر كتابنا:
الرثاء في الجاهلية والإسلام 152-160.
(78)-انظر مثلاً ديوان
امرئ القيس 9 و11-13 و14 و28-29 و31-32 و34.
(79)-انظر الصورة
الأدبية 16 والشعر الجاهلي –منهج في دراسته وتقويمه-2/552-555.
(80)-ثقافة الناقد
الأدبي 263 وانظر نظرية الأدب 119-140.
(81)-انظر دراسات في
الشعر الجاهلي 173 وما بعدها و187 وما بعدها.
(82)-ثقافة الناقد الأدبي
322 وانظر فيه 265؛ ويبدو أن الدكتور مصطفى ناصف أخذ الفكرة من النويهي دون أن
يشير إليه؛ انظر قراءة ثانية لشعرنا القديم 53.
(83)-الصورة الفنية في
التراث النقدي والبلاغي 364-368 وانظر بلاغة الخطاب وعلم النص 54.
(84)-في سيماء الشعر
القديم 50.
(85)-انظر الحيوان
للجاحظ 2/20.
(86)-انظر الشعر
والشعراء 1/74-75 والعمدة 2/117 و123 و128 و150-151.
(87)-انظر ثقافة الناقد
الأدبي 275.
(88)-انظر نظرية الأدب
101-104 والتفسير النفسي للأدب 25 وثقافة الناقد الأدبي 128 وما بعدها.
(89)-طبقات فحول الشعراء
1/15.
(90)-نظرية الأدب 189
وانظر فيه 191 وما بعدها والرثاء في الجاهلية والإسلام 23.
(91)-انظر في الأدب
الجاهلي 68.
(92)-انظر نظرية الأدب
227.
(93)-انظر اللغة والخطاب
الأدبي 109.
(94)-نظرية الأدب 225
وانظر مدخل إلى مناهج النقد الأدبي 15-57 وبلاغة الخطاب وعلم النص 25 و97 وما بعدها.
(95)-انظر التفسير
النفسي للأدب 25.
(96)-انظر المذاهب
الأدبية والنقدية 12 و19 و23 و59 و146 وما بعدها. والمنهج الأسطوري في الشعر
الجاهلي 149-204؛ وناقش د.وهب رومية في كتابه (شعرنا القديم والنقد الجديد 31-131
باب الحداثة المموهة) أصحاب الدراسات الأسطورية؛ وبيّن ما انتهى إليه أغلبهم من
رؤية منحرفة في تفسير الشعر الجاهلي، ثم عرض في باب آخر (محاولات جديدة للتفسير)
ما يتعلق بالأغراض والرموز وتفسيرها.. فأغنانا كثيراً عما أردنا قوله، وأفدنا منه
غير مرة، كما تثبته الحواشي القادمة، وانظر كتابنا (الحيوان في الشعر الجاهلي
54-67) وانظر حاشية (49 من الفصل الثاني).
(97)-في الأدب الجاهلي
67.
(98)-في الأدب الجاهلي
205 وانظر فيه 68-69 و175-226 ويمكن تدقيق النظر في الصفحة 207-208 و216.
(99)-ديوان طرفة بن
العبد 28-29- وتنتهي الأبيات في البيت التاسع والخمسين ص34 وانظر في الأدب الجاهلي
228-229؛ وعلى اختلاف يسير في الرواية.
(100)-في الأدب الجاهلي
228-229.
(101)-انظر حديث
الأربعاء 1/55-76 و77-113 وراجع فيه 18-54.
(102)-انظر مثلاً ما ورد
في (ثقافة الناقد الأدبي 26 و66 وقراءة ثانية لشعرنا القديم 51 وما بعدها وقراءة
جديدة لشعرنا القديم 35).
(103)-ثقافة الناقد
الأدبي 205.
(104)-لسان العرب. (ذأب –صعلك)
والحياة العربية من الشعر الجاهلي 230-231 و300 وشعر الصعاليك 85-86 والحيوان في
الشعر الجاهلي 96-97 و100-113 ومشهد الحيوان في القصيدة الجاهلية 263-271 والشعراء
الصعاليك 22-26 و48.
(105)-الحياة العربية من
الشعر الجاهلي 306.
(106)-الشعراء الصعاليك
47 وانظر فيه 37.
(107)-انظر شعر الصعاليك
334 و341.
(108)-انظر شعر الصعاليك
317 وما بعدها و359 وما بعدها.
(109)-ديوان عروة –ضمن
(ديوانا عروة والسموأل)- تحقيق كرم البستاني –24.
(110)-ديوان عروة 38 وانظر
الشعراء الصعاليك 48-53.
(111)-ديوان عروة 51.
(112)-انظر ديوان عروة
30-35.
(113)-الأمالي للقالي
2/122، والقصيدة طويلة أثبتنا منها مقدمتها.
(114)-انظر المنهج
الأسطوري في تفسير الشعر الجاهلي 56-61 و71.
(115)-انظر الحيوان
للجاحظ 2/20.
(116)-انظر على سبيل المثال
لا الحصر ما يلي من الدراسات: مواقف في الأدب والنقد –د.عبد الجبار المطلبي،
والأساطير والخرافات عند العرب- د.محمد عبد المعيد خان، والشعر الجاهلي-تفسير
أسطوري- د.مصطفى عبد الشافي الشورى؛ والإبل في الشعر الجاهلي- د.أنورأبو سويلم،
والرؤى المقنعة- د.كمال أبو ديب، والصورة في الشعر العربي- د.علي البطل؛ وراجع ما
تقدم حاشية 75، وانظر مجلة فصول- مج3 عدد3 ففيه أبحاث عدة عن تفسير الشعر الجاهلي
تفسيراً أسطورياً؛ وناقش بعضها كتاب "المنهج الأسطوري في تفسير الشعر الجاهلي
91-146 و149-204.
(117)-انظر مثلاً: نظرية
الأدب 245 وما بعدها والرمز الشعري 27-33.
(118)-انظر الصورة في
الشعر العربي 123 وما بعدها و138 وما بعدها وراجع خاصة فيه 125 و127-128 و130 و140
و141. وقد أخذ أفكاراً بعينها من كتاب الأساطير والخرافات عند العرب 25 ولم يشر
إليها، وناقشه صاحب كتاب المنهج الأسطوري 104.
(119)-انظر نظرية الأدب
248 وما بعدها.
(120)-انظر في الأدب
الجاهلي 265-268 و308 ومناهج الدراسة الأدبية 7 و223 و226-227 و234 و238. وراجع ما
ورد عن تعاون المناهج في (ثقافة الناقد الأدبي 65-67 و383-384 ) وفي الميزان
الجديد 162 و172 و181.
(121)-انظر قضايا الشعر
في النقد العربي 85-89 و95 و110-114.
(122)-انظر التفسير
النفسي للأدب 53 وثقافة الناقد الأدبي 34-67 و382-384 وقراءة ثانية لشعرنا القديم
133 والمذاهب الأدبية والنقدية 146 و203 وما بعدها ومدخل إلى مناهج النقد الأدبي
15-57 وبلاغة الخطاب وعلم النص 25 و97 وما بعدها 231.
Þ
¡
المصادر والمراجع
1-إبداع الدلالة في
الشعر الجاهلي –د.محمد العبد-دار المعارف بمصر-ط1-1988م.
2-إبداع ونقد-قراءة
جديدة للإبداع في العصر العباسي-د.حسين جمعة-دار النمير-دمشق-2003م.
3-الإبل في الشعر
الجاهلي "دراسة في ضوء علم الميثولوجيا والنقد الحديث" –د.أنور أبو
سويلم-دار العلوم-1983م.
4-الأساطير "دراسة
حضارية مقارنة" –د.أحمد كمال زكي-دار العودة-بيروت-ط1-
1979م.
5-الأساطير والخرافات
عند العرب-د.محمد عبد المعيد خان-دار الحداثة-بيروت-ط3-1981م.
6-أسرار البلاغة-عبد
القاهر الجرجاني-دار المعرفة-بيروت-1978م.
7-الأسس النفسية للإبداع
الفني؛ في الشعر خاصة-مصطفى سويف-دار المعارف-القاهرة-1969م.
8-الأغاني لأبي الفرج
الأصفهاني-دار إحياء التراث-بيروت-د/ت-(صورة عن طبعة دار الكتب).
9-الأمالي لأبي علي
القالي –دار الكتاب العربي-بيروت-(نسخة عن طبعة دار الكتب المصرية).
10-بلاغة الخطاب وعلم
النص-د.صلاح فضل-عالم المعرفة-الكويت-عدد 164-1992م.
11-البيان
والتبيين-للجاحظ-تحقيق عبد السلام هارون-دار الفكر-بيروت-ط4-د/ت.
12-التفسير النفسي
للأدب-د.عز الدين إسماعيل-دار العودة والثقافة-بيروت-1963م.
13-التفكير البلاغي عند
العرب-صمادي صمود- منشورات الجامعة التونسية-تونس-مجلد 21-1981م.
14-ثقافة الناقد
الأدبي-د.محمد النويهي –مكتبة الخانجي-مصر-ودار الفكر-بيروت-ط2-1966م.
15-حديث الأربعاء –د.طه
حسين-دار المعارف بمصر-ط11-1976م.
16-الحياة العربية من
الشعر الجاهلي –د.أحمد الحوفي-دار نهضة مصر-القاهرة-ط5-1972م.
17-الحيوان للجاحظ-تحقيق
عبد السلام هارون-نشر المجمع العلمي العربي الإسلامي-بيروت-د/ت.
18-الحيوان في الشعر
الجاهلي –د.حسين جمعة-دار دانية للطباعة-دمشق-ط1-1989م.
19-دراسات في الشعر
الجاهلي –د.يوسف خليف-مكتبة غريب-القاهرة-1981م.
(20)ـ دلائل الإعجاز ـ عبد
القاهر الجرجاني ـ تحقيق محمود شاكر ـ مكتبة الخانجي ـ القاهرة ـ 1984.
(21)ـ ديوان امرئ القيس
ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ دار المعارف بمصر ـ ط4 ـ 1984.
(22)ـ ديوان أمية بن أبي
الصلت ـ صنعة د. عبد الحفيظ السطلي ـ دمشق ـ ط2 ـ 1977م.
(23)ـ ديوان طرفة بن
العبد ـ تحقيق درية الخطيب ولطفي الصقال ـ مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق ـ
دمشق ـ 1395هـ/1975م.
(24)ـ ديوان عروة بن
الورد (ضمن: ديوانا عروة والسموأل) ـ تحقيق كرم البستاني ـ دار صادر ودار بيروت ـ
بيروت ـ 1384هـ/1964م.
(25)ـ ديوان لقيط بن يعمر
ـ تحقيق د. عبد المعيد خان ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1987م.
(26)ـ ديوان النابغة
الذبياني ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ دار المعارف بمصر ـ 1977م.
(27)ـ الرؤى المقنعة ـ
د. كمال أبو ديب ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 1986م.
(28)ـ الرثاء في
الجاهلية والإسلام ـ د. حسين جمعة ـ دار معد للطباعة ـ دمشق ـ ط1 ـ 1991م.
(29)ـ الرمز الشعري عند
الصوفية ـ د. عاطف جودة نصر ـ دار الأندلس والكندي ـ بيروت ـ 1978م.
(30)ـ سايكولوجية الشعر
ـ نازك الملائكة ـ وزارة الثقافة ـ بغداد ـ 1993م.
(31)ـ شرح ديوان لبيد بن
ربيعة ـ تحقيق د. إحسان عباس ـ مطبعة حكومة الكويت ـ الكويت ـ 1984م.
(32)ـ الشعراء الصعاليك
ـ د. يوسف خليف ـ دار المعارف بمصر ـ 1959م.
(33)ـ الشعر الجاهلي
"تفسير أسطوري" ـ د. مصطفى الشورى ـ دار المعارف بمصر ـ ط1 ـ 1986م.
(34)ـ الشعر الجاهلي
"منهج في دراسته وتقويمه" ـ د. محمد النويهي ـ الدار القومية للطباعة ـ
القاهرة ـ د/ت.
(35)ـ شعر الرثاء في
العصر الجاهلي ـ د. مصطفى الشورى ـ الدار الجامعية ـ بيروت ـ 1983م.
(36)ـ شعر زهير بن أبي
سلمى ـ تحقيق د. فخر الدين قباوة ـ دار الآفاق الجديدة ـ بيروت ـ ط3 ـ 1400هـ/1980م.
(37)ـ شعر الصعاليك
"منهجه وخصائصه" ـ د. عبد الحليم حفنى ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ
1979م.
(38)ـ الشعر كيف نفهمه
ونتذوقه ـ إليزابيث درو ـ ترجمة د. محمد إبراهيم الشوش ـ نشر مكتبة منيمنة ـ بيروت
ـ 1961م.
(39)ـ شعرنا القديم
والنقد الجديد ـ د. وهب رومية ـ عالم المعرفة ـ الكويت ـ عدد 207 ـ 1996م.
(40)ـ الشعر والشعراء
لابن قتيبة ـ تحقيق أحمد محمد شاكر ـ دار المعارف بمصر ـ 1966م.
(41)ـ الصورة الأدبية ـ
د. مصطفى ناصف ـ دار الأندلس ـ بيروت ـ ط3 ـ 1983م.
(42)ـ الصورة الفنية في
التراث النقدي والبلاغي ـ د. جابر أحمد عصفور ـ دار المعارف بمصر ـ د/ت.
(43)ـ الصورة الفنية في
الشعر الجاهلي ـ د. نصرت عبد الرحمن ـ مكتبة الأقصى ـ عمان ـ الأردن ـ ط1 ـ 1976م.
(44)ـ الصورة في الشعر
العربي ـ د. علي البطل ـ دار الأندلس ـ بيروت ـ ط3 ـ 1983م.
(45)ـ طبقات فحول الشعر
لابن سلام ـ تحقيق محمود شاكر ـ مطبعة المدني ـ القاهرة ـ 1394هـ/1974م.
(46)ـ العمدة في محاسن
الشعر وآدابه ونقده ـ لابن رشيق ـ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ـ دار الجيل ـ
بيروت ـ ط4 ـ 1972م.
(47)ـ فصول في الأدب
والنقد ـ د. طه حسين ـ دار المعارف بمصر ـ 1935م.
(48)ـ فصول في الشعر
ونقده ـ د. قاسم المومني ـ المركز العربي للخدمات الطلابية ـ عمان ـ الأردن 1994م.
(49)ـ في الأدب الجاهلي
ـ د. طه حسين ـ دار المعارف بمصر ـ ط10 ـ 1969م.
(50)ـ في جمالية الكلمة
ـ د. حسين جمعة ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ 2002م.
(51)ـ في سيماء الشعر
القديم ـ محمد مفتاح ـ دار الثقافة ـ الدار البيضاء ـ المغرب ـ 1403هـ/1982م.
(52)ـ في الميزان الجديد
ـ د. محمد مندور ـ دار نهضة مصر ـ القاهرة ـ 1973م.
(53)ـ قراءة ثانية
لشعرنا القديم ـ د. مصطفى ناصف ـ دار الأندلس ـ بيروت ـ ط2 ـ 1981م.
(54)ـ قراءة جديدة
لشعرنا القديم ـ صلاح عبد الصبور ـ دار اقرأ ـ بيروت ـ 1402هـ/ 1982م.
(55)ـ قصيدة الرثاء ـ
جذور وأطوار ـ د. حسين جمعة ـ دار النمير ـ دمشق ـ ط1 ـ 1998م.
(56)ـ قضايا الشعر في
النقد العربي ـ د. إبراهيم عبد الرحمن محمد ـ دار العودة ـ بيروت ـ ط2 ـ 1981م.
(57)ـ لسان العرب
(اللسان) ـ ابن منظور ـ دار صادر ـ بيروت ـ د/ت.
(58)ـ اللغة والخطاب
الأدبي ـ ميشيل ريفاتير ـ ترجمة سعيد الغانمي ـ المركز الثقافي العربي ـ بيروت
1993م.
(59)ـ اللفظ والمعنى في
التفكير النقدي والبلاغي عند العرب ـ د. الأخضر جمعي ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق
ـ 2001م.
(60)ـ مجلة فصول ـ مج3 ـ
ع3 ـ نيسان/ أبريل ـ 1981م، مج4 ـ ع2 ـ آذار/ مارس ـ 1984م.
(61)ـ مجمع الأمثال
للميداني ـ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ د/ت.
(62)ـ مدخل إلى مناهج
النقد الأدبي ـ عدد من الكتاب ـ ترجمة د. رضوان ظاظا ـ عالم المعرفة ـ الكويت ـ
عدد 221 ـ 1997م.
(63)ـ المذاهب الأدبية
والنقدية ـ د. شكري محمد عياد ـ عالم المعرفة ـ الكويت ـ عدد 177 ـ 1993م.
(64)ـ مشهد الحيوان في
القصيدة الجاهلية ـ د. حسين جمعة ـ دار دانية ـ دمشق ـ 1990م.
(65)ـ المصطلح النقدي ـ
د. عبد السلام المسدي ـ مؤسسة عبد الكريم بن عبد الله ـ تونس ـ 1994م.
(66)ـ المعجم الفلسفي ـ
د. عبد المنعم الحنفي ـ الدار الشرقية ـ القاهرة ـ ط1 ـ
1990م.
(67)ـ المفضليات ـ
المفضل الضبي ـ تحقيق أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون ـ دار المعارف بمصر ـ ط5 ـ
1976م.
(68)ـ مناهج الدراسة
الأدبية ـ د. شكري فيصل ـ دار العلم للملايين ـ بيروت ـ ط3 ـ 1392هـ/ 1973م.
(69)ـ منهاج البلغاء
وسراج الأدباء ـ حازم القرطاجني ـ تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة ـ دار الغرب
الإسلامي ـ بيروت ط2 ـ 1981م.
(70)ـ المنهج الأسطوري
في تفسير الشعر الجاهلي ـ عبد الفتاح محمد أحمد ـ دار المناهل للطباعة ـ بيروت ـ
1408هـ/ 1987م.
(71)ـ مواقف في الأدب
والنقد ـ د. عبد الجبار المطلبي ـ وزارة الثقافة ـ دار الرشيد ـ العراق ـ 1980م.
(72)ـ موسيقى الشعر ـ د.
إبراهيم أنيس ـ دار القلم ـ بيروت ـ ط4 ـ 1972م.
(73)ـ نحو تحليل بنيوي ـ
د. كمال أبو ديب. راجع رقم 60 ـ مج 3 ومج4.
(74)ـ نظرية الأدب ـ
أوستن وارين ورينيه ويليك ـ ترجمة محيي الدين صبحي ـ مراجعة د. حسام الخطيب ـ
مطبعة خالد الطرابيشي ـ دمشق ـ 1972م.