التّناصّ
1 ـ مصطلح (التّناصّ):
(التّناصّ) Intertextualite مفهوم جديد أدخلته الناقدة (جوليا كريستيفا) إلى حقل الدراسات الأدبية في أواسط الستينيات من القرن العشرين، أخذته عن (باختين) الذي اكتشف مفهوم الحوارية (البوليفونية، أو تعدد الأصوات) عام 1929، وعدّته وظيفة تناصّية تتقاطع فيها نصوص عديدة في المجتمع والتاريخ، وسمّته (إيديولوجيماً). ولكن تسمية (التّناصّ) هي التي شاعت وانتشرت بشكل سريع ومثير، وأصبح (التّناصّ) مفهوماً مركزياً ينتقل من مجال دراسي إلى آخر، حتى لقد صار (بؤرة) تتولد عنها المصطلحات المتعددة: التّناصيّة، المناصّ، التفاعل النصّي، المتعاليات النصّية، المتناصّ، الميتانصّ... ومارسته جماعة (تل كل) الفرنسية التي كانت كريستيفا واحداً من أعضائها.
وقد حظي التّناصّ بأهمية كبرى، فصدر في عام 1976 عدد خاص من مجلة (بويطيقا) حول التّناصّ، وأقيمت في عام 1979 ندوة عالمية عن (التّناصّ) في جامعة كولومبيا تحت رئاسة ميشيل ريفاتير، ثم جُمعت أعمالها في عدد من مجلة (الأدب) عام 1981، ومنها مقالة (استراتيجية الشكل) للوران جيني L. Genny الذي درس تأثير وسائل الإعلام المعاصرة على النصّ، أو بالأحرى تأثير الصحافة على جويس، ودوس باسوس، وميّز بين (التّناصّ) و(المتناصّ) فرأى أن النصّ يستوعب عدداً من النصوص، ويظل متمركزاً من خلال المعنى. وأن للتّناصّ ثلاث قواعد، هي: التلفيظ، والخطّيّة، والتضمين. فبـ (التلفيظ) يتم اختزال النصوص غير اللفظية وتقديمها من خلال اللفظ في النصّ، ومن خلال (الخطّيّة) تبدو عملية الاستيعاب مدمجة في خطّية النّصّ.
ومنها مقالة (لوسيان ديلنباخ) L. Dallenbach التي ميّز فيها بين (التناصّ الداخلي) و(التّناصّ الخارجي)، و(التّناصّ العام) الذي هو علاقة نصّ الكاتب بنصوص غيره، و(التناصّ المقيّد) الذي هو علاقة نصوص الكاتب بعضها ببعض.
ومنها مقالة (ليلى بيرون موازيه) L.Perrone Moises التي تحدّثت فيها عن (التّناصّ النقدي) الذي حصرته في معنى النقد الذي يكفّ عن أن يكون لغة ثانية بتحوّلـه إلى كتابة إبداعية. وقدّمت نماذج ثلاثة كتّاب هم نقّاد في الوقت نفسه: بلانشو، وبارت، وريكاردو. وأكّدت أنه لا تبقى في التّناصّ النقدي حدود بين النصّ والنصّ النقدي الذي يتداخل والنصّ المحلل. وتتجلّى إنتاجيته (تناصّه) من خلال اشتغاله عليه(1).
وفي عام 1982 جاء (جيرار جينيت) بمصطلح (التعالي النّصيّ) الذي يعني عنده كل ما يجعل نصّاً يتعلق مع نصوص أخرى، بشكل مباشر أو ضمني. وقد حدّد خمسة أنواع من المتعاليات النصّية هي:
1 ـ التّناصّ، وهو حضور نصّي في نصّ آخر، كالاستشهاد، والسرقة، وغيرهما.
2 ـ المناصّ Paratexte، ويوجد في العناوين، والعناوين الفرعية، والمقدمات، وكلمات الناشر، والخواتيم، والصور...
3 ـ الميتانصّ Metatexte، وهو علاقة التعليق الذي يربط نصّاً بآخر يتحدّث عنه دون أن يذكره.
4 ـ النصّ اللاحق، ويكمن في علاقة المحاكاة أو التحويل التي تجمع النصّ اللاحق بالنصّ السابق.
5 ـ معمارية النصّ، وهي علاقة صمّاء أكثر تجريداً أو تضمناً، وتأخذ بعداً مناصيّاً.
وعلى الرغم من أن مفهوم (التناصّ) موجود في الخطاب النقدي العربي التراثي، ولكن تحت تسميات أخرى، كالنقائض، والسرقات، والمعارضات، والتضمين، والاقتباس...(2) فإنه ظهر في خطابنا النقدي المعاصر في مطلع الثمانينات على يد سيزا قاسم في مقالها (المفارقة في القصّ العربي) 1982(3) الذي تتحدث فيه عن (التضمين) كمقابل للمتعاليات النصيّة عند جينيت، ولدى محمد مفتاح في كتابه (تحليل الخطاب الشعري: استراتيجية التّناصّ) 1985، وعند سامية محرز في مقالها (المفارقة عند جويس وجيني 1986)(4)، ولدى صبري حافظ في مقاله (التناقض وإشاريات العمل الأدبي) 1986(5).
ولعل أشمل كتاب عن التّناصّ هو (انفتاح النصّ الروائي) 1989 للناقد المغربي سعيد يقطين، الذي عرض فيه أنواع (التفاعل النصّي)، وأشكاله، وطبّقه على روايات: أنت منذ اليوم لتيسير سبول، والزمن الموحش لحيدر حيدر، والوقائع الغريبة لأميل حبيبي، والزيني بركات للغيطاني، وعودة الطائر إلى البحر لحليم بركات. ثم وضع محمد عبد المطلب كتابه (قضايا الحداثة عند عبد القاهر الجرجاني) 1995 عرض في أحد فصوله مفهوم (التّناصّ).
ثم وضعتُ كتابي (النصّ الغائب: تجلّيات التّناصّ في الشعر العربي) 2001 عرضت فيه نظرية (النّصّ) ومفهوم (التّناصّ). وطبّقته على ثلاثة أبواب ضخمة في تراثنا الشعري هي: النقائض، والسرقات، والمعارضات، في محاولة للجمع بين (الأصالة) و(المعاصرة)، و(التراث) و(التجديد)، ليس كنقيضين متصاقبين، بل متكاملين كوجهي العملة الواحدة، من أجل إبداع عربي جديد، رغبة في تطبيق نظرية نقدية حديثة على شعرنا القديم، في محاولة لتفسير هذا التراث الشعري على ضوء المستجدّات النقدية والأدبية، وفي هذا ما فيه من إغناء لتراثنا الشعري، من حيث النظر إليه من زوايا عديدة، بحسب المنهج النقدي الذي يعالجه، لإظهار ما فيه من قيم إيجابية تشع على مرّ العصور.
وهناك ثلاثة قوانين للتّناصّ تحدد علاقة (النّص الغائب) بـ (النصّ الماثل)، وهي:
1 ـ الاجترار، وفيه يستمدُ الأديب من عصور سابقة، ويتعامل مع (النصّ الغائب) بوعي سكوني، فينتج عن ذلك انفصال بين عناصر الإبداع السابقة واللاحقة، ويمجّد السابق حتى لو كان مجرد (شكل) فارغ.
2 ـ الامتصاص، وهو أعلى درجة من سابقة. وفيه ينطلق الأديب من الإقرار بأهمية (النصّ الغائب)، وضرورة (امتصاصه) ضمن (النصّ الماثل)، كاستمرار متجدد.
3 ـ الحوار، وهو أعلى درجات التناصّ، ويعتمد على القراءة الواعية المعمّقة التي ترفد (النصّ الماثل) ببنيات نصوص سابقة (معاصرة، أو تراثية)، وتتفاعل في النصوص الغائبة والماثلة في ضوء قوانين الوعي واللاوعي.
وقد يكون (التّناصّ) أو التفاعل النصّي تراثياً، وحديثاً، ومعاصراً، وقد يكون عربياً، وأجنبياً. فمن التناصّ التراثي: تناصّ تاريخي كما في توظيف ناصيف (في ثلاثيته) تغريبة بني هلال المعروفة تاريخياً، وتناصّ ديني كما في توظيفه (في ثلاثيته) الآيات القرآنية، وأسماء الأنبياء، والمتصوفة، والإشارات القصصية، وتناصّ أدبي كما في توظيفه (في ثلاثيته) الشعر القديم، وأسماء الشعراء القدماء.... وتناصّ شعبي كما في توظيفه (في ثلاثيته) الحكايات الشعبية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق