البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

الجمعة، 16 مارس 2012

(السيمانتيك ) أوعلم الدلالة بين القدامى والمحدثين للباحث الجزائري عبد الجليل منقور


إن الإسهامات اللغوية لأسلافنا المفكرين في التراث العربي، لم ينل البحث فيها ما يستحقه من عناية واهتمام، فما زالت مجالات كثيرة في التراث العربي اللغوي بكراً تحتاج إلى نظرة لغوية علمية واعية وإن وجدت هناك أبحاث لغوية ذات قيمة إلا أنها محمولة على الرصيد المعرفي للتراث العربي، وتجتر عطاءً معرفياً لأسلافنا الباحثين، ولم يخرج جهدها إذ ذاك من عملية نقل أو تصنيف دون أن يكون لروح العصر الحديث لمسات على هذا التراث ليبعث فيه التجديد. وفي غمرة الصراع بين دعاة الأصالة وأنصار المعاصرة يضيع البحث اللغوي، ويتجرد من كل خلفية علمية حضارية، فإذا نظرنا إلى المعوَّل عليه عند دعاة الأصالة، فإنه لا يعدو أن يكون جرداً سلبياً رتيباً دون أدنى جهد لخرق تلك الرتابة والولوج داخل التراث المعرفي لبحث بنيته الداخلية لكي يسهم في تحقيق النظرية اللسانية العامة، أما فئة أنصار المعاصرة فإنها أقحمت المعطيات اللسانية الغربية في دراستها للظواهر اللغوية العربية، دون أدنى اعتبار لأصالة وخصوصيات الفكر واللسان العربيين وهذا الخلل المنهجي أحدث قطيعة معرفية بين التراث العربي والاحتياجات العلمية اللغوية للإنسان المعاصر، وكان وراء التخلف في مجال البحث العلمي اللغوي المعاصر عند الدارسين العرب، بينما إذا نظرنا- على سبيل المقارنة- إلى الفكر اللغوي الغربي فإننا لا نلمس تلك القطيعة المعرفية بين تراثه العلمي واللساني، ومتطلبات العصر اللغوية ولذلك جاءت أبحاث الدارسين في الغرب، امتداداً لجهود أسلافهم اللغويين وكانت نظرياتهم تتويجاً لتراكمات معرفية في تراثهم التاريخي.
إذا أردنا أن نؤسس فكراً عربياً معاصراً في مجال البحث اللغوي، فإننا ملزمون ضرورة بالقيام بعملية جرد للفكر اللغوي لتراثنا العربي، وتمحيصه وتحديد مجالاته وفرز عطاءاته الإيجابية وسقطاته على مستوى الأسس المعرفية في الموضوع والمنهج، وهذا لا يتم إلا بعودة تقويمية حضارية إلى الفكر العربي بشكل عام، والفكر اللغوي بشكل خاص، وتتم هذه العودة عبر تتبع المسار التطوري للدرس اللغوي عند العرب الأقدمين والبحث عن الأسس المعرفية والفلسفية التي انبنى عليها التراث الفكري العربي، وذلك بربطه بالعلوم الإنسانية المختلفة، فنحفظ أصالة تراثنا المعرفي ونقف على المنهج الفكري الذي كان يشرف على تأطير الأبحاث والدراسات في هذا التراث، وبذلك يتحقق مشروع النظرية اللسانية العربية المعاصرة، ويظهر منهجها في مجال العطاء الفكري الإنساني، وبالتالي تكون شرعية النشأة على المستوى المعرفي. هذا المشروع اللساني العربي لا يستقيم له أمر إلا إذا أخذنا بما حققته النظريات اللسانية الغربية، واستوعبنا مادتها استيعاباً واعياً، وحاولنا تكييف هذه النظريات مع خصوصيات اللسان العربي في المجالات المختلفة، وأجرينا إسقاطات منهجية على التراث اللغوي العربي بعد تقويمه وتمحيصه من أجل بعثه بعثاً جديداً وإعادة صياغته صياغة تدفعه لمواكبة التطور الحضاري للمجتمع البشري، مع ضرورة الأخذ بالمناخ الفكري الذي ساد نشأة وترعرع الفكر اللغوي العربي، "لأن فهم المنهج العربي في أي علم من العلوم العربية التراثية ينبغي أن يلتمس من داخل الحياة العقلية العربية ومن خلال المناخ العقلي العام الذي نشأ وتطور وتأصل في ظل القرآن، فمن المعلوم أن المفكرين المسلمين بدأوا بما هو عملي قبل أن يصلوا إلى وضع "منهج نظري" لكل فرع من فروع البحث، وكانت- مثلاً- قراءة القرآن عن طريق التلقي والعرض أسبق من وضع كتب تحدد منهج القراءات"([1]). فإذا تحققت هذه العملية في إطارها العلمي المنهجي ستؤدي حتماً إلى تفكير لساني حديث تتمخض عنه نظرية لسانية عربية قادرة على تقديم التفسير الكافي لكل مستويات الدراسة اللغوية الصوتية والتركيبية والدلالية، بهذه الطريقة نربط الفكر اللغوي العربي القديم بالفكر اللساني العالمي الحديث، لأن التحول العلمي للنظرية اللسانية في العصر الحديث أضحى يتوخى الشمولية في التعامل العلمي مع الظاهرة اللغوية، بوصفها طبيعية إنسانية. قد تغطي اهتمامات الإنسان المعاصر، إذ لم تعد تعترف بالحدود المعرفية مع انتقال العالم اللساني إلى بحث اللسان البشري بحثاً موضوعياً متخذاً اللغة الإنسانية مادة للتطبيق باعتبارها تخضع لنواميس متجانسة تسمح بوضع منهج لساني عام يشمل كل اللغات، وبمثل هذا التعامل الواعي نحمي تراثنا اللغوي بأن ننفخ فيه من روح العصرنة والحداثة فينبعث ليساير التطور الإنساني في كل مجالات الفكر العلمي، ونعيد الصلة التي انبتّت بين تطلعاتنا الفكرية اللغوية المعاصرة، والجهود النظرية المنهجية التي أغنى بها أسلافنا تراثنا المعرفي.
وفي هذا المجال النظري البين المعالم يندرج هذا البحث كخطوة مرحلية نحو معاينة لعطاءات التراث العربي في حقل اللغة، مستحضراً الاهتمام في إسهامات عالم من علماء أصول الفقه، وربما كان ارتباط علم الدلالة- موضوع بحثنا النظري- بعلم أصول الفقه، أقوى من ارتباطه بأي علم آخر من العلوم، ذلك أن علماء الأصول قدموا نماذج متقدمة جداً في تعاملهم مع اللغة كمنظومة من العلامات اللسانية الدالة تخضع في حركيتها الخطابية إلى نواميس متحكمة في أداء وظائفها الدلالية، وساهموا منذ أوّل الآماد المبكرة في معالجة مشكلات لغوية، وما أضفى على نتاجهم المعرفي طابع الدقة والموضوعية هو اتخاذهم القرآن الكريم منطلقاً لاستنباط أحكامهم الفقهية العامة بالاستناد على الأحكام اللغوية التي من أظهر خصوصياتها الدلالة، وقد كان هؤلاء العلماء يحملون وعياً معرفياً أملى عليهم أن يتعاملوا مع القرآن الكريم باعتباره كتاب لغة محكمة يحمل شبكة من النواميس العميقة التي تتحكم في ضبط الدلالة بأدوات وقفوا عليها وحددوا على أساسها أحكاماً وقواعد أضحت فيما بعد مبادئ للتشريع. إذن، فالتناول الدلالي في التراث المعرفي العربي كان ضمن اهتمامات لغوية أخرى، امتزج البحث فيه بضروب معارف مختلفة من غير أن يحمل عنواناً مميزاً، له استقلال في موضوعاته ومعاييره الخاصة. فسعياً منا إلى تحقيق مقاربة علمية بين تراثنا الدلالي المتنوع، والمناهج الغربية الحديثة في ميدان علم السيمياء، حصرنا بحثنا في استنطاق بنية التراث اللغوي الدلالي، عند عالم أصولي يعد مفخرة القرن السادس الهجري بما توافر بين يديه من تراكم معرفي زاخر، أخرجه في كتابه الموسوم "بالإحكام في أصول الأحكام" هذا العالم هو سيف الدين الآمدي الذي نوه بعلمه المؤرخ ابن خلدون وذكره ضمن أربعة علماء متقدمين في علم أصول الفقه..
إن منهجنا في عرض بنية التفكير الدلالي عند الآمدي يقوم على أساس تفكيكها، والاطلاع على أسسها العلمية، لنعيد تشكيلها تشكيلاً يحفظ لها طابعها المعرفي الأصيل برؤى تتطلع إلى استفادة تخدم العصر وتحرك فاعلية تلك الأصول التراثية الدلالية وتساعد على تنمية قدراتها في عصرنا، خاصة إذا علمنا أن علم الدلالة حديثاً يلقى من بالغ الاهتمام في عصرنا في كل أنحاء العالم، ما يجعله نقطة التقاء لأنواع من التفكير الإنساني يقول (ليش: Leach) (السيمانتيك نقطة التقاء لأنواع من التفكير والمناهج مثل الفلسفة وعلم النفس وعلم اللغة، وإن اختلفت اهتمامات كلٍّ لاختلاف نقطة البداية([2])."
يقع هذا البحث في بابين رئيسيين: باب نظري عام يضم ثلاثة فصول، حاولت أن أبسط فيها معالم الدرس الدلالي الحديث مستهلاً بالبحث عن نشأة علم الدلالة، منذ عهد الهنود الأوائل ثم اليونان فالرومان وصولاً إلى العصر الوسيط فعصر النهضة إلى أن أعلن (بريال) عن ميلاد علم جديد يعتني بدراسة المعنى اصطلح على تسميته "بالسيمانتيك سنة 1883م. ولم يفتني أن أعاين اهتمامات اللغويين والعلماء العرب القدامى بشأن الدلالة، معاينة سريعة ما دمت خصصت لذلك فصلاً كاملاً في الباب الثاني من البحث، كما اجتهدت أن أرسم إطاراً مفهومياً لماهية الدلالة انطلاقاً من قواميس اللغة، وورودها في القرآن الكريم، وأقوال بعض العلماء العرب القدامى وبعض علماء الدلالة المحدثين من الغرب، وقدمت أهم المباحث التي تشكل موضوعات علم الدلالة الحديث، وختمت ذلك بفصل عرضت فيه لمختلف النظريات الدلالية التي أسست الفكر الدلالي الحديث.
أما الباب الثاني فهو باب تطبيقي، استهللته بتلخيص للمناخ المعرفي العام الذي وفّر- بدون شك- للآمدي، الجو المناسب لكي يؤسس أفكاره الدلالية في كتابه "الإحكام"، واهتديت إلى أن أمثل لكل قرن معرفي تقريباً بعالم تكون لعطاءاته العلمية أكبر الأثر في عصره، وما بعد عصره، وبدأت ذلك من القرن الثاني الهجري إلى القرن الخامس الهجري.
هذا كان في الفصل الأول أما الفصول، الثاني، الثالث والرابع، فقد عرضت فيهم ما تناوله الآمدي من مسائل تخص الدلالة محاولاً أن أبرز جهوده في ضوء ما خلصت إليه البحوث الدلالية الحديثة، وذلك خدمة للأهداف التي أومأنا إليها في المدخل، ولا أدعي أني أتيت على تحقيق تلك الأهداف كلها، فحسبي إثارتي لمسائل لا زالت لم تمتد إليها اهتمامات الباحثين المعاصرين امتداداً ترتد على إثره تلك المسائل، حية فاعلة في التفكير اللساني الحديث، مع اعتقادي أن الدرس اللغوي بمختلف فروعه هو عند غير اللغويين من علمائنا أغزر وأدق مما هو عند اللغويين في تراثنا المعرفي، وهذا ما يشجع- حقيقة- على استثمار جهود أولئك العلماء فيما يخص إرساء نظرية لغوية شاملة..
إن مسالك البحث في التراث المعرفي تكتنفها الوعور الصعبة، التي لا تقطعها دون أن تنال منك نيلاً يتبدى- دون شك- في مباحثك. فهناك تعترضك اللغة وهي في كامل عنفوانها ونضجها وسلطتها، لغة تنفق معها- ضرورة- صبراً كبيراً لتصل إلى فك شبكتها والولوج إلى نصوصها، وهذا ما عايشته مع لغة الآمدي المنطقية، العلمية، فضلاً على ذلك فإن الرجوع إلى المصادر التي أفاد منها العالم أو التي ذللت مضان كتابه أمر لا غنى عنه، خاصة وأن الآمدي مزج في كتابه "الإحكام" بين علوم العربية وعلم المنطق وعلم أصول الفقه.
ولا يفوتني أن أشيد بصنيع جميع أساتذة معهد الأدب- بوهران- معي فلم يدخروا نصحاً أو ملاحظة دون أن يبدو لي بها، وأخص بالتنويه منهم أستاذي المحترم سليمان عشراتي الذي صاحبني مع نشأة بحثي مرحلة مرحلة، ولطالما كنت محتاجاً إلى دفع معنوي فكان يحثني على المضي قدماً في أطوار بحثي، وإني مدين كذلك للأستاذ المحترم أحمد حساني الذي لقيت عنده كل التشجيع، وكانت لملاحظاته القيمة أكبر الأثر في تدرجي في البحث، وكنت آخذ من وقته القسط الكبير ليشرف على مراجعة ما كنت أدونه من فصول فلأساتذتي جميعاً مني الشكر والامتنان والله ولي التوفيق
يرى فريق من الدارسين أن البحث عن المصطلح العلمي في التراث المعرفي العربي القديم، قد لا يقدم للدرس اللغوي الحديث شيئاً ذا أهمية عدا أنه يضع يد الباحث، على التاريخ الأول لميلاد المصطلح ويطلعه على الإطار العام الذي دارت حوله موضوعات "الدراسة" في طورها البدائي، وقد يحصل تطور جذري في مفهوم المصطلح، فينتقل مفهومه من حقل دلالي معين، إلى حقل دلالي آخر خاضعاً لسنن التطور الدلالي الذي يمس بنية اللغة وعناصرها عبر مسارها التاريخي المتجدد، ويخشى على الباحث أن يضيع جهده سدى في خضم البحث عن الولادة الأولية لصيغة المصطلح ودلالته.
لكن الموضوعية العلمية في الدرس اللغوي الحديث، تملي بل تفرض على الباحثين ضرورة تأطير بحثهم تأطيراً علمياً دقيقاً، خاصة إذا كان البحث يتوخى تأصيل الدراسة، والتنقيب عن جذورها في التراث المعرفي المتنوع، سعياً منه إلى ربط الحقائق العلمية الحديثة بأصولها الأولى، وإذا كان دور التأريخ للمصطلح العلمي ينحصر في تحديد نشأة هذا المصطلح، وماهيته الأولى تحديداً دقيقاً أو يحيل على الظاهرة اللغوية التي يمكن أن يشرف عليها المصطلح العلمي الحديث، فإن ذلك يعد فضلاً علمياً في غاية الأهمية خاصة إذا صحب ذلك وعي الباحث وتمكنه من أدوات بحثه بكيفية تعينه على الغوص في التراث المعرفي بمنهجية دقيقة ووسائل ملائمة، مما يتيح فرصة التوصل إلى نتائج علمية مؤكدة قد تلقي أضواء على جوانب هامة من التراث العلمي الزاخر وبالتالي تفتح مجالات واسعة لإعادة اكتشاف هذا التراث اكتشافاً علمياً واعياً، بإدراجه ضمن حركية العلوم الحديثة، وسعياً منا إلى تأطير هذه الدراسة وضعنا منهجية واضحة تمثل قاعدة هذا البحث وهي تشمل فصلاً أولاً بعنصريه: نشأة علم الدلالة، والذي عرضنا فيه للمسار التطوري الذي تبلور من خلاله علم الدلالة الذي انفصل من جملة علوم لغوية مختلفة ليختص بجانب المعنى والدلالة، وآخر علم كان لعلم الدلالة معه وشائج متصلة وهو علم الألسنية بمختلف مباحثه. أما العنصر الثاني من هذا الفصل فقد بسطنا فيه ماهية علم الدلالة، ومختلف المفاهيم التي وردت بها كلمة "دلالة" وما يراد فيها بدءاً من نصوص القرآن الكريم باعتباره كتاب ضبط اللغة العربية وأول أسلوب بياني عجز من مجاراته فصحاء العرب وبلغائهم، وإليه انتهى الإنتاج الأدبي واللغوي الذي يمثل قمة ما أبدعته القريحة العربية الجاهلية، ثم نقلنا الشروحات التي وردت في معاجم اللغة المشهورة وتتبعنا مادة "دلّ" وما اشتق منها. وأنهينا هذا العنصر من الفصل الأول بتقديم تعاريف ومفاهيم كل من اللغويين والعلماء العرب الأقدمين، وعلماء الغرب المحدثين حول الدلالة ومتعلقاتها وحقول مباحثها.

أولاً- نشأة علم الدلالة

1-نشأة علم الدلالة: المسار التطوري التاريخي:

لقد استقطبت اللغة اهتمام المفكرين منذ أمد بعيد، لأن عليها مدار حياة مجتمعاتهم الفكرية والاجتماعية، وبها قوام فهم كتبهم المقدسة، كما كان شأن الهنود قديماً حيث كان كتابهم الديني (الفيدا) منبع الدراسات اللغوية والألسنية على الخصوص التي قامت حوله، ومن ثمة غدت اللسانيات الإطار العام الذي اتخذت فيه اللغة مادة للدراسة والبحث. وكان الجدل الطويل الذي دار حول نشأة اللغة قد أثار عدة قضايا تعد المحاور الرئيسية لعلم الألسنية الحديث فمن جملة الآراء التي أوردها العلماء حول نشأة اللغة قولهم: "بوجود علاقة ضرورية بين اللفظ والمعنى شبيهة بالعلاقة اللزومية بين النار والدخان."([3]) إن المباحث الدلالية قد أولت اهتماماً كبيراً علاقة اللفظ بالمعنى، وارتبط هذا بفهم طبيعة المفردات والجمل من جهة وفهم طبيعة المعنى من جهة أخرى، فلقد درس الهنود مختلف الأصناف التي تشكل عالم الموجودات، وقسموا دلالات الكلمات بناء على ذلك إلى أربعة أقسام:
1-قسم يدل على مدلول عام أو شامل (مثل لفظ: رجل)
2-قسم يدل على كيفية (مثل كلمة: طويل)
3-قسم يدل على حدث (مثل الفعل: جاء)
4-قسم يدل على ذات (مثل الاسم: محمد)([4])
إن دراسة المعنى في اللغة بدأ منذ أن حصل للإنسان وعي لغوي، فلقد كان هذا مع علماء اللغة الهنود، كما كان لليونان أثرهم البين في بلورة مفاهيم لها صلة وثيقة بعلم الدلالة، فلقد حاور أفلاطون أستاذه سقراط حول موضوع العلاقة بين اللفظ ومعناه، وكان أفلاطون يميل إلى القول بالعلاقة الطبيعية بين الدال ومدلوله، أما أرسطو فكان يقول باصطلاحية العلاقة، وذهب إلى أن قسم الكلام إلى كلام خارجي وكلام داخلي في النفس، فضلاً على تمييزه بين الصوت والمعنى معتبراً المعنى متطابقاً مع التصور الذي يحمله العقل عنه. وقد تبلورت هذه المباحث اللغوية عند اليونان حتى غدا لكل رأي أنصاره من المفكرين فتأسست بناء على ذلك مدارس أرست قواعد هامة في مجال دراسة اللغة كمدرسة الرواقيين.([5]) ومدرسة الاسكندرية ثم كان لعلماء الرومان جهد معتبر في الدراسات اللغوية خاصة ما تعلق منها بالنحو، وإليهم يرجع الفضل في وضع الكتب المدرسية التي بقيت صالحة إلى حدود القرن السابع عشر بما حوته من النحو اللاتيني، وبلغت العلوم اللغوية من النضج والثراء مبلغاً كبيراً في العصر الوسيط مع المدرسة السكولائية (Scolastique) والتي احتدم فيها الصراع حول طبيعة العلاقة بين الكلمات ومدلولاتها، وانقسم المفكرون في هذه المدرسة إلى قائل بعرفية العلاقة بين الألفاظ ودلالاتها وقائل بذاتية العلاقة.
وبقي الاهتمام بالمباحث الدلالية يزداد عبر مراحل التاريخ، ولم يدخر المفكرون أي جهد من أجل تقديم التفسيرات الكافية لمجمل القضايا اللغوية التي فرضت نفسها على ساحة الفكر، ففي عصر النهضة، أين سادت "الكلاسيكية" بأنماطها في التفكير والتأليف امتازت الدراسات اللغوية في هذه المرحلة بالمنحى المنطقي العقلي، وأحسن من يمثل هذه الفترة رواد مدرسة (بوررويال) الذين رفعوا مقولة: أن اللغة ما هي إلا صورة للعقل، وأن النظام الذي يسود لغات البشر جميعاً قوامه العقل والمنطق.([6])
وفي حدود القرن التاسع عشر الميلادي، تشعبت الدراسات اللغوية، فلزم ذلك تخصص البحث في جانب معين من اللغة، فظهرت النظريات اللسانية وتعددت المناهج، فبرزت الفونولوجيا التي اهتمت بدراسة وظائف الأصوات إلى جانب علم الفونتيك الذي يهتم بدراسة الأصوات المجردة، كما برزت الأتيمولوجيا التي اعتنت بدراسة الاشتقاقات في اللغة، ثم علم الأبنية والتراكيب الذي يختص بدراسة الجانب النحوي وربطه بالجانب الدلالي في بناء الجملة.
وفي الجانب الآخر من العالم، كان المفكرون العرب قد خصصوا للبحوث اللغوية حيزاً واسعاً في إنتاجهم الموسوعي الذي يضم إلى جانب العلوم النظرية كالمنطق والفلسفة علوماً لغوية قد مست كل جوانب الفكر عندهم، سواء تعلق الأمر بالعلوم الشرعية كالفقه والحديث، أو علوم العربية، كالنحو والصرف والبلاغة، بل إنهم كانوا يعدون علوم العربية نفسها وتعلمها من المفاتيح الضرورية للتبحر في فهم العلوم الشرعية، ولذلك "تأثرت [العلوم اللغوية] بعلوم الدين وخضعت لتوجيهاتها. وقد تفاعلت الدراسات اللغوية مع الدراسات الفقهية، وبنى اللغويون أحكامهم على أصول دراسة القرآن والحديث والقراءات، وقالوا في أمور اللغة بالسماع والقياس والإجماع والاستصلاح تماماً كما فعل الفقهاء في معالجة أمور علوم الدين".([7]) ولما كانت علوم الدين تهدف إلى استنباط الأحكام الفقهية ووضع القواعد الأصولية للفقه، اهتم العلماء بدلالة الألفاظ والتراكيب وتوسعوا في فهم معاني نصوص القرآن والحديث. واحتاج ذلك منهم إلى وضع أسس نظرية، فيها من مبادئ الفلسفة والمنطق ما يدل على تأثر العرب بالمفاهيم اليونانية ولذلك يؤكد عادل الفاخوري أنه "ليس من مبالغة في القول إن الفكر العربي استطاع أن يتوصل في مرحلته المتأخرة إلى وضع نظرية مستقلة وشاملة يمكن اعتبارها أكمل النظريات التي سبقت الأبحاث المعاصرة."([8]) فالأبحاث الدلالية في الفكر العربي التراثي، لا يمكن حصرها في حقل معين من الإنتاج الفكري بل هي تتوزع لتشمل مساحة شاسعة من العلوم لأنها مدينة "للتحاور بين المنطق وعلوم المناظرة وأصول الفقه والتفسير والنقد الأدبي والبيان."([9]) هذا التلاقح بين هذه العلوم النظرية واللغوية هو الذي أنتج ذلك الفكر الدلالي العربي، الذي أرسى قواعد تعد الآن المنطلقات الأساسية لعلم الدلالة وعلم السيمياء على السواء، بل إنك لا تجد كبير فرق بين علماء الدلالة في العصر الحديث وبين علماء العرب القدامى الذين ساهموا في تأسيس وعي دلالي هام، يمكن رصده في نتاج الفلاسفة واللغويين وعلماء الأصول والفقهاء والأدباء، "فالبحوث الدلالية العربية تمتد من القرون الثالث والرابع والخامس الهجرية إلى سائر القرون التالية لها، وهذا التأريخ المبكر إنما يعني نضجاً أحرزته العربية وأصّله الدارسون في جوانبها."([10])
إن هذه الجهود اللغوية في التراث العربي لأسلافنا الباحثين، وتلك الأبحاث التي اضطلع بها اللغويون القدامى من الهنود واليونان واللاتين وعلماء العصر الوسيط وعصر النهضة الأوروبية، فتحت كلها منافذ كبيرة للدرس اللغوي الحديث وأرست قواعد هامة في البحث الألسني والدلالي، استفاد منها علماء اللغة المحدثون بحيث سعوا إلى تشكيل هذا التراكم اللغوي المعرفي في نمط علمي يستند إلى مناهج وأصول ومعايير، وهو ما تجسم في تقدم العالم الفرنسي (ميشال بريال M.Breal) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى وضع مصطلح يشرف من خلاله على البحث في الدلالة، واقترح دخوله اللغة العلمية، هذا المصطلح هو "السيمانتيك" يقول بريال: "إن الدراسة التي ندعو إليها القارئ هي نوع حديث للغاية بحيث لم تسم بعد، نعم، لقد اهتم معظم اللسانيين بجسم وشكل الكلمات، وما انتبهوا قط إلى القوانين التي تنتظم تغير المعاني، وانتقاء العبارات الجديدة والوقوف على تاريخ ميلادها ووفاتها، وبما أن هذه الدراسة تستحق اسماً خاصاً بها، فإننا نطلق عليها اسم "سيمانتيك" للدلالة على علم المعاني.([11])
إن العالم اللغوي (بريال) انطلق- دون ريب- في تحديد موضوع علم الدلالة ومصطلحه من جهود من سبقه من علماء اللغة الذين وفروا مفاهيم مختلفة تخص المنظومة اللغوية من جميع جوانبها يقول الدكتور كمال محمد بشر: "إن دراسة المعنى بوصفه فرعاً مستقلاً عن علم اللغة، قد ظهرت أول ما ظهرت سنة 1839، لكن هذه الدراسة لم تعرف بهذا الاسم (السيمانتيك) إلا بعد فترة طويلة أي سنة 1883 عندما ابتكر العالم الفرنسي (م.بريال) المصطلح الحديث."([12]) إلا أن المؤرخين اللغويين لظهور علم الدلالة يجمعون على أن فضل (بريال) يكمن في تخصيصه كتاباً استقل بدراسة المعنى هو كتاب (محاولة في علم المعاني) بسط فيه القول عن ماهية علم الدلالة، وأبدع منهجاً جديداً في دراسة المعنى هو المنهج الذي ينطلق من الكلمات نفسها لمعاينة الدلالات دون ربط ذلك بالظواهر اللغوية الأخرى. ويمكن أن نرسم معالم هذا المنهج اللغوي الجديد انطلاقاً من النص الذي أورده (بريال) في سياق تعريفه بعلم الدلالة:
أولاً: إذا كانت اللسانيات تهتم بشكل الكلمات، فإن علم الدلالة (السيمانتيك) يهتم بجوهر هذه الكلمات ومضامينها.
ثانياً: الهدف الذي ينشده علم الدلالة هو الوقوف على القوانين التي تنتظم تغيّر المعاني وتطورها، والقواعد التي تسير وفقها اللغة، وذلك بالاطلاع على النصوص اللغوية بقصد ضبط المعاني المختلفة بأدوات محددة وفي هذا سعي حثيث إلى التنويع في التراكيب اللغوية لأداء وظائف دلالية معينة، وهذا التنويع هو الذي يثري اللغة إثراء يحفظ أصول هذه اللغة، ولا يكون حاجزاً أمام تطورها وتجددها ويمكن في خضم البحث عن هذه النواميس "خلق" نواميس لغوية جديدة لكي تشرف على النظام الكلامي بين أهل اللغة لأن "عالم اللسان يكون همه الوعي باللغة عبر إدراك نواميس السلوك الكلامي"!!([13])
ثالثاً: اتباع المنهج التطوري التأصيلي الذي يقف على ميلاد الكلمات ويتتبعها في مسارها التاريخي، وقد يردها إلى أصولها الأولى "لأن اللغة مؤسسة اجتماعية تحكمها نواميس مفروضة على الأفراد، تتناقلها الأجيال بضرب من الحتمية التاريخية، إذ كل ما في اللغة- راهناً- إنما هو منقول عن أشكال سابقة هي الأخرى منحدرة من أنماط أكثر بدائية، وهكذا إلى الأصل الأوحد أو الأصول الأولية المتعددة"([14]) فالنظام اللغوي، نظام متجدد ما دامت الكلمات لا تخضع لقانون ثابت يلزمها بمدلولاتها، فاللغة تنتظمها نواميس خفية تعود إلى اقتضاءات تعبيرية هي جزء من النظام الكلي الذي تسير وفقه اللغة، وتصرف دلالات تراكيبها.
هذه النقاط الثلاث هي الأطر الكبرى التي يندرج ضمنها منهج (ميشال بريال) في علم الدلالة ومعه تحديد لمجمل فروع البحث في هذا المجال.

2-بين علم الدلالة وعلم اللسانيات:

إن نشأة علم الدلالة، لم تكن نشأة مستقلة عن علوم اللغة الأخرى. إنما كان يعد هذا العلم جزءاً لصيقاً بعلم اللسانيات الذي كان يهتم بدراسة اللسان البشري، إلا أن عدم اهتمام علماء اللسانيات بدلالة الكلمات- كما أشار إلى ذلك (بريال)- هو الذي كان دافعاً لبعض العلماء اللغويين إلى البحث عن مجال علمي يضم بحثاً في جوهر الكلمات ودلالاتها، لكي يحددوا ضمنه موضوعاته ومعاييره وقواعده ومناهجه وأدواته وما كان ذلك يسيراً خاصة إذا علمنا ذلك التداخل المتشابك الذي كان يجمع بين علوم اللغة مجتمعة وعلم الألسنية الذي ذهب علماؤه إلى تفريعه إلى مباحث جمعت بين حقول مختلفة من العلوم كما هو شأن اللسانيات النفسية (psycolinguistique)، ومبحث اللسانيات العصبية neuro-linguistique وما إلى ذلك. إن العلم اللساني كان يهتم بوصف الجوانب الصورية للغة ويتجنب الخوض في استبطان جوهر الكلمات ومعانيها الذي أصبح من اهتمامات علم الدلالة (الحديث)، ثم إن ضرورة الإحاطة ببعد اللغة الاجتماعي والثقافي والنفسي وتتبع سيرورة المعنى الديناميكي كل هذه حواجز وقفت أمام علماء اللسانيات، فاستبعدوا بذلك الخوض في دراسة المعنى وركزوا بحوثهم على شكل الكلمات، إلى أن برز علم الدلالة ليسد هذا الفراغ في الدراسات اللغوية من جهة ويعمق البحث في الجانب الدلالي للغة من جهة أخرى، ويجتاز تلك الحواجز التي حالت دون أن يخوض اللسانيون في دراسة المعنى، "لأن علم الدلالة هو ميدان يتجاوز حدود اللسانيات التي يتعين عليها وصف الجوانب الصورية للغة قبل كل شيء، فالدلالة ليست ظاهرة لغوية صرفاً وإذا كان بالإمكان بناء الحقول الدلالية فإنه ينبغي آنذاك الاعتماد على المعطيات الخارجية فقط.. ()
إن بعد اللغة الاجتماعي والثقافي من العوائق التي تقف أمام الدراسات الدلالية الحديثة ويمكن تحديد ذلك فيما يلي:
أ- تعدد القيم الحافة بدلالة الألفاظ المركزية.
ب- إن دلالة اللفظ ليست ظاهرة قارة ذلك أنه يمكنها أن تعتني دوماً بحسب التجارب الجديدة (اللغوية وغيرها التي يخبرها المتكلم)"([15]).
إن هذه المباحث المتشعبة التي هي من صميم اهتمامات علم الدلالة، هي التي دفعت علماء الألسنية ومنهم التوزيعيين([16]) إلى إبعاد دراسة الدلالة من اللسانيات. والحقيقة التي لا مراء فيها أن دراسة المعنى لم تخل منه أي مباحث لغوية سواء أكانت قديمة أم حديثة، ذلك أنه لا يمكن تصور دراسة الكلمات وهي جوفاء خالية من الدلالات. وهذا ما عبر عنه سوسير في سياق حديثه عن الدال والمدلول وشبه اتحاد الكلمات ودلالتها بوجهي الورقة الواحدة.
إن علم الدلالة كمبحث من المباحث اللغوية حسب ماهية اللسانيات، يهتم بحلقة من حلقات علم اللسان البشري، هذه الحلقة تكمن في المظهر الإبلاغي وما يتعلق به، فالرسالة الإبلاغية هي التي تضطلع بنقل دلالة الخطاب إلى المتلقي بحيث يتم- في الحالات العادية- استيعابها استيعاباً كافياً، "فالدراسة اللسانية لا تقف عند تشخيص الحدث اللغوي في مستواه الأدائي، ولكن في سلكه الدائري إذ تهتم اللسانيات بتولد الحدث وبلوغه وظيفته ثم بتحقيقه مردوده عندما يولد رد الفعل المنشود، وهكذا يكون موضوع علم اللسان اللغة في مظهرها الأدائي ومظهرها الإبلاغي وأخيراً في مظهرها التواصلي.([17])
لقد ولجت اللسانيات كل مجالات الاتصالات الإنسانية حتى غدت ملتقى لكل العلوم الإنسانية واعتمدت في الخطاب بأنواعه، ولا يمكن أن نقيم هذا الدور الرائد في مجالات الحياة للألسنية دون أن نقر بحضور الدلالة في ذلك، كفرع أساسي ومهم في فعالية الخطاب "فاللسانيات تستلهم الظاهرة اللغوية ونواميسها من مصادر لسانية وغير لسانية فتعمد إلى إجراء مقطع عمودي على كل منتجات الفكر، بمنظور مخصوص فبعد البحث عن خصائص الخطاب الإخباري والخطاب الشعري الأدبي، تعمد اللسانيات إلى دراسة نواميس الخطاب العلمي والقضائي والإشهاري والديني والمذهبي.([18])
ولم يكن للألسنية هذا الاهتمام الواسع باللغة الإنسانية، إلا بعد أن ظهرت في أوربا مدارس بنيوية عاينت الظاهرة اللغوية من كل جوانبها: الجانب الصوتي، والجانب المعجمي، والجانب التركيبي والجانب الدلالي، واستقر لديها أن "الألسنية هي دراسة اللغة بحد ذاتها دراسة علمية، وتحليل خصائصها النوعية، بغية الوصول إلى نواميس عملها"([19]). وأن "اللغة تنظيم، وهذا التنظيم وظيفي، يتوسله الإنسان للتعبير عن أغراضه ولعملية التواصل" فلم تعد الألسنية تهتم بشكل الكلمات فحسب، بل أعطت لجوهر هذه الكلمات أهمية كبيرة، وذلك بعد ما تأكد لدى علماء الألسنية، أن البحث الألسني يبقى ناقصاً ما لم يهتم بجوانب اللغة جميعها، ويظل حكمه على الظواهر اللغوية يفتقد إلى طابع المعيارية التي تسم ديناميكية اللغة وفعاليتها بسمة التقعيد. ولم يحصل هذا الوعي اللغوي في البحث الألسني إلا مع العلماء اللغويين المتأخرين كالعالم الأمريكي "بلومفيلد" الذي كان يرى أن الدراسة الألسنية، لا تنحصر بدراسة الأصوات والدلالات اللغوية بذاتها، بل تشمل دراسة الارتباط القائم بين أصوات معينة ودلالات معينة ()، وجدير بالذكر أن مفهوم ارتباط الصوت اللغوي بالدلالة، قد تبنته الألسنية بصورة عامة.([20])
وبعد هذا التزاوج الذي لزم علم الألسنية الأخذ به، تبين لعلماء اللغة المحدثين أن الجانب الدلالي في اللغة لا يزال البحث فيه هزيلاً كما كان في القديم، وأنه محتاج إلى نظرة أخرى على مستوى البحث وعلى مستوى المنهج، رغم ما قدمته العلوم المستحدثة من نظريات أنارت جوانب مهمة من علم الدلالة كنظريات الإعلام والتواصل والمعلوماتية. يقول في ذلك الكاتبان: ريمون طحان ودينر بيطار طحان: "يقترن الكلام أو الأصوات، بنظريات الدلالة العامة، وكان علم الدلالة الجزء الهزيل من النظريات الألسنية، وقد أصبح يفضل نظريات الإعلام والتواصل والمعلوماتية، مزوداً بمؤشرات سليمة منها أن المتكلمين بلغة واحدة يتبنون المعنى الواحد في الكلام الواحد أو الجملة الواحدة"([21]).
وبعد ذلك توفر لعلم الدلالة وجود مستقل، وإن بقيت تربطه بعلوم اللغة الأخرى- وخاصة الألسنية- وشائج تتجلى بصورة واضحة في مجالات البحث. حيث يبرز التقاطع بين هذه العلوم مجتمعة. ولكن ما يميز البحث الدلالي، هو عمق الدراسة في معنى الكلمات والتراكيب متخذاً في ذلك منهجاً خاصاً يتوخى المعيارية في اللغة والكلام، "والعلوم إذا اختلفت في المنهج تباينت في الهوية وقوام العلوم ليست فحسب مواضيع بحثها وإنما يستقيم العلم بموضوع ومنهج".([22]) وتبعاً لذلك اتسع نطاق البحث الدلالي، وأحرز علماء العرب سبقاً في هذا المجال حيث برز لغويون كثيرون وضعوا نظريات مختلفة وأرسوا بذلك قواعد أضحت مدارس دلالية، تنظر إلى قضية "المعنى" بنظريات مختلفة، وداخل المنهج الأوحد للبحث الدلالي ظهرت مناهج فرعية رأى أصحابها نجاعتها في تقديم الأجوبة الكافية لمختلف المسائل التي طرحت في الدراسات الدلالية، والتي عجز عنها البحث اللغوي قبلها، ولكن ما هي القضايا الأساسية التي طرحها الدرس الدلالي الحديث؟ وما هي المباحث اللغوية التي اختص بها علم الدلالة حتى غدت مجالاً خاصة به، تعبر عن خصوصية هذا العلم واستقلاله عن بقية العلوم اللغوية الأخرى؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه في المباحث التالية.

ثانياً- ماهية الدلالة بين القديم والحديث

I-مصطلح "الدلالة" في القرآن الكريم ومعجمات اللغة:

تمهيد: الحديث عن المصطلح الدلالي- كيف نشأ وكيف تطور- يدعو إلى تحديد المفهوم اللغوي الأول لهذا المصطلح، لأن الوضع اللغوي الذي تصالح عليه أهل اللغة قديماً، يلقي بظلاله الدلالية على المعنى العلمي المجرد في الدرس اللساني الحديث "فالمصطلح يتشكل مع نمو الاهتمام في أبواب العلم وبالاحتكاك الثقافي."([23]) وقد وقع اختلاف بين علماء اللغة المحدثين في تعيين المصطلح العربي الذي يقابل مصطلح "السيمانتيك" بالأجنبية الذي أطلقه العالم اللغوي "بريل" سنة 1883 على تلك الدراسة الحديثة، التي تهتم بجوهر الكلمات في حالاتها الإفرادية المعجمية وفي حالاتها التركيبية السياقية وآلياتها الداخلية التي هي أساس عملية التواصل والإبلاغ، فاهتدى بعض علماء اللغة العرب إلى مصطلح "المعنى" باعتباره ورد في متون الكتب القديمة لعلماء أشاروا إلى الدراسة اللغوية التي تهتم بالجانب المفهومي للفظ كالجرجاني الذي يعرف الدلالة الوضعية، بأنها كون اللفظ بحيث متى أطلق أو تخيل فهم منه معناه للعلم بوضعه.([24]) ومن علماء العرب المحدثين الذي استعمل مصطلح "المعنى" الدكتور تمام حسان إذ يقول، في سياق حديثه عن العلاقة بين الرمز والدلالة: "ولبيان ذلك نشير إلى تقسيم السيميائيين للعلاقة بين الرمز والمعنى إلى علاقة طبيعية وعلاقة عرفية وعلاقة ذهنية."([25]) وفي مقام آخر يستعمل الكاتب نفسه مصطلحي الدال والمدلول في حديثه عن العلاقة الطبيعية بين الرمز الأدبي ومعناه إذ يقول: "وهناك طريقة أخرى للكشف عن هذه الرموز الطبيعية في الأدب الطريقة هي عزل الدال عن المدلول أو الشكل عن المضمون، ثم النظر إلى تأثير الدال في النفس بعد ذلك".([26])
وقد آثر لغويون آخرون استعمال مصطلح "الدلالة" مقابلاً للمصطلح الأجنبي: "لأنه يعين على اشتقاقات فرعية مرنة نجدها في مادة (الدلالة: - الدال- المدلول- المدلولات- الدلالات- الدلالي)"([27]). ولأنه لفظ عام يرتبط بالرموز اللغوية وغير اللغوية، أما مصطلح "المعنى" فلا يعني إلا اللفظ اللغوي بحيث لا يمكن إطلاقه على الرمز غير اللغوي، فضلاً على ذلك أنه يعد أحد فروع الدرس البلاغي وهو علم المعاني.
فدرءاً للبس وتحديداً لإطار الدراسة العلمية، استقر رأي علماء اللغة المحدثين على استعمال مصطلح "علم الدلالة"، مرادفاً لمصطلح "السيمانتيك" بالأجنبية وأبعدوا مصطلح "المعنى" وحصروه في الدراسة الجمالية للألفاظ والتراكيب اللغوية وهو ما يخص "علم المعاني" في البلاغة العربية.
1-لفظ "الدلالة" في القرآن الكريم:
لقد أورد القرآن الكريم صيغة "دلّ" بمختلف مشتقاتها في مواضع سبعة تشترك في إبراز الإطار اللغوي المفهومي لهذه الصيغة، وهي تعني الإشارة إلى الشيء أو الذات سواء أكان ذلك تجريداً أم حساً ويترتب على ذلك وجود طرفين: طرف دال وطرف مدلول يقول تعالى في سورة "الأعراف" حكاية عن غواية الشيطان لآدم وزوجه: "فدلاّهما بغرور"([28]). أي أرشدهما إلى الأكل من تلك الشجرة التي نهاهما الله عنها. فإشارة الشيطان دال والمفهوم الذي استقر في ذهن آدم وزوجه وسلكا وفقه هو المدلول أو محتوى الإشارة، فبالرمز ومدلوله تمت العملية الإبلاغية بين الشيطان من جهة، وآدم وزوجه من جهة ثانية، وإلى المعنى ذاته، يشير قوله تعالى حكاية عن قصة موسى عليه السلام: "وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون"([29]) كما ورد قوله تعالى في سورة "طه" حكاية عن إبليس: "قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى"([30]). فهاتان الآيتان تشيران بشكل بارز إلى الفعل الدلالي المرتكز على وجود باث يحمل رسالة ذات دلالة. ومتقبل يتلقى الرسالة ويستوعبها وهذا هو جوهر العملية الإبلاغية التي تنشدها اللسانيات الحديثة، فإذا تم الاتصال الإبلاغي فواضح أن القناة التواصلية سليمة بين الباث والمتقبل. وتبرز العلاقة الرمزية بين الدال والمدلول- قطبي الفعل الدلالي- في قوله تعالى من سورة الفرقان: "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً".([31]) فلولا الشمس ما عرف الظل، فالشمس تدل على وجود الظل فهي شبيهة بعلاقة النار بالدخان الذي يورده علماء الدلالة مثالاً للعلاقة الطبيعية التي تربط الدال بمدلوله، ويمكن تمثل هذه العلاقة في أي صيغة أخرى، ولقد دلت الأرضة، التي أكلت عصا سليمان عليه السلام حتى خرّ، أنه ميت في قوله تعالى من سورة سبأ: "فلما قضينا عليه الموت ما دلّهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين".([32]) فتعيين طرفي الفعل الدلالي كما تحدده الآية، ضروري لإيضاح المعنى؛ فالدابة وأكلُها العصا دال، وهيئة سليمان وهو ميت مدلول، فلولا وجود "الأرضة" (الدال) لما كان هناك معرفة موت سليمان- عليه السلام- (دال عليه)، ومن السورة السابقة ورد قوله تعالى: "وقال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد."([33]) فهذه الآية تؤكد على ضرورة وجود إطار للفعل الدلالي، عناصره الدال والمدلول والرسالة الدلالية التي تخضع لقواعد معينة، تشرف على حفظ خط التواصل الدلالي بين المتخاطبين، وإلى المفهوم اللغوي ذاته يشير قوله تعالى على لسان أخت موسى عليه السلام: "إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقرّ عينها ولا تحزن."([34])
هذه الآيات التي ورد ذكر لفظ "دلّ" بصيغه المختلفة، تشترك في تعيين الأصل اللغوي لهذا اللفظ، وهو لا يختلف كثيراً عن المصطلح العلمي الحديث ودلالته، فإذا كان معنى اللفظ "دلّ" وما صيغ منه في القرآن الكريم يعني الإعلام والإرشاد والإشارة والرمز، فإن المصطلح العلمي للدلالة الحديثة لا يخرج عن هذه المعاني إلا بقدر ما يضيف من تحليل عميق للفعل الدلالي، كالبحث عن البنية العميقة للتركيب اللغوي بملاحظة بنيته السطحية، أو افتراض وجود قواعد دلالية على مستوى الذهن تكفل التواصل بين أهل اللغة الواحدة، وهو يفسر توليد المتكلم لجمل جديدة لم يكن قد تعلمها من قبل. كما تنص على ذلك القواعد التوليدية التي أشار إليها (تشومسكي) ضمن نظريته التوليدية، فما يمتاز به متكلم اللغة قدرته على إنتاج وفهم جمل لم يسبق له أن أنتجها أو سمعها من قبل".([35])
2-لفظ "دل" في معاجم اللغة:
الصورة المعجمية لأي لفظ في اللغة العربية تمثل المرجعية الأولى لهذا اللفظ في القاموس الخطابي، باعتبار دلالته الأولى "فالحالة المعجمية للألفاظ تمثل الصورة الأساسية لمحيطها الدلالي([36])". وكتاب القرآن الكريم، يمثل ذروة ما وصل إليه الخطاب اللغوي القديم من فصاحة اللغة وجودة التعبير والدلالة، فلو تتبعنا لفظ "دل"، وما صيغ منه، في معاجم اللغة المعروفة، لألفينا دلالته لا تبتعد عن ذلك المجال الذي رسمه القرآن الكريم، فيورد ابن منظور قوله حول معاني لفظ دل: "الدليل ما يستدل به، والدليل الدال. وقد دله على الطريق يدله دلالة (بفتح الدال أو كسرها أو ضمها) والفتح أعلى، وأنشد أبو عبيد: إني امرؤ بالطرق ذو دلالات. والدليل والدليلي الذي يدلك". ويسوق ابن منظور قول سيبويه وعلي- كرم الله وجهه- وقد تضمن قولهما لفظ "دل" يقول سيبويه: "والدليلي علمه بالدلالة ورسوخه فيها". وفي حديث علي- رضي الله عنه- في صفة الصحابة: "ويخرجون من عنده أدلة" وهو جمع دليل أي بما قد علموا فيدلون عليه الناس يعني: يخرجون من عنده فقهاء، فجعلهم أنفسهم أدلة، مبالغة."([37])
إن ابن منظور- بما جمع من أمثلة- يرسم الإطار المعجمي للفظ "دل" محدداً المعنى الحقيقي الذي ينحصر في دلالة الإرشاد أو العلم بالطريق الذي يدل الناس ويهديهم. وهذا التصور للدلالة، لا يختلف عن التصور الحديث مما يعني أن المصطلح العلمي (الدلالة) يستوحي معناه من تلك الصورة المعجمية التي نجدها في أساليب الخطاب اللغوي القديم.
وإلى المعنى ذاته يشير الفيروز أبادي محدداً الوضع اللغوي للفظ "دل" فيقول: " والدالة ما تدل به على حميمك، ودله عليه دلالة (ويثلثه) ودلولة فاندل: سدده إليه (..) وقد دلت تدل والدال كالهدي([38])" وبهذا الشرح يؤكد الفيروز أبادي ما نص عليه ابن منظور من أن الأصل اللغوي للفظ "دل" يعني هدى وسدد وأرشد.
ويترتب على هذا التصور المعجمي توفر عناصر الهدي والإرشاد والتسديد أي توفر: مرشِد ومرشَد ووسيلة إرشاد وأمر مرشَد إليه. وحين يتحقق الإرشاد تحصل الدلالة، وتقابل اللسانيات الحديثة هذا التصور، بتعيين الباث والمتقبل ووسيلة الإبلاغ والتواصل وشروطها، ثم المرجع المفهومي الذي تحيل عليه الرسالة الإبلاغية، وبناء على ذلك فالعمل المعجمي هو عمل دلالي وإن كان (جورج مونان) كما نقل د.فايز الداية ينبه إلى أنه من الضروري عدم الخلط بين علم الدلالة (semantique) والدراسة المعجمية (lexicographie)، هذه التي لا تهتم إلا بوصف فحوى الكلمات كما نراها- في الحالة التقليدية- حين تسجيلها في المعجم([39])". ولكن إذا كان المعجم لا يفي بالغرض في نقل دلالة اللفظ التي تشعب بها الخطاب اللغوي الحديث، فإن إيراد المعنى المركزي هو الذي يعين على مجموعة الحالات الجزئية التي تتباين وتتغاير بعدد السياقات التي تحل فيها([40])، وعلى ذلك فإن الدراسات المعجمية- كما قام بها علماء المعجم- لا يمكن إغفالها أو إسقاطها من الجهود الدلالية العربية- ويبقى السياق المحدد الرئيسي لدلالة اللفظ المتجددة، إذ ذهب بعض العلماء إلى التأكيد أن معنى الكلمة هو مجموع استعمالاتها المختلفة في السياقات المتعددة، "وعلى العموم فإن معاني (دلالات) الكلمات هي نتائج لا يتوصل إليها إلا من خلال تفاعل الإمكانيات التفسيرية لكامل الكلام كما يرى إمبسون."([41]) هذا التحديد اللغوي للفظ "دل" كما جاء به الفيروز آبادي ينطوي على جملة من المعطيات اللغوية، يفسرها الدرس اللساني والدلالي الحديث ويحدد أبعادها المعرفية.
أما الزبيدي في معجمه فيشرح لفظ "دل" لغوياً فيقول: " وامرأة ذات دل أي شكل تدل به" وينقل عن الأزهري في كتابه "التهذيب" قوله: دللت بهذا الطريق دلالة عرفته ودللت به أدل دلالة، ثم إن المراد بالتسديد إراءة الطريق، دل عليه يدله دلالة ودلولة فاندل على الطريق (سدده إليه). وأنشد ابن الأعرابي:
ما لك يا أعور لا تندل


وكيف يندل امرؤ وعثول

ومما يستدرك عليه الدليل ما يستدل به، وأيضاً الدال وقيل هو المرشد وما به الإرشاد، الجمع أدلة وأدلاء، قول الشاعر:
شدوا المطي على دليل دائب


من أهل كاظمة بسيف البحر

أي على دلالة دليل كأنه قال معتمدين على دليل قال ابن الأعرابي: دل فلان إذا هدى([42]). وتجمع قواميس اللغة على أن الدلالة، تعني الهدي والإرشاد، فدله على الشيء وعليه أرشده وهداه.
3-ماهية الدلالة بين القديم والحديث:

أولاً: الدلالة في تعريفات علماء العرب القدامى
(الأسس والمبادئ النظرية):

إن الأسس النظرية التي انبنى عليها المصطلح العلمي القديم نشأت في رحاب الدرس الفقهي، الذي يتوخى فهم كتاب الله واستنباط الأحكام منه، ولذلك نجد مختلف علوم التراث المعرفي العربي تشترك- إلى حد بعيد- في أدوات البحث ومصطلحاته العلمية، ولا أدل على ذلك أن ظهر فرع من علوم العربية أطلق عليه مصطلح "فقه اللغة"([43]) على غرار فقه الشرع، كما استخدم اللغويون القدامى مصطلحات هي من لوازم الفقه الشرعي نذكر منها: مصطلح القياس والسماع والإجماع واستصحاب الحال والاستحسان([44]) وما إلى ذلك، ولم يشذ الدرس الدلالي في التراث العربي عن هذه الأسس النظرية باعتباره كان يدور في فلك العلوم التي كانت تهدف إلى فهم كتاب القرآن، بتذليل معانيه واستنباط دلالاته، واقتباس سننه في الإنشاء والتعبير. ويمكن أن نلمس هذا الاهتمام بالدلالة- لدى المتقدمين من العلماء العرب- في ميادين مختلفة من المعارف والعلوم كالمنطق والفلسفة، وأصول الفقه، والتاريخ، والنقد، وبناء على هذه العلوم سنبين تعريفات للدلالة عند كل من: أبي نصر الفرابي (ت 339هـ)، والإمام أبي حامد الغزالي (ت 505هـ)، وعبد الرحمن بن خلدون (ت 808هـ)، والشريف الجرجاني (ت816هـ)، واختيارنا لهؤلاء الأعلام ارتكز أساساً على عدة اعتبارات كان أهمها وضوح الاهتمام بالتنظير الدلالي الذي يبدو بارزاً في مؤلفات هؤلاء العلماء، وسنقتصر على تقديم ماهية الدلالة عند علماء العرب القدامى تقديماً موجزاً بالقدر الذي يبرز مفاهيمها وتعريفاتها، ذلك أن دراسة الدلالة في التراث العربي القديم بكيفية مفصلة سيشتمل عليه الفصل الأول من المدخل التطبيقي الذي يحمل عنوان: جهود العرب القدامى في الدراسة الدلالية..

I-مفاهيم الدلالة عند الفرابي (ت 339هـ):

لقد اقترن اسم الفرابي في التراث العربي بميدانين من ميادين الثقافة الإسلامية وهما: ميدان علم المنطق وميدان علم الفلسفة، وصلة هذين الميدانين بعلوم اللغة لا تخفى على أي مطلع ودارس للتراث المعرفي العربي، فالفرابي كان يرى ضرورة الأخذ بعلوم العربية وقوانينها وسننها في التعبير والخطاب، لأنها أدوات أساسية في البحث المنطقي والفلسفي، واهتمام الفرابي بعلوم العربية يستشف من خلال مؤلفاته في المنطق والفلسفة، ولا نكاد نعثر عنده على تنظير للدلالة ومتعلقاتها، إلا بقدر ما له ارتباط بهذين العلمين، ومن جملة المسائل الدلالية التي بحثها الفرابي ما يلي:
أ-أقسام الألفاظ باعتبار دلالتها:
اهتم الفرابي اهتماماً بالغاً بالألفاظ، فصنفها إلى تصنيفات عدة، بل إنه وضع لها علماً خاصاً سماه "علم الألفاظ" الذي عده من فروع علوم اللسان التي قسمها إلى سبعة أقسام وهي: "علم الألفاظ المفردة وعلم الألفاظ المركبة، وعلم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة، وقوانين الألفاظ عندما تركب وقوانين تصحيح الكتابة، وقوانين تصحيح القراءة، وقوانين الشعر."([45])
ودراسة الفرابي للألفاظ لا يمكن تصورها بمعزل عن الدلالة، فلا وجود لألفاظ فارغة الدلالة في علمي المنطق والفلسفة، إنما الألفاظ ودلالاتها وجهان لعملة واحدة، مما سيسمح ذلك في القرون المتأخرة إلى إبراز جملة من العلاقات الدلالية الناتجة عن اتحاد الدال بمدلوله، وهو ما ظهر جلياً في العصر الحديث في مباحث دسوسير الذي وضع مصطلح الدليل اللساني (le signe linguistique) على اتحاد اللفظ بالمعنى، قطبي الفعل الدلالي.
إن المستوى الذي تتم فيه الدراسة الدلالية عند الفرابي هو مستوى الصيغة الإفرادية وهو يطلق عليه في الدرس الألسني الحديث بالدراسة المعجمية، التي تتناول الألفاظ بمعزل عن سياقها اللغوي، فتدرس دلالاتها وأقسامها ضمن حقول دلالية تنتظم فيها وفق قوانين حددها علماء الدلالة وذلك لإدماجها في استعمال لغوي أمثل. يقول الفرابي مشيراً إلى هذه الدراسة: "الألفاظ الدالة منها مفردة تدل على معان مفردة ومنها مركبة تدل على معان مفردة والألفاظ الدالة على المعاني المفردة ثلاثة أجناس: اسم وكلمة [فعل] وأداة [حرف] وهذه الأجناس الثلاثة تشترك في أن كل واحد منها دال على معنى مفرد"([46]) فأقسام الألفاظ باعتبار دلالتها تنتظم في قسمين، ألفاظ مفردة ذات دلالة مفردة، ومعيار اللفظ المفرد هو ما يدل جزؤه على جزء معناه، فدلالته قابلة للتجزئة، أما قسم الألفاظ المركبة ذات الدلالة المفردة فهي على نقيض الألفاظ المفردة، إذ هي غير قابلة لأن تتجزأ دلالتها، وتعرف بأنها ما لا يدل جزؤه على جزء معناه، يقدم ابن سينا تمثيلاً لذلك بقوله: "اللفظ المفرد: هو الذي لا يراد بالجزء منه دلالة أصلاً حين هو جزؤه مثل تسميتك إنساناً بعبد الله فإنك حين تدل بهذا على ذاته، لا على صفته من كونه "عبد الله" فلست تريد بقولك "عبد" شيئاً أصلاً. فكيف إذا سميته بـ"عيسى"؟ بلى، في موضع آخر تقول "عبد الله" وتعني بـ"عبد" شيئاً، وحينئذ يكون "عبد الله" نعتاً له، لا اسماً وهو مركب لا مفرد".([47]) ولم يخرج تقسيم ابن سينا للألفاظ عما وضعه الفرابي قبله في كتابه "في المنطق".
ب-ما يقوم به مقام اللفظ المفرد من الأدوات الدالة:
لقد قسم الفرابي الألفاظ الدالة إلى ثلاثة أقسام: الاسم والفعل والأداة. وإذا كانت دلالة الاسم والفعل واضحة، فإن دلالة الأداة قد يكتنفها غموض، يشرح الفرابي في كتابه "الحروف" هذه المسألة ويفيض البحث فيها، ففي مقام حصره لاستخدامات الحرف "ما" يقول: "يستعمل [ما] في السؤال عن شيء ما مفرد، وقد يقرن باللفظ المفرد والذي للدلالة عليه أولاً وهو الشيء الذي جعل ذلك اللفظ دالاً عليه".([48]) فالحروف ليست لها دلالة في ذاتها إنما قيمتها الدلالية فيما تشير إليه، واللفظ لا يدل على ذاته إنما يدل على المحتوى الفكري الذي في الذهن، وفي هذا الإطار يشرح الفرابي استعمالات لفظ "موجود" فيقول: "الموجود لفظ مشترك يقال على جميع المقولات والأفضل أن يقال إنه اسم لجنس من الأجناس العالية على أنه ليست له دلالة في ذاته."([49])
ج-الدلالة محتواه في النفس:
إن العلاقة التي تربط الدال بمدلوله في علم المنطق، لا يمكن أن تترك دون قواعد أو قوانين، لأن علم المنطق يهدف إلى عقلنة الأفكار بإخضاعها إلى قوانين تنتظم في إطارها، ولهذا يطلق الفرابي على المعاني أو الدلالات مصطلح منطقي هو "المعقولات" التي يكون محلها النفس التي يتم فيها تصحيح المفاهيم برؤية منطقية، يقول الفرابي في ذلك: "وأما موضوعات المنطق وهي التي تعطي القوانين فهي المعقولات، من حيث تدل عليها الألفاظ، والألفاظ من حيث هي دالة على المعقولات وذلك أن الرأي إنما نصححه عند أنفسنا بأن نفكر ونروّي ونقيم في أنفسنا أموراً ومعقولات شأنها أن تصحح ذلك الرأي."([50])
فالنظرية الدلالية عند الفرابي، لا تخرج عن إطار علاقة الألفاظ بالمعاني ضمن القوانين المنطقية، ويمكن أن نجمل تعريف الفرابي لعلم الدلالة بأنه الدراسة التي تنتظم وتتناول الألفاظ ومدلولاتها، وتتبع سنن الخطاب والتعبير لتقنينه وتقعيده.

II-مفاهيم الدلالة عند الغزالي (ت: 505):

إن مفهوم الدلالة عند الغزالي ينبغي أن ينظر إليه من زاوية الثقافة الأصولية، ذلك أن الأحكام التي استنبطها من القرآن الكريم- خاصة- استند فيها على أسس نظرية نجدها بشكل واضح في كتابه "المستصفى من علم الأصول". وتعود هذه الأسس أصلاً إلى فهم عميق للدلالة، "وإن كانت وضعت لتطبق في فهم النصوص الشرعية، ولكنها تطبق أيضاً في معاني أي نص غير شرعي ما دام مصوغاً في لغة عربية"([51]) والتفسير الدلالي الذي توصل إليه الغزالي، يدل على أن هذا العالم الفيلسوف قد تجاوز البحث عن ماهية الدلالة إلى البحث عن جوهر الدلالة وفروعها، فبنظرة مقتضبة إلى بعض نصوصه في كتابه المشار إليه آنفاً، تجده يذكر أصنافاً لمعان قد حددها علماء الدلالة المحدثون كالمعنى الإرشادي أو الإيمائي، والمعنى الاتساعي، والمعنى السياقي، وإن كان الغزالي يسميها بمصطلحات أصولية وهي على الترتيب دلالة الإشارة ودلالة الاقتضاء وفحوى الخطاب، وكل دلالة عند الغزالي قد تنقسم إلى دلالات فرعية يقول معرفاً دلالة الاقتضاء، بأنها هي التي لا يدل عليها اللفظ ولا يكون منطوقاً بها ولكن تكون من ضرورة اللفظ.([52]) وكيف تكون دلالة الاقتضاء من ضرورة اللفظ يا ترى؟ يوضح ذلك الغزالي بقوله: "أما من حيث لا يمكن كون المتكلم صادقاً إلا به، أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعاً إلا به أو من حيث يمتنع ثبوته عقلاً إلا به".([53])
إن إدراك دلالة الاقتضاء تتم إما باعتبار طبيعة حال المتكلم فهي بناء على ذلك طبيعية لا يكون المتكلم عندها إلا صادقاً وإما باعتبار طريق العقل فالدلالة إذن عقلية منطقية.
وسيشير الغزالي إلى ما يمكن أن يصحب العملية التواصلية من حركة وإيماء وإشارة من قبل المتكلم فتنصرف الدلالة من المعنى الرئيسي، إلى المعنى الإيمائي أو ما يسمى في علم الدلالة الحديث "بالقيم الحافة"، وهي تعني جملة القيم الثقافية والاجتماعية وغيرها التي تصحب عملية التواصل أو الإبلاغ فلكي نؤدي دلالة معينة لا نعتمد فحسب على الألفاظ أو الرموز، إنما يقتضي ذلك تضافر عدة أنظمة إبلاغية "إذا كان النظام الكلامي أهمها فإن سائرها يواكبه مكملاً إياه"([54]) من ذلك النظام الإشاري، والنظام النبري "فوق المقطعي"، والنظام الإيحائي، والنظام السياقي، ونظام المقام أو الحال، يقول الغزالي محدداً بعض هذه الأنظمة الدلالية في سياق تعريفه لدلالة الإشارة: "وهي [أي دلالة الإشارة] ما يؤخذ من إشارة اللفظ لا من اللفظ ونعني به ما يتبع اللفظ من غير تجريد قصد إليه، فكما أن المتكلم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلامه ما لا يدل عليه نفس اللفظ فيسمى إشارة فكذلك قد يتبع اللفظ ما لم يقصد به () وهذا ما قد يسمى إيماء وإشارة."([55]) أما النظام السياقي الذي يشرف على تحميل الصيغة دلالات إضافية، عدها الدرس الدلالي الحديث دلالات أساسية، يقدمه الغزالي بقوله أنه فهم غير المنطوق به من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده."([56])
إن هذه التصنيفات للدلالة التي حددها الغزالي، تمثل وعياً عميقاً صحب فكر هذا العالم، ومكنه من أن يسهم في تأسيس الفكر النظري في مجال الدلالة. وهذه الإسهامات العلمية، لن تقدر حق قدرها ما لم ينظر إليها بمنظار "المعرفة" التي تأسس وفقها تراث القرن الخامس والسادس الهجريين، وقد أبان الغزالي على نحو علمي راق علاقات الألفاظ بالمعاني، ولم يخرج عن تلك المحددة قبلاً عند العلماء، وهي علاقة المطابقة وعلاقة التضامن وعلاقة الالتزام أو الاستتباع.([57]) كما بحث الغزالي قسم الألفاظ من حيث إفرادها وتركيبها وأحصى في ذلك ثلاثة أقسام: ألفاظ مفردة وألفاظ مركبة ناقصة، وألفاظ مركبة تامة، فاللفظ المفرد عند الغزالي، لا يخرج عن تصور من سبقه من العلماء خاصة الفرابي وابن سينا يقول الغزالي: "المفرد وهو الذي لا يراد بالجزء منه دلالة على شيء أصلاً حين هو جزؤه كقولك عيسى وإنسان، فإن جزئي عيسى وهما "عي وسا" وجزئي إنسان وهما "إن وسان" ما يراد بشيء منهما الدلالة على شيء أصلاً([58]). أما المركب فهو الذي يدل كل جزء فيه على معنى، والمجموع يدل دلالة تامة بحيث يصح السكوت عليه من ذلك قولهم: زيد يمشي والناطق حيوان أما قولهم: في الدار أو الإنسان في، مركب ناقص لأنه مركب من اسم وأداة.([59]) وما يلاحظ في تقسيمات الفرابي وابن سينا والغزالي للألفاظ باعتبار الإفراد والتركيب، هو إسنادهم في ذلك كله على القصد والإرادة، فإن أريد بمركب اسمي أو فعلي دلالة مفردة، كانت تلك الدلالة، وإن أريد بهما غير تلك الدلالة لم تكن.
وإن تتبعنا تقسيمات الغزالي للألفاظ، لألفيناها تتعدد لتعطي ذلك المفهوم العام الذي استقر لدى هذا العالم حول الدلالة وفروعها ومتعلقاتها، ويمكن أن يشير في هذا المجال إلى تقسيمه للألفاظ باعتبار الكلي والجزئي، وعموم المعنى وخصوصه، كما أقام تقسيمات للألفاظ باعتبار نسبتها إلى المعاني وحدد أربعة أصناف يقول: "اعلم أن الألفاظ من المعاني على أربعة منازل: المشتركة والمتواطئة والمترادفة والمتزايلة."([60]) ويشرح الغزالي على نحو تفصيلي مرتب، العلاقة بين الصور المحفوظة في الذاكرة للمدلولات المادية والمجردة، والألفاظ والكتابة التي هي أدوات دالة فيقول: "اعلم أن المراتب فيما نقصده أربع واللفظ في الرتبة الثالثة، فإن للشيء وجوداً في الأعيان ثم في الأذهان ثم في الألفاظ ثم في الكتابة، فالكتابة دالة على اللفظ، واللفظ دال على المعنى الذي في النفس، والذي في النفس هو مثال الموجود في الأعيان."([61])
وعلى هذا الأساس وبحسب تقسيمات الغزالي
-فالكتابة دال فقط باعتبارها واسطة تمثيل للملفوظ فهي إشارة لإشارة كما يقول (جاك دريدا)([62]).
-اللفظ دال باعتبار ومدلول باعتبار آخر.
-المعنى الذي في النفس (الصور الذهنية) مدلول فقط وليست بدال.
-الموجود في الأعيان (الأمور الخارجية) مدلول فقط وليست بدال.
وعلى هذا الاعتبار وبحسب ركني العملية الدلالية (الدال- المدلول).
-الكتابة، الألفاظ: دال.
-الصور الذهنية- الأمور الخارجية: مدلول.
إن تلك الإشارات العابرة، إلى ما قدمه الإمام الغزالي في مجال التأسيس النظري للدلالة، يبرز ما مدى ثراء تراثنا المعرفي الذي اتخذ من النص القرآني كمعطى مثالي من أجل وضع أسس لنظرية معرفية شاملة خاصة إذا علمنا أن العلماء القدامى، قد امتلكوا الأدوات المختلفة اللغوية والمنطقية والفلسفية من أجل إبراز كل الجوانب الهامة في النص المقدس، وإن الحيطة التي أخذوها في التعامل مع أحكام القرآن زادت من منطقية معارفهم وصدق مفاهيمهم، والغزالي يعد المازج الحقيقي للمنطق الأرسططاليسي([63]). بعلوم المسلمين، وظاهر ذلك من المقدمة المنطقية التي صدّر بها كتابه "المستصفى" وذكر فيها أن من لا يحيط بالمنطق ومعاني اللغة وأسرارها لاثقة بعلومه قطعاً.
ومنذ عهد الغزالي دأب الأصوليون المتكلمون يستهلون كتبهم بمقدمات كلامية ومنهم صاحب كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" سيف الدين الآمدي، موضوع هذا البحث، وقد أظهر الغزالي قدرة عميقة في فهم تلك السنن التي ينطوي عليها نظام اللغة، وذلك استجابة للمبحث الأصولي الذي يتجاوز الفهم السطحي "النحوي" للغة، إلى استقراء دقيق لمعانيها، لا يتعرض لها اللغوي المشتغل بصناعة النحو.

III-مفاهيم الدلالة عند ابن خلدون (ت:808هـ):

لا نكاد نعثر لابن خلدون عن تعريف بيّن للدلالة، وإنما باستقراء نصوص "مقدمته" نجد دراسات في الدلالة قد تجاوزت- بلا شك- الماهية إلى البحث العميق عن جوهر الدلالة وطرق تأديتها، واضحة من غير لبس يقول موضحاً ذلك وشارحاً: "واعلم بأن الخط بيان عن القول والكلام، كما أن القول والكلام بيان عما في النفس والضمير من المعاني، فلا بد لكل منهما أن يكون واضح الدلالة."([64])
فابن خلدون- على نهج الغزالي- يوضح العلاقة القائمة بين المعاني المحفوظة في النفس، والكتابة والألفاظ ويحصرها في ثلاثة أصناف:
أ-الكتابة الدالة على اللفظ.
ب-اللفظ الدال على المعاني التي في النفس والضمير. (الصورة الذهنية): وهذه المعاني إن لم تكن مجردة فإنها تدل على موجود في الأعيان وعلى هذا الأساس فالصنف الثالث للدلالة:
ج-المعاني الدالة على الأمور الخارجية.
ويعطي ابن خلدون للخط والكتابة أبعاداً مهمة في العملية التواصلية، باعتبارها أداتين مهمتين من أدوات التعليم والتعلّم الشيء الذي كان يشغل فكر ابن خلدون كثيراً يقول معرفاً "الخط" وأداءه للدلالة: "الخط وهو رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس، فهو ثاني رتبة عن الدلالة اللغوية.([65])" فابن خلدون يصنف الخط في المرتبة الثانية- كما فعل ذلك الغزالي- وذلك في تأديته للدلالة اللغوية بعد الألفاظ، فالخط دال على الألفاظ والألفاظ دالة على المعاني.
ويوضح ابن خلدون هذه المسألة التي تخص أصناف الدوال فيقول: "إن في الكتابة انتقالاً من [صور] الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس فهو ينتقل أبداً من دليل إلى دليل ما دام ملتبساً بالكتابة وتتعود النفس ذلك فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات."([66])
بهذا التعريف للدلالة اللفظية يكون ابن خلدون قد أشار إلى ما سماه "أندري مارتيني" بالتلفظ المزدوج (double articulation) اشتهر ذلك المصطلح في الألسنية الحديثة. إن التلفظ الأول هو الطريقة التي تترتب فيها الخبرة اللغوية المشتركة بين جميع أعضاء بيئة معينة، وتقوم كل وحدة من وحدات التلفظ الأول على دلالة وعلى صورة صوتية ولا يمكن تحليلها إلى وحدات أصغر ذات معنى، أما التلفظ الثاني فهو إمكانية تحليل الصورة الصوتية إلى وحدات صوتية مميزة تحتوي هذه الوحدات على شكل صوتي ولا تحمل بذاتها أية دلالة.([67])
فصور الحروف الخطية- عند ابن خلدون- هي التي تمثل التلفظ الثاني وهو تقسيم الكلمة (المورفيم) إلى وحدات صوتية (فونيم) لا تحمل بذاتها أية دلالة، فضلاً على ذلك يرسم ابن خلدون العملية التواصلية أو الإبلاغية رسماً بيناً، فالخط يدل على الكلمات اللفظية التي في الخيال، والكلمات هذه تدل على المعاني التي في النفس، والكلمات اللفظية التي في الخيال هو اختصار للعلاقة القائمة بين اللفظ ومعناه، فابن خلدون ينظر إلى هذين الطرفين (اللفظ والمعنى) باعتبارهما طرفاً واحداً، ذلك أن اللفظ قد ارتبط بتصور في الخيال وإلى هذا أشار ابن سينا في تعريفه للدلالة بقوله: "معنى دلالة اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع، ارتسم في النفس معناه فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم فكلما أورده الحس على النفس التفتت النفس إلى معناه، وهو معنى الدلالة.
فاللفظ يرتسم في الخيال كصورة صوتية ذات دلالة، فترتسم في النفس مقاصد هذه الدلالة وعلى هذا الأساس يمكن تمثيل ذلك على النحو التالي:
اللفظ Ù قيمة صوتيةÙ تصور في الخيالÙ المعاني   الموضوع الخارجي، ثم يحصل للنفس ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات، فتربط بالبداهة بين الاسم ومسماه أي بين الدال والمدلول. فإذا كان المدلول شيئاً مادياً يكون الانتقال من اللفظ المسموع إلى الموضوع الخارجي وإذا كان المدلول من المجردات يكون الانتقال حينئذ من اللفظ إلى المعاني الذهنية.
إن هذه المفاهيم التي قدمها ابن خلدون للدلالة ورسم على أساسها العملية الدلالية، لا تختلف عن تلك النظرية التي توصل إليها العالم اللساني دوسوسير حول الدليل اللساني يقول في تعريفه: "فالدليل اللساني لا يجمع الشيء أو المادة والاسم وإنما المفهوم أو المعنى المجرد والصورة السمعية، وليست هذه الأخيرة الصوت المادي بعينه بقدر ما هي الأثر السيكولوجي له أو التمثيل المؤدى من طرف مدركاتنا الحسية([68])" فالكلمات ليست سوى صور سمعية حسب تعريف "دوسسير"، وأن العلامة اللسانية أو (الدليل) هي التأليف بين التصور الذهني
(
concept) والصور السمعية (image accoustique). وإلى الفكرة ذاتها ذهب ابن خلدون في سياق شرحه للعملية الدلالية حين قال: "الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس" وأوضح المسألة أكثر، حيث قال: "كما أن القول والكلام بيان عما في النفس والضمير من المعاني".([69]) هذه التقريرات تبين عن إدراك ابن خلدون لأهمية الجانب السيكولوجي في الفعل الدلالي، وقد دأب سوسير على التركيز على هذا الجانب في كتابه المحاضرات حيث عرف الدال بكونه الإدراك النفساني للكلمة الصوتية، والمدلول هو الفكرة أو مجموعة الأفكار التي تقترن بالدال.([70])
لقد أسهم ابن خلدون في إرساء قواعد علم التربية مؤكداً على ضرورة الإحاطة بالألفاظ ودلالاتها على المعاني الذهنية، وحصر تحصيل تلك المعاني في طريقتين:
1-طريق القراءة والتعلّم من الكتاب.
2-طريق التعلم بالمشافهة والتلقين.
وعلى أساس هذا التنظير التعليمي، يحدد ابن خلدون مراتب الدوال بحسب أدائها للدلالات، ويشير إلى ضرورة إدراك السنن والقوانين التي تنتظم المعاني في الذهن، وهي كما نرى عملية سيكولوجية بحتة تصل الألفاظ بمحتواها الذهني، يشرح ابن خلدون هذه المسألة بقوله: "ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعليم، وهي معرفة الألفاظ ودلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب، فأولاً دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة، ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق".([71])
هذه- بإجمال- نظرة ابن خلدون لعلم الدلالة، وأقسام المعنى باعتبار الألفاظ ودلالتها، وهي نظرة مع قدمها إلا أنها ذات قيمة علمية معتبرة في الدراسة الدلالية الحديثة.

IV-ماهية الدلالة عند الشريف الجرجاني (ت:816هـ):

إن ما يبعث على تقدير جهود الجرجاني حق قدرها في ميدان علم الدلالة، هو عمق تحليله وحسن تصنيفه لأقسام الدلالة، وقد قام عدة باحثين في العصر الحديث على إجراء مقاربة علمية بين ما توصل إليه الجرجاني في تقسيماته للدلالة وما توصل إليه علماء الدلالة في العصر الحديث، ومنهم العالم الأمريكي (بيرس). يعرف الجرجاني الدلالة من منطلق الثقافة الأصولية فيقول: "الدلالة هي كون الشيء بحاله يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأول هو الدال والثاني هو المدلول، وكيفية دلالة اللفظ على المعنى باصطلاح علماء الأصول محصورة في عبارة النص وإشارة النص واقتضاء النص.([72])
وعلى أساس هذا التعريف للدلالة، فأقسامها عند الجرجاني اثنان:
أ- الدلالة اللفظية: إذا كان الشيء الدال لفظاً.
ب- الدلالة غير اللفظية: إذا كان الشيء الدال غير لفظ.
بتحديده لطبيعة العلاقة بين الدال والمدلول، يحصي الجرجاني ثلاثة مستويات صورية تنتج عنها ثلاث دلالات، دلالة العبارة ودلالة الإشارة ودلالة الاقتضاء، وقد مرّ معنا تعريف الإمام الغزالي لدلالتي الإشارة والاقتضاء، أما دلالة العبارة أو النص فهي "المعنى الذي يتبادر إلى الذهن من صيغة النص وهو الذي قصده الشارع من وضع النص، لأن المشرّع حين يضع النص يختار له من الألفاظ والعبارات ما يدل دلالة واضحة على غرضه ثم يصوغه بعد ذلك بحيث يتبادر المعنى المقصود من النص إلى ذهن المطلع بمجرد الاطلاع عليه."([73])
إن هذا الفهم العميق للدلالة ينم عن مدى النضج المعرفي الذي أحرزه علماء القرن الثامن الهجري والذي تبلور بعد تلك الدراسات الدلالية القيمة التي تطورت منذ القرن الثالث الهجري، فالجرجاني يتجاوز بتعريفه الدلالة ليشير إلى علم آخر أعم من الدلالة (semantique) وهو ما يعرف بعلم الرموز أو بالسيمياء (simiologie) وذلك عندما نص على أن "الدلالة هي كون الشيء بحاله يلزم من العلم به العلم بشيء آخر فذكره "الشيء" بدل "اللفظ" يدل على إشارته إلى هذا العلم الذي يعني بالرموز والعلامات اللغوية وغير اللغوية، وقد نلمس بعض القصور في سعي الجرجاني في بلورة مفهوم عام يخص الدلالة وأنواعها ذلك "لأن العرب المتقدمين لم يكونوا يعنون بعلم الدلالة، كما يحاول العلماء اليوم بناءه، نظراً لتعقد الحضارة وارتباطها الوثيق باستعمال العلامات (signes) بالمعارف والفنون التي لا تتحقق إلا في أنساق من العلامات."([74]) هذه التصنيفات الثلاثة التي حددها الجرجاني في تعريفه تبلورت في علم الدلالة الحديث على يد علماء أمريكيين وأوروبيين اهتموا بما سمي بالدلالات الإيحائية، حيث يمير العالم الأمريكي هياكوا (S.J.Hayakwa) بين نوعين من المعاني: المعنى القصدي (Sens intentionnel) والمعنى الاتساعي (Sens extentionnel)، أو كما يسمى في الألسنية الحديثة المعنى الإيمائي، وتحت هذين الصنفين يمكن أن ندرج دلالات الجرجاني الثلاث (دلالة العبارة- دلالة الإشارة- دلالة الاقتضاء)، وإلى التقسيم ذاته نزع العالم اللغوي الأوروبي غرينبرغ (J.H.Greenberg) (حيث أقام تقسيمه باعتبار القصد والإيماء إلى: المعنى الداخلي (Sens internal) والمعنى الخارجي([75]) (Sens external) فالدلالة- إذن- في ضوء معالم الدرس الحديث تتضح عند الجرجاني بكونها العلاقة بين المحتوى الفكري واللفظ، وعلى هذا الأساس يخضع ظهور الدلالة أو خفاؤها إلى قرائن لغوية تحدد الدلالة المقصودة، فهناك السياق الذي يحمل دلالة لا تقبل مجازاً ولا تأويلاً، كما يسوق معنى لا يصح حمله على غير ظاهره، إذ اللفظ منصرف إلى الحقيقة باعتبار الظاهر بما هو الكلام الذي يظهر المراد منه للسامع بنفس الصيغة ويكون محتملاً للتأويل والتخصيص([76]). ولقد أدرك الجرجاني العلاقة بين طرفي العملية الدلالية، الدال والمدلول، وحدد طبيعتها في وجود صلة مباشرة بين الدال والمحتوى الفكري الذي يتحدد وفقه المرجع أو الموضوع، وإن كان لا يحدِّد تحديداً بيّناً طبيعة المدلول، إلا أن تجريد عملية الإحالة المرجعية يقتضي بداهة التمييز بين المحتوى الذهني للعلامة وموضوعها الخارجي. والمهم في تعريف الجرجاني أن الدلالة تتمثل في وجهة صرف الدال إلى مدلوله، ولا يمكن أن يغفل الجرجاني عن ذلك المقام الذي ارتقى إليه التفكير الدلالي في عصره، بل نرى عالماً ناقداً قبله بقرنين وهو الكاتب حازم القرطاجيني (ت 684هـ) يحلل الدلالة بقوله: " قد تبيّن أن المعاني لها حقائق موجودة في الأعيان، ولها صور موجودة في الأذهان، ولها من جهة على ما يدل على تلك الصور من الألفاظ وجود في الأفهام والأذهان".([77])
هذه مفاهيم للدلالة لم توجد مبوبة مفصلة، كما هي عليه في الدراسات الحديثة، إنما كانت أساس الدراسات اللغوية في التراث المعرفي وخصت جميع العلوم بحيث وجدت في ثنايا كتب اللغة والمنطق والفقه وما إلى ذلك، وهي تبرز من جهة أخرى حضور الدرس الدلالي بأبوابه الرئيسية في شتى معارف تراثنا. كما أن ظهور التحليلات العميقة في عدة مستويات من الدلالة عند العلماء العرب المتقدمين واتساع اهتماماتهم في كل العلوم ساعدهم على تأسيس نظرة دلالية ازدادت قيمتها مع مرور الزمن وتبلورت لدى المتأخرين من علماء القرن التاسع الهجري وما بعده. فقد ألفينا الجاحظ يصنف العلامات الدالة ويعطيها التمثيلات الإجرائية في واقع المجتمع العربي، واشتغاله بالبيان والمنطق قد كرس عنده دقة التمييز مع عمق التحليل. وكذلك لمسنا عند علماء آخرين وضوح الرؤية الدلالية ضمن كتاباتهم، وحسبنا أن نقرأ بعضاً من أبواب ما كتبه سيبويه والجرجاني وابن جني، بل يكاد يجزم النقاد العرب المحدثون أن اللغة السيميائية قد مارسها شعراء أقدمون عبروا بها عن مكنوناتهم الوجدانية، وأشاحوا اهتماماتهم في مواضع كثيرة عن اللغة الطبيعية المألوفة وقد أشار إلى ذلك الدكتور عبد المالك مرتاض في موضوعه حول السمة والسيميائية."([78]) وإن المسار التاريخي لعلم السيمياء ليؤكد على إفادة هذا العلم من تلك الروافد التي جعلته يستقطب اهتمام المشتغلين في حقول شتى من العلوم يقول في ذلك الدكتور عبد المالك مرتاض: "وكذلك ابتدأت السيميائية طبية فلسفية، ثم لغوية خالصة ثم تشعبت إلى أدبية، مع احتفاظها بوضعها اللساني."([79]) وما يعضد هذا الرأي ما أجمع عليه الباحثون في نشأة الدلالة على أنها بدأت بالمحسوسات ثم تطورت إلى الدلالات المجردة بتطور العقل الإنساني ورقيه، فكلما ارتقى التفكير العقلي جنح إلى استخراج الدلالات المجردة وتوليدها والاعتماد عليها في الاستعمال.([80])

لقد حدث تطور كبير في مفاهيم المصطلحات القديمة في العصر الحديث، واتخذت أبعاداً أخرجتها من تلك الدراسة "الأولية" ووسعت مجال البحث فيها، ومصطلح "الدلالة" هو من ضمن تلك المصطلحات التي تبلورت مفاهيمها في العصر الحديث وشملت الدراسة فيها ميادين عدة من حياة الناس، بل أضحت ملتقى لاهتمامات كثير من المعارف الإنسانية الحديثة، بدءاً بعلم النفس ثم علم الاجتماع والمنطق وعلوم الاتصال والإشارة. وإن هذه الصورة التي برز فيها علم الدلالة كأساس لعدة معارف حديثة هي نتاج للدراسة اللغوية المتخصصة ذلك "أن معالجة قضايا الدلالة بمفهوم العلم، وبمناهج بحثه الخاصة وعلى أيدي لغويين متخصصين إنما تعد ثمرة من ثمرات الدراسات اللغوية الحديثة."([81])
وتبعاً لاتساع مجالات البحث الدلالي الحديث، فلم تعد الدلالة حكراً على النظام اللغوي وحسب، وإنما شملتها أنظمة سيميولوجية أزاحت الهيمنة اللغوية بل صارت معها في البحث جنباً إلى جنب، ومع ذلك بقيت اللغة إحدى أنجع وسائل نظام الإبلاغ والتواصل والخطاب، وأقدرها على الإطلاق على التجديد والتطور والتكيف بل لا مندوحة من القول أن الأنظمة السيميولوجية التي تتخذ العلامة المطلقة كمدخل أساسي لأي مستوى من مستويات الدراسة الدلالية، لا تستغني في الأحوال الغالبة عن اللغة خاصة على مستوى القراءة التعليلية التبيينية.
ومقاربة لماهية الدلالة وحقولها الدراسية في العصر الحديث، عجنا نسائل البحث الدلالي عند لفيف من اللغويين وذلك بقصد رسم إطار بين تتضح من خلاله معالم الدرس الدلالي الحديث إن على مستوى الماهية والمصطلح وما أفرزه من تفريعات زادت من توسيع دائرة البحث الدلالي، أو على مستوى الأبعاد والمشروع الذي تأسس بناء على اختلاف الرؤى والأهداف بين مجموع المشتغلين في حقل البحث الدلالي والسيميولوجي العام." يرمي [هذا المشروع السيميولوجي] من وجهة نظر "إينو" إلى تأسيس وعي بنيوي للاستقراء الدلالي."([82]) ولأن حلقة تأسيس الدرس الدلالي لم تكتمل دائرتها بعد، اقتصرنا في مساءلتنا لمعالم البحث الدلالي الحديث على بعض اللغويين الذين بدأت معهم عملية التأسيس والتشكيل والتقعيد، وبعض المشتغلين في حقول النقد والأدب حيث غدا عندهم الدرس الدلالي السيميائي أحد أهم المناهج النقدية الحديثة.

أ-ماهية الدلالة بين الوصفية والمعيارية:

بدأ البحث الدلالي في العصر الحديث بمنهج وصفي يعاين جزئيات الظاهرة اللغوية معاينة وصفية تعتمد طريقة الملاحظة والتحليل فالاستنتاج. وهي طريقة تعد امتداداً "لمنهج" البحث اللغوي القديم. ثم ارتقى الدرس الدلالي إلى مرحلة محاولة التنظير والتقعيد، فغدا يعتمد على المنهج المعياري وذلك لنزوع الباحثين اللغويين نحو تشكيل معالم مشروع دلالي بدءاً ببلورة جهود السابقين في ميدان البحوث اللغوية المختلفة، وارتقاء إلى "بناء هيكل نظري ينظم الركام الذي هو هيئة المعلومات السابقة، وبهذا تغدو الدراسة مقدمة لتاليات لها فيدفع العلم خطوات إلى حقول جديدة".([83]) هذا الاندفاع نحو بناء وعي دلالي يساهم في تشكيله علماء محدثون تعددت رؤاهم وتكاملت جهودهم التي عكفوا من خلالها على إبراز اللغة بمفهومها العام، نظاماً لتحقيق التواصل والإبلاغ فبحثوا جزئياتها وغاصوا في عوالمها مستعينين في سبيل ذلك بعلوم أخرى، فتوسعت مجالات البحث اللغوي وغدا المبحث الدلالي ملتقى لعلوم إنسانية واجتماعية وأدى ذلك إلى تنوع الدراسات، وإذا رمنا حصر العلماء الذين ساهموا في تشكيل معالم الدرس الدلالي والسميولوجي الحديث فإنه يعجزنا ذلك.
وقصدا إلى تقديم صورة لماهية الدلالة في العصر الحديث استجمعنا آراء للفيف من اللغويين والمشتغلين في حقل الأدب والنقد.
لقد أعلن بريال ميلاد علم يختص بجانب المعنى في اللغة وهو علم الدلالة الذي أتى ليسد تلك الثغرة في الدراسات اللغوية التي كانت تهتم بشكل الكلمات ومادتها، أما دراسة المعنى فيها فتمثل الجانب الهزيل قال بريال: "إن الدراسة التي ندعو إليها القارئ هي من نوع حديث للغاية بحيث لم تسم بعد، نعم، لقد اهتم معظم اللسانين بجسم وشكل الكلمات وما انتبهوا قط إلى القوانين التي تنظم تغيّر المعاني وانتقاء العبارات الجديدة والوقوف على تاريخ ميلادها ووفاتها. وبما أن هذه الدراسة تستحق اسماً خاصاً بها فإننا نطلق عليها اسم (semantique) للدلالة على علم المعاني([84])" فعلم الدلالة- عند العالم بريال- يعني بتلك القوانين التي تشرف على تغير المعاني، ويُعاين الجانب التطوري للألفاظ اللغوية ودلالاتها، ويكون بريال بذلك أول من وجه الاهتمام إلى دراسة المعاني ذاتها، لكن أهمية التفاتة بريال إلى جوهر الكلمات لم تقدر حق قدرها قبل محاولة الانجليزيين أوجدن (C.K.Orgdon) وريتشاردز (I.A.Richards) اللذين أحدثا ضجة في الدراسة اللغوية بإصدار كتابهما عام 1923 تحت اسم "معنى المعنى" وفيه تساءل العالمان عن ماهية المعنى من حيث هو عمل ناتج عن اتحاد وجهي الدلالة أي الدال والمدلول([85]). وأضحى علم الدلالة ابتداء من ذلك يهتم بالصورة المفهومية، باعتبار أن لا علاقة مباشرة بين الاسم ومسماه، إنما العلاقة المباشرة تربط الدال بالمحتوى الفكري الذي في الذهن يقول مازن الوعر في هذا الصدد في تقديمه لكتاب "علم الدلالة" لبيار جيرو: "إذا كانت الصوتيات واللغويات تدرسان البنى التعبيرية وإمكانية حدوثها في اللغة، فإن الدلاليات تدرس المعاني التي يمكن أن يعبر عنها من خلال البنى الصوتية والتركيبية"([86]).
ويوضح سالم شاكر أكثر فيقول: "إن علم الدلالة يعني بظواهر مجردة هي الصورة المفهومية"([87]). ونزع علم الدلالة في العصر الحديث إلى تمثل المنهج الوصفي في بعض مراحل الدراسة خاصة فيما يتعلق برصد تطور الدلالة وتغيرها وبناء الحقول الدلالية يقول ميشال زكريا: "أما علم الدلالات فهو مستوى من مستويات الوصف اللغوي، ويتناول كل ما يتعلق بالدلالة أو بالمعنى فيبحث مثلاً في تطور معنى الكلمة ويقارن بين الحقول الدلالية المختلفة".([88])
إن المجال الواسع الذي حظيت به الدراسات الدلالية الحديثة، يرجع بالأساس إلى تلك الأطر المميزة التي رسمها العالمان أوجدن وريشاردز وبعدهما بريال، ومع تقدم الدراسة بدأت البحوث الدلالية تشهد عقبات تكمن صعوبتها في استحالة حصرها، وتحديدها من ذلك أن عكف الدرس الدلالي الحديث على البحث في ماهية الصورة المفهومية، بحيث استحال معها الإحاطة بكل ما يشكل عالم المتكلم حتى يمكن فهم وإدراك المحتوى الفكري المجرد. يقول (كولردج) محدداً مجال البحث الجديد لعلم الدلالة: "ولا يتضمن معنى اللفظة في رأيي مجرد الموضوع الذي يقابلها، بل يشمل أيضاً جميع الارتباطات التي تبعثها اللفظة في أذهاننا فطبيعة اللغة لا تمكنها من نقل الموضوع فحسب، وإنما تجعلها أيضاً تنقل شخصية المتكلم الذي يعرض الموضوع ونواياه".([89])
إن الحديث عن البنى العميقة التي تتحكم في إنتاج الدلالة من وجهة نظر مجردة، يبقى بعيد المرام، ولذلك فإن جل علماء الدلالة والسيمياء المحدثين يركزون أبحاثهم أكثر، على ما يحيط عملية تأدية الدلالة من ظواهر منطقية نفسية. يقول بيار جيرو موضحاً ذلك: "ويبقى علم الدلالة بالنسبة لبريال واتباعه متجهاً نحو السمات المنطقية، النفسية والتاريخية للظواهر أكثر من اتجاهه نحو عللها اللسانية".([90])
لقد خطا العالمان كاتر وفودر بالبحث الدلالي خطوة بعيدة إذ تناولاه من ناحية تفاعل مركبات الحدث الكلامي، بل إنهما طرحا إشكالية أساسية تتمحور حول تخصيص العلاقة التي يمكن إقامتها بين صورة الجملة ودلالتها في لغة معينة في غياب النحو، إذ قد تصل العملية التواصلية التي تضطلع بأمر نقل الدلالة إلى مستوى من التعقيد لا يمكن للنحو أن يشرح فيه ذلك، لأن السيمانتيك من وجهة نظر هذين العالمين يتناول قدرة المتكلم على إرسال وفهم الجمل الجديدة في ميدان يعجز عن شرحها النحو([91]). إن الأبعاد التي اتخذها البحث الدلالي الحديث عبر دراسات معمقة، أخرجت النظريات الدلالية والفرضيات العلمية اللسانية من مجال التخمين والتقدير إلى ميدان التحقيق والتطبيق، رسمت إطاراً مفتوحاً على المستقبل لمشروع دلالي أوسع يلج من خلال الدرس السيمائي إلى كل مجال من مجالات المعرفة والبحث العلمي، ويكفي أن نتأمل كتب (أ.ج. غريماس) مثل كتاب "علم الدلالة البنيوي" 1966، "السيميوتيكا والعلوم الاجتماعية" 1976، "في المعنى" 1970، لندرك المصاف الذي بلغه علم الدلالة بعد ما كان علماً يفتقد إلى المنهج والموضوع معاً، إذ كان منشأه في إطار علم الألسنية العام.
يحتل اسم (غريماس) مكاناً علياً ضمن الباحثين في الحقل الدلالي الحديث ويرجع ذلك إلى قدرته على تحقيق الرؤية في قراءاته النقدية للخطاب الأدبي، الشعري والنثري. لقد تجاوز غريماس المعطى الدلالي، الآني مفترضاً وجود معطى ممكن تتجلى فيه العوالم الدلالية التي تتمظهر في بنى دلالية، وعلى أساس وجود هذه العوالم يتم تنظير البنيات الدلالية والكشف عن آلياتها، وقد يطرح العالم الدلالي فرضية وجود البينة الدلالية والعوالم الدلالية فيقول: "يجب أن نفهم بالبنية الدلالية ذلك الشكل العام لنظام العوالم الدلالية- المعطى، أو الممكن، ذي الطبيعة الاجتماعية والفردية (ثقافات أو أفراد) والسؤال عما إذا كانت البينة الدلالية ماثلة في عالم الدلالة أو تحضن هذا العالم"([92]). إن احتواء العوالم الدلالية في بناء من صنع ألسني للتعبير عنها يفترض وجود مشاكلة بين مستوى التعبير ومكوناته ومستوى المعنى وسماته"([93]). ذلك أن عالم المعنى يتمظهر في التلفظ articulation ويتموقع في البنى التعبيرية يوضح غريماس ذلك بقوله: "إن فرضية المشاكلة بين المستويين تسمح إذن بالنظر إلى بنية المعنى وكأنها تلفظ لعالم الدلالة حسب وحداته المعنوية الصغرى [أي السمات] وما يقابلها من سمات مميزة على مستوى التعبير، هذه الوحدات الدلالية مكونة بالطريقة نفسها المكونة بها سمات التعبير، من فئات سمات ثنائية"([94])
على الرغم من تباين آراء علماء الدلالة حول جوهر العملية الدلالية، فإن البحث الدلالي أخذ مسارات جديدة بعد وقوع التأكيد على أن اللغة هي نظام تتظافر فيه جملة من الأنظمة الفرعية كنظام البنى التركيبية، ونظام البنى المعجمية، والبنى الصوتية، والبنى الدلالية، ضمن نسق محكم أطلق عليه العلماء مصطلح النحو الكلي (Universal Grammar)، واتجه الباحثون إلى الكشف عن هذا النسق وتحديد معالمه وسماته، وهذه مرحلة مهمة ارتقى إليها البحث الدلالي حيث "يلاحظ تشومسكي أن ما طبع البحث اللغوي في السنوات الأخيرة- هو تحول من العناية باللغة إلى العناية بالنحو، وهو تحول من تجميع العينات وتنظيمها أو دراسة لغة خاصة أو الخصائص العامة لكثير من اللغات أو كل اللغات إلى دراسة الأنساق التي توجد فعلاً في الدماغ وتساهم في تفسير الظواهر الملاحظة"([95]). وقد أسهمت فكرة تشومسكي في توليد جملة من الأفكار طُرحت كاستفهامات تقتضي أجوبة ولو على وجه الافتراض، من ذلك السؤال حول كيف تنتظم اللغة كجملة من البنى في شكل أنساق نظرية داخل الدماغ؟ إن وجود هذه الأنساق داخل الدماغ يترتب عليه الكشف عن المعرفة اللغوية الباطنية لمتكلم اللغة وضمنها الاهتمام بالجهاز الداخلي الذهني للمتكلمين عوض الاهتمام بسلوكهم الفعلي، وأقصى ما وصلت إليه البحوث اللغوية الدلالية هو بروز نموذج جديد للتفكير في نظام اللغة، المركب من أنساق مختلفة بحيث بزغ زمن التركيب مع نظرية تشومسكي([96]) في النحو التوليدي التي تقوم على أساس تحليل السلسلة الكلامية إلى وحدات من الرموز، لتعيد تشكيل ليس السلسلة الكلامية وحسب بل سلاسل كلامية لا متناهية، وذلك إشارة إلى أن الدماغ البشري مركب فيه قواعد إنتاج لأحداث كلامية سليمة في التركيب والدلالة معاً، وعلى الرغم من أن تشومسكي قد أغفل في بحوثه الأولى النسق الدلالي إلا أنه تدارك ذلك، خاصة بعد تلك الإسهامات التي تقدم بها العالمان كاتر وفودور، وأعاد الاعتبار إلى الوظيفة الدلالية للتركيب، وعدّل في رسمه البياني الذي تناول فيه السمات البنيوية التي تتألف منها الجملة، مضيفاً المكون الدلالي وإن كانت البنية الدلالية محتواة في ما سماه تشومسكي "بالسلاسل المعقدة" وتوضيح ذلك فيما يلي:


([1]) د.علي سامي النشار- مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص31.
([2]) Semantics، ص9.
([3]) د.أحمد مختار عمر، علم الدلالة- ص19.
([4]) المرجع السابق، ص19.
([5]) الرواقيون (stoiciens) ينتسبون إلى ريتون القيسيوني (ت244ق.م) ربطوا المسائل اللغوية بالفلسفة.
([6]) زبير دراقي محاضرات في اللسانيات العامة والتاريخية، ص25.
([7]) فنون التعقيد  وعلوم الألسنية: ص26.
([8]) علم الدلالة عند العرب، ص5.
([9]) المرجع السابق، ص5.
([10]) فايز الداية، علم الدلالة العربي، ص6.
([11]) Les grands courrants de la linguistique moderne. Le roy Maurice- p.46.
([12]) تأليف ستيفن أولمن، دور الكلمة في اللغة، مقدمة، ص6.
([13]) د. عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية. ص 104
([14]) المرجع السابق، ص161.
([15]) سالم شاكر، مدخل إلى علم الدلالة، ترجمة محمد يحباتين، ص28.
([16]) التوزيعية: نظرية تزعمها العالم اللغوي الأمريكي بلومفيلد وهي نظرية عامة للألسنية ترى أن اللغة تتألف من إشارات معبرة تتدرج جميعاً ضمن نظام اللغة لمنطق يكون التعبير على مستويات مختلفة والجملة تحمل إلى مؤلفاتها المباشرة بواسطة قواعد التوزيع والتعويض والاستبدال.
([17]) د.عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، ص81.
([18]) المرجع السابق، ص168.
([19]) ريمون طحان، دينر بيطار، فنون التقعيد وعلوم الألسنية، ص92.
([20]) د.ميشال زكريا، انظر الألسنية (علم اللغة الحديث): ص232-233.
([21]) فنون التقعيد وعلوم الألسنية، ص105.
([22]) عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، ص41.
([23]) فايز الداية، علم الدلالة العربي: ص77.
([24]) السيد شريف الجرجاني، التعريفات، ص215.
([25]) تمام حسان، الأصول، ص318.
([26]) المرجع السابق، ص321.
([27]) فايز الداية، علم الدلالة العربي، ص9.
([28]) الآية رقم 22، انظر تفسير القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج13، ص37.
([29]) سورة القصص: الآية 12، انظر تفسير الكشاف للإمام الزمخشري، ج4، ص217.
([30]) الآية: 120، انظر تفسير ابن كثير، ج4، ص542.
([31]) الآية: 45، انظر تفسير الكشاف للإمام الزمخشري، ج4، ص120.
([32]) الآية: 14، انظر تفسير الكشاف للإمام الزمخشري، ج5، ص62.
([33]) الآية: 7، انظر تفسير القرطبي: الجامع لأحكام القرآن.
([34]) سورة طه: الآية 40، انظر تفسير ابن كثير، ج4، ص506.
([35]) عبد القاهر غذامي الفهري، اللسانيات واللغة العربية، ص370.
([36]) فايز الداية، علم الدلالة العربي، ص41.
([37]) ابن منظور، انظر لسان العرب، ص394-395.
([38]) القاموس المحيط، ج3، ص377.
([39]) فايز الداية، علم الدلالة العربي، ص204-205.
([40]) المرجع السابق، ص217.
([41]) المرجع نفسه، ص223.
([42]) الزبيدي، تاج العروس، ج7، ص324-325.
([43]) أول مؤلف حمل عنوان فقه اللغة هو كتاب الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها لابن فارس.
([44]) ريمون طحان، دينر بيطار ضحاك، فنون التقعيد وعلوم الألسنية، ص26.
([45]) الفرابي، إحصاء العلوم، ص159.
([46]) الفرابي، العبارة، كتاب في المنطق، ص74.
([47]) الإشارات والتنبيهات، ج1، ص191.
([48]) الحروف، ص166.
([49]) المصدر السابق، ص115.
([50]) إحصاء العلوم، ص167.
([51]) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي، ج1، ص156.
([52]) المستصفى من علم الأصول، ص187.
([53]) المصدر السابق، نفس الصفحة.
([54]) عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية.
([55]) المستصفى من علم الأصول، ج2، ص188.
([56]) المصدر السابق، ج2، ص190.
([57]) معيار العلم في المنطق، ص42-43.
([58]) المصدر السابق: ص49.
([59]) المصدر نفسه، ص49-50.
([60]) المصدر نفسه، ص52. المشتركة: (المشترك اللفظي)، المتواطئة: أعيان متعددة بمعنى واحد مشترك بينها كدلالة اسم الحيوان على الفرس والطير والأسد، والمترادفة: (المترادف)، المتزايلة: هي الأسماء المتباينة التي ليست بينها شيء من هذه النسب.
([61]) المصدر نفسه، ص46-47.
([62]) الكتابة جاءت لتملأ فراغاً لتكون امتداداً للملفوظ خاصة إذا وجدت لغات لا يمكن إلا أن تكون مكتوبة ولا نستطيع تجريدها بالمنطق كما هو شأن لغة الجبر في الرياضيات، انظر ذلك في كتاب: De La Grammatologie jaque derrida (p 429)
([63]) محمود سامي النشار، منهج البحث عند مفكري الإسلام، ص90.
([64]) المقدمة، ج2، ص509.
([65]) المصدر السابق، ج2، ص502.
([66]) المصدر نفسه، ج2، ص518.
([67]) ابن سينا، العبارة، من الشفاء، ص4.
([68]) Cours de linguistique generale- F. de sausure, P.98.
([69]) المقدمة، ابن خلدون، ج2، ص520.
([70]) Cours de linguistique generale- F. de sausure.
([71]) المقدمة، ابن خلدون، ج2، ص698.
([72]) الشريف الجرجاني، التعريفات، ص215.
([73]) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي، ج1، ص186-187.
([74]) علم الدلالة عند العرب: عاطف القاضي ص127. مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 18- 19 السنة: 1982.
([75]) مدخل إلى علم الدلالة الألسني، د.موريس أبو ناضر، ص33- مجلة الفكر العربي، عدد: 18-19 السنة: 1982.
([76]) منهاج البلغاء ومعراج الأدباء، ص19.
([77]) المصدر السابق، ص25.
([78]) عبد المالك مرتاض: السمة والسيميائية، ص19، مجلة الحداثة، عدد 2، يونيو 1993.
([79]) المرجع السابق، ص18.
([80]) إبراهيم أنيس، انظر ذلك في كتاب دلالة الألفاظ، ص158.
([81]) د.أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ص22.
([82]) د.فيدوج عبد القادر، دلالية النص الأدبي، ص7.
([83]) فايز الداية، علم الدلالة العربي، ص99.
([84]) Les grands courants de la linguistique moderne (Maurice le roy) P.45.
([85]) موريس أبو ناضر، مدخل إلى علم الدلالة الألسني، مجلة الفكر المعاصر، العدد 18/19، السنة 1982، ص32.
([86]) بيار جيرو، علم الدلالة، ترجمة منذر عياشي، ص72.
([87]) سالم شاكر، مدخل إلى علم الدلالة، ترجمة محمد جباتين، ص4.
([88]) ميشال زكريا، الألسنية: علم اللغة الحديث، ص211.
([89]) محمد مصطفى بدوي، كلوردج، ص97.
([90]) بيار جيرو، علم الدلالة، ترجمة منذر عياشي، ص133.
([91]) Initiation aux problemes des linguistiques contemporaines, C.Fuches et P. le Goffic, P.72.
([92]) ج.غريماس، البنية الدلالية، ص97 من مجلة الفكر العربي المعاصر، ترجمة ميشال زكريا، العدد 18/19 السنة 1982.
([93]) سمات المعنى: وحدات المعنى الصغرى.
([94]) المرجع السابق، ص97.
([95]) عبد القادر الفاسي، الفهم في اللسانيات واللغة العربية.. ص45.
([96]) المرجع السابق، ص65.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

http://difaf.forumactif.org/st/%D8%B3%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D9%88%D9%8A%20%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%B9