السيميائية من نظرية المحاكاة إلى النظرية الشكلية
1- الفاعل في المنظور البنيوي السيميائي
أحدثت المدرسة الشكلية الروسية (1916-1930) تحولا هاما، في المفاهيم النقدية التقليدية في روسيا و في العالم الغربي، الذي هاجرت إليه . وقد يُعتبر أصحابها " مخصصين" Spécifier ، نظرا لاستطاعتهم الفصل، بين الدراسات الأدبية، و غيرها من الدراسات الإنسانية ، مثل التاريخ و علم الاجتماع و علم النفس . و هو ما يُشعر بالانتقال ، من نظرية المحاكاة لأفلاطون ، الذي يرى بأن العمل الفني محاكاة الواقع ، واجبه تمثيل أو وصف الحياة كما هي، أو كما ينبغي أن تكون . 1 و قد تهتم هذه النظرية، اهتماما خاصا بجانب المضمون الذي - غالبا ما - يفرض واجبا أخلاقيا على الأدب، على خلاف من "النظرية الشكلية" لأرسطو، الذي تتوقف نظرته إلى العمل الإبداعي عند الحدود الشكلية لا غير . ما دام العمل الفني في نظره، هو عالم كامل مستقل بذاته، وأن جماله " كجمال أي كائن حي، يتوقف على حجمه و على تنظيم أجزائه." 2
و انطلاقا من هذا التصور، توجه النقاد إلى دراسة القوانين الداخلية والوظائف، التي تحكم نظام البناء النصي، بُغية تعمّق المفاهيم، و النظريات حتى تنمو و تتطور، في ظل تقنية واعية و منظمة، من شأنها تحديد المادة الأدبية، وضبطها في سمات مميزة تجعل منها " أدبية الأدب" . و قد اعتبر أصحاب هذا الاتجاه ، الأدب ليس أدبا هادفا بقدر ما هو نظام من اللعب . 3 كما رفضوا ما يُسمى بقضية الشكل و المضمون المنفصلين، معتمدين في ذلك على أن الشكل و المضمون يذوبان في الإبداع الأدبي .
يُعدّ " فلاديمير بروب " من أبرز أعضاء مدرسة الشكليين الروس ، إذ سار بالتحليل الشكلي خطوة حاسمة ، تُعد بداية حقيقة مشجعة، لمسار المنهج البنيوي، الذي يتعامل مع الأشكال السردية، من خلال نموذج التحليل الشكلي، و الوظائفي، و قد أحدث كتابه : "مورفولوجيا الحكاية الخرافية الروسية " الذي ظهر سنة 1929 تحولا كبيرا ، في تاريخ التحليل القصصي ، وكان هدفه هو " وصف الحكاية حسب أجزائها ، التي تتكون منها ، و علاقة هذه الأجزاء ببعضها ، و بالمجموع ." 4
استخلص "بروب"، من مائة حكاية شعبية روسية ، ما سماه "بالنموذج الوظائفي"، أي البنية الشكلية الوحيدة، التي تتفرع منها، عدد لا نهائي من الحكايات، و إن كانت مختلفة التراكيب و الأشكال. و الوظيفة هي فعل الشخصية، من وجهة دلالته، في سير الحكاية . لقد أبعد "بروب" الشخصيات ومبرراتها النفسانية، بوصفها و حدات متغيرة، لا تُسهم في استنتاج القيمة الوظيفية، و اقتصر إلا على الأفعال، التي مهما تبدلت الشخصيات و تغيرت، تبقى وحدات ثابتة، لا تتغير، استطاع "بروب" حصرها في إحدى و ثلاثين وظيفة، تتفاوت في الأهمية، و ليست مجتمعة ، في حكاية واحدة ، تحوم حول غاية واحدة ، و هي إصلاح الإساءة ، أو تعويض الافتقار ، من خلال التتابع الفعلي، و الحتمي، لعنصر الصراع، الذي غالبا ما يفضي، إلى نهايات إيجابية، وسعيدة ، متوجة بالانتصار .
و قد لاحظ "كلود بريمو"، بأن نتيجة الانتصار، ليست النتيجة الوحيدة الممكنة، إذ أن هناك نتيجة أخرى، يقرها منطق السلوك البشري، وهي نتيجة الهزيمة و الإخفاق، مما جعله يفرع الوظيفة الأساسية، في السرد الحكائي، إلى أنساق، تتكون من الوظائف التالية :
لم يتجاوز "بروب"، المجال الضيق، الذي عرض فيه منهجه، مكتفيا بالإشارة، إلى التماثل البنيوي، الذي يقرب بين الحكايات الشعبية العالمية، مهما اختلف انتماؤها الحضاري و الجغرافي. شكلت هذه الإرهاصات قاعدة أساسية في مجال التحليل البنيوي، إذ تزايد اهتمام النقاد و الدارسين، ببنية النص و عناصره المنسجمة، كما وقفوا على نواته و وحداته الوظيفية ورموزه السيميائية و شحناته الدلالية المتناسقة والمتكاملة، فتعددت الدراسات و تنوعت اتجاهاتها ، ففي الوقت الذي كان "سارتر"، يمضي في التركيز على الوجودية المقترنة بالماركسية ، كان "بارث" و "غريماس" و غيرهما يتوجهون تدريجـيا ، إلى السيميائية عند العالم اللغوي " فرديناد دي سوسير" السويسري (1857-1914) الذي تطابق منهجه، مع الفيلسوف الأمريكي" تشارلز سوندرز بيريس" (1839-1914)، و لما كان " لفي شتراوس"، " قد طبق منهج علم اللغة البنيوي على الظواهر الاجتماعية ، رأى "بارث" من الأنسب أن يدرس الأدب بهذا المنهج ، بل سعى إلى حد المطالبة بتوسيع " المنهج و تطبيقه على دراسة التراث الفلسفي و الثقافي ." 6 و قد نجد كتابه " لذة النص" (Le Plaisir du texte )على قدر كبير من الأهمية، لما يحمله من مبادئ نقدية ، تُوحي بانتظامها جميعا في نسق فكري متكامل، يومئ بقدرة فذة ، على التجريد و البناء النظري ، و من أفكاره، أن الأدب مخلوق ذهني، لا يُدرك إلا بالتعلم بواسطة النقد عن طريق شكل من أشكال عقولنا نحن ، مما يبدو لكل واحد منا بأنه بنيوي لذاته. 7
لقد أسهمت الفلسفة منذ نشأتها مرورا بمناطقة العرب ، إلى العلماء المحدثين ، في بلورة مفهوم الدلالة ، بغرض تحديد دور العلامة و خصوصا دور اللغة في المعرفة . و قد يعود الفضل " لدي سوسير" ، في فتحه الآفاق أمام الأبحاث السميائية العلمية المتنوعة ، التي شاعت في الألسنة الأوروبية ، التي يعدها "سوسير" سوى فرع من علم العلامات العام. 8، بينما يتبنى " بارث " وجهة نظر مخالفة، عندما اعتبر علم السيميائية المنشود ، تأسسه فرعا من علم الألسنية.
و لعل أهمية " علم الدلالة "، تكمن بوجه خاص، في الكشف عن حركية الدلالة، و إبراز مستوياتها، و إعادة بنائها بهدف تعيين الوحدات الدالة، "و تنظيمها و فق "سلم تراتبي " متكامل البناء. يسلمنا هذا إلى تعيين الجوامع المنهجية القائمة بين"علم الدلالة " و "علم اللسان"، مؤكدين أن أهم مبدإ أفادته "الدلالية" من "الألسنية"، القول بأن المعنى شكل و ليس مادة. و من الجلي أن المبدأ المذكور، يناقض الاتجاه التقليدي السائد، في فهم الدلالة، و القائم على اعتبارها مادة مستقلة بذاته ، و أن وظيفة اللغة ، لا تعدو أنها رداء خارجي ، يكسو الفكرة ، و يعكسها بأمانة و شفافية ." 9 و قد انتهى "علم الألسنية الحديث" ، منذ عقود إلى فرضية، و هي أن "الدلالة" مثلها مثل اللغة، شكل و ليست مادة، لأن "اللغة" ليست انعكاسا آليا للواقع، أو ترجيعا موضوعيا له، و إنما هي تجزيئ له تجزيئا خاصا، و تأويله تأويلا يتنوع بتنوع التجارب ، و يتلون حسب العلاقات القائمة بين مختلف المجموعات البشرية ، و الوسط الذي تعيش فيه . إذ تُعتبر اللغة في نظر "سوسير" من أهم الموضوعات الاجتماعية ، إذ " لا توجد إلا من خلال نوع من العقد المشاع بين أفراد المجموعة." 10 و لا يمكن أن ننكر ما للعرب القدامى من فضل السبق والريادة، في مجال اللغة و الفلسفة و الأصول و الفقه والنقد و الأدب ...الخ. فقد أثروا الدراسات الدلالية بشكل مستفيض، إذ تناولوا بالتحليل و الدرس جملة من المفاهيم ، من عدة أوجه فكرية مختلفة، ( لا يتسع المجال لتناولها بالتحليل ) منها: النظم و السياق و اللفظ و المعنى والمفهوم و الصورة الذهنية و المرجع والمدرك و الدال و المدلول أي المعلول والعلة، و دراسة علاقتها التماثلية، وفق مختلف مستوياتها الصوتية و النحوية و الدلالية. فالتاريخ المبكر للبحوث والدراسات الدلالية العربية إنما "يعني نضجا أحرزته العربية، و أصله الدارسون في جوانبها." 11 مما مهد الطريق أمام البنيويين المحدثين، الذين طوروا هذه التصورات والمفاهيم الفكرية بشكل يتماشى و طموحاتهم التحليلية الصورية العميقة، من خلال خطوات إجرائية تطرح فرضيات حلول مجردة، ثم تقيسها على الواقع التجريبي انطلاقا من أصغر وحدة ، و هي الحرف المقطع الصوتي للكلمة، إلى حدود الجملة، من مختلف أوجه مجالات الحقول المعرفية في الميدان اللساني. 12
ففيما يسعى "علم الألسنية" إلى اختزال الوحدات الدالة الصغرى المميزة انطلاقا من الجملة. تحتل الدراسات السيميائية مكانتها على صعيد أرفع، مستهدفة استقراء النظام الدلالي وفقا لوحدة أكبر من الجملة، و هي الخطاب، الذي لا يُستنتج منه فائدة، بمجرد ضمّ الوحدات الدلالية الصغرى المكونة له، وإنما يتم استخلاصه جملة وفي كليته كوحدة كبرى، تتآلف من كلية الأنساق المختلفة. و لعل الاهتمام الخاص و المتزايد بالسيميائية، ( التي تأسست ردا على الألسنية ) ، هو نتيجة حاجة مختلف فروع المعرفة لأدوات إجرائية ، قادرة على الوصف و التفسير والتحليل، بدرجة عالية من الدقة ، إذ نراها تصلح حاليا، "لأن تكون وسيلة فعالة لاستقصاء أنماط متنوعة، من عمليات الاتصال والتبليغ. إذ أنها أصبحت تمتلك عُدّة من المفاهيم المجردة تتيح لها استيعاب ما هو مشترك ، بين كثير من هذه العمليات. " 13
و قد تساعد منطلقات السيمياء المنهجية، على تحويل العلوم الأدبية، من مجرد تأملات، إلى علوم بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، من خلال المظاهر الدلالية العامة، انطلاقا من تجلياتها اللغوية، التي تتيح طرح تصور للأنساق المجردة التي تحكم العلاقات الرابطة بين العناصر و الانتقال بوساطتها من مستوى إلى مستوى آخر، لإدراك النظام الكامن من خلال المستوى التجريدي، الذي ينحو نحو كشف البنيات العميقة، التي ينطوي عليها العمل، و الكامنة وراء صياغة النص الأدبي. 14 الذي يُعد في نظر الدراسات البنيوية ، لا يمثل الواقع و ليس منعكسا عن ظلاله، بل هو عالم يتأسس بنظام العلامات، مفرغ من المحتوى النفسي. و خارج عن إطار ذات الكاتب و التاريخ . فهو نظام من منظور لغوي بحث 15، يتكوّن من أنساق وحداتها واضحة ، تحكم العلاقات التي تربط بين العناصر، التي لا يُسمح بفصل أجزائها، لأن الجزء يستدعي آخر حتى نهاية البنية . فنظام النص السردي، كل متكامل قائم بذاته، يحتوي على وحدات مختلفة أصنافها متجانسة ، تنسجم في مستويات متنوعة تؤدي إلى نظام متعدد الأبعاد. يقودنا هذا الطرح المنهجي، إلى تصور النص الأدبي الذي يتأسس من خلال منطقه الداخلي، غير خاضع لأي منطق خارج عنه و إن امتزج به . فنظام مادته ينطلق من فرضية مؤداها أن المعنى، لا يُستخلص إلا من خلال التآلف بين أجزاء الوحدات التركيبية، المتتابعة في المحور السياقي، إذ أن الجزء من المستوى السردي، لا يكتمل معناه إلا إذا ارتبط ببقية الأجزاء، قصد تكوين المعنى الكامن داخل النص الإبداعي، حيث العلاقة بين اللغة و الخطاب الأدبي،علاقة تماثلية، تعرض خلالها السلسلة الأفقية للسياق السردي، لوضعها ضمنيا على محور عمودي، 16 بمقدار ما يحتاجه إنطاق النص، و إبراز آليته المنتجة للدلالة، و توليدها وفقا لنظام الوحدات المكونة له.
الفاعلون هم شخصيات لغوية، تُصنف ضمن المكون السردي ، في المستوى السطحي، باعتبارها وحدات تركيبة نحوية ، لا تكتسب صفتها بصورة جوهرية، إلا بتحميلها دلالة الفاعلية، الكامنة في المستوى العميق. استنادا إلى مفهوم الشخصية عند "أرسطو"، الذي يعده مفهوما ثانويا، خاضعا كليا لمفهوم الفعل لأن "سعادة الإنسان و شقاؤه يتخذان صورة الفعـل و غـاية ما نسعـى إليـه في الحيـاة هو ضـرب مـعين مــن الفعل." 17 وإن كانت الشخصيات في النصوص السردية ، تُمثل حقلا للوصف أساسا ، تظل دونه أدق الجزئيات المروية غير مفهومة. 18
تتفادى البنائية وصف الشخصيات، بالمفهوم النفسي والتاريخي، و" تبحث عن وسائل أخرى للرصد و الحديث عن مشتركين و فاعلين، و قد تلجأ إلى استخدام مقولات سيميولوجية، مثل المرسل و المرسل إليه و المعاون والمضاد و المنتفع و العائق، و تحلل مراتبهم في بنية القصة." 19
و إن تغيرت أسماء الشخصيات و صفاتها، تبقى وحدات أفعالها ثابتة، وهي الوظائف قسمها "بارث" إلى فئتين: وحدات الفئة الأولى السردية أصلية، و هي وظائف مركزية أو"النواة"، تتوزع تتابعا على محور نظمي، وحتى تكون " وظيفة أساسية، يكفي أن يكون العمل، الذي إليه ترجع يُفتح (أو يُثبت أو يُغلق ) مبادرة منطقية لتتابع التاريخ، أو بإيجاز أن يُفتح أو يُنهي ترددا، إذا ورد في نص السرد ، قطعة تالية . " 20
أما وحدات الفئة الثانية، فهي وظائف ثانوية تكميلية، عبارة عن حوافز و مؤشرات و عوامل إخبارية غير مرتبطة بتطور أحداث القصة، فهي عبارة عن توسعات ، تتأطر مكانتها من خلال مدى تفاعلها مع "النواة"، فالحيز الذي يفصل بين (رنين الهاتف ) و بين ( رفع السماعة) يمكن إشباعه بجملة من الأحداث الدقيقة أو بفيض من الوصف الدقيق " توجه < بوند > نحو المكتب، رفع السماعة وضع سيجارته..." الخ. غير أن وظيفتها مخففة، تتعلق بفعالية زمنية بحثة، تُسهم في فصل اللحظتين للقصة، في حين تشتغل في الوصل بين وحدتين أصليتين بسد حيز سردي بينهما، بفاعلية مزدوجة زمنيا و منطقيا." 21 والوظيفة المركزية أساس الفعل المحوري، التي تنبني عليه بنية النص القصصي. فالعملية الفعلية تتم أو لا تتم ، مما يؤدي بالحكاية إلى أن تتجه أحد الإتجاهين، الذي يُحدد بموقع الحدث المرتبط منطقيا بالحدث الذي سبقه و بالتالي الذي نتج عنه، مكتسبا قيمته الدلالية، التي تخوله التموقع ، ضمن السياق العام لمجرى أحداث القصة.
2- النموذج العاملي ، و المربع السيميائي
استوعب "غريماس" المنهج البروبي، معيدا النظر في بعض المفاهيم الوظيفية و صياغتها "صياغة جديدة موسومة بالاختزال و التجريد الرياضيين." 22 منتهجا المنهج البنيوي، الذي يُرى من خلال مفهومه العام ، ما يبقى أصليا "فهو النـواة أو الشكل الثابـت Shema Fixe » « أو أيضا، البنية الشكلية للتحويلات. " 23 كما استفاد من تصورات "كلود ليف ستروس" « Claud Lévi – Strauss » الذي يشير من خلال نموذجه البياني، إلى العالم الإنساني المزدوج الأبعاد، يُمثل البعد الأول الطبيعة و نواميسها، و يدل البعد الثاني على الحضارة و قوانينها المختلفة، فالنيء يمثل الطبيعة، و المطهو يرمز إلى الحضارة. 24
كما عمل " غريماس"، على توسيع شكلنة الأجهزة النظرية، بإدماج النص السردي ( الذي ما زال يستقطب المنهج الشكلاني، في حقل مشروع السيمائية العامة)، و البحث في العلاقة التي يمكن أن تربط النص القصصي بالنظرية، ( التي لا تزال في حاجة إلى تعديل أو تعميق ) 25. من خلال الالتحام العضوي، بين القيم التعبيرية و المضامين التي تنطوي عليها. إذ أن النص الأدبي عند "غريماس"، يسير ضمن " آلية منطقية تحكمها شبكة من العلاقات والعمليات التي تنظم النص السردي. و من خلال هذا التصور نستشفّ بأنه لا يتم استخراج المعنى ، إلا بكشف شبكة العلاقات القائمة في صلب النص، و حصرها، بربط الوحدات السردية وفق الغايات القصوى المقصود بلوغها. لأن جوهر الدلالة و علاقتها بالخطاب الأدبي علاقة توليدية، حيث يكون المعنى رهين ديمومة النص ، أي البنية المتكاملة المغلقة، التي تحكمها عناصر داخلية منفصلة عن العوامل الخارجية، حيث تتحرك و تتوزع ضمن محاور دلالية بحكم ، امتلاكها الطاقة على تغيير الدلالات الأصلية المشحونة فيها.
فتحليل القصة حسب " غريماس " ، يعني تحليل مستوياتها المختلفة ، بما فيها جميع مظاهر الخطاب، و أبعاده الدلالية العميقة، بصفة آنية و منسقة حسب الوحدات، التي تتميز بصيغة لغوية خاصة، و مفردات ذات معاني منظمة، حسب علاقات منطقية، قد تكون نواة . تشكل مع مثيلاتها، المعنى الضمني العام للقصة، "فالنواة الدلالية "sème " لا مجال إلى استكشافها، إلا بعد التفكيك الدلالي للمفردات، التي هي وحدات دلالية معقدة، تتماسك فيها معاني مختلفة، ولكنها بسيطة." 26
و لعل الهدف من هذه العملية، هو ربط صريح النص بباطنه، من خلال مجموعة من الملفوظات المتتابعة المكونة من وحدات لغوية متماسكة، مندمجة ضمن الخطاب، الذي يُعد مشروعا منظما يومىء - من طرف خفي - بوجود عمليات دلالية كامنة في المستوى العميق. إذ تتم عملية استقراء الدلالة بتفجير الخطاب، و تفكيك الوحدات المكونة له، التي تُسفر بدورها عن حصيلة دلالية هيكلية، بإعادة بنائها، وفق جهاز نظري متسق التأليف." 27
البنية العاملية، مستوى من مستويات التحليل السيميائي، للنصوص السردية، تقوم على أساس "النموذج العاملي"، الذي يُعد تشخيصا غير تزامني، و استبدالا لعالم الأفعال. ذلك أن السرد يقوم على التراوح بين الاستقرار و الحركة و الثبات و التحول في آن. ففيما تتغير مضامين الأفعال بصفة مستمرة. يظل الملفوظ السردي ثابتا. و قد يتشكل النظام
العاملي، على النحو التالي :
المرسل المرسل إليه
الفاعل - الموضوع
المساعد (هنا رسم بياني لم استطع نقله ) المعارض
يتأسس الرسم العاملي على ثلاثة أزواج من العوامل هي:
المرسل / المرسل إليه ـ الفاعل / الموضوع ـ المساعد / المعارض .
فكل برنامج سردي، يتشكل من خلال العوامل، التي تُنتج الفعل ، الذي ُيمارسه المرسل على الفاعل ، لتحقيق عمله ، من خلال جملة من العناصر، التي تحاول إنجاح أو إفشال البرنامج، تبعا للعلاقات التي تنجلي من خلالها الوظيفة الدلالية للبنية العاملية، على مستوى النص القصصي. ميز "غريماس" بين الفاعل الرئيس و بين بقية الشخصيات الأخرى، التي تقتسم فيما بينها وظائف مختلفة، و رأى من اللازم " التمييز بين الفاعل أي الشخصية الواحدة القائمة بالفعل، و مجموعة الفاعلين، الذين تربط بينهم وحدة التصرف الوظائفي." 28 إذ تنتظم وحدتا المساعد و المعارض، في سياق العلاقة، بين الفاعل وموضوع القيمة . تتحدد وظيفة المساعد، في تقديم العون للفاعل ، بغية إنجاح البرنامج ، فيما يقوم المعارض حائلا دون تحقيق الفاعل موضوعه، و عائقا في طريقه. و يتكون المقطع السردي ، من وحدة سردية كاملة ، مُكونة من المهمة التأهيلية ( المناورة ) و المهمة الأساسية ( الإنجاز العملي للمشروع ) و المهمة التمجيدية ( الجزاء ) .
و تنتظم المهمة التأهيلية، في مستوى علاقة المرسل بالمرسل إليه، و تأثير ذلك في هذا، للقيام بالفعل الإقناعي ( فعل الفعل ). و يتم في هذه المرحلة، التعريف بموضوع المشروع المعتزم القيام به، و إبرام عقد بين المرسل و المرسل إليه. بعد توفر جانب الكفاءة المتمثل في الرغبة في الفعل، و الشعور بوجوب الفعل، و القدرة على الفعل و المعرفة بالفعل ، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الإنجاز الحاسمة، وهي مهمة أساسية، يسعى فيها الفاعل إلى تحقيق موضوع القيمة، فينتقل من حال إلى حال. إذ يظهر المنظور التلفظي الإتصالي Ç أو الانفصالي U تبعا لانتقال الفاعل من حالة الانفصال U إلى حالة الاتصال Ç بالموضوع في حالة النجاح أو العكس. أي انتقال الفاعل من وضع اتصال Ç إلى وضع انفصال U عن الموضوع في حالة إخفاق . وكلا الحالتين نتيجة مزدوجة متزامنة حتما.
أما المهمة التمجيدية، ففيها يتم الجزاء، بعد تقييم الأفعال، التي تم تحقيقها، حسب الإلتزام، الذي أخذه البطل على نفسه.
المرسل الموضوع المرسل إليه
المهمة التمجيدية
يتم تقييم الأفعال المنجزة
حسب التزام البطل بالعقد 29
المهمة التأهيلية المهمة الأساسية
نقطة احتدام الصراع الحاسم وانتقال موضوع القــيمة من طرف إلى آخر.
جانب الكفاءة
محور الرغبة
محور الصراع
الفاعل
المساعد العامل الذات المعارض
يضغط المرسل على الفاعل لإنجاز فعله، فيسير على محور الرغبة قاطعا محور الصراع، لتنفيذ برنامجه، فيواجه العقبات التي تعترض سبيله ، كما يتلقى المساعدات، التي تعينه على إنجاز المشروع ، فيتم الاتصال بموضوع القيمة في حين يتم الانفصال بين الفاعل الثاني و الموضوع، و هو البرنامج الثاني للنص كما يوضح ذلك المربع السيميائي، الذي حاول غريماس من خلاله تحليل الأشكال المعقدة للدلالة إلى عناصر بسيطة.
ضاد
س1 س2
تناقض
تضمن تناقض تضمن
س 2 س1
ما تحت التضاد
خصص غريماس المربع السيميائي، لتجسيد المعنى الذي ينبني على ثلاثة علاقات منطقية : التضاد بين [س1 وس2] و بين [سَ2 و سَ1] و التناقض بين [س1 و سَ1] و[س2 و سَ2] والتضمن بين [س1 وسَ2] و [س2 وسَ1] حاول كلا من " آن إينو" 30 و "جزيف كورتي" 31 تبسيط نظرية "غريماس" ، و شرح المربع الدلالي ، من خلال كشف تجلياته ، بوساطة مثال بناء "المحلل" و"المحرم" الذي يظهر عندهما على هذا النحو :
تُعد هذه النظرية العاملية التحليلية، من أهم اكتشافات المنهج الإستقرائي، الأنثروبولوجي، الاستنباطي ، الخاضع للحكم المنطقي.
- الفهارس :
1-"جمهورية أفلاطون" ترجمة : حنا خباز، دار القلم، بيروت، ط 2، 1980 ، ص 85 .
2-أرسطو " فن الشعر" ترجمة: إبراهيم حمادة ، مكتبة الأنجلو ، مصرية، 1983، ص 31 .
3-جورج واطسن "الفكر الأدبي المعاصر" ترجمة : محمد مصطفى بدوي، الهيئة المصرية، القاهرة، 1980، ص 101 .
4 - Vladimir Pro ppe - Morphologie du contre - Seuil Paris , 1970, P 28 .
-5 Claud Brémond « La logique du récit » Sémiotique , l’école de PARIS , Hachétte ,réssivesité ,paris,1982,p77.
6-إديث كيرزويل « عصر البنيوية » ترجمة :جابر عصفور، عيون، الدار البيضاء ، ط 2 ، 1986 ، ص 180 .
7-Roland Barthes »Le plaisir du texte » seuil , Paris , 1973 , P98-99 .
8- محمد الناصر العجيمي " في الخطاب السردي "نظرية قريماس، الدار العربية للكتاب، تونس،1991، ص 24-25.
9-المرجع نفسه، ص 26.
10-Saussure-Cours de L’inguistique Générale - Payot , 1964 P 31 .
11- فايز الداية " علم الدلالية العربي"النظرية و التطبيق دراسة تاريخية تأصيلة نقدية،ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر، 1973 ، ص 6.
12-André Martinet «La Linguistique Synchoronique « P.U.F, Paris ,4e ed , 1974 , P 288 .
13- عادل فاخوري " تيارات في السيمياء " دار الطليعة، بيروت، 1990، ص 8 .
14-انظر : سيزا قاسم " مدخل إلى السيميوطيقا " دار إلياس العصرية ، القاهرة ، 1986 ، ص 17-18 .
15-Todorov T . « Poétique de la prose » Seuil , Paris , 1971, P32 .
-R .Barthes « L’analyse Structrale du Récit » , P 9.
16-R.Barthes « Le degré Zéro de L’écriture » P 13 .
17-أرسطو "فن الشعر " ص 97.
18- أنظر حسين الواد" البنية القصصية في رسالة الغفران " الدار العربية للكتاب، تونس، 1975، ص 77 -78.
19- صلاح فضل "نظرية البنائية في النقد الأدبي " دار الآفاق الجديدة ، بيروت، ط3، 1985 ، ص 426.
20-رولان بارت " النقد البنيوي للحكاية " ترجمة : أنطوان أبو زيد ، منشورات عويدات، بيروت،1988، ص 108.
21 -R.Barthes « L’analyse Structurale du Récit « P 16 .
22-محمد الناصر العجمي " المرجع السابق "، ص 8 .
23- جان بياجيه"البنيوية"ترجمة:عارف منيمينة و بشير أوبري ، منشورات عويدات، بيرو، ط 3، 1982، ص 73.
24-نبيلة إبراهيم " البنيوية من أين ...؟و إلى أين …؟ " مجلة فصول، القاهرة ، م 1 ع2 ، يناير ، ص 174.
25- محمد الناصر العجيمي " المرجع السابق " ، ص 17 .
26- سمير المرزوقي "مدخل إلى نظرية القصة " الدار التونسية للنشر، تونس، د.ت. ، ص 117 .
27-A.J Greimas « Sémantique Stcructural » Larousse ,Paris , 1966, P249 .
28-سمير المرزوقي " المرجع السابق " ، ص 73 .
29-A.J.Greimas « Eléments pour une théorie de l’interprétation du Récit mythique »in »L’anlyse structurale du récit », P 51 .
30-آن إينو"مراهنات دراسة الدلالات اللغوية "ترجمة:أوديت بتيت و خليل أحمد،دار السؤال،دمشق، 1980، ص106.
31-Joséph courtes « sémiotique marrative et discursive » Hachette supérieur ,Paris, 1997,p59.
________________________________________
بالرغم من كثرة الدراسات الموضوعة حول” السيمياء “ فان الحاجة تظل قائمة الى وجود دراسات علمية جامعة ومركزة في تقديم وضوح كافٍ للسيمياء وخصائصها واتجاهاتها ولعل كتاب” بيارغيرو “ المعروف بـ” السيمياء “ وقد ترجمه” انطوان ابي زيد “ بموجب اتفاق خاص مع المطبوعات الجامعية الفرنسية منشورات عويدات 1984، يمثل خلاصة مركزة للسيمياء وقوعدة علمية مناسبة للقارئ العادي فضلا عن القارئ المتخصص.
ويعرف” بيارغيرو “ السيمياء بـ (العلم الذي يهتم بدراسة انظمة العلامات: اللغات، انظمة الاشارات التعليمات.. الخ وهذا التحديد يجعل اللغة جزءا من السيمياء) ص5 من متن الكتاب.
وبالطبع يعود الفضل في تأسيس فهم جديد للسيمياء الى العالم اللغوي المعروف دي سوسور الذي عرف السيمياء في دروسه عن علم اللغة العام قائلا (انها العلم الذي يدرس حياة العلامات من داخل الحياة الاجتماعية) وهناك شبه اجماع على ان هذا المعنى العام للسيمياء الذي تحدث عنه سوسور يكون قد جعل من السيمياء جزءا من علم النفس العام وبالتالي فان الألسنية نفسها ستكون جزءا من السيمياء وليس العكس.
الا ان اضافة اخرى لا تقل اهمية عن كشف سوسور تعود الى المفكر الاميركي ش.س. بيرس وقد طرح ما لديه عن السيمياء في الفترة الزمنية ذاتها لدروس سوسور ويطلق على السيمياء تسمية (السيموتيك) semiotiawc ويعرفها بالاسلوب التالي (ان المنطق في معناه العام، هو مذهب علامات شبه ضروري وصوري كما حاولت ان اظهره وفي اعطائي للمذهب صفة الضروري والصوري كنت ارى وجوب ملاحظة خصائص هذه العلامات ما امكننا ـ وانطلاقا من ملاحظاتنا الجيدة التي نستشفها عبر معطى لا ارفض ان اسميه التجريد ـ سننتهي الى احكام ضرورية ونسبية ازاء ما يجب ان تكون عليه خصائص العلامات التي يستعين بها الذكاء العلمي).
ومن خلال شروعات كل من سوسور وبيرس تكون السيمياء قد تمكنت من وضع بدايات ضرورية لمسيرتها منذ بداية القرن العشرين وصار ممكنا الحديث عن نظرتين للعلامات العامة من خلال المنظور الاوروبي لمدرسة العلامات والمنظور الانكلو سكسوني المتمثل بطروحات بيرس وتطويرها عبر المناطقة.
الا ان التعميق الاكثر للسيمياء كان بحاجة الى ظهوره من خلال رولان بارت (1964) والذي حاول ان يضع ممارسة تجريبية للعلامات داخل الخطاب الادبي موسعا من ناحية جمالية القدرة اللغوية الحاملة للعلامات واهتمامه الشيق بفن الانتاج العلامي من خلال النصوص والكتابات الادبية بالوقت الذي تكون فيه النظرية العامة للسيمياء على اتفاق بضرورة وجود علم للعلامات فان هناك بعض الاختلافات حول (الميدان) الاساسي الذي ينبغي ان تكون فيه الممارسة السيميائية صحيحة فهناك رأي يقول ان السيمياء تعتمد على حقول الاتصالات التي لا يفترض ان تكون بالضرورة السنية الا ان هناك رأيا صادرا عن (سوسور) يوسع حقل الاهتمام بالعلامات داخل الطقوس والاحتفالات الانسانية كونها حاملة للعلامات ومؤدية لها بشكل انساني، حي، وخلاق.
بينما يجدد” بارت “ بان الفنون والاداب وحقول الكتابة هي الحقول الممتازة التي تسري من خلالها العلامات وتتوافق او تختلف.. وهذه الاراء المختلفة تغني فاعلية حقل” السيمياء “ وتضيف اليه.
الا ان الوظيفة الاساسية للسيمياء يعبر عنها رومان جاكبسون عبر مخططه المعروف الذي يحوي العناصر التالية للحقل السيميائي: نظام الاشارات، المرسل، الوسيط ـ الرسالة ـ الوسيط المتلقي ـ المرجع.
وهذه العناصر تكاد ان تكون القاعدة الاساسية لكل سيميائية محتملة بالوقت الذي تتعدد اوجه الاهتمام والتركيز على عنصر دون آخر، بالطبع قطعت السيمياء اشواطا كثيرة وحاولت ان تجد تعليلا سيميائية لمظاهر كثيرة كـ(الموضة) والاسطورة المعاصرة، والهالة، والصورة والتمثيل، والتبني الاعلامي والاشهارية والتداولية وغيرها.. الى درجة عالية من نشاط البحث والاستقصاء السيميائي مما يعد عصرنا مؤهلا لان يكون عصر السيميائية بلا منازع.. مع كثرة” التجريد “ فيها والتبرير وكذلك الطروحات العرضية او الاعتراضية التي يصار عادة الى جمعها والاصغاء لها فان السيميائية ستبقى واحدة من الحقول المعرفية المهمة التي تساعدنا على قراءة العالم عبر ذلك التوسط الدلالي اوالذي يبدو انه لا ينضب سواء الآن او في المستقبل.
________________________________________
المصطلح الإنجليزي السيميوطيقا (أو الفرنسي السيميولوجي) أفضل ترجمته إلى (علم العلامات) و ليس (السيمياء) التي تحيلنا إلى مجال معرفي مغاير.
و كما يقول "مارتن إيسلن" فإنها تعاني من مشكلتين رئيسيتين الأولى هو التعقيد الشديد الذي تمتلىء به كتابات المنظرين، و الثاني هو غياب التطبيق العملي على أعمال أدبية و فنية بعينها (لاحظ أنه يتحدث عن الكتابات الغربية فما بالك بالعربية)
و لما كنت واحدً ممن يهتمون باستخدام المقاربة السيميولوجية و أعاني مغتاظاً من هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم سدنة السيميولوجيا لا لشيء إلا لترجماتهم المشوهة للأصول الأجنبية فإنني و بكل سعادة أود أن أمدك يا صديقي بالكثير من المواد في لغتها الأصلية)
1- الفاعل في المنظور البنيوي السيميائي
أحدثت المدرسة الشكلية الروسية (1916-1930) تحولا هاما، في المفاهيم النقدية التقليدية في روسيا و في العالم الغربي، الذي هاجرت إليه . وقد يُعتبر أصحابها " مخصصين" Spécifier ، نظرا لاستطاعتهم الفصل، بين الدراسات الأدبية، و غيرها من الدراسات الإنسانية ، مثل التاريخ و علم الاجتماع و علم النفس . و هو ما يُشعر بالانتقال ، من نظرية المحاكاة لأفلاطون ، الذي يرى بأن العمل الفني محاكاة الواقع ، واجبه تمثيل أو وصف الحياة كما هي، أو كما ينبغي أن تكون . 1 و قد تهتم هذه النظرية، اهتماما خاصا بجانب المضمون الذي - غالبا ما - يفرض واجبا أخلاقيا على الأدب، على خلاف من "النظرية الشكلية" لأرسطو، الذي تتوقف نظرته إلى العمل الإبداعي عند الحدود الشكلية لا غير . ما دام العمل الفني في نظره، هو عالم كامل مستقل بذاته، وأن جماله " كجمال أي كائن حي، يتوقف على حجمه و على تنظيم أجزائه." 2
و انطلاقا من هذا التصور، توجه النقاد إلى دراسة القوانين الداخلية والوظائف، التي تحكم نظام البناء النصي، بُغية تعمّق المفاهيم، و النظريات حتى تنمو و تتطور، في ظل تقنية واعية و منظمة، من شأنها تحديد المادة الأدبية، وضبطها في سمات مميزة تجعل منها " أدبية الأدب" . و قد اعتبر أصحاب هذا الاتجاه ، الأدب ليس أدبا هادفا بقدر ما هو نظام من اللعب . 3 كما رفضوا ما يُسمى بقضية الشكل و المضمون المنفصلين، معتمدين في ذلك على أن الشكل و المضمون يذوبان في الإبداع الأدبي .
يُعدّ " فلاديمير بروب " من أبرز أعضاء مدرسة الشكليين الروس ، إذ سار بالتحليل الشكلي خطوة حاسمة ، تُعد بداية حقيقة مشجعة، لمسار المنهج البنيوي، الذي يتعامل مع الأشكال السردية، من خلال نموذج التحليل الشكلي، و الوظائفي، و قد أحدث كتابه : "مورفولوجيا الحكاية الخرافية الروسية " الذي ظهر سنة 1929 تحولا كبيرا ، في تاريخ التحليل القصصي ، وكان هدفه هو " وصف الحكاية حسب أجزائها ، التي تتكون منها ، و علاقة هذه الأجزاء ببعضها ، و بالمجموع ." 4
استخلص "بروب"، من مائة حكاية شعبية روسية ، ما سماه "بالنموذج الوظائفي"، أي البنية الشكلية الوحيدة، التي تتفرع منها، عدد لا نهائي من الحكايات، و إن كانت مختلفة التراكيب و الأشكال. و الوظيفة هي فعل الشخصية، من وجهة دلالته، في سير الحكاية . لقد أبعد "بروب" الشخصيات ومبرراتها النفسانية، بوصفها و حدات متغيرة، لا تُسهم في استنتاج القيمة الوظيفية، و اقتصر إلا على الأفعال، التي مهما تبدلت الشخصيات و تغيرت، تبقى وحدات ثابتة، لا تتغير، استطاع "بروب" حصرها في إحدى و ثلاثين وظيفة، تتفاوت في الأهمية، و ليست مجتمعة ، في حكاية واحدة ، تحوم حول غاية واحدة ، و هي إصلاح الإساءة ، أو تعويض الافتقار ، من خلال التتابع الفعلي، و الحتمي، لعنصر الصراع، الذي غالبا ما يفضي، إلى نهايات إيجابية، وسعيدة ، متوجة بالانتصار .
و قد لاحظ "كلود بريمو"، بأن نتيجة الانتصار، ليست النتيجة الوحيدة الممكنة، إذ أن هناك نتيجة أخرى، يقرها منطق السلوك البشري، وهي نتيجة الهزيمة و الإخفاق، مما جعله يفرع الوظيفة الأساسية، في السرد الحكائي، إلى أنساق، تتكون من الوظائف التالية :
لم يتجاوز "بروب"، المجال الضيق، الذي عرض فيه منهجه، مكتفيا بالإشارة، إلى التماثل البنيوي، الذي يقرب بين الحكايات الشعبية العالمية، مهما اختلف انتماؤها الحضاري و الجغرافي. شكلت هذه الإرهاصات قاعدة أساسية في مجال التحليل البنيوي، إذ تزايد اهتمام النقاد و الدارسين، ببنية النص و عناصره المنسجمة، كما وقفوا على نواته و وحداته الوظيفية ورموزه السيميائية و شحناته الدلالية المتناسقة والمتكاملة، فتعددت الدراسات و تنوعت اتجاهاتها ، ففي الوقت الذي كان "سارتر"، يمضي في التركيز على الوجودية المقترنة بالماركسية ، كان "بارث" و "غريماس" و غيرهما يتوجهون تدريجـيا ، إلى السيميائية عند العالم اللغوي " فرديناد دي سوسير" السويسري (1857-1914) الذي تطابق منهجه، مع الفيلسوف الأمريكي" تشارلز سوندرز بيريس" (1839-1914)، و لما كان " لفي شتراوس"، " قد طبق منهج علم اللغة البنيوي على الظواهر الاجتماعية ، رأى "بارث" من الأنسب أن يدرس الأدب بهذا المنهج ، بل سعى إلى حد المطالبة بتوسيع " المنهج و تطبيقه على دراسة التراث الفلسفي و الثقافي ." 6 و قد نجد كتابه " لذة النص" (Le Plaisir du texte )على قدر كبير من الأهمية، لما يحمله من مبادئ نقدية ، تُوحي بانتظامها جميعا في نسق فكري متكامل، يومئ بقدرة فذة ، على التجريد و البناء النظري ، و من أفكاره، أن الأدب مخلوق ذهني، لا يُدرك إلا بالتعلم بواسطة النقد عن طريق شكل من أشكال عقولنا نحن ، مما يبدو لكل واحد منا بأنه بنيوي لذاته. 7
لقد أسهمت الفلسفة منذ نشأتها مرورا بمناطقة العرب ، إلى العلماء المحدثين ، في بلورة مفهوم الدلالة ، بغرض تحديد دور العلامة و خصوصا دور اللغة في المعرفة . و قد يعود الفضل " لدي سوسير" ، في فتحه الآفاق أمام الأبحاث السميائية العلمية المتنوعة ، التي شاعت في الألسنة الأوروبية ، التي يعدها "سوسير" سوى فرع من علم العلامات العام. 8، بينما يتبنى " بارث " وجهة نظر مخالفة، عندما اعتبر علم السيميائية المنشود ، تأسسه فرعا من علم الألسنية.
و لعل أهمية " علم الدلالة "، تكمن بوجه خاص، في الكشف عن حركية الدلالة، و إبراز مستوياتها، و إعادة بنائها بهدف تعيين الوحدات الدالة، "و تنظيمها و فق "سلم تراتبي " متكامل البناء. يسلمنا هذا إلى تعيين الجوامع المنهجية القائمة بين"علم الدلالة " و "علم اللسان"، مؤكدين أن أهم مبدإ أفادته "الدلالية" من "الألسنية"، القول بأن المعنى شكل و ليس مادة. و من الجلي أن المبدأ المذكور، يناقض الاتجاه التقليدي السائد، في فهم الدلالة، و القائم على اعتبارها مادة مستقلة بذاته ، و أن وظيفة اللغة ، لا تعدو أنها رداء خارجي ، يكسو الفكرة ، و يعكسها بأمانة و شفافية ." 9 و قد انتهى "علم الألسنية الحديث" ، منذ عقود إلى فرضية، و هي أن "الدلالة" مثلها مثل اللغة، شكل و ليست مادة، لأن "اللغة" ليست انعكاسا آليا للواقع، أو ترجيعا موضوعيا له، و إنما هي تجزيئ له تجزيئا خاصا، و تأويله تأويلا يتنوع بتنوع التجارب ، و يتلون حسب العلاقات القائمة بين مختلف المجموعات البشرية ، و الوسط الذي تعيش فيه . إذ تُعتبر اللغة في نظر "سوسير" من أهم الموضوعات الاجتماعية ، إذ " لا توجد إلا من خلال نوع من العقد المشاع بين أفراد المجموعة." 10 و لا يمكن أن ننكر ما للعرب القدامى من فضل السبق والريادة، في مجال اللغة و الفلسفة و الأصول و الفقه والنقد و الأدب ...الخ. فقد أثروا الدراسات الدلالية بشكل مستفيض، إذ تناولوا بالتحليل و الدرس جملة من المفاهيم ، من عدة أوجه فكرية مختلفة، ( لا يتسع المجال لتناولها بالتحليل ) منها: النظم و السياق و اللفظ و المعنى والمفهوم و الصورة الذهنية و المرجع والمدرك و الدال و المدلول أي المعلول والعلة، و دراسة علاقتها التماثلية، وفق مختلف مستوياتها الصوتية و النحوية و الدلالية. فالتاريخ المبكر للبحوث والدراسات الدلالية العربية إنما "يعني نضجا أحرزته العربية، و أصله الدارسون في جوانبها." 11 مما مهد الطريق أمام البنيويين المحدثين، الذين طوروا هذه التصورات والمفاهيم الفكرية بشكل يتماشى و طموحاتهم التحليلية الصورية العميقة، من خلال خطوات إجرائية تطرح فرضيات حلول مجردة، ثم تقيسها على الواقع التجريبي انطلاقا من أصغر وحدة ، و هي الحرف المقطع الصوتي للكلمة، إلى حدود الجملة، من مختلف أوجه مجالات الحقول المعرفية في الميدان اللساني. 12
ففيما يسعى "علم الألسنية" إلى اختزال الوحدات الدالة الصغرى المميزة انطلاقا من الجملة. تحتل الدراسات السيميائية مكانتها على صعيد أرفع، مستهدفة استقراء النظام الدلالي وفقا لوحدة أكبر من الجملة، و هي الخطاب، الذي لا يُستنتج منه فائدة، بمجرد ضمّ الوحدات الدلالية الصغرى المكونة له، وإنما يتم استخلاصه جملة وفي كليته كوحدة كبرى، تتآلف من كلية الأنساق المختلفة. و لعل الاهتمام الخاص و المتزايد بالسيميائية، ( التي تأسست ردا على الألسنية ) ، هو نتيجة حاجة مختلف فروع المعرفة لأدوات إجرائية ، قادرة على الوصف و التفسير والتحليل، بدرجة عالية من الدقة ، إذ نراها تصلح حاليا، "لأن تكون وسيلة فعالة لاستقصاء أنماط متنوعة، من عمليات الاتصال والتبليغ. إذ أنها أصبحت تمتلك عُدّة من المفاهيم المجردة تتيح لها استيعاب ما هو مشترك ، بين كثير من هذه العمليات. " 13
و قد تساعد منطلقات السيمياء المنهجية، على تحويل العلوم الأدبية، من مجرد تأملات، إلى علوم بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، من خلال المظاهر الدلالية العامة، انطلاقا من تجلياتها اللغوية، التي تتيح طرح تصور للأنساق المجردة التي تحكم العلاقات الرابطة بين العناصر و الانتقال بوساطتها من مستوى إلى مستوى آخر، لإدراك النظام الكامن من خلال المستوى التجريدي، الذي ينحو نحو كشف البنيات العميقة، التي ينطوي عليها العمل، و الكامنة وراء صياغة النص الأدبي. 14 الذي يُعد في نظر الدراسات البنيوية ، لا يمثل الواقع و ليس منعكسا عن ظلاله، بل هو عالم يتأسس بنظام العلامات، مفرغ من المحتوى النفسي. و خارج عن إطار ذات الكاتب و التاريخ . فهو نظام من منظور لغوي بحث 15، يتكوّن من أنساق وحداتها واضحة ، تحكم العلاقات التي تربط بين العناصر، التي لا يُسمح بفصل أجزائها، لأن الجزء يستدعي آخر حتى نهاية البنية . فنظام النص السردي، كل متكامل قائم بذاته، يحتوي على وحدات مختلفة أصنافها متجانسة ، تنسجم في مستويات متنوعة تؤدي إلى نظام متعدد الأبعاد. يقودنا هذا الطرح المنهجي، إلى تصور النص الأدبي الذي يتأسس من خلال منطقه الداخلي، غير خاضع لأي منطق خارج عنه و إن امتزج به . فنظام مادته ينطلق من فرضية مؤداها أن المعنى، لا يُستخلص إلا من خلال التآلف بين أجزاء الوحدات التركيبية، المتتابعة في المحور السياقي، إذ أن الجزء من المستوى السردي، لا يكتمل معناه إلا إذا ارتبط ببقية الأجزاء، قصد تكوين المعنى الكامن داخل النص الإبداعي، حيث العلاقة بين اللغة و الخطاب الأدبي،علاقة تماثلية، تعرض خلالها السلسلة الأفقية للسياق السردي، لوضعها ضمنيا على محور عمودي، 16 بمقدار ما يحتاجه إنطاق النص، و إبراز آليته المنتجة للدلالة، و توليدها وفقا لنظام الوحدات المكونة له.
الفاعلون هم شخصيات لغوية، تُصنف ضمن المكون السردي ، في المستوى السطحي، باعتبارها وحدات تركيبة نحوية ، لا تكتسب صفتها بصورة جوهرية، إلا بتحميلها دلالة الفاعلية، الكامنة في المستوى العميق. استنادا إلى مفهوم الشخصية عند "أرسطو"، الذي يعده مفهوما ثانويا، خاضعا كليا لمفهوم الفعل لأن "سعادة الإنسان و شقاؤه يتخذان صورة الفعـل و غـاية ما نسعـى إليـه في الحيـاة هو ضـرب مـعين مــن الفعل." 17 وإن كانت الشخصيات في النصوص السردية ، تُمثل حقلا للوصف أساسا ، تظل دونه أدق الجزئيات المروية غير مفهومة. 18
تتفادى البنائية وصف الشخصيات، بالمفهوم النفسي والتاريخي، و" تبحث عن وسائل أخرى للرصد و الحديث عن مشتركين و فاعلين، و قد تلجأ إلى استخدام مقولات سيميولوجية، مثل المرسل و المرسل إليه و المعاون والمضاد و المنتفع و العائق، و تحلل مراتبهم في بنية القصة." 19
و إن تغيرت أسماء الشخصيات و صفاتها، تبقى وحدات أفعالها ثابتة، وهي الوظائف قسمها "بارث" إلى فئتين: وحدات الفئة الأولى السردية أصلية، و هي وظائف مركزية أو"النواة"، تتوزع تتابعا على محور نظمي، وحتى تكون " وظيفة أساسية، يكفي أن يكون العمل، الذي إليه ترجع يُفتح (أو يُثبت أو يُغلق ) مبادرة منطقية لتتابع التاريخ، أو بإيجاز أن يُفتح أو يُنهي ترددا، إذا ورد في نص السرد ، قطعة تالية . " 20
أما وحدات الفئة الثانية، فهي وظائف ثانوية تكميلية، عبارة عن حوافز و مؤشرات و عوامل إخبارية غير مرتبطة بتطور أحداث القصة، فهي عبارة عن توسعات ، تتأطر مكانتها من خلال مدى تفاعلها مع "النواة"، فالحيز الذي يفصل بين (رنين الهاتف ) و بين ( رفع السماعة) يمكن إشباعه بجملة من الأحداث الدقيقة أو بفيض من الوصف الدقيق " توجه < بوند > نحو المكتب، رفع السماعة وضع سيجارته..." الخ. غير أن وظيفتها مخففة، تتعلق بفعالية زمنية بحثة، تُسهم في فصل اللحظتين للقصة، في حين تشتغل في الوصل بين وحدتين أصليتين بسد حيز سردي بينهما، بفاعلية مزدوجة زمنيا و منطقيا." 21 والوظيفة المركزية أساس الفعل المحوري، التي تنبني عليه بنية النص القصصي. فالعملية الفعلية تتم أو لا تتم ، مما يؤدي بالحكاية إلى أن تتجه أحد الإتجاهين، الذي يُحدد بموقع الحدث المرتبط منطقيا بالحدث الذي سبقه و بالتالي الذي نتج عنه، مكتسبا قيمته الدلالية، التي تخوله التموقع ، ضمن السياق العام لمجرى أحداث القصة.
2- النموذج العاملي ، و المربع السيميائي
استوعب "غريماس" المنهج البروبي، معيدا النظر في بعض المفاهيم الوظيفية و صياغتها "صياغة جديدة موسومة بالاختزال و التجريد الرياضيين." 22 منتهجا المنهج البنيوي، الذي يُرى من خلال مفهومه العام ، ما يبقى أصليا "فهو النـواة أو الشكل الثابـت Shema Fixe » « أو أيضا، البنية الشكلية للتحويلات. " 23 كما استفاد من تصورات "كلود ليف ستروس" « Claud Lévi – Strauss » الذي يشير من خلال نموذجه البياني، إلى العالم الإنساني المزدوج الأبعاد، يُمثل البعد الأول الطبيعة و نواميسها، و يدل البعد الثاني على الحضارة و قوانينها المختلفة، فالنيء يمثل الطبيعة، و المطهو يرمز إلى الحضارة. 24
كما عمل " غريماس"، على توسيع شكلنة الأجهزة النظرية، بإدماج النص السردي ( الذي ما زال يستقطب المنهج الشكلاني، في حقل مشروع السيمائية العامة)، و البحث في العلاقة التي يمكن أن تربط النص القصصي بالنظرية، ( التي لا تزال في حاجة إلى تعديل أو تعميق ) 25. من خلال الالتحام العضوي، بين القيم التعبيرية و المضامين التي تنطوي عليها. إذ أن النص الأدبي عند "غريماس"، يسير ضمن " آلية منطقية تحكمها شبكة من العلاقات والعمليات التي تنظم النص السردي. و من خلال هذا التصور نستشفّ بأنه لا يتم استخراج المعنى ، إلا بكشف شبكة العلاقات القائمة في صلب النص، و حصرها، بربط الوحدات السردية وفق الغايات القصوى المقصود بلوغها. لأن جوهر الدلالة و علاقتها بالخطاب الأدبي علاقة توليدية، حيث يكون المعنى رهين ديمومة النص ، أي البنية المتكاملة المغلقة، التي تحكمها عناصر داخلية منفصلة عن العوامل الخارجية، حيث تتحرك و تتوزع ضمن محاور دلالية بحكم ، امتلاكها الطاقة على تغيير الدلالات الأصلية المشحونة فيها.
فتحليل القصة حسب " غريماس " ، يعني تحليل مستوياتها المختلفة ، بما فيها جميع مظاهر الخطاب، و أبعاده الدلالية العميقة، بصفة آنية و منسقة حسب الوحدات، التي تتميز بصيغة لغوية خاصة، و مفردات ذات معاني منظمة، حسب علاقات منطقية، قد تكون نواة . تشكل مع مثيلاتها، المعنى الضمني العام للقصة، "فالنواة الدلالية "sème " لا مجال إلى استكشافها، إلا بعد التفكيك الدلالي للمفردات، التي هي وحدات دلالية معقدة، تتماسك فيها معاني مختلفة، ولكنها بسيطة." 26
و لعل الهدف من هذه العملية، هو ربط صريح النص بباطنه، من خلال مجموعة من الملفوظات المتتابعة المكونة من وحدات لغوية متماسكة، مندمجة ضمن الخطاب، الذي يُعد مشروعا منظما يومىء - من طرف خفي - بوجود عمليات دلالية كامنة في المستوى العميق. إذ تتم عملية استقراء الدلالة بتفجير الخطاب، و تفكيك الوحدات المكونة له، التي تُسفر بدورها عن حصيلة دلالية هيكلية، بإعادة بنائها، وفق جهاز نظري متسق التأليف." 27
البنية العاملية، مستوى من مستويات التحليل السيميائي، للنصوص السردية، تقوم على أساس "النموذج العاملي"، الذي يُعد تشخيصا غير تزامني، و استبدالا لعالم الأفعال. ذلك أن السرد يقوم على التراوح بين الاستقرار و الحركة و الثبات و التحول في آن. ففيما تتغير مضامين الأفعال بصفة مستمرة. يظل الملفوظ السردي ثابتا. و قد يتشكل النظام
العاملي، على النحو التالي :
المرسل المرسل إليه
الفاعل - الموضوع
المساعد (هنا رسم بياني لم استطع نقله ) المعارض
يتأسس الرسم العاملي على ثلاثة أزواج من العوامل هي:
المرسل / المرسل إليه ـ الفاعل / الموضوع ـ المساعد / المعارض .
فكل برنامج سردي، يتشكل من خلال العوامل، التي تُنتج الفعل ، الذي ُيمارسه المرسل على الفاعل ، لتحقيق عمله ، من خلال جملة من العناصر، التي تحاول إنجاح أو إفشال البرنامج، تبعا للعلاقات التي تنجلي من خلالها الوظيفة الدلالية للبنية العاملية، على مستوى النص القصصي. ميز "غريماس" بين الفاعل الرئيس و بين بقية الشخصيات الأخرى، التي تقتسم فيما بينها وظائف مختلفة، و رأى من اللازم " التمييز بين الفاعل أي الشخصية الواحدة القائمة بالفعل، و مجموعة الفاعلين، الذين تربط بينهم وحدة التصرف الوظائفي." 28 إذ تنتظم وحدتا المساعد و المعارض، في سياق العلاقة، بين الفاعل وموضوع القيمة . تتحدد وظيفة المساعد، في تقديم العون للفاعل ، بغية إنجاح البرنامج ، فيما يقوم المعارض حائلا دون تحقيق الفاعل موضوعه، و عائقا في طريقه. و يتكون المقطع السردي ، من وحدة سردية كاملة ، مُكونة من المهمة التأهيلية ( المناورة ) و المهمة الأساسية ( الإنجاز العملي للمشروع ) و المهمة التمجيدية ( الجزاء ) .
و تنتظم المهمة التأهيلية، في مستوى علاقة المرسل بالمرسل إليه، و تأثير ذلك في هذا، للقيام بالفعل الإقناعي ( فعل الفعل ). و يتم في هذه المرحلة، التعريف بموضوع المشروع المعتزم القيام به، و إبرام عقد بين المرسل و المرسل إليه. بعد توفر جانب الكفاءة المتمثل في الرغبة في الفعل، و الشعور بوجوب الفعل، و القدرة على الفعل و المعرفة بالفعل ، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الإنجاز الحاسمة، وهي مهمة أساسية، يسعى فيها الفاعل إلى تحقيق موضوع القيمة، فينتقل من حال إلى حال. إذ يظهر المنظور التلفظي الإتصالي Ç أو الانفصالي U تبعا لانتقال الفاعل من حالة الانفصال U إلى حالة الاتصال Ç بالموضوع في حالة النجاح أو العكس. أي انتقال الفاعل من وضع اتصال Ç إلى وضع انفصال U عن الموضوع في حالة إخفاق . وكلا الحالتين نتيجة مزدوجة متزامنة حتما.
أما المهمة التمجيدية، ففيها يتم الجزاء، بعد تقييم الأفعال، التي تم تحقيقها، حسب الإلتزام، الذي أخذه البطل على نفسه.
المرسل الموضوع المرسل إليه
المهمة التمجيدية
يتم تقييم الأفعال المنجزة
حسب التزام البطل بالعقد 29
المهمة التأهيلية المهمة الأساسية
نقطة احتدام الصراع الحاسم وانتقال موضوع القــيمة من طرف إلى آخر.
جانب الكفاءة
محور الرغبة
محور الصراع
الفاعل
المساعد العامل الذات المعارض
يضغط المرسل على الفاعل لإنجاز فعله، فيسير على محور الرغبة قاطعا محور الصراع، لتنفيذ برنامجه، فيواجه العقبات التي تعترض سبيله ، كما يتلقى المساعدات، التي تعينه على إنجاز المشروع ، فيتم الاتصال بموضوع القيمة في حين يتم الانفصال بين الفاعل الثاني و الموضوع، و هو البرنامج الثاني للنص كما يوضح ذلك المربع السيميائي، الذي حاول غريماس من خلاله تحليل الأشكال المعقدة للدلالة إلى عناصر بسيطة.
ضاد
س1 س2
تناقض
تضمن تناقض تضمن
س 2 س1
ما تحت التضاد
خصص غريماس المربع السيميائي، لتجسيد المعنى الذي ينبني على ثلاثة علاقات منطقية : التضاد بين [س1 وس2] و بين [سَ2 و سَ1] و التناقض بين [س1 و سَ1] و[س2 و سَ2] والتضمن بين [س1 وسَ2] و [س2 وسَ1] حاول كلا من " آن إينو" 30 و "جزيف كورتي" 31 تبسيط نظرية "غريماس" ، و شرح المربع الدلالي ، من خلال كشف تجلياته ، بوساطة مثال بناء "المحلل" و"المحرم" الذي يظهر عندهما على هذا النحو :
تُعد هذه النظرية العاملية التحليلية، من أهم اكتشافات المنهج الإستقرائي، الأنثروبولوجي، الاستنباطي ، الخاضع للحكم المنطقي.
- الفهارس :
1-"جمهورية أفلاطون" ترجمة : حنا خباز، دار القلم، بيروت، ط 2، 1980 ، ص 85 .
2-أرسطو " فن الشعر" ترجمة: إبراهيم حمادة ، مكتبة الأنجلو ، مصرية، 1983، ص 31 .
3-جورج واطسن "الفكر الأدبي المعاصر" ترجمة : محمد مصطفى بدوي، الهيئة المصرية، القاهرة، 1980، ص 101 .
4 - Vladimir Pro ppe - Morphologie du contre - Seuil Paris , 1970, P 28 .
-5 Claud Brémond « La logique du récit » Sémiotique , l’école de PARIS , Hachétte ,réssivesité ,paris,1982,p77.
6-إديث كيرزويل « عصر البنيوية » ترجمة :جابر عصفور، عيون، الدار البيضاء ، ط 2 ، 1986 ، ص 180 .
7-Roland Barthes »Le plaisir du texte » seuil , Paris , 1973 , P98-99 .
8- محمد الناصر العجيمي " في الخطاب السردي "نظرية قريماس، الدار العربية للكتاب، تونس،1991، ص 24-25.
9-المرجع نفسه، ص 26.
10-Saussure-Cours de L’inguistique Générale - Payot , 1964 P 31 .
11- فايز الداية " علم الدلالية العربي"النظرية و التطبيق دراسة تاريخية تأصيلة نقدية،ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر، 1973 ، ص 6.
12-André Martinet «
13- عادل فاخوري " تيارات في السيمياء " دار الطليعة، بيروت، 1990، ص 8 .
14-انظر : سيزا قاسم " مدخل إلى السيميوطيقا " دار إلياس العصرية ، القاهرة ، 1986 ، ص 17-18 .
15-Todorov T . « Poétique de la prose » Seuil , Paris , 1971, P32 .
-R .Barthes « L’analyse Structrale du Récit » , P 9.
16-R.Barthes « Le degré Zéro de L’écriture » P 13 .
17-أرسطو "فن الشعر " ص 97.
18- أنظر حسين الواد" البنية القصصية في رسالة الغفران " الدار العربية للكتاب، تونس، 1975، ص 77 -78.
19- صلاح فضل "نظرية البنائية في النقد الأدبي " دار الآفاق الجديدة ، بيروت، ط3، 1985 ، ص 426.
20-رولان بارت " النقد البنيوي للحكاية " ترجمة : أنطوان أبو زيد ، منشورات عويدات، بيروت،1988، ص 108.
21 -R.Barthes « L’analyse Structurale du Récit « P 16 .
22-محمد الناصر العجمي " المرجع السابق "، ص 8 .
23- جان بياجيه"البنيوية"ترجمة:عارف منيمينة و بشير أوبري ، منشورات عويدات، بيرو، ط 3، 1982، ص 73.
24-نبيلة إبراهيم " البنيوية من أين ...؟و إلى أين …؟ " مجلة فصول، القاهرة ، م 1 ع2 ، يناير ، ص 174.
25- محمد الناصر العجيمي " المرجع السابق " ، ص 17 .
26- سمير المرزوقي "مدخل إلى نظرية القصة " الدار التونسية للنشر، تونس، د.ت. ، ص 117 .
27-A.J Greimas « Sémantique Stcructural » Larousse ,
28-سمير المرزوقي " المرجع السابق " ، ص 73 .
29-A.J.Greimas « Eléments pour une théorie de l’interprétation du Récit mythique »in »L’anlyse structurale du récit », P 51 .
30-آن إينو"مراهنات دراسة الدلالات اللغوية "ترجمة:أوديت بتيت و خليل أحمد،دار السؤال،دمشق، 1980، ص106.
31-Joséph courtes « sémiotique marrative et discursive » Hachette supérieur ,Paris, 1997,p59.
________________________________________
بالرغم من كثرة الدراسات الموضوعة حول” السيمياء “ فان الحاجة تظل قائمة الى وجود دراسات علمية جامعة ومركزة في تقديم وضوح كافٍ للسيمياء وخصائصها واتجاهاتها ولعل كتاب” بيارغيرو “ المعروف بـ” السيمياء “ وقد ترجمه” انطوان ابي زيد “ بموجب اتفاق خاص مع المطبوعات الجامعية الفرنسية منشورات عويدات 1984، يمثل خلاصة مركزة للسيمياء وقوعدة علمية مناسبة للقارئ العادي فضلا عن القارئ المتخصص.
ويعرف” بيارغيرو “ السيمياء بـ (العلم الذي يهتم بدراسة انظمة العلامات: اللغات، انظمة الاشارات التعليمات.. الخ وهذا التحديد يجعل اللغة جزءا من السيمياء) ص5 من متن الكتاب.
وبالطبع يعود الفضل في تأسيس فهم جديد للسيمياء الى العالم اللغوي المعروف دي سوسور الذي عرف السيمياء في دروسه عن علم اللغة العام قائلا (انها العلم الذي يدرس حياة العلامات من داخل الحياة الاجتماعية) وهناك شبه اجماع على ان هذا المعنى العام للسيمياء الذي تحدث عنه سوسور يكون قد جعل من السيمياء جزءا من علم النفس العام وبالتالي فان الألسنية نفسها ستكون جزءا من السيمياء وليس العكس.
الا ان اضافة اخرى لا تقل اهمية عن كشف سوسور تعود الى المفكر الاميركي ش.س. بيرس وقد طرح ما لديه عن السيمياء في الفترة الزمنية ذاتها لدروس سوسور ويطلق على السيمياء تسمية (السيموتيك) semiotiawc ويعرفها بالاسلوب التالي (ان المنطق في معناه العام، هو مذهب علامات شبه ضروري وصوري كما حاولت ان اظهره وفي اعطائي للمذهب صفة الضروري والصوري كنت ارى وجوب ملاحظة خصائص هذه العلامات ما امكننا ـ وانطلاقا من ملاحظاتنا الجيدة التي نستشفها عبر معطى لا ارفض ان اسميه التجريد ـ سننتهي الى احكام ضرورية ونسبية ازاء ما يجب ان تكون عليه خصائص العلامات التي يستعين بها الذكاء العلمي).
ومن خلال شروعات كل من سوسور وبيرس تكون السيمياء قد تمكنت من وضع بدايات ضرورية لمسيرتها منذ بداية القرن العشرين وصار ممكنا الحديث عن نظرتين للعلامات العامة من خلال المنظور الاوروبي لمدرسة العلامات والمنظور الانكلو سكسوني المتمثل بطروحات بيرس وتطويرها عبر المناطقة.
الا ان التعميق الاكثر للسيمياء كان بحاجة الى ظهوره من خلال رولان بارت (1964) والذي حاول ان يضع ممارسة تجريبية للعلامات داخل الخطاب الادبي موسعا من ناحية جمالية القدرة اللغوية الحاملة للعلامات واهتمامه الشيق بفن الانتاج العلامي من خلال النصوص والكتابات الادبية بالوقت الذي تكون فيه النظرية العامة للسيمياء على اتفاق بضرورة وجود علم للعلامات فان هناك بعض الاختلافات حول (الميدان) الاساسي الذي ينبغي ان تكون فيه الممارسة السيميائية صحيحة فهناك رأي يقول ان السيمياء تعتمد على حقول الاتصالات التي لا يفترض ان تكون بالضرورة السنية الا ان هناك رأيا صادرا عن (سوسور) يوسع حقل الاهتمام بالعلامات داخل الطقوس والاحتفالات الانسانية كونها حاملة للعلامات ومؤدية لها بشكل انساني، حي، وخلاق.
بينما يجدد” بارت “ بان الفنون والاداب وحقول الكتابة هي الحقول الممتازة التي تسري من خلالها العلامات وتتوافق او تختلف.. وهذه الاراء المختلفة تغني فاعلية حقل” السيمياء “ وتضيف اليه.
الا ان الوظيفة الاساسية للسيمياء يعبر عنها رومان جاكبسون عبر مخططه المعروف الذي يحوي العناصر التالية للحقل السيميائي: نظام الاشارات، المرسل، الوسيط ـ الرسالة ـ الوسيط المتلقي ـ المرجع.
وهذه العناصر تكاد ان تكون القاعدة الاساسية لكل سيميائية محتملة بالوقت الذي تتعدد اوجه الاهتمام والتركيز على عنصر دون آخر، بالطبع قطعت السيمياء اشواطا كثيرة وحاولت ان تجد تعليلا سيميائية لمظاهر كثيرة كـ(الموضة) والاسطورة المعاصرة، والهالة، والصورة والتمثيل، والتبني الاعلامي والاشهارية والتداولية وغيرها.. الى درجة عالية من نشاط البحث والاستقصاء السيميائي مما يعد عصرنا مؤهلا لان يكون عصر السيميائية بلا منازع.. مع كثرة” التجريد “ فيها والتبرير وكذلك الطروحات العرضية او الاعتراضية التي يصار عادة الى جمعها والاصغاء لها فان السيميائية ستبقى واحدة من الحقول المعرفية المهمة التي تساعدنا على قراءة العالم عبر ذلك التوسط الدلالي اوالذي يبدو انه لا ينضب سواء الآن او في المستقبل.
________________________________________
المصطلح الإنجليزي السيميوطيقا (أو الفرنسي السيميولوجي) أفضل ترجمته إلى (علم العلامات) و ليس (السيمياء) التي تحيلنا إلى مجال معرفي مغاير.
و كما يقول "مارتن إيسلن" فإنها تعاني من مشكلتين رئيسيتين الأولى هو التعقيد الشديد الذي تمتلىء به كتابات المنظرين، و الثاني هو غياب التطبيق العملي على أعمال أدبية و فنية بعينها (لاحظ أنه يتحدث عن الكتابات الغربية فما بالك بالعربية)
و لما كنت واحدً ممن يهتمون باستخدام المقاربة السيميولوجية و أعاني مغتاظاً من هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم سدنة السيميولوجيا لا لشيء إلا لترجماتهم المشوهة للأصول الأجنبية فإنني و بكل سعادة أود أن أمدك يا صديقي بالكثير من المواد في لغتها الأصلية)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق