الرواية الجزائرية بين توظيف التراث
والصراع الإيديولوجي
التناص في رواية الشمعة والدهاليز
نموذجا
: أ .
فتيحة حسيني
معهد الآداب
واللغات
الرواية
أشد الأجناس الأدبية التصاقا بالحياة وبعمق المجتمع ، تميل إلى التجريب الفني في
محاولة تجديد التوظيف لعناصرها .
التناص هو
محاورة النصوص واستنطاقها من خلال الوعي بالتراث وهذه المحاورة تولد بنى جديدة
يتكون منها خطاب الرواية . التناص هو الانفتاح على القيم التاريخية واستعادتها
بوعي شديد في ضوء الحاضر الأمر الذي يمنح المتلقي تمثلا مباشرا لهذا الخطاب . (1)
فإذا كان
الروائي يسعى إلى تحليل الواقع ويعمل على الطرح الإيديولوجي ضمن تشكيل فني ، ليصل
إلى إجابات ثقافيا وسياسيا (2) . فإلى أي
مدى يمتلك الروائي وعيا قائما يحرك الوعي الفني بناءا على النصوص التراثية .
التناص مع التراث
العربي الإسلامي : شخصيات إسلامية
يعرج وطار
في روايته على مرحلة تاريخية واجتماعية مع بداية التسعينات والتي تمثل التناقض
والنزاع الفكري والثقافي وقيام جدلية التقليد والحداثة وعلاقة الماضي بالحاضر،
صراع الأجيال ويمثل ذلك بالتالي: لقد استيقظ الشاعر في سكون الليل، تمزقه أصوات،
يخرج ليعرف ما يجري "هؤلاء جماهير كادحة ... ماذا يفعلون بصدد ماذا هم الآن
؟" (3). فهو يطرح
إشكالية الهوية الثقافية بشكل فني ومنطقي لأن وطار يريد البحث عن جذور الأزمة
الجزائرية، بتفصيل الواقعة عن طريق التراث، ليفكك غموضها، إنها قصدية التعبير عن
التطابق؛ تطابق تاريخي وواقعي، المتخيل والحقيقي (4).
ولا يعني
التطابق إلا عمق الصلة الرابطة بين التاريخ والواقع إنها تناصات وتقاطعات تدل على
الصراع من أجل هذه الحياة أو صراع من أجل الخروج منها.
فيتناص
الروائي مع التاريخ الإسلامي، في مراحل بداية الدعوة والزمن الأول للإسلام، حيث
تحضر شخصية "عمار بن ياسر" التي تمثل التيار الديني.
إن وطار
يكشف عن أزمة الفكر وربط الهوية والثقافة بالتعصب الديني والرجوع إلى التراث تشبثا
لا تمييز فيه، بل يغيب الفهم الصحيح.
فهذه
الجماعات ترى بأن الرجوع إلى التراث هو الأساس في الاحتفاظ بهويتها، وما هذا
الهندام إلا دليل على أفكارهم يقول عمار : (نعلن عن أنفسنا بلباس يخصنا وحدنا
ذكورا وإناثا يلتحي رجالنا ويغطون رؤوسهم ويخرجون إلى الشارع متحدين الجميع معلنين
أننا هنا لا نخشى لومة لائم، متأهبون لسخرية الساخرين، للموت، للسجن، لكل المصائب)
(5).
لقد كان في
تناصه مع التاريخ في هذه الجزئية من شخصية "عمار بن ياسر" تناصا تخالفيا،
حيث يفرغ هذه الشخصية من دلالاتها التاريخية المتعارف عليها ويضفي عليها صفة
ثورية، مناهضة للحكم.
لأن شخصية
عمار بن ياسر في التاريخ متفائلة؛ لأنها تمتلك العقيدة الصحيحة، والقناعة
الموضوعية وأدلة منطقية على الإيمان بالدين الجديد، والغوص في العالم الجديد،
ويؤمن "عمار بن ياسر" بأن القيادة تمثل جميع الشروط لنجاح الحركة.
ورغم أن
وطار أعطاه صفة الريادة والقيادة في الرواية، إلا أنه لم يبد تفاؤلا لعدم تكامل
الشروط العلمية لنجاح الحركة، لأن عمار بن ياسر وجماعته يمثلان عنصرين متناقضين،
حيث إن القيادة "عمار" (في الثلاثين، مهندس في النفط، قيادي في الحركة
يناصر العقل والاعتدال، ويبغض الجهل والتطرف، اسمه الحركي عمار بن ياسر. وهو جد
مسرور بملاقاته للشاعر) (6).
إلا أن الأفراد الذين ينتمون إلى الحركة يقول
الروائي: (كان الملتحون مسلحين وكانت فوهات الرشاشات الأوتوماتيكية موجهة إلى صدره
ورأسه، شعر بالضيق الكبير، خاصة من منظر البنادق التي لم يكن يتمنى أبدا أن تكون
بين أيدي أمثال هؤلاء الشبان ...) (7).
فلذلك
فتناصاته جاءت تخالفية، لأن الكاتب برؤيته الفكرية الثاقبة يقدم لنا شخصية عمار
محبطة لا تملك كل القناعات بالأفراد الذين انضموا تحت قيادته، قلوبهم متفرقة لا
يملكون روح الوحدة (آه لو أن الخطر يأتيني من الخصوم وحدهم جماعتنا بدورهم شتات،
شعوب وقبائل، الجهل وضيق الأفق) (8). كل هذه
المقدمات التي يقدمها الشاعر تنبئ بفشل الحركة مستقبلا ولذلك فهو يقول: (أقول لكم
ولغيركم إن هذا الحلم ينبغي أن لا يتحطم على الأقل بهذا الشكل الغبي) (9).
إنه شكل
العنف والسلاح والموت، الذي يرفضه الروائي، لأن هذه الحركة قد خالفت بداية الدعوة
في التبليغ باللسان والمجادلة والحوار والكلمة الطيبة.
وتمثل شخصية عمار بن ياسر الشخصية المضادة
لشخصية الشاعر، لأنها تحلم بإقامة دولة دينية تعيش الثقافة التراثية ومحايدة عن
باقي أنواع المعارف والثقافات ولكن الشاعر يدرك أن هذا سيفتح دهاليزا أخـرى.(إن من
جملـة السراديب الزعم بامتلاك الحقيقة من طرف واحد) (10).
لقد كانت
تنبؤات وطار تتقاطع مع التاريخ الإسلامي من خلال سير حركته، وكان يعلم أن إقامة
دولة إسلامية لا يتأتى بين عيشة وضحاها، وهذا الفشل أيضا سببه أفراد الحركة وهو
عدم توحد النبع الذي يستقي منه هؤلاء، وأيضا طريقة التلقي لهذا النبع. إن الحركة
لا ترسم منهجا تتبعه، إن الجيل الأول لعمار بن ياسر التاريخي فهم المنهج الذي يقرن
بين العلم والعمل، وإنه جيل توحد في النبع الذي يتلقى منه (11).
إن أفراد
الحركة لم يسجلوا إلا جملا إيديولوجية (الخلافة الإسلامية، الدولة الإسلامية،
الحكم الإسلامي، الجمهورية الإسلامية) (12) بدون أي حوار حول
الدلالات الفكرية والسياسية والمعرفية لتطور هذه التعبيرات وارتباطها مع التراث
والتاريخ الإسلامي. إنه الجهل بعلاقات الأفكار بالتاريخ، وصراعات المجتمعات على
السلطة (13).
لقد أدرك
الشاعر أن البناء القاعدي للجماعة وللحركة لم يأخذ وقته الكافي مثلما أخذه عمار بن
ياسـر وأصحابه، يقول وطار: (فكر الشاعر أن يسأل، كيف تم الأمر، بمثل هذه السرعة ؟
ولقد كانت كل الفرضيات تستبعد حدوث هذا، لكن ها هو يحدث) (14).
إن بناء
النفوس والجماعات يستغرق في العمق والتثبت، لأن الأفراد يترجمون هذا النضوج، إن
تناصات وطار تكشف عن دراية بالتاريخ، وبتاريخ الحركة وبتاريخ الأفكار على الأخص
ومعرفة بطبيعة الجيل الأول وطبيعة المنهج الذي اتبعوه. فهو بتناصاته يربط بين
الماضي والحاضر ليوجه هذا الحاضر توجيها معينا.
فمواجهة
الواقع عند "عمار بن ياسر" وأفراد الحركة في الرواية هي هروب إلى
التراث، هروب من الواقع، من التفتح، إلى تحويل المنهج الإسلامي المتحرك إلى نظريات
جامدة (15). فقيام دولة بغي
التضحية ذلك أن الروائي يؤمن بأن للتاريخ قوانينه التي تتحكم في مسيرته (لا ينبغي
تجاهلها ولابد من الإستفادة من دروس التاريخ) (16).
فالروائي
بتقاطعاته مع التاريخ يخلق شكلا فنيا يعبر به عن الواقع بقوة، ويمده هذا التاريخ بأدوات
فنية يصوغ بها الزمن الحاضر، زمن الرواية، فوطار يرى أن المسافة الفاصلة بين شخصية
العصر الحاضر هي ليست دائما كبيرة جدا ولا وجود للحدود بين الإنسان (17) .
لقد وجد
الشاعر نفسه بين نقيضين: طرف يريد أن ينسلخ من أصالته انسلاخا كاملا، وطرف يريد أن
يعود بالزمن قرونا منكرا ظروف وشروط العصر. ولكي يعبر عن هذه الفكرة وعدم الفهم
الصحيح لشروط التقدم والمرحلة التاريخية استحضر شخصية "علي بن أبي طالب"
.
لقد كانت
تناصات وطار في فهم عملية التطور التاريخي مع نصوص التاريخ تآلفية في تقاطعها مع
شخصية علي، إذ إنه عاش عصرا حافلا بصراعات عنيفة .
إن وطار
حينما أراد أن يدلي بمنهج صحيح وجده في شخصية علي ومنهجه المتكامل بين الجانب
الروحي والعقلي .
يقول الروائي
: ( ... لن يطول ذلك سيجبرهم الله على ركوب السؤال. ما هذا، لماذا، كيف ؟ وسيضطرون لتجزئ ما لا يتجـزأ
والتعـرف على جينات النملة السوداء والنملة الحمراء ... الله هو العقل) (18).
إن تقاطعات
وطار مع النص التاريخي كان تناصا تآلفيا في اعتقاده بمنهج علي؛ منهج يجمع بين
العقل والروح وشخصية تتفهم الأمور، وتحسم الثورة على الاستبداد من أجل التغيير،
وتؤمن بتطور التاريخ من أجل تعميق إنسانية الإنسان.
لقد مثل
علي معان اجتماعية عميقة الجذور في حياة الأفراد والجماعات وإن غلفت بمعان دينية
(يغسل كل مساء بيت مال المسلمين حتى لا يبيت متسخا بوسخ الدنيا) (19) ، ومنها كان المنطلق
في الفهم الصحيح، وهذا ما أراده وطار ، أن الثائرين عبر الأزمنة ؛ عمار بن ياسر ،
علي بن أبي طالب والشاعر في الرواية كلهم أدوا دورا واحدا هو النضال في سبيل
التغيير .
لقد كان
تناص الطاهر طار تآلفيا لأن مواقف هذه الشخصيات تتناسب مع ما يذهب إليه الروائي .
التناص مع التراث
الشعبي : المثل
المثل (20) شكل من الأشكال
التعبيرية الأكثر انتشارا وشيوعا بين الناس، على مختلف أعمارهم ومستواهم وجنسهم.
فهو عبارة عن (حكم جمعت في تعابير تمتاز بالإيجاز والبلاغة والذوق، وهي تدخل في
جميع مظاهر الحياة ... فهي صالحة لكل زمان
ومكان، لأنها نتيجة تجارب اجتماعية أو فردية. وهي خلاصة حقائق حضارة المجتمع
الإنساني، أي تكاد تكون حقائق إنسانية شاملة) (21).
إن الحديث
عن تناص الروائي مع التراث الشعبي وتقاطعاته معه من خلال المثل هي حاجة ملحة
تفرضها القيم الثقافية والفكرية الأصلية للشخصية الوطنية.
فهذا الشكل
التعبيري مرتبط بآمال الشعوب وآلامها، إنه الوعاء الجمالي لروح الشعب، يصور حركته
الاجتماعية والثقافية والفكرية (22).
1)الزيت من الزيتونة والحوت من البحر:
عنوان للانتهازية.
يضرب هذا المثل لأخذ الأمور من أصلها
ومنبعها؛ فالزيت كمادة سائلة نتحصل عليها من الزيوت، بعد عصره، والحوت يصطاد من
البحر؛ فهذا أمر بديهي لا يحتاج إلى ذكاء. لكن وطار قد تناص مع المثل تناصا
تخالفيا، بحيث جعله يوافق معنى روايته، حيث أراد "وطار" أن يعبر عن فكرة
الانتهازية وهي أخطر ظاهرة متفشية في الوسط الاجتماعي. فربط هذا المعنى بالمثل،
حيث إن شجرة الزيتون لا تحتاج إلى جهد وعناية لتثمر، كذلك فالانتهازي لا يبذل جهدا
في الحصول على مبتغاه ورزقه، والحوت من البحر، ملك مشاع للجميع، فهو شبيه بكل ما
هو مباح عند الانتهازيين الذين يستبيحون
أموال الشعب التي هي حق للجميع.
إن مثل هذا
التناص يكشف عن تأكيد وطار على خطورة هذه الظاهرة. فليس التكرار من أجل التكرار،
بل هو تأكيد على خطورة هذه الظاهرة، وعلى ضرورة الانتباه إليها والسعي للقضاء
عليها، فهو تتبع جذورها من أيام الثورة، التي عبر عنها بالمثل، و بالحوار: (اللاز
قال: زيدان يفرق بين الناس وينظر إليهم نظرات مختلفة ويعاملهم معاملات خاصة ...
حاول مرة أن يفهمني فقال : في الحياة نوعان من الناس، نوع يعرق مثلك ومثل كل
العمال والعاطلين، ونوع يستفيد من هذا العرق ... وما لم يتحطم النوع الثاني فإن
عرق الإنسانية يظل يسيـل هدرا، مصلحة كل نوع تتعـارض مع مصلحـة النوع الآخر ولهذا
فهما عدوان لدودان ... ) (23). فالمثل
ليس حكرا على فئة معينة، بل هو يخاطب جميع الفئات. لذلك فوطار يتناص معه لأنه يعكس
حياة المجتمع كما يعكس فلسفة تفكيره ، وسلوكه، ومعتقداته وثقافته. (24)
فالانتهازية
تصور وسلوك، تهدد مصالح الجماهير وبالتالي مصالح الثورة، تعيش على حساب الآخرين
(أنظر حولك ! بأموال الشعب، التي يسمونها أموال الثورة، يستوردون أفخم السيارات،
يملأونها مجانا بالبنزين ثم ينطلقون هم وسواقهم ونساؤهم وأطفالهم. كيف تريدهم أن
يفكروا فينا، نحن بعد ذلك، أو في الحافلات التي تضج بنا) (25).
إن في تناصات وطار مع المثل دليل على امتلاك
الأديب لشعور قوي يربطه بالمجتمع، وهو أول شرط في الإيديولوجية الاشتراكية.
فانتماءه للمجموعة يجعله يضع يده على المشاكل الحساسة التي تثقل كاهل الشعب.
فالمثل
كأداة كلامية يتناص فيها المؤلف، ليضمن وصول رسالته التي يبثها من خلاله. فالمثل
لا يعيش بعيدا عن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل يعيش وسطها، وربما
هي التي تمنحه حق الاستمرارية، لأنه ما يزال يحمل القدرة على التعبير عنها.
ولغة
الشخصيات لم تكن بعيدة عن لغة المثل، فهي أكثر التصاقا بالواقع ومعرفة به، وأشد من
تأذى بهذا الواقع، فلذلك فتناصات وطار من
خلال المثل تعكس فلسفة تفكير شخصياته حين تتلفظته عبر الروايات، أو المناسبة التي
أثير حولها (26).
فالطاهر
وطار يتناص ذاتيا كذلك في ترديد المثل، كما يتناص في محتواه الإيديولوجي وهو
الحديث عن الانتهازية وكشفها باعتبار أن كشف الحقيقة معناه التغيير، والتغيير
الكاشف والرافض يعد من أفعال الثورة؛ الرافض أهم وسائل الثورة وهو من أهم وسائلها (27).
إن تناصات
وطار تكشف عن نيته وقصده في عملية بث هذا المثل، فبالإضافة إلى الحكمة التي يطلق
من أجلها، فهو أيضا نقد سلوكي يريده
ليرتبط بالموضوع الذي استدعى المثل لأجله. فهو ينبه الغافلين إلى
الانتهازية التي تتدعي خدمة الجماهير؛ إنها الانتهازية الشريفة كما تدعي:
(الانتهازية الشريفة كما يقول لنين هي أخطر الانتهازيات) (28).
فالخطاب
الإيديولوجي الذي يتناص فيه وطار من خلال المعنى الذي حمله المثل، فهو نقد موجه
إلى المجتمع، لمحاربة مثل هذه السلوكات، وتنبيه لمن يجهل الأمر للحفاظ على
استمرارية الثورة ومكتسباتها، فهو يخاطب الجماهير باللغة التي تفهمها والتي تعبر
عنها بصدق.
2) من ولى
على الجرة تعب (29): عنوان للتناقض بين
الماضي والحاضر.
يضرب هذا
المثل لمن يعود إلى اجترار الماضي بالذكريات؛ فالجرة هي الأثر؛ أو تتبع الأثر، أي
استقصاء الطريق الذي سلكه الإنسان؛ والعودة دائما تحمل معها الآلام، تتعب الإنسان
بسبب هذا الماضي. وسواء أكان هذا الماضي محزنا سقط الإنسان حينها فريسة للظروف
والمصاعب فيتألم لما أصابه، أو مفرحا؛ حين يسترجع الإنسان فترات قوته وسعادته
ويقارنها بالحاضر فيجزع ويحزن للوضع الذي آل إليه. لذلك فالعودة دائما تتعب
الإنسان.
والطاهر
وطار قد ضمن رواياته هذا المثل، كما ضمنها في رواية "الشمعة والدهاليز"،
وهذا تناص ذاتي؛ فالتناص عنده يمليه الواجب ومسؤولية إثبات الذات وتحديد هويتها في
خضم هذا التهافت الفكري والسياسي والثقافي والإيديولوجي.
إن الروائي
تناص مع المثل تناصا تآلفيا من حيث المعنى؛ لأن الشخصية الروائية التي أطلقت هذا
المثل عاشت أحداث الثورة، وهي شخصية (والد الشاعر: إسماعيل)، فلاستذكار الماضي
يستدعي توقفا كاملا، لأن هذا الوراء جبال من الهموم والآلام، وجراح ومتاعب من
بطولات وانكسارات، ولذا يستغرب الإنسان هذه العودة إلى المبادئ التي تلوثت بدم
هؤلاء المضحين، لأن المبادئ الثورية التي آمنوا بها، ومقارنة الوضع الماضي بالحاضر
يتعب الإنسان من جراء هذه العودة؛ لأنه سيرى أمورا تسير في غير موضعها، وأشخاصا في
غير أمكنتهم؛ فهذه الجرة المتعبة، يقول: ( ... وليكن قاطع الطرقات السابق محافظ
شرطة الآن، يحمي أمن البلاد، والعباد وليكن قاتل الأرواح في الماضي إمام مسجد الآن
) (30) ، إنها
مأساة الثوري حينما يجد كل شيء مقلوبا.
لقد جاء
هذا المثل -الذي يمثل الماضي الثوري- على لسان إسماعيل المجاهد، الذي واكب الثورة
منذ صباه، لكن كل ما عمله وقام به في الماضي ولى مع الماضي كما يقول بسرعة خارقة،
والذي أحرزه من سمعة ثورية فات، كما فات الماضي نفسه.
إن إدراك
الحياة والوعي بجوانبها، هو الذي جعل شخصية مثل "إسماعيل" المجاهد ومن
مثله أن يكونوا لأنفسهم أسلوبا للتعبير عن متطلبات الحياة وحاجاتها الخاصة،
والتعبير عن أحلامهم وآلامهم، وإبراز الجوانب الإيجابية والسلبية من الحياة. فلجأت
هذه الجماعة ولجأ إلى استعمال هذا المثل
من حيث لغته الموحية وغرضه الثاقب وهو "من ولى على الجرة تعب"في أدق
العبارات الموجزة والمبلغة أدى سياقا جماليا وفكريا (31).
إن هذا
المثل ينساق مع الشخصية المرددة له، فهو يعكس أفكارها وثقافتها وسلوكها كما يعكس
فلسفة التفكير لديها ، ولدى الروائي . فهذا المثل يعمل على تثبيت القيم ومن جهة
أخرى ينتقد الحاضر الذي يتناقض مع الماضي (جيلا يحمل هذه السمة التي يحفظها لها
التاريخ ويظل الإحساس بالذنب يلازم هذه الأجيال مستمرا مع اقتسام التركة). (32)
إن وظيفة
المثل "من ولى على الجرة تعب" عند الكاتب من جهة تعمل على تثبيت القيم
والثوابت الثورية، والقيم الاعتقادية، وتوجه سياسيا وإيديولوجيا إلى معرفة حقيقة
الماضي الثوري ومن جهة أخرى تنتقد الحاضر الذي يتناقض مع الماضي.
هذا الحاضر يرضى بالتواطؤ. وسيصبح جيلا يحمل هذه
السمة التي يحفظها له التاريخ، ويظل الإحساس بالذنب يلازم هذه الأجيال مستمرا مع
اقتسام التركة (33) كما يقول الكاتب.
فالرجوع
على الجرة عند "إسماعيل" وغيره يتعذر ويتعب لأن الجرة تحمل صرخات
التناقض الصارخ بين الماضي والحاضر.
لقد اختصر
المثل كلما أراد وطار أن يبثه في رسالته في كلمات جامعة وبليغة، قريبة من فهم جميع
المستويات، موجها وناقدا، وكانت هذه الأمثال بمثابة خطابات إيديولوجية حملها وطار
أفكاره. وفي الوقت نفسه كشفت لنا عن روافده وما كانت هذه التكرارات إلا تأكيد لقضية
جماهيرية بالغة الأهمية بالنسبة للمسيرة الوطنية، وتأكيد على المعوقات التي تقف
دون تطورها.
التناص مع
التراث الإنساني : الأسطورة:
إن المتأمل
في رواية "الشمعة والدهاليز"، يحس أن النص فيه امتداد إنساني روحي، خارج
الزمن الحاضر فهو رحلة كبرى في متاهة ؛ سفر يجمع الميثولوجي والجذور الملتحفة
بطيات التاريخ ووقائع الآني، لقد تناص خطاب الشمعة والدهاليز مع المتاهة كعودة إلى
البدايات الأولى، وكربط بين مشروعين هما المشروع الفلسفي بوصفه منبعا للرؤى
الأخلاقية، والمشروع الجماعي الذي يعيد الحوارية، أي صوت الآخر وصورته (34).
إن العالم
الذي تعيشه الرواية؛ عالم يكتنفه التناقض وتتسع ثغراته وفجواته إذ أصبح القلق سمة
لعالم متناقض متصارع يشكو الإرهاق ؛ والتمزق بين الأديان واللغات ووضع اقتصادي
متأزم؛ فكانت ضبابية الرؤية. والأسطورة أحد منابع اللاشعور، بالإضافة إلى أنها
النص المشترك بين الإنسانية جمعاء؛ وهذا النص يعود إلى أصل واحد: وهي النماذج
العليا (35).
وبما أن وطار له إنصات دؤوب لعمق المجتمع ليعبر
عن أسباب التشويه والمتاهات التي أصابته، لجأ إلى الأسطورة التي تقوم أساسا على
الصراع بين اليأس والأمل؛ كما في عنوان الرواية
بين
الأمل المتمثل في
(الشمعة)
واليأس المتمثل في (الدهاليز) وهذا كله للوصول إلى الخلاص.
فكان الملجأ الأسطورة لأنها لفت موضوع الرواية (36) ، فجاءت لتعالج قضايا
اجتماعية سياسية لها البعد الوطني والإنساني الذي يراعى عند كل فنان إحساسه
بالشعبية؛ لأن وطار وجد في الأسطورة لغة الصراع للحياة التي تعيشها أجواء روايته
وتحياها شخوصها.ولذا تناص وطار مع العالم الأسطوري من خلال
امتصاصه لمعاني أسطورة (*) متاهة . (37)
إن الكاتب
بفضل امتصاصه لمعاني الأسطورة يولد صورة عميقة لتجربته ، فأسطورة
"المتاهة" تتعدد دلالاتها بحيث تتميز بالامتلاء فهي لا تقف على مغزى بل
أكثر من واحد (38) فإذا نحن وقفنا عند
الرمز "الدهاليز" الذي يرمز له بالظلام، وبالغموض وبضبابية الرؤية
وبالكهوف وبالسراديب وبالمتاهات، فهي تجمع أكثر من مستوى من الدلالة. إن لفظة
"الدهاليز" لها معنى في نطاق التجربة الخاصة لوطار ، وتلخص تجربة
إنسانية شاملة ممتدة ، ولذا عبر بها عن كل ما يربطه بواقعه، بنفسه وبالكون ككل.
وهذه العلاقات هي التي تعطي معاني الأمل أو اليأس، النور أو الظلمة، الرفض أو
الاستسلام.... إلخ.
فأعباء
التعبير عند وطار يتقاسمها الفردي والجماعي وبخاصة إن الجمعي هو الذي يأخذ من
اهتمامه الكثير وبذلك فهذه اللفظة "الدهاليز" التي تعبر عن المتاهة قد
حملت أعباء التعبير عنه؛ لأن الأسطورة كأسلوب نثري يكتشف فيه الناس المعنى الذي ما
زال يعنيهم (39) ، وبذلك
أضحت الرواية واقعة إنسانية عامة ذات مغزى رمزي.
فاعتماد
وطار العودة إلى طبيعة الدهاليز وتحليلها لا يعرض الوقائع فقط بل يفسر ويشرح كل
ظاهرة تفسيرا تاريخيا وإظهار صلتها بالماضي، ومدى تأثيره على الحاضر والتصوير
الصادق من الناحية الموضوعية والفنية.
فكان البحث
عن الحقيقة داخل متاهة كبرى بحلم ضعيف هو الشمعة . فالمتاهة لا تشير إلى معنى محدد
بل يضيع فيها الإنسان بين التمزق الديني واللغوي والسياسي، ليس على المستوى الوطني
فحسب بل على المستوى العربي، الإفريقي والآسياوي؛ تلك المتاهات التي قال عنها وطار
على لسان الشاعر: (إنها تفاصيل التفاصيل، أدخل القضية أو المسألة الواحدة، ملايين
إن لم تكن ملايير القضايا، بدون تحليلها والوقوف عليها، كلها لا تجد بابا في دهليز
القضية التي أنت بصدد اقتحامها. بل إن سراديب تنفتح أمامك فتروح تنزل مدفوعا بقوة
ما لا تدري ماهيتها وكلما اقتحمت سردابا وجدت نفسك في دهليز آخر ينفتح على سراديب،
تمتصك فتنزل وتنزل لا إلى مكان إنها لدهاليز وسراديب ممتصة أخرى) (40) .
فوطار
يستغــل أسطورة المتاهة كرؤية فنية رمزية يثري بها البناء الروائي (41) ليعبر عن ثنائيــة
"النـور والظلام" ولذا فإن ذاكرته النصيــة تمتد إلى التــراث الإنساني
ومنه يتـم عبر التناصات توليد النص الجديد عن طريق الهدم وإعادة البناء من جديد (42) للواقع الذي يتطلبه
المنهج الاشتراكي حيث مسؤولية البطل في إمداد الماضي بالحاضر وبالمستقبل.
إنه تحاور
مع نصوص من شأنه أن يوسع معنى المتاهة في خدمة رؤيته التي تبحث عن الأسباب وفق
النظرية الماركسية، من امتصاصه لأدوات تعبيرية وهي الأسطورة من أجل أن يجعل القارئ
يتفهم عمله؛ فالأسطورة تضفي معنى فلسفيا على الوقائع، لأنها تضم معنى التنظيم ومن
غيرها تظل التجربة الروائية ممزقة (43).
المتاهة
كلها تتحدث عن مجموع التناقضات التي مردها إلى غياب العنصر الفعال في التغيير؛
فجدلية التغيير والحركة التي يتبناها الروائي وطار تتجاوز المتاهة والاغتراب حينما
تكتشف الذات حقيقتها؛ فالمتاهة تنتهي بإدراك الذات للحل المناسب وهي وعيها بصلتها
وبالواقع وأن البيئة الاجتماعية هي من صنع تحركها (44).
إن الغايات
التي ينشدها "الكاتب" متعددة في توظيفه للأسطورة، ولعل أهمها تقديم
نموذج يحتوي على معنى المغامرة وتجربة مسبقة، ويوجه الفعل نحو المستقبل، هذا
النموذج الذي يعيشه بطل روايته، كي يؤثر في القارئ حتى يضم صوته إلى الكاتب في
إعادة بناء رؤية جديدة للعالم وتشكله.
ولا يعدم
عمل التناص مع التراث ما يحققه من جماليات تظهر في التداعيات (45) ، فتوحي
كلمة "الشمعة" لكل ما هو رمز للوضوح، للعطاء، للاتصال، للعلم، للنضال،
للحلم والأمل، بينما توحي "الدهاليز" لكل ما هو عائق في وجه النور
والنضال والتغيير ، وهو بهذا أضاف عمقا لروايته (46) لأن من جراء التداعيات
يزيد في تعميق معنى الدهاليز وزيادة الانفعال والإحساس بها.
بل إن
المتاهة تبدو أكثر عمقا حين يصبح "الشاعر البطل" المثقف يؤمن بالاستحضار
–وبعض الخرافات عند الشيوعيين- والتجلي وبذلك استطاع الكاتب أن يستدعي أسطورة
المتاهات ويزاوجها بالتراث الصوفي، مما أعطى الأبعاد الجمالية السابقة.
التهميش
(1)- مصطفى
عبد الغني قضايا الرواية العربية في نهاية القرن العشرين ، الدار المصرية ، ط 1 ،
1999 ، ص 97.
(2)-المرجع
نفسه ، ص 102.
(3)-الطاهر
وطار، الشمعة والدهاليز، ص18.
(4)–ينظر:
سعيد يقطين، الرواية والتراث السردي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1992، ط1،
ص51.
(5)-الطاهر
وطار، الشمعة والدهاليز، ص87.
(6)- المصدر
نفسه، ص27.
(7) –الطاهر
وطار، الشمعة والدهاليز، ص22.
(8)-المصدر
نفسه، ص92.
(9)- المصدر
نفسه، ص24.
(10) - المصدر
نفسه، ص25.
(11)-ينظر: السيد قطب،
معالم في الطريق، دار الشروق، بيروت، ط9، 1982، ص17.
(12) -الطاهر وطار، الشمعة
والدهاليز، ص23.
(13)–ينظر: عمار بلحسن، من
تسييس الثقافة إلى تثقيف السياسة، مجلة التبيين الجاحظية، الجزائر، ع4، 1992، ص15.
(14)-الطاهر وطار، الشمعة
والدهاليز، ص29.
(15)- ينظر: السيد قطب،
معالم في الطريق، ص45.
(16) -الطاهر وطار، الشمعة والدهاليز، ص97.
(17)-مجموعة من المؤلفين،
دراسات في الأدب والمسرح، ت. نزار عيون السود، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد
القومي، دمشق، 1976، د.ط، ص193.
(18) -الطاهر وطار، الشمعة
والدهاليز، ص146.
(19) -ابن منظور ، لسان
العرب ، مج 11 ، ص 612.
(20) -محمد المرزوقي ،
الأدب الشعبي في تونس ، الدار التونسية للنشر ، تونس ، 1967 ، ص 33.
(21) -محمد سعيدي ، الأدب
الشعبي بين النظرية والتطبيق ، ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر ، 1998 ، ص 11.
(22)-الطاهر وطار، الشمعة
والدهاليز، ص18.
(23) -الطاهر وطار ، اللاز ، ص 107.
(24)- عبد المالك مرتاض ،
عناصر التراث الشعبي في رواية اللاز ، ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر ، 1984
، ص 68.
(25)- الطاهر وطار ، تجربة في العشق ، ص 93.
(26)-عبد المالك مرتاض ،
عناصر التراث الشعبي في اللاز ، ص 68
(27)-سلمان نور ، الأدب
الجزائري في رحاب الرفض ، ص 250.
(28)-الطاهر وطار ، العشق والموت في الزمن الحراشي ، ص 72.
(29)-الطاهر وطار ، الشمعة والدهاليز ، ص 77.
(30)-الطاهر وطار ، الشمعة والدهاليز ، ص 78.
(31)-محمد مرزوق ، الأدب الشعبي في تونس ، ص 33.
(32)- الطاهر وطار ، الشمعة والدهاليز ، ص 78.
(33)- المصدر نفسه ، ص 78.
(34)–Zahra A. H. Ali, Modernism Subverted: A
Study of Embedding The Odyssey in Iris Murdoch's,The Sea, The Sea, ANNALS,
Kuwait, University, V.M 19,1998- 1999, p7.
(35)-ينظر: إبراهيم رماني،
الغموض في الشعر العربي الحديث، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1991، ص287.
(36)– V. Simone FRAISSE, le mythe
d'Antigone, librairie Armand Colin, Paris, 1974, p8.
(37)-ينظر: أوفيد: مسخ
الكائنات، الكتاب الثامن، تر: ثروت عكاشة، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب،
1971، ص230.
وينظر: Petit Robert: du nom propres, Paris, 1994, p 114
(*) أردياني
بنت مينوس، الذي سحرت بحب ثيسيوسالذي جاء إلى مدينة كريت ليحارب الوحش وبمساعدتها
نجا من الموت، أعطته كبة خيط فكان الخيط يرافقه حيثما تاه ونتيجة لذلك كان هذا
الخيط معلما يهتدي به إلى النور (الخروج من المتاهة).
(38)-ينظر: عز الدين إسماعيل، الشعر العربي
المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار العودة، بيروت، ط3، 1981، ص203.
(39)- V.Simone FRAISSE, le mythe
d'Antigone, p6.
(40)-الطاهر وطار، الشمعة
والدهاليز، ص10.
(41)- V. Simone FRAISSE, le mythe
d'Antigone, p6.
(42)-ينظر: شكري عزيز
الماضي، في نظرية الأدب، ص206.
(43)-ينظر: عز الدين إسماعيل، الشعر العربي
المعاصر، ص228.
(44)-ينظر: عبد الفتاح إبراهيم، الاجتماع
والماركسية، ص230.
(45)-ينظر: عبد الرضا علي،
الأسطورة في شعر السياب، دار الرائد العربي، لبنان، ط2، 1984، ص93.
(46)- عبد الرضا علي،
الأسطورة في شعر السياب، ص93.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق