البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

الخميس، 22 سبتمبر 2011

حوار شيق ومثمر مع أبي اللسانيات الجزائرية البروفيسور العالمي عبد الرحمن الحاج صالح

تقديم 
الحاج صالح عبد الرحمان  أستاد جامعي وأكاديمي عالمي في اللغويات وهو يرأس الآن  المجمع الجزائري للغة العربية ألتقاه  في هدا الحوار الشيق / محمد كاديك وأسامة إفراح  وصرح لهما بالآتي 

العرض
 
أبدى السيد رئيس الجمهورية استياء كبيراًً من تدنّي التكوين في الجزائر ولاحظ في هذا الإطار أن الشبان لا يتقنون لا العربية ولا اللغة الأجنبية. فما هو رأيكم في ذلك كاختصاصي في هذا الميدان وكأستاذ في اللغات؟  
لا شك أن السيد الرئيس كان له من المعطيات في هذا الميدان ومن المعطيات الموثوقة ما يبرّر هذا الذي قاله. وأعتقد أن لهذا التدنّي وهذا التدهور أسبابا عميقة يرجع بعضها إلى أقدم السنوات من استقلال بلادنا. ولها عدة جوانب وتنتمي إلى أكثر من ميدان في نظري.
أما فيما يخص التكوين عامة فلم يكن في العهد الأول بعد استرجاعنا لسيادتنا بسنين متدنّيًا أبدا بل صار أحسن مما كان عليه في عهد الاحتلال نظرًا أولا لإيمان المكوّنين في ذلك الوقت ببلادهم وفي مستقبل بلادهم وحماسهم بما كانوا يعملون. فقد كانوا يتحصلون على نتائج باهرة على الرغم من قلتهم كمكونين. إلى أن جاء وقت تطبيق الإيديولوجيات على المجتمع الجزائري مع التخليط بين هذه الإيديولوجيات والنظريات العلمية. فأدى ذلك إلى ما كانوا يسمونه بالاكتفاء الذاتي (بالاستغناء عن الشرق والغرب معًا) واقتناع المسؤولين آنذاك بأن هذا الاكتفاء ينطبق حتى على العلم والتكوين. فتقوقعت الجزائر في أخطر الميادين وهو هذا التكوين. وكان من الممكن جدا أن يستمرّ التعاون في إطار خاص وهو إعطاء الفرصة لطلابنا من الاستفادة من أساتذة كبار من الخارج لمدة معينة وبأي شكل كان ومن الاختصاصيين الأجانب المعروفين عالميا للإشراف على البحث العلمي وكل هذا كان فتوقف فجأة.
وفكرة أخرى أحس جميع الناس الآن بخطورتها وهي تفضيل الكم على الكيف تطبيقا لمبدأ المساواة التامة بين جميع المواطنين وتجنبا للتمييز بين فئات المجتمع. وهذا وإن كان في أول الأمر جيدا إذ لا مستقبل للبلاد إلا على أساس المساواة إلا أنه بطول الزمان ينقلب المبدأ إلى ما يسمى «بالتسوية نحو الأسفل» أي بتخفيض المعتلى. وكل المواطنين يدركون اليوم أنه السبب الأساسي لتدني المستوى. إلا أنه وعلى الرغم من اجماع الأمة على ذلك فلم يحصل بعد الإيقاف المنشود لهذا التدني. وعلى هذا فإن هذا السبب القديم ليس هو الوحيد إذ التدني قد استمرّ بل زاد وتفاقم مع زوال هذا السبب إلى حدّ بعيد.
وهناك أسباب أخرى كثيرة تدخل في هذا الإطار نذكر منها تغيير نظام التعليم الجامعي فجأة أيضا وجعل كل وحداته على نمط واحد (clonage) فكل وحدة كان يجب أن تكون معهدا وكل المعاهد كان يجب أن تكون على نظام إداري واحد ! واعتمد نظام من الامتحانات غايته تجنب «ضياع» الطلاب. وما تزال هذه الفكرة راسخة في أذهان الكثير من المنظرين.
والذي أعتقده فيما يخص هذه الفكرة هو أن ضياع الطلاب والتلاميذ الكثيرين في أثناء مسارهم التعليمي هو بلا شك كارثة إلا أن التسامح في حل المشكل بفتح الأبواب لأكثر التلاميذ والطلاب ـ  بأي وسيلة كانت إلا رفع المستوى ـ  هو أيضا كارثة بل هي الكارثة التي أصابت كل التكوين في بلادنا على اختلاف مراتبه. وكم من منظر سمعناه يصيح عندما يطلع على ضعف النتائج: «إن هذا الضياع لا مبرّر له! ولا بد لي مع ذلك أن أعمل بأي اقتراح لتفادي هذا الضياع» وهو لا يذكر السبب الحقيقي بل اقتنع أنه مجرد ظلم فيجب إنجاح أكثرهم.
ثم تصور آخر أعتبره خطأ وهو الاعتقاد أن الطلاب في الدراسات العليا كالماجستير يجب أيضا ألا يضيعوا. فلا ضياع في الحقيقة في هذا المستوى العالي فكلما صعدنا في درجة العلم والكفاءة كان التفوق هو المقياس وسرّ نجاح الأمم. والتسوية بين جميع مراتب التعليم في الضياع هو اعتقاد من لا يهمه المستوى وينفر من مفهوم النخبة حتى في ميدان العلم والكفاءة. ويوم كان أصحاب هذا الاعتقاد كثيرين، أذكر أحدًا منهم وهو يقول: «نحن لا نريد أن تتكون عندنا أية نخبة نحن مع المساواة»! فهذا أيضا تخليط بين الطبقة المتسلطة على غيرها بالمال أو الوراثة أوالحكم وبين النخبة من العلماء والمتميّزين بعلمهم وخبرتهم وهل من أمة في الدنيا وفي التاريخ (حتى في الاتحاد السوفياتي) إلا بعلمائها ومفكريها؟ فهذه النزعة المتطرفة كانت أيضا قد سببّت التدني في التكوين باسم المساواة.
ثم إن هذا لا يعني أننا ننكر مبدأ تكافؤ الفرص فهو مبدأ لابد منه في أي ديموقراطية حقيقية إلا أنه ينبغي أن ينطبق على: المشاركة في أي امتحان أو أي مسابقة في أي مرحلة من المسار التكويني مع تساوي الشروط للجميع ولا يقوم أبدا مقام الاختبار نفسه الذي غايته تبيّن الكفاءة ليس إلا
وهل تعتقدون أن التساهل في قبول المترشحين منتشر في بلادنا؟
أعتقد أن التساهل الذي سببه التخلّص من المشاكل (في أدنى المراتب المهنية وأعلاها) هو غير قليل في بلادنا ولاسيما في مستوى التسيير فهذا مثال واضح: عُرفتُ في الوسط الجامعي من 1962 إلى الآن بالتشدّد كأستاذ وكل من يُنْصف الأساتذة الذين يقفون مثل هذا الموقف يقول إنه تشدد موضوعي يرمي إلى تحصيل النوعية. فقد حصل مرارا أن طلبت من طلبتي أن يراجعوا بجدّ ما قدموه لي من عمل. فأكثرهم والحمد لله يستجيبون ويُصبحون بعد نجاحهم من أشد الناس حماسًا لمادتهم التي درسوها وهذا يشرفني. وبعضهم –القليل ـ  يرفضون ذلك وهم أحرار إلا أن بعض من كنت عضوا في لجنته للتحكيم ممن كنت استضعفت عملهم –مع أساتذة آخرين ـ  استطاع أن يقنع الإدارة بإبعادي من اللجنة بدلا من أن يراجع عمله مع وجود من وافقني في تقويمي من أعضاء اللجنة. ووصل الأمر إلى أن سجل بعض من كنت أشرف عليهم مع أستاذ آخر خفية! مخالفا للقانون فحتى ولو كنت متشددا فما المانع من مراجعة العمل إذا كان المقصود إعلاء المستوى؟ خصوصا إذا كان يقاسمني في الرأي غيري من الأساتذة.
إن تدهور المستوى في الجامعة قد يسبّبه أيضا هذا التساهل من قبل الطالب ومن بعض المسيرين الذين لا يريدون مواجهة المشاكل وهذا مثال واحد وقد سمعت الكثير من زملائي يشتكون من هذا الذي حكيته.
ومن أكثر من 40 سنة ما أزال أكرر هذه الحقيقة: آفة العلم التساهل! فكيف يتصور ألا يتشدد في تكوين ربان الطائرة والطبيب والصيدلي والمعماري وهم المسؤولون عن حياة الناس. فالتسامح في التكوين خطير جدا يترتب عليه اطراد الضعف وعدم التحكم في جميع شؤون الناس بل وشؤون الأمة كلها.
 هذه أسباب موضوعية وماذا تقولون فيمن يتهم اللغة العربية وتعريب التعليم بإحداث هذا التدهور؟
أجمع العلماء من أهل الاختصاص شرقا وغربا أن لا ذنب للغة، أي لغة، في تأخر الناطقين بها أو جهلهم أو ضعفهم في مستواهم الثقافي. فاللغة العربية بريئة على الإطلاق من كل تهمة تخص هذا الضعف. فإن كان أصحابها ممن لا يخترعون ولايبدعون فهو لأسباب أخرى تاريخية محضة وهي في ذاتها لغة كسائر اللغات البشرية: كلها قادرة على التعبير عن أي شيء. فهذه حقيقة أثبتها علماء اللسان بالإجماع. أما المصطلحات فهي غير ناقصة بالنسبة لها فأما ما ينقصها من المصطلحات الجديدة فكل اللغات في الدنيا بدون استثناء غير قادرة أن تسابق في ذلك الآن الانكليزية لكثرة ما يوضع يوميا من المصطلحات العلمية بهذه اللغة وهذا طبيعي جدا إذا عرفنا ما للغة الإنكليزية من السيطرة بسبب ما يخرجه إلى الوجود الناطقون بها من المفاهيم العلمية.
إلا أنه لابد من ملاحظة هامة جدا. فالضعف في المستوى يسببه أيضا –زيادة على ما ذكرناه وما سنذكره ـ  معرفة الأستاذ أو الباحث للغة واحدة يتقوقع فيها إن لم تكن مثل الإنكليزية التي حظيت بأن تكون في زمان العولمة بهذا السؤدد العلمي والاقتصادي والتكنولوجي. ولا أبالغ إذا قلت بأن معرفة الفرنسية وحدها أو حتى الانكليزية –وحدها ـ قد يكون سببًا للتقوقع أيضا من جانب من الجوانب. والدليل على ذلك هو سلوك المواطن الأمريكي أو الأوروبي فتقوقعه في لغة واحدة ـ وبالتالي جهله تماما للحضارات الأخرى والذهنيات غير ذهنيته ـ تؤديه إلى الاعتقادات الخاطئة بل السلوكات الظالمة يكون لها عواقب وخيمة لهم وللعالم بأسره.
فالجزائري أو أي مواطن من الغرب أو الشرق كإطار أو كأستاذ ممن لايعرف إلا لغة واحدة فهو متقوقع فيما تنقله هذه اللغة وحدها أيا كانت اللغة فخذ مثال اللغوي الذي لايستطيع أن يطلع على ما يظهر من النظريات العلمية فإنه لايذكر من ذلك إلا ماترجم إلى لغته وقد يكون تجاوزه الزمان. ومثال لذلك كتاب فندرياس وهو لغوي عاش في بداية القرن العشرين فلم يعرف أكثر اللغويين في المشرق إلا كتابه طيلة 50 سنة!وينطبق ذلك على كل العلوم وخاصة العلوم الدقيقة والتكنولوجيا. هذا وكيف يمكن أن يثرى الفيزيائي أو البيولوجي معلوماته إذا لم يستطع أن يطلع على أحدث ما يصدر من البحوث باللغات الأجنبية؟ وخذ مثال الجزائري الذي لايعرف إلا الفرنسية كلغة علمية فهذا متقوقع فيما تنقله اللغة الفرنسية وحدها لأن اللغة هي كالراشح الذي يمنع بعض الأشياء من المرور أو كالحجاب الفكري الذي يحجُب أو يشوه الرؤى التي لا تنتمي إلى الثقافة الفرنسية أو الغربية عموما.. ثم إن اللغة العربية هي لغة التعليم في جميع مراتبه إلا العلوم في التعليم العالي والغريب أن الدول العربية أجمعت على ذلك إلا سوريا. وأعتقد أن السبب في ذلك هو الخوف الشديد من امتناع الاطلاع على كل ما مايصدر كل يوم من المفاهيم العلمية والنظريات والتقنيات وهو ضخم جدا ومن ثم الخوف من الانعزال تماما من الحركة العلمية العالمية ويستحيل، مع ذلك، نقل الآلاف من النصوص إلى العربية باستمرار وفي مدة معقولة.هذا وإذا كان كل الطلاب وكل الأساتذة يعرفون اللغة الأجنبية معرفة تامة تمكنهم من الرجوع إلى الإنتاج العالمي وإلى المراجع الكثيرة فما المانع من أن تكون للعربية مساهمة بل ومكانة هامة في تعليم العلوم في العالي. فإقصاؤها تماما من هذا التعليم ليس له أي مبرّر وأصل الأصول في ذلك أن لا تترك اللغة الأجنبية وحدها في أي ميدان من الميادين وإقصاء العربية بهذه الكيفية يؤدي إلى انزوائها في زاوية واحدة من الاستعمال فتنقص بذلك قيمتها عند مستعمليها أنفسهم إلى حدّ الاحتقار. ثم إن من نطق بلغة صباح مساء فهو أو سيصبح من أهلها. هذا ومن جهة أخرى فان من أسباب تدني المستوى هو ضعف الطلاب في اللغتين وقد يعجزون الآن عن فهم ما يلقى من دروس باللغة الأجنبية.
              هل هناك أسباب أخرى للتدهور؟
نعم فزيادة على ما ذكرنا، فإن هناك سببا آخر ليس بالقديم وهو سبب الفتور أو الخمول لكل ما تقوم به الجزائر من المشاريع ألا وهو بلى المؤسسات لا في مبانيها وأجهزتها بل في سيرها وتسييرها لبقاء مسيريها على ما كانوا عليه من ذهنية أي بعقلية وتصورات الستينيات. فطريقة السير فيها هي التي بليت بحكم العادة والروتين فالعادة كما هو معروف تخدر الشعور بالواقع فيصبح الإنسان لا يدرك ما فيه من نقص. فكل المؤسسات البشرية يصيبها البلى بكثرة الاستعمال وطول الزمان وعدم التجدّد إلا بإعادة الهيكلة بلا فائدة. وقد يحس بالضعف بهذا البلى بعض المسؤولين أو بعض الأجانب عن المؤسسة. وعند اكتشاف ذلك يأمر بعضهم بإجراء الإصلاحات اللازمة وقد لا تستجيب غالبا لما يتطلبه الوضع.
فمؤسسات التعليم هي هكذا لا يحس المسيرون لها أن السبب في عدم نجاعتها هو خمولها وجمودها ومثال ذلك هو بقاء بعض المسيرين إلى الآن ـ  على الاعتقاد القديم بضرورة الفصل المطلق بين المعارف ومؤسسات التكوين: فهذه كلية الآداب وتلك كلية العلوم وكل مسار فيها يجب ألا يتداخل مع غيره حتى النهاية بما فيه مستوى الدكتوراه ولا يتصور أن يسجل الرياضي في ماجستير العلوم اللسانية ولا مهندس الحاسوبيات وهم لا يعلمون أن أنجع التكوين اليوم هو الذي لا يفصل بين المواد العلمية كالرياضيات وعلوم الإنسان بل قد نشأ في العالم اتجاه مهم ومفيد وهو اشتراك التخصصات في المستوى العالي لعلاج نفس الموضوع وهو الذي يسمى بتعدد التخصصات (وليس بجديد في الخارج) وليس معناه مجرد إدخال جانب من الرياضيات في ماجستير علم النفس أو علم الاقتصاد فهذا قد لا يؤثر بل يكون باهتمام بعض الرياضيين بظواهر اللسان من حيث هي بنى يمكن صياغتها رياضيًا فيحتاج أن يدرس مبادئ من علوم اللسان حتى يستطيع فهم هذه الظواهر وهذا صار في زماننا من أنجع المناهج في البحث العلمي والبحث التكويني. وبقي هؤلاء على تصورهم القديم ولا يريدون به بديلا! وأكثرهم يجهلون أن العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية قد تداخلت اليوم بحيث لا يتصور الآن أن يكون المتخصص في علم النفس أو علم الاجتماع أو علم اللسان جاهلا بطرائق الصياغة المنطقية الرياضية الحديثة التي تمكنه من إقامة المقارنة الدقيقة بين نظرية وأخرى بل جاهلاً بأن يكون اللساني اليوم يلم بالمفاهيم الرياضية التي يحتاج إليها. إلا أن بعض المسيّرين عندنا لا علم لهم بذلك.
ولكن الأخطر في ذلك ليس هذا البلى للتصورات وطرائق التسيير للبحث أو التكوين بل في عرقلة هؤلاء لكل مالا عهد لهم به وكل مالا يعرفونه فينفرون عنه ومن جهلهم تعطيلهم المشاريع التي أساسها العمل الجماعي بين عدة تخصصات (interdisciplinaire) فيتم ذلك بإدماجها في منظومة واحدة وتتناول نفس الظواهر.
 أما محاولات التجديد فحاصلة إلا أنها تنطبق غالبا على تنظيم المسار التكويني ويبدو أن إعادة التنظيم وإعادة الهيكلة للمؤسسات هو أهم شيء عندنا وقد أُصيب بعضهم بما نسميه بجنون إعادة الهيكلة! وقد كثر على الألسنة والأقلام لفظ «المنظومة التربوية» «والخارطة الجامعية». وهذا وإن كان أحيانا ضروريا إلا انه لا يمس جوهر المشكل وقد يكون مجرد تقليد لغيرنا وذلك مثل إعادة تنظيم الدراسات العليا واعتماد النظام الأمريكي بعد اعتماد فرنسا له. وقد ينفع هذا الإصلاح لو كان المحيط الذي يعيش فيه الطالب هو قريب من المحيط الأجنبي حيث يتم توفير جميع أدوات العمل من مراجع وأجهزة وظروف المعيشة المريحة التي تخلّص الطالب والأستاذ من هموم الحياة المادية وتضمن له هناء الفكر والتفرغ التام للدراسة ومع ذلك يُجبر الطالب على إتمام رسالته في عام بعد عام دراسة ثم قد يسمح لبعضهم بعام آخر. وبعد ذلك يتم إقصاء الطالب. فهذا، في نظري، هو من أكبر الدوافع على العمل البخس وخاصة في العلـوم الإنسانية. وهو ليس بتجديد بل مجرّد تقليد للغير مع اختلاف الوضع فالتجديـد هو بتغيير الوضع كاملا لا بنقل ما عند غيرنا جزئيا وبدون مراعاة الواقع. فهذه صرخة أرجو أن يسمعها من يعنيه الأمر حتى  لا تصير رسـائل
الماجستير مساوية لمذكرة آخر اللسانس أو أقل. فالذي نرجوه هو أن تضاف سنة للنظام الجديد مع السماح للطالب أن يناقش ولو بعد الأجل إذا كان عمله جيدا جدا بشهادة أكثر من أستاذ. وهناك أسباب أخرى خطيرة أيضا وهو في هذا الإطار تناسينا تماما لأهمية تكوين المكونين القصوى.                 


ومع ذلك فإن المسؤولين وغيرهم لايزالون يلحّون على أهمية تكوين المكونين وأسبقيته وخطورته. وهل لكم أن تفسروا لنا ذلك؟
كان تكوين المكونين في القديم من أهم القضايا وأخطرها عند كل المسؤولين. وما يزال بالفعل في أيامنا هذه عند بعضهم إلا أنه على الرغم من كثرة ما يجري من الكلام حوله فإنه لا يزال مشكلا قائما وهو من أعسر المشاكل وأعوصها حلاّ. والدليل على فشل جميع المحاولات هو إلغاء المؤسسات المخصصة للمرحلة الأولى من التعليم وهي التي كانت تسمىّ قديماً «بمدارس تكوين المعلمين» وسميت كل مدرسة منها بعد ذلك بالمعهد التكنولوجي للتربية (لا أدري لماذا؟) ثم اختفت لا ندري أيضا لماذا. والكلام عن هذه القضية مرتبط بعدة جوانب من تدهور المستوى وكيفية معالجته.

 نعم فان شئتم أن تعرضوا الآن على القراء كيف يمكن في رأيكم أن نوقف هذا التدني في التكوين ابتداءً من مشكل تكوين المكونين ثم الرطانة اللغوية الملاحظة في بلادنا؟
أما فيما يخص الإصلاح الذي قرر تطبيقه في المنظومة التربوية ففيه أشياء إيجابية جدا وفيه أيضا بعض الأشياء السلبية في نظري ومهما كان فإن الذي أقترحه كأستاذ ذي تجربة هو أفكار واتجاهات ويحتاج كل هذا إلى دراسة معمقة. أما فيما يخص مدارس تكوين المعلمين فقد كانت في السنوات الأولى بعد الاستقلال جدّ مزدهرة لنجاعة عملها التكويني ومردودها العلمي وكانت قد اشتهرت بذلك مدرسة بوزريعة بالعاصمة. ثم أدخل على هذه المدارس تغييرات كما فعلوا بالجامعات وتدهور مستوى التكوين هنا كما تدهور هناك وأنشئت مدارس عليا لتكوين أساتذة الثانوي منذ عهد غير بعيد وهناك جهود طيبة تبذل فيها ولاحظنا أن فيها مثل أقسام الكليات مع إضافات تخص علوم التربية. وهذا في رأيي غير كافٍ فالذي أراه هو أن يكون قسط التربية التطبيقية فيها أوسع وأشمل كأنْ يكون لكل وحدة حصة تعليمية تطبيقية خاصة بها (وفي كل أسبوع). وقد حصل في هذا الميدان في خارج الجزائر تقدم ملموس ينبغي ألا يستهان به. كما ينبغي أن تكون في كل ولاية مدرسة لتكوين المعلمين يرجع إليها عند الحاجة وفي كل إقليم (كل 5 أو 6 ولايات) مدرسة عليا للعلوم ومدرسة عليا للعلوم الإنسانية، وإن كانت لغة الدراسة هي العربية فلا مانع من أن تنظم محاضرات يلقيها عليهم اختصاصيون من الخارج في ميدان علم تعليم المواد بلغة أجنبية بل أصبح ذلك اليوم ضروريا لئلا تنقطع الصلة بين التكوين والبحث التكويني العالمي مما يتحصل عليه العلماء في العالم من جديد المفاهيم والطرائق التعليمية. كما يجب أن تبعث البعثات من أساتذة المدارس العليا إلى الخارج لتحسين معارفهم وتجديدها وذلك في إطار شراكة مع المدارس العليا الأجنبية ولا يُكتفى ببلد واحد في ذلك. وسر النجاح في ذلك هو المتابعة والتقويم المستمر لكل تكوين على أيدي لا المفتشين فقط بل بإرشاد الاختصاصيين وبالتعاون معهم. 
وفيما يخص هذا التعاون مع الخارج عموما فهو جد أساسي وأما ما هو قائم الآن فهو غير كاف في نظري. وكثيرا ما يبعث الطالب – في أي ميدان كان ـ  ويترك مصيره في يده فلا يتابع ولهذا فلا بد، في رأينا، أن تعدّ كل مؤسسة تعليمية عليا –جامعية أم غير جامعية ـ  مخططًا شاملا لتكوين أُطُرها ويستمر ذلك كلما احتاجت إلى المزيد من الأطر بنموها أو بخروج بعض أطرها من المؤسسة. وينبغي أن يكون هذا قانونا عاما ينطبق على جميع المؤسسات العليا من جامعات ومراكز بحوث ومدارس عليا وغيرها ولا يتهاون في تكوين المكونين بل يجنّد كل مسؤول ولا بد من دفع الثمن في هذا الميدان وتقوية الشراكة في ذلك في داخل الوطن وخارجه. ونلح فيما يخص مفهوم الشراكة فقد لا يدرك بعض المسيّرين أن هذا يبنى على تعاقد لا على مجرد اتفاقية بين حكومتين فقط ولا يترك المتكون بدون متابعة فيجب أن تنشأ في كل قسم من كل مؤسسة لجنة متابعة التكوين وقد يُكتفى باختصاصي واحد لعدة أفراد وكل عمل مثل هذا فله أجره ولا يستهان بكل هذا: فينبغي أن يكون تكوين المكونين، في نظرنا، من الأولويات الكبرى للوطن وشرط النجاح هنا هو أن يشمل ذلك كل المؤسسات العلمية والتعليمية وأن يبنى على مخطط عام على مستوى الوطن وينظم تنظيما دقيقا لا تسامح فيه من جهة ولا بيروقراطية تتسلّط عليه من جهة أخرى. 
وهناك عامل آخر لنجاح التكوين، زيادة على الاهتمام الكبير بتكوين المكونين وهو الاهتمام الكبير أيضا بالمتميزين من الطلبة ونعني بذلك كل من يفوق غيره بنسبة الذكاء يتجاوز من بعيد النسبة المتوسطة. فهؤلاء يعرفون في المدارس بتفوقهم غالبا في جميع المواد إلا القليل وحصولهم باستمرار غالبا على نتائج مدهشة. فهؤلاء هم ثروة عظيمة يمكن أن يخدموا البلاد لو خصص لهم تكوين مع أمثالهم يبنى على اختصار الطريق وعدم عرقلة ادارة أو احتياج مادي. وحصل شيء من التشجيع لبعضهم بإعطائهم الجوائز والمنح ولكن هذا غير كافٍ فالذي نراه هو التكفل الكامل بهم ماديا ومعنويا والاعتناء بهم باتخاد كل الاجراءات لجعلهم قادرين على العطاء فيما بعد وسيكون من أعظم العطاء بدون شك. فهذا هو استثمار قد لا نعرفه حق المعرفة في الميدان. وأمثال هؤلاء هم أغلى ثمنا من الثروات الطبيعية. وإن خصصت لهم مدارس فينبغي، في نظري، أن يبدأ ذلك بقاعات مخصصة لهم في المرحلة الأولى من التعليم الابتدائي وأن يستمر ذلك إلى النهاية ثم يخطط للأجيال المقبلة ولانتوقف. ثم ألا نسمح لأحد أن يندمج في هذه المؤسسات مع عدم توفر الشروط.
أما فيما يخص التنافس فهو مفهوم غريب عندنا وغائب تماما في ميدان التكوين مع أنه المانع الناجع الأهم لكل خمول والدافع للنشاط والحافز الأول للإنتاج إذ الاحتكار في كل شئ مصدر للجمود والانطواء على النفس. ففي ميداننا هذا ينبغي أن نفتح الأبواب للتنافس وأن يحتل المكان الذي يليق به إما بين المؤسسات وإما في داخل كل واحدة منها. وأما بين المؤسسات فلا يحصل إلا بين القطاع العام والقطاع الخاص. فقد أحسنت الحكومة عندما سمحت للمدارس الخاصة أن تنشط وأحسن من ذلك أن ألزمتها على التعليم بالعربية ( تفاديا لاستمرار الانفصال اللغوي بين المواطنين). فإن التنافس بين العام والخاص سيفيد بشرط أن يقدر على التنافس القطاع العام فإن لم يكن قادرا على ذلك الآن فهو دليل على احتياجه الماس إلى دفعة جديدة من أُولى الأمر منا ليستطيع التنافس وإلا تركه كل من يقدر على دفع الثمن لتعليم أولاده. أما إذا استطاع المنافسة فهو حينئذ بخير وستكون بلادنا بخير أكثر فأكثر. فالتنافس النزيه الذي ليس فيه غش وليس من عوامل التقسيم البات بين المواطنين هو في الواقع من أعظم أسباب النجاح في جميع الميادين بما فيه التكوين.
أما فيما يخص التنافس في داخل المؤسسة التكوينية فيتم ذلك بفتح درسين لنفس الحصة: أستاذان يكلف كل واحد بنفس الدرس فيمكن للطالب أن يختار ولا شك أن نوعية التعليم سترتفع بذلك وهذا ممكن في مستوى الجامعة أما في غيرها فصعب وهو معمول به غالبا في المؤسسات الحرة.
إن ما لاحظه فخامة رئيس الجمهورية قد لاحظه أكثر الناس أيضا فلماذا لا يتقن الشباب الجزائري اليوم لا العربية ولا اللغة الأجنبية ثم لماذا صارت لغته العامية بهذا الشكل من التداخل بين اللغتين؟
إن تدنّي المستوى في معرفة اللغتين هو مثل التدنّي في المعارف الأخرى: المعلم ثم أستاذ اللغة لم يحظ كل واحد منهما بتكوين كاف لا في معرفة اللغة نفسها ولا في كيفية تعليمها. فالمعلم اليوم لم يتلق دروسا خاصة بتعليم اللغات بالمستوى العالي المعروف في الخارج ثم لقد رقيت علوم اللسان إلى درجة عالية ولا علم له بذلك وخاصة من الجانب التطبيقي. وكان المعلم قديما المتخرج من مدرسة المعلمين يمرّ بطور يخصص للدراسة التطبيقية في تعليم اللغة وسائر المواد. وأما أستاذ اللغة المتخرج من المدرسة العليا أو من الكليات فهو أيضا كان يقضي زمانا كافيا للحصول على المهارة الكافية في تعليم اللغة. وهذا لم يستمر في علمي أو لم يطوّر التطور الكافي.
فقد بينت علوم اللسان التطبيقية منذ زمان أن التمرس في اكتساب الملكة في اللغة هو الأساس ككل مهارة وملكة اللغة تنمو بسرعة إذا مارس المتعلم الكلام في حالة خطابية معينة وبتنويع الأحوال الخطابية. ويتم ذلك دائما بإعمال آلة إدراكه ونطقه على مثال ثم مثال آخر وتشترك في ذلك حاسة السمع وحاسة البصر وآلة التلفظ. فتعلم اللغة هو ممارسة تكاد تنفرد عن غيرها أما معرفة أسرار اللغة ونظامها فهذا ميدان آخر ينتمي إلى علم اللسان النظري ويحتاج إليه معلم اللغة لا متعلم اللغة. فيجب على معلم اللغة أن يميّز بين هذه الجوانب المختلفة للغة فهناك اللغة كملكة يكتسبها المتعلم باستعمالها المنتظم في أحوال خطابية متنوعة فيتمثل بالتدريج قواعدها النحوية الصرفية في هذا الإطار لا بوسيلة أخرى إلا التمارين الخاصة بالتصرُّف في البنى كما يتمثل أيضا قواعد التبليغ وهي غير النحوية في نفس الإطار: فالغلط هو أن يعتقد المعلم أنه يجب تحصيل السلامة اللغوية بعيدًا عن تحصيل ملكة التبليغ وأكبر دليل على تحصيل الملكتين معًا بسهولة وبسرعة عجيبة هو ما نشاهده عند التعلّم العفوي للطفل الصغير للغة محيطه والمهاجر للغة البلاد الذي هجر إليها مع وجود ما يحفزه على ذلك. وقد يجهل المعلم أشياء كثيرة من هذا القبيل ومن أين له ذلك؟ وسوء التعليم يحصل بسوء التكوين.
أما الرطانة اللفظية التي أصابت العامية الجزائرية فهي خاصة بأهل المدن ومن تأثّر بهم أولا وتكثر على ألسنة الطلبة الذين تعلموا اللغتين. وليس كل مثقف يصيب كلامه هذه الرطانة خصوصا إذا كان ممن يتقن العربية أو اللغتين. فهذه الظاهرة تدل أولا على مستوى التعليم  الضعيف وهو يشمل كل البلاد، وثانيا على تساوي استعمال العامية مع الفرنسية عند هؤلاء في حالة الأنس والعفوية التامة فيقع هذا التداخل، وانتشار هذه الرطانة بالذات فبحكم قانون تغلب لغة الأكثرية على غيرهم فالمثقف الجزائري يصاب بهذه الرطانة بعدوى لغوية وبطول سماعه لهذه اللغة المختلطة. ولم يلاحظ مثل ذلك في عاميات الدول المغربية الأخرى إلا القليل لاطراد استعمال الشعب في هذه البلدان للهجتهم العربية مع قلة استعمالهم للفرنسية فيما بين أفراده بغير حاجة.
وقد تراكمت على ممرّ الأيام والسنين أسباب التدنّي ولم يكن كل مسير ولا كل معلم وأستاذ هو المسؤول على بقاء هذه الأسباب فالأكثرية منهم لا ذنب لهم أبدًا بل كلهم يبذلون ما في وسعهم في أداء مهامهم وكذلك المسؤولون في الوقت الراهن ليس لهم أي مسؤولية بما تراكم من ذلك. إلا أن الكثير من الذي لوحظ يحتاج في علاجه إلى تضامن أكبر بين كل المعنيين وتفتح أوسع لكل ما يمكن أن يساهم في حل مشاكل التكوين.
  معروف بمكانته في البحث العلمي في ميدان اللغة فهل له أن يحدثنا عن الدور الذي يمكنه أن يلعبه هذا البحث في تطوير العربية وترقيتها وتعليم اللغات الأخرى في بلادنا.
الإجابة: إن البحث العلمي في عصرنا هذا أصبح من الأعمال الضرورية بل الحيوية بالنسبة لكل الدول.فعدم الاهتمام بالبحث في عصر العولمة يجعلنا على الدوام تحت رحمة الدول القوية وعالة عليها، فتفوق هذه الدول هو بتفوقها في الاختراع والاكتشاف المستمرّ لا باقتصادها فقط فقد تكون بعض البلدان من العالم الثالث ذات اقتصاد مزدهر ولا إنتاج لها في ميدان العلم هذا وإن كان ازدهار الاقتصاد شرطا أوليا لهذا التفوق العلمي التكنولوجي. فيجب، على هذا، أن تكون تنمية البحث العلمي في بلادنا عند اهتمام المسيّرين في المرتبة الأولى كمرتبة النمو الاقتصادي، ثم لا تكوين ولا صناعة ولا رفاهية بدون تنمية علمية أصيلة والتقليد في هذا الميدان هو مثل الاكتفاء بالاستهلاك دون أي إنتاج. وقد لاحظنا في ممارستنا للتكوين والبحث العلمي أن الأساتذة والباحثين يأخذون بما تقوله النظريات الحالية وأخص بالذكر النظريات في العلوم الانسانية دون أي تمحيص لها ودون أي نظر سابق فهنا يكمن الخطر وسبب ذلك هو ضعف المستوى العلمي وعقدة النقص التي تنشأ بشعورنا بتفوق الغير المطلق في كل الميادين.
ولكسر هذه الحلقة المفرغة ينبغي، في نظرنا، أن نلتفت إلى هذه الاعتبارات: أولا: لقد أيقن جميع البشر أن لا إنتاج ـ ولا سيما في البحث العلمي ـ  إلا بشروط وهي: توقّف كل أجر وكل مكافأة على الإنتاج و هو أصل الأصول ثم إيجاد حوافز قوية جدا ثم إيجاد تنافس بين العاملين وفي الجامعات وخاصة بين الفرق من الباحثين وأخيرًا تحصين البحوث من البيروقراطية بإزالتها. وثانيا:منح الدولة لبرامج البحوث ما يتجاوز 1% من إنتاج الوطن الخام وتوفيرها جميع ما يحتاج إليه الباحثون في عملهم وحياتهم. وكل ما يجعل الباحث في أمن وفي راحة بال.ثم التشدّد في اختيار الباحثين المتميزين وإبعاد كل مستهزئ عقيم من هذا الميدان.
أما البحث العلمي في اللغة والعربية بالخصوص فقد كان تصورنا له منذ أسّس معهد العلوم اللسانية والصوتية (وقد قضى عليه لأسباب لم يصرح بها أحد) هو الاعتماد الأساسي على  العلوم الدقيقة والتكنولوجيا وعدم الفصل بينها وبين علوم اللسان بدعوى أن الأولى تدرس في كليات العلوم والهندسة والثانية في كليات الآداب. وهي حجة أهل البيروقراطية وبعض الأساتذة الذين تجاوزهم الزمان. وقد لا ينتبه بعضهم أن للسان عدة جوانب: الصوتي أي الأكوستيكي والفيزيولوجي والنفساني من حيث إنه لفظ ومعنى وبالتالي أداة تبليغ واتصال وأن هذا اللفظ له صور وبنى مختلفة وتحليلها يكون بطريقة رياضية منطقية والقدرة على استعمالها والتصرف في بناها هي مهارة مكتسبة بكيفية خاصة ثم بعض من يستعمل هذه الأداة قد يُصاب باظطرابات في هذا التصرف لفظًا ومعنى وغير ذلك مما تتصف به الظواهر اللغوية. فلكل جانب من هذه الجوانب ميدان من الدراسة العلمية بل وتتداخل هذه الجوانب في هذه الدراسة إذ لا يقدر المهندس والطبيب ومعلم اللغة وغيرهم ممن لهم اهتمام بهذه الظواهر أن يستغني عن البحث في صميم اللسان أي في هيكله ونظامه وكيفية استعمال المستعمل له. والتخصص ههنا هو تخصص في جانب واحد مما ذكرناه مع التعمق في معرفة بنى اللسان ومجاريها.
وقد تحصل الاختصاصيون الذين لهم هذه النظرة على فوائد كبيرة وعلى معلومات جديدة قد لا يتحصل عليها وهو معزول عن الاختصاصيين الآخرين في علوم اللسان. ولاسيما في العلاج الآلي للعربية وطرائق تعليمها.
وقد لا يكفي الاعتماد على هذا النوع من البحث الجماعي المتعدّد الآفاق والتخصّصات –مع وحدة الموضوع وهو الظواهر اللغوية وإن كان في الواقع من أهم العوامل في ترقية البحث. وذلك لأن البحث يحتاج إلى أن يعتمد أيضا على فرضيات –العلمية لا غير ـ  ومجموعها يكوّن نظرية علمية متماسكة وقد ظهرت في عصرنا عدة نظريات لغوية ينبغي، في نظري، ألا تؤخذ بدون أن تمحص وأن ينظر فيها الباحث النظر الناقد الموضوعي وأحسن محك في ذلك هو اختبارها على عدة لغات وخاصة العربية –أقول اختبار لا تبنيها وقد يبيّن الاختبار أن النظريات التي استخرجت كلها من النظر في اللغة الانكليزية خاصة واللغات الأوربية عامة لا يمكن غالبا أن تفسر بها وعلى أساسها هي وحدها خصائص اللغات الأخرى ولاسيما اللغة العربية وذلك مثل البنوية والوظيفية وغيرهما. وكان من حسن الحظ أن أحسسنا عند أول ما اطلعنا على ما يحتوى عليه كتاب سيبويه بوجود نوع من المفاهيم الدقيقة تكوّن نظرية أصيلة لم نجدها عند المتأخرين من النحاة وهذا له علاقة بما لوحظ من النـزعة الرياضية التي أظهرها الخليل بن أحمد. فكانت قراءتنا لكتاب سيبويه قراءة  جديدة تبلورت، فيما بعد. وسميت في الخارج ثم في الجزائر بالنظرية الخليلة الحديثة وهي الآن معتمدة في عدة بحوث وقدمت عدة رسائل أساسها هذه النظرية وحتى في علم تعليم اللغات والعربية خاصة.
ويقوم عدد من الفرق من الباحثين الآن ببحوث تعتمد على هذه النظرية ونظريات أخرى حديثة وذلك في مركز البحوث العلمية والتقنية لترقية اللغة العربية وقد تحصلت هذه الفرق على نتائج طيبة في مختلف الميادين الخاصة باللغة. ونذكر من ذلك البحوث في تعليم اللغات (العربية والانكليزية والفرنسية) وسر الجمع بين الباحثين في اللغات الثلاث هو إيتاء الفرصة للغة العربية والباحثين في طرائق تعليمها للعمل الجماعي بين كل الباحثين في هذا الميدان في مستوى المركز والمقارنة بين بحوثهم في طرائق تعلم كل لغة وهذا مفيد جدا بسبب الاتصال المستمر وتبادل الخبرة والاطلاع على نتائج الجميع بكيفية منظمة.
فالذي نتمناه هو أن تستمر هذه البحوث حتى تحقق الأهداف التي رُسمت لها إن شاء الله.          

بالنسبة لهذا المركز فقد سمعنا بأنه نسيج وحده من حيث تنظيم البحث –كما وصفتموه ـ  وما ترتب على ذلك من الإنتاج العالي المستوى.
نعم مثل هذا المركز يمكن أن يحقق الكثير مما يخص مشاكل التعليم اللغوي وخاصة تعليم اللغة العربية وفي ميادين أخرى كالاتصال باللغة العربية (تحسين مردوده وتنطيق الأجهزة الالكترونية بالعربية وغير ذلك) واللسانيات الحاسوبية وغير ذلك. والبحث فيه ينقسم إلى أربعة أقسام هي كالتالي: قسم اللسانيات العربية وصناعة المعاجم ثم قسم تعليميات اللغة العربية والتعليميات المقارنة بين العربية والفرنسية والانكليزية ثم قسم العلاج الآلي للغة وصياغة النظرية اللغوية وأخيرًا قسم العلاج الآلي للكلام والصوتيات وأمراض الكلام. وكلف المركز بالتنظيم التربوي والعلمي لماجستير العلوم اللسانية والتبليغ اللغوي تحت إشراف المدرسة العليا للآداب والعلوم الإنسانية. وقد نوقشت في النظام السابق أكثر من مائة رسالة كلها بتقدير عال. وتم اختراع جهاز يحوّل آليا النصوص المكتوبة بالعربية إلى كلام منطوق اصطناعي جدّ مفهوم وقام بذلك باحثو قسم العلاج الآلي للكلام ووضعت عدة برمجيات لشتى التحليلات والعلاج الآلي.
ومن أهم هذه الأقسام أذكر قسم تعليميات العربية واللغات الأجنبية المذكورة وقد نوقشت في هذا الميدان رسائل ماجستير مهمة وللباحثين فيه تجارب وطيدة ولهم حاليا برنامج بحث خاص بتحسين المردود للطرائق التعليمية للغة العربية أو الفرنسية لكبار المثقفين ممن لا يُتقن إحدى اللغتين. وذلك بتنظيم تعليم تجربي مركّز ومغلق هم بصدد إعداده وبإقامة مقارنة تقويمية متواصلة بين ما يجرى من تعليم العربية والفرنسية. وبرنامج آخر يرمي إلى رفع المستوى اللغوي لتلاميذ التعليم المتوسط وقد بدأوا في ذلك بتقويم منتظم لما يجري الآن وخرج أكثر ما تحصلوا عليه على شكل رسائل جامعية (كما سبق أن ذكرناه).
ولهذا العمل الجدّي المفيد آفاق بعيدة وسيكون له وقع عميق في تعليم اللغات في الجزائر لأنه بحث يعتمد على نظرية لسانية لها خصائصها وفيما يخص تعليم العربية فالنظرية التي تخصها مستنبطة ومستوحاة من صميم البُنى العربية ومجاريها لفظا ومعنى. وقد حاول بعضهم أن يطبقوها على الانكليزية فناقش بهذا الموضوع رسالة جامعية ممتازة وهذا دليل على قدرة هذه النظرية على أن تنطبق على أكثر من لغة وقد دلّت طريقة التعليم التجريبي المقارن (بين أكثر من لغة) على نجاعتها، والذي ينقص هذا البحث اللغوي الطلائعي هو الرعاية الكبيرة بل هو يحتاج إلى رعاية خاصة لأنه بحث استراتيجي بالنسبة لكل التعليم فهو يحتاج إلى الدعم من طرف السلطات وكل المواطنين. فالمركز الذي يجرى فيه يحتاج إلى إضافة محلات مؤقتا ريثما يبنى له مقره وما يزال على شكل مشروع ـ  وبهذا الصدد يحتاج إلى دعم من سيادة والى الجزائر فقد وعدنا الوالي السابق بمنح المركز وكذلك مجمع اللغة قطعة أرض معينة للبناء ولم نتحصّل بعد عليها. ثم يحتاج مثل هذه البحوث إلى أن تدعم بالبشر وأن يكثر عدد الباحثين ذوى الكفاءة. وذلك ليستجيب للطلبات التي تأتي من جميع نواحي البلاد. ولهذا تشرفنا بتقديم اقتراح لسيادة وزير التعليم العالي والبحث العلمي في اجتماع هام في شهر جويلية الماضي. وهو أن يقدم كل مركز بحث خطة للتكوين لمدة معينة (في داخل وخارج الوطن) فتفضل بالاستجابة فعرضنا على سيادته مخطط مركزنا ونرجو أن يتحقق.. هذا ونلفت نظركم إلى أن فرقة أخرى من الباحثين المهندسين قامت بصنع برمجيات فعالة لإلقاء الأسئلة على الذخيرة العربية: أي نوع من الأسئلة شئتم.      
 سمعنا كثيرًا عن هذا المشروع القومي العربي فنرجو أن تحدثونا عنه
إن فكرة مشروع الذخيرة قديمة وهي مبادرة من الجزائر وقد تطوّرت بتطور العلوم والتكنولوجيا وقد وُفّقنا أخيرًا في مساعينا بفضل الجهود التي بذلتها وزارة الشؤون الخارجية إلى جعله مشروعا دوليا تشارك فيه أية مؤسسة علمية عربية فقد تبنته جامعة الدول العربية في سبتمبر من سنة 2004 في مستوى مجلسها الوزاري بالإجماع ورشحت 18 دولة عربية ممثلا لكل واحدة منها لعضوية الهيئة العليا التي ستشرف على إنجازها. فما هي الذخيرة العربية؟ هي، في الواقع، بنك آلي من النصوص العربية القديمة والحديثة وخاصة من التراث العربي والإنتاج الفكري العربي المعاصر وأحدث الإنتاج العلمي العالمي بالعربية (مقالات علمية وموسوعات وكتب وغير ذلك) ويكون هذا البنك على موقع من الانترنيت وفي متناول الجميع.
أما أهدافه فلها جانبان: ثقافي تربوي ولغوي. أما الجانب الثقافي التربوي فيهدف منه المشروع أساسا أن يمكّن أي باحث وأي طالب وأي مواطن مهما كان أن يتحصل في وقت وجيز و في أي مكان كان وبدون تكليف ولا انتقال إلى أماكن مختلفة كل المعلومات التي يطلبها للقيام ببحث أو إنجاز مشروع علمي أو الحصول على كل ما جدّ في تخصّص علمي طلائعي ولا يمكن أن يتحصل على ذلك عادةً إلا بطول الوقت وصرف الأموال إن لم يتعذر عليه تماما أحيانا كثيرة.
ومن أهداف الذخيرة أن تمكّن الطفل الصغير و المراهق وغيرهما أن يتحصلوا في دقائق على معلومات قد لا يجدونها مفصّلة في دورسهم وهذا سيؤدّي بعد مدة إلى سدّ ثغراتهم وتحسين المستوى وبإيتائهم الفرصة لفهم مالم يفهموا من الدرس العادي.
والباحث الذي في المستوى الأعلى هو في حاجة جدّ مسيسة للاطلاع على كل ما قيل ويقال عن موضوع علمي معين من أي بلد في الدنيا وفي أية جامعة أو مخبر وفي أية مجلة علمية متخصصة ويتحصل على بغيته في دقائق متى شاء وكل ذلك باللغة العربية(وستنظم وتنسق الهيئة العليا المشرفة على المشروع حركة واسعة لترجمة البحوث الهامة جدا ( المقالات في أحدث نشرتها) ولعدد معقول من ذلك لاستحالة الترجمة لأكثر ما يصدر لضخامة حجمه.
ولذلك ستدخل في الذخيرة البحوث العلمية العالية المستوى باستمرار (فهي مفتوحة على المستقبل) وذلك يضمن الاطلاع العاجل المستمر على كل ما يطرأ في العلوم والتكنولوجيا وأحدث الكتب المدرسية وأصحها وأحسن الموسوعات وتهيأ دروس خاصة في مختلف الميادين مما يمكن إنجازه وخاصة في اللغة العربية بطريقة التفاعلية الحديثة (التفاعل مع الحاسوب).
أما الجانب اللغوي:فلأول مرة في التاريخ ستجمع اللغة العربية في مدوّنة محوسبة أي في ذاكرة الحاسوب وفي شبكة انترنيت بعد أن جمعها علماء العربية قديما في الصحف والدفاتر! وذلك من خلال نص القرآن الكريم و نصوص التراث الأدبي والعلمي والتقني ومن الحياة العامة مما وصل إلينا.وسيكون كل ذلك في متناول أي مثقف أينما كان. إلا أن المفيد في كل ذلك بالنسبة للغة هو الاكتشاف عن كلمة من الكلمات العربية أيا كانت أنها وردت بالفعل في العصر الفلاني وفي كتاب كذا أوكذا وكم ظهرت من مرة ومعرفة شيوعها قديما وحديثا ومعرفةكثرة ترددها مفيد جدا للغوي. ويمكن إخراج كل السياقات التي وردت فيها فيمكن حينئذ أن نحدّد معناها المقصود بل وأكثر من معنى غالبا وبدليل قاطع فلأول مرة يبحث اللغوي في مدونة لافي معجم فقط أي في الاستعمال الحقيقي للغة العربية  وهذا لا يتأتى لأي واحد إلا بالحاسوب وبه يمكن المسح الكامل أي التصفح بدون استثناء لكل النصوص ويستنبط منها مايمكن استنباطه لأنه الواقع اللغوي المستعمل بالفعل قديما أم حديثا.
كما يستطيع الباحثون والأساتذة حينئذ أن يقرروا ماهو المصطلح الذي ينبغي أن يستعملوه في مقابل المفهوم العلمي الفلاني فالذخيرة تستعرض عليهم في الشاشة كل الألفاظ التي دخلت في الاستعمال أو مالم تدخل (مما وضعه فرد أو مجمع) وتكشف عن اللفظة التي هي أكثر شيوعا (ودليله توزع المراجع التي وردت فيها على أكثر البلدان العربية) وبذلك تتوحد المصطلحات تلقائيا أي بمقياس الشيوع إن كان اللفظ فصيحا لابعقد الندوات والاختيار التحكمي للمصطلح.
هذا ونظرًا لضخامة الأعمال التي ستتحقق بها هذه الذخيرة المحوسبة وهي أكبر من أي مشروع من هذا النوع فلن تستطيع مؤسسة واحدة وبلد واحد أن يقوم بذلك فإن الندوات التي سبقت قرار جامعة الدول العربية أَوْصَت بالإجماع بأن تشارك في إنجازه كل المؤسسات العلمية العربية الراغبة في ذلك وبالتالي أن تشرف على العمل كل الدول العربية أو أكثرها في إطار جامعة الدول العربية.
ولاشك أن مثل هذا المشروع سيكون له تأثير عميق جدا في المجتمع العربي وسيرفع من المستوى الثقافي لكل مواطن وسيرفع أكثر من لبس وتوهم وسيسدّ أكثر من ثغرة وبالتالي أكثر من عقدة بسبب هذه الثغرات!فسيكون مصدرًا ومرجعًا لا بدّ منه أبدا في كل البحوث العلمية. والأعظم من هذا أنه سيشمل كل البلدان العربية ليفيدها إن شاء الله.
وفيما يخص المجمع الجزائري للغة العربية فماذا يمكنه أن يحققه في هذا المجال وما هو دوره بالنسبة إلى هذه البحوث الاستراتيجية الخطيرة؟
الإجابة: إن لمجمع اللغة العربية دورًا خطيرًا جدا في هذا المجال وذلك في إطار المحافظة على سلامة اللغة العربية وتنميتها المَنْصوصَيْن في قانون إنشائه ولهذا علاقة بدرجة إتقان المواطنين لها. فكيف لا يهتم المجمع بهذا النوع من البحوث الرامية إلى رفع المستوى اللغوي للمواطنين؟ ولا نتصور أن لا يتطلع إلى كل حركة علمية تنتفع بها اللغة العربية بالنظر والتقويم والدعم القوي. فبما أن المجمع هو أعلى مؤسسة علمية لغوية في الوطن فلا بد أن يراقب ويتابع ويقوّم كل ما يجري في الوطن من البحوث العلمية و التقنية تخص اللغة العربية وكذلك كل تعليم للغة العربية على اختلاف مراتبه وقطاعاته وله أن ينظر في موضوعات الرسائل ويقوّم محتواها ويساهم في كل تخطيط يخص تكوين المعلمين والأساتذة في اللغة العربية ويمكنه أن يقوم بمثل ذلك فيما يخص تعليم اللغتين الفرنسية والإنكليزية وما يتعلق بهاتين اللغتين إن طلب منه ذلك. وقيام المجمع بهذه المراقبة بالفعل وبالتعاون الخالص مع الجهات المعنية ـ سيؤدي بلا شك إلى نتائج نرجو أن تكون إيجابية.
هذا وإن لم يكن من اختصاص        المجامع القيام ببحوث علمية على مثل ما يجري ذلك في الجامعات ومراكز البحث فإنه يحتاج إلى من يقوم بهذه البحوث اللغوية لإشرافه على مشاريع كبيرة له ومتابعتها فزيادة على الاختصاصيين الذين يتعاونون معه فإن أقرب مؤسسة إليه من حيث الأهداف وموضوع البحث هو طبعا مركز البحوث العلمية والتقنية لترقية اللغة العربية فقد صار هو الأداة التي لا بد منها لتنفيذ هذه المشاريع إلا أن هذا التعاون يحتاج أن توطد فيه العلاقات بينهما بكيفية أوثق وأعمق وأبقى في الزمان.
                                                             انتهى  

ليست هناك تعليقات: