البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

الخميس، 21 يونيو 2012

الخطاب القرآني بين البيان والتبيين

الخطاب القرآني بين البيان والتبيين
" قراءة في منهج تلقي الصحابة والمفسرين للقرآن الكريم "

أ/ العيد علاوي
المركز الجامعي الطارف –الجزائر-

ملخص المداخلة:
القرآن الكريم كتاب العربية الأكبر، ومعجزاتها البيانية الخالدة، ومثلها الأعلى أنزله الله على أصحاب اللسان العربي، ففاقهم فصاحة وبلاغة، وبالمقابل أمدهم بالعديد من المعارف الصرفية والنحوية والبلاغية والتشريعية، مشكلا لهم بها حضارة باتت تنعت بحضارة النص.
- تأتي هذه المداخلة لتعرض منهج الصحابة والمفسرين في تلقي القرآن، مع تبيان الآليات التي اعتمدوها في فهمه وإفهامه، كاعتمادهم على لهجات العرب واستنادهم إلى الشعر باعتباره ديوان العرب، وملاذا يرجع إليه لتفسير ما غرب أو ما استغلق فهمه، لتخلص إلى نتيجة مفادها أن لا سبيل لإدراك الخطاب القرآن إلا بامتلاك ناصية اللغة أو أخذ حظ منها على الأقل.
تمهيــد :
لا مناص أن القرآن الكريم ديدن هذه الأمة وعمود فقارها، وعصب حياتها، شرقها الله به واصطفاها من بين الأمم، فأنزله بلغتها، وجعل حياتها وحياة لغتها به، وتكفل بحفظه مقيضا من يصنه ويرعاه.
فمذ انزل تغنى الصحابة به، وتمتعوا بسماعه، وانتشى علماء العربية وأهل العلم والاجتهاد بأي بيانه وحسن نظمه، وكمال إعجازه وغاصوا بمختلف توجهاتهم من لغويين ومفسرين وبلاغيين وأصوليين... في لطيف لفظه، وشريف معناه، وعظيم أحكامه، فنشأت الدراسات بمختلف أشكالها وكان ثمرة لقاحها القرآن.
فهناك من كتب في مجاز القرآن كابي عبيدة معمرين المثنى            (210 هـ)، وهناك من كتب في تأويل مشكله كابن قتيبة              (ت 276هـ)، ومنهم من راح يتتبع  معانيه كالفراء (ت 207هـ) والأخفش (215هـ) ... حتى ذهب السبوطي في كتابه الإتقان إلى أن هناك أكثر من ستين علما من علوم العربية نشأت في رحاب القرآن الكريم(1) للمحافظة عليه من اللحن من جانب، ومن جانب آخر لمحاولة فهمه والوقوف على أسرار معاينه(2) ومن العلوم التي استخدمت كأدوات فهم لهذا الكتاب علوم العربية من: نحو وصرف وبلاغة(3)، وبهذا يمكننا القول إن القرآن مفجر علوم العربية(4)
العوامل الرئيسية لظهور علم التفسير:
سبقت الإشارة إلى العلوم التي ظهرت بظهور القرآن الكريم، وجاءت خدمة له وقد انقسمت قسمين: فبعضها جاء لدراسة كل ما يتصل بالقرآن ومن هذا النوع نذكر علم التفسير، والنوع الآخر: هي علوم بمثابة أدوات استخدمت كأدوات فهم للقرآن نحو : علوم العربية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن اللغويين شاركوا المفسرين في تفسير القرآن فأغلب المفسرين كانوا لغويين.
ويجب أن يفهم هنا أن التفسير غير التأويل، فالتفسير في رأي الأصفهاني أعم، والتأويل أخص، وقد اكتسب التأويل خصوصيته من جهتين(5)
أ-  أن التفسير بيان غريب الألفاظ، أما التأويل فبيان الجمل ومعانيها.
ب- أن التأويل أغلب استعماله في الكتب الإلهية، أما التفسير ففيها وفي غيرها.
علاوة على هذا فالتفسير يختص بالرواية، وهي لا تحتاج إلى إعمال فكر، أما التأويل فيختص بالدراية.
فالتفسير إذن هو البيان أو الكشف عن المعنى، وهو عملية مبسطة لا تتعدى ملامسة السطح الظاهري للنص لشرح معنى ما أو إعادة طرحه بصورة أخرى أكثر وضوحا، أما التأويل فهو العدول عن ظاهر اللفظ إلى المعنى العميق، وهو غوص نحو العمق، للوصول إلى قلب النص واستخراج المعاني الخبيئة فيه.(6)
ومن الأسباب التي أدت إلى ظهور التفسير بل وتعدد التفاسير ما يلي:
1)    محورية النص القرآني في الحضارة الإسلامية.
2) طبيعة النص القرآني نفسه، إذ يوجد في القرآن من الآيات محكم  و  متشابه، وذلك لما جاء في قوله تعالى:(( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفئة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب )) آل عمران/70
3) طبيعة العقل البشري، إذ تختلف من شخص لآخر لاختلاف المرجعيات الثقافية والحضارية التي تؤثر على طريقة فهم النص وتناوله- كما تختلف باختلاف الأدوات التي يستخدمها كل مفسر في مواجهته للنص ...
4) تعدد الفرق السياسية والمذاهب الدينية، بحيث سعت كل فرقة إلى إيجاد ما يدعم أفكارها ومذهبها من النص القرآني عن طريق التماس تلك المعاني في آيات القرآن الكريم حتى تعضد به موقفها السياسي والديني على حد سواء.
منهج الصحابة والمفسرين في تلقي القرآن الكريم:
كان الصحابة رضوان الله عليهم يرجعون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أشكل عليهم لفظ أو استغلق عليهم معنى، وبقى الأمر كذلك بعد وفاته، إذ كان يرجع إلى كبار الصحابة ومنهم حبر هذه الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه، الذي نعت ببحر التفسير وكيف لا يكون كذلك وقد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل "، وقد قال فيه على بن أبي طالب رضي الله عنه " كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق "(8)
وقد اعتمد ابن عباس رضي الله عنه في تفسيره اللغوي على أساسين هما: (9)
1-    اعتماده على كلام العرب (لهجاتهم ولغاتهم المختلفة)
2-    اعتماده على الشعر.
فمن اعتماده على كلام العرب قوله: " كنت لا أدري ما (( فاطر السموات والأرض ))فاطر1- حتى أتاني أعربيان يختصمان حول بئر فقال احدهما : أنا فاطرها، أي بدأت حفرها.
ومن اعتماده على لهجات العرب نذكر قوله: كنت لا ادري معنى       " التخوف " في قوله تعالى (( أو يأخذهم على تخوف )) النحل/47 حتى جاءني فتى هذلي يشكو بهذا البيت:
تخوفني مالي أخ لي ظالم                      فلا تخذلني اليوم يا خير من بقى
تخوفني بمعنى تنقصني، أي تنقص من خيارهم(10)
ولعل هذا البيت يدخل كذلك ضمن الأساس الثاني الذي اعتمده ابن عباس والمتمثل في اعتماد على الشعر.
فعلى رأس اعتماده على الشعر نذكر المناظرة الشهيرة التي حدثت بينه وبين نافع بن الأزرق، وفي هذا الشأن يقول السيوطي(11) (( بينما عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا وتأتينا بمصادقه من كلام العرب، فإن الله إنما انزل القرآن بلسان عربي مبين، فقال ابن عباس سلاني عما يدا لكما:
فقال نافع: أخبرني عن قول الله تعالى ((عن اليمين وعن الشمال        عزين )) المعارج /37 قال العزون: حلق الرفاق
قال: أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول :
فجاءوا يهرعون إليه حتى                     يكونوا حول منبره عزينا
قال نافع وما معنى الوسيلة في قوله تعالى (( يبتغون إليه الوسيلة )) المائدة/ 35 . قال ابن عباس الوسيلة هي الحاجة أما سمعت عنتر وهو يقول:
إن الرجال لهم إليك وسيلة          أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
- قال نافع وما معنى منهاجا في قول الله تعالى (( ولكل جعلنا شرعة  و منهاجا ))المائدة/48
- قال ابن عباس المنهاج هو الطريق أما سمعت الشاعر وهو يقول:
لقد نطق المأمون بالصدق والهدى          وبين للإسلام دينا ومنهجا
- قال نافع: وما معنى "ينعه "  في قوله تعالى ((انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ))الأنعام/99
- قال بن عباس ينعه، نضجه وبلاغة، أما سمعت الشاعر وهو يقول:
إذا ما مشت وسط النساء تأودت        كما اهتزت غصن ناعم النبت يانع
- قال نافع: وما الريش في قوله تعالى (( وريشا )) الأعراف/26، قال ابن عباس، الريش هو المال، أما سمعت قول الشاعر:
- فرشني بخير طالما قد بريتني      وخير الموالي من يريش ولا يبري
- قال نافع: وما معنى كبد في قوله تعالى (( لقد خلقنا الإنسان في كبد ))البلد/04
- قال ابن عباس:  في كبد في اعتدال واستقامة، والشاعر يقول:
يا عين هلا بكيت أربد إذ                    قمنا وقام الخصوم في كبد
قال نافع وما " السنا " في قوله تعالى (( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ))النور/43
قال ابن عباس: السنا هو الضوء و الشاعر يقول:
يدعو إلى الحق لا يبغي به بدلا         يجلو بضوء سناه داجي الظلم
و هكذا استمرت بقية المسائل على هذا النحو، وهي توضح منهج ابن عباس في تفسير تلك الألفاظ التي سأله عنها نافع بن الأزرق مع بيان استعمالها في الشعر العربي، كما استشهد ابن عباس في تفسير كلمة        " ضيزى " في قوله تعالى (( تلك إذا قسمة ضيزي ))النجم22، بمعنى جائرة محتجا بقول امرئ القيس:
ضازت بنو أسد بحكمهم             إذا يعدلون الرأس بالذنب(12)
ولعل ما يؤكد اعتماد ابن عباس على الشعر قوله: (( إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإنه ديوان العرب ))(13)
كما اعتمد أبو عبيدة في كتابه مجاز القرآن على الشعر، وهو أول من مهد التأليف في علوم البلاغة، وما يؤكد اعتماده على الشعر ما ذكره ياقوت الحموي في معجم الأدباء قائلا (( قال أبو عبيدة أرسل إلى الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه سنة ثمان وثمانين ومئة، فقدمت إلى بغداد واستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت عليه... ثم دخل رجل في زي الكتاب، له هيئة فأجلسه إلى جانبي وقال له أتعرف هذا ؟ قالا: لا قال هذا أبو عبيدة علامة البصرة... وقال لي إني كنت إليك مشتاقا، وقد سئلت عن مسألة، أفتأذن لي أن أعرفك إياها؟ فقلت: هات، قال: الله عز وجل (( طلعها كأنه رؤوس الشياطين)) الصافات/65، وإنما يقع الوعد والإيعاد بما عرف مثله، وهذا لم يعرف، فقلت: إنما كلم الله العرب على قدر كلامهم أما سمعت قول امرئ القيس:
- أيقتلني والمشرفي مضاجعي       ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به، فاستحسن الفضل ذلك، واستحسنه السائل وعزمت من ذلك اليوم أن أضع كتابا في مثل هذا و أشباهه.(14)  
ومن قبيل هذا اعتماد أبي عبيدة على الشعر في تفسير قوله تعالى         (( كأن لم يغنوا فيها )) الأعراف/92، يغنوا بمعنى لإقامة مستشهدا بقول المهلهل:
غنيت دارنا تهامة في الدهـــ                   ر وفيها ينو معد حلولا(15)
و بالمعنى نفسه قال الطيري في تفسير قوله تعالى:
(( فجعلناها حصيدا كان لم تغن بالأمس )) يونس/24 مستشهدا يقول النابغة الذبياني:
غنيت بذلك إذ هم لي جيرة      منها بعطف رسالة وتودد(16)
أما في العصر الحديث فنستشهد بتجربة الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي اعتمد هو الآخر على الشعر في تفسيره للقرآن الكريم ومن هذا نذكر تعليقه الرائع والبديع على قوله تعالى (( الله نور السموات و الأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب ذري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ))النور/35.
وفي تفسيره لهذه الآية قال: كأن الله سبحانه وتعالى: يريدنا أن نعرف بتشبيه محس... أن مثل ثورة كمشكاة، والمشكاة هي (الطاقة)، وهي فجوة في الحائط بالبيت الريفي ... ونحن نضع المصباح في هذه الطاقة ... إذن المصباح ليس في الحجرة كلها، ولكن نوره مركز هذه الطاقة، فيكون قويا في هذا الحيز الضيق- لكن المصباح في زجاجة .. تحفظه من الهواء من كل جانب، فيكون الضوء أقوى.. صافيا لا دخان فيه.. كما أن الزجاج يعكس الأشعة، فيزيد تركيزه ...(...) وهذا ليس نور الله تبارك وتعالى عن التشبيه والوصف، ولكنه مثل فقط للتقريب إلى الأذهان ... فكأن نور الله يضئ كل ركن وكل بقعة ... ولا يترك مكانا مظلما ... فهو نور على نور...
ولقد أراد أحد الشعراء أن يمدح الخليفة، وكانت العادة أن يشبه الخليفة بالأشخاص البارزين ذوي الصفات الحسنة فقال:
إقدام عمرو في سماحة حاتم         في حلم أحنف في ذكاء إياس
وكل هؤلاء الذين ضرب بهم الشاعر المثل كانوا مشهورين بهذه الصفات، فعمرو كان مشهورا بالإقدام والشجاعة... وحاتم كان مشهورا بالسماحة ... وأحنق يضرب به المثل في الحلم... وإياس شعلة في الذكاء ... وهنا قام احد الحاضرين وقال : الأمير اكبر في كل شيء ممن شبهته بهم، فقال أبو تمام على الفور:
لا تنكروا ضربي له من دونه             مثلا شرودا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنـوره               مثلا من المشكاة والنيراس(17)
فالله تبارك وتعالى- هو نور السموات والأرض أي: منورهما وهذا أمر واضح جدا حينما تنظر إلى نور الشمس ساعة يظهر يجلو الكون بحيث لا يظهر معه نور آخر وتتلاشى أنوار الكواكب الأخرى والنجوم رغم وجودها مع الشمس في وقت واحد، لكن يغلب على نورها نور الشمس، على حد قول الشاعر في المدح.(18)
كأنك شمس والملوك كواكب          إذا ظهرت لم يبدوا منهن كوكب
ومن مثل هذا الاعتماد نذكر اعتماده على الشعر في التفريق بين التمني والرجاء، وذلك في تفسير قوله تعالى: (( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به )) النساء/123
هذا بالنسبة للجمع أما لمفرد " التمنى " قوله تعالى: (( وما أرسلنا من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته )) الحج الآية/52
فالأمنية هي الشيء الذي يحب الإنسان أن يحدث ولكن حدوثه مستحيل ... إذن لن يحدث ولن يكون له وجود، ولذلك قالوا إن من معاني التمني اختلاق الأشياء... وبعد هذا التحليل استشهد ( الشعراوي بأقوال الشعراء الآتية)(19)
ألا ليت الشباب يعود يوما                    فأخبره بما فعل المشيب
فمن المستحيلات أن يعود الشباب، ثم احتج بقول الشاعر القائل:
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها               عقود مدح فما أرضى لكم كلم
فمحال أن تنزل النجوم من السماء إلى هذا الشاعر فينظمها أبيات شعر إلى حبيبته إذن من معاني التمني الكذب والاختلاق.
وفي مقام آخر يقول مفرقا بين التمني والرجاء، فالأماني أن تعلق نفسك بأمنية وليس لهذه الأمنية سند من الواقع يوصلك إلى تحقيق هذه الأمنية... ولكن إذا كان التمني قائما على عمل يوصلك إلى تحقيق الأمنية فهذا شيء آخر.
فبعض الناس يقول التمني وإن لم يتحقق يروح على النفس .. فقد ترتاح النفس عندما تتعلق بأمل كاذب وتعيش في نوع من السعادة وإن كانت سعادة وهمية، فالصدمة التي ستلحق بالإنسان ستدمره... ولذلك لا يكون في الكذب أبدا راحة ... فالأحلام اليقظة لا تتحقق، لأنها تقوم على أرضية من الواقع وهي لا تعطي الإنسان إلا نوعا من بعد عن الحقيقة ولذلك يقول الشاعر:
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى     وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
يعني لو كانت حقيقة أو تستند إلى الحقيقة، فإنها أحسن الأماني، لأنها تعيش معك(20).
ومن خلال هذه النماذج التي سقناها يتجلى النهج الذي سلكه الشعراوي في إبلاغ معاني القرآن الكريم ومقاصده، وهو نهج يشاكل نهج الصحابة الأخيار ونهج المفسرين الأفذاذ الذين اعتمدوا على الشعر وانطلقوا من اللغة في فهم القرآن وتذليل سيله للعامة والناشئة.
المنهج الأقوام لتلقي الأجيال المعاصرة للقرآن الكريم
إن ما تعانيه أجيالنا من مشاكل سببه الرئيس هو الابتعاد عن كتاب الله، فلما ابتعدنا عن هذا الكتاب-الدستور- الذي لم يدع صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها أحلت بنا محن وإحن، ومن بين هذه المحن عدم فهم الأجيال لمعاني هذه الرسالة الخالدة، وعليه نرى أن المنهج السليم لتلقي القرآن وفهمه و إفهامه يكون بالآليات الآتية:
1) الاطلاع على لهجات العرب المختلفة ( كما اعتمد عليها الصحابة الكرام رضي الله عنهم وقد بينا ذلك سلفا )
2) الاطلاع على روائع الشعر العربي وحفظها وقد أشرنا سلفا إلى اعتماد بعض الصحابة والمفسرين على الأساس.
3) تعلم اللغة العربية والتبحر فيها أو أخذ حظ منها على الأقل- فاللغة العربية شرط ضروري لسائر العلوم الإسلامية، فقد أجمع العلماء على أنه لا مناص لطالب العلوم الإسلامية من تعلم اللغة العربية، فمن دونها لا يستطيع الطالب أن يتذوق، بل لا يستطيع الولوج في أي علم شرعي كان، إلا إذا كان متمكنا في علم العربية- ولقد عرف الإلمام بالعربية حضورا بارزا في سائر العلوم الإسلامية، فأصبحت مسألة التضلع منها والوقوف على أسرارها أمرا مسلما عند المسلمين.(21) ذلك أن لا يجدون علما من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها وعلمي تفسيرها وأخبارها إلا و افتقاره إلى العربية بين لا يدفع ومكشوف لا يتقنع(22) ،وقد جعل الصاحبي العلم بالعربية واجبا على طالب العلوم الإسلامية قائلا: " إن علم اللغة كالواجب على أهل العلم لئلا يحيدوا في تآليفهم أو فتياهم عن سنن الاستواء "(23) فهو بهذا يجزم أن العلم بلغة العرب واجب على كل متعلق من العلم بالقرآن والسنة، أما بن جني فيرى أن ضلال من ضل من علماء الشريعة مرده إلى قصر الباع في العربية بقوله: " وذلك أن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها، وحاد عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه واستخف حلمه ضعفه في هذه اللغة الكريمة الشريفة.(24)
وقريب من كل ما نقدم إشارة ابن خلدون إلى أن علوم اللسان ضرورية لمعرفة علوم القرآن، فقد ذكر في الفصل السادس والأربعين من مقدمته إلى هذه العلوم اللسانية بقوله (فصل في علوم اللسان العربي وأركانه الأربعة: اللغة والنحو، والبيان والأدب، ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة، إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب ونقلتها من الصحابة عرب، وشرح مشكلاتها من لغاتهم، فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة.(25)
ومن بين العلوم الإسلامية التي لا غنى لها عن علم العربية علم القراءات القرآنية، وقد ذهب أحد العلماء إلى أن هناك سبعة علوم هي وسائل لعلم القراءات وهي كالآتي: (26)
1-    علم العربية من نحو وصرف...
2-    علم التجويد معرفة مخارج الحروف وصفائها.
3-    علم رسم المصحف.
4-    علم الوقف والابتداء
5-    معرفة علم الفواصل وهو في عدد الآيات
6-    معرفة علم الأسانيد وهو الطرق الموصلة إلى القرآن.
7-    علم الابتداء والحكم، وهو الاستعاذة والتكبير ومتعلقاتهما-
 والظاهر من خلال تعداد هذه العلوم السبعة أنه جعل علم العربية من نحو وصرف في مقدمتها، وهذا ما يعبر عن أهمية هذا الركن الذي أعظمه الصفاقسي في كتابه غيث النفع قائلا " ولا يجوز لأحد أن يتصدر الإقراء حتى يتقن عقائده ويتعلمه على أكمل وجه، ويتعلم من الفقه ما يصلح به أمر دينه وما يحتاج إليه من معاملات، وأهم شيء عليه بعد ذلك أن يتعلم من النحو والصرف حملة كافية يستعين بها على توجيه القراءات ويتعلم من التفسير الغريب ما يستعين به على فهم القرآن وأن لا يكتفي بالاستماع إلى لفظ القرآن دون الغوص في معانيه"(27)
وفي هذا الشأن يقول الإمام الحصري: (28)
لقد يدعى علم القراءات معشر        وباعهم في النحو أقصر من شبر
فإن قيل ما إعراب هذا ووجهه       رأيت طويل الباع يقصر عن فتر
فمن خلال هذين البيتين تتجلى حاجة القارئ إلى معرفة النحو والصرف، كما صار جليا أن العلماء قاطبة أجزموا على أن العربية شرط ضروري لطالب العلوم الإسلامية، وهذا لأن اللغة هي أداة الفهم والإفهام والبيان والتبيين والتفكير.
4) تعلم القراءات القرآنية، فقد ذهب الدارسون والمحققون إلى أن للقراءات قيمة دينية وإلى جانب هذه القيمة لها قيمة لغوية خاصة، لأنها تحوي ثورة لغوية ضخمة لا يستغني عنها دارس اللغة العربية، ولكونها تسجل الكثير من الظواهر اللهجية مما أهملته كتب اللغة والنحو(29).
ومعنى هذا أن القراءات من المصادر اللغوية المهمة وشواهدها من الشواهد اللغوية التي يجب الاعتماد عليها حين النظر في القضايا الصوتية والتركيبية والدلالية، لأنها تعبير عن الواقع اللغوي الذي كان سائدا في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، وتمثل اللهجات التي كانت منتشرة بين القبائل العربية، كما تعد سجلا دقيقا لما في كلام العرب من التصرفات اللغوية على وجه العموم.






خـــاتمــة:
من خلال ما تقدم تجلت العلاقة الوطيدة بين القرآن الكريم واللغة العربية، كيف لا والقرآن معجزة لغوية شرف الله العرب بأن أنزلهم بلغتهم، ولفهم هذه الرسالة الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان، الرسالة الموجهة للثقلين الجن والإنس، فلا بد من الرجوع للغة العربية وتعلمها، وإذا ما أريد للعربية أن تبقى مزدهرة فلا بد من التمسك بهذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتعهد الله بحفظه فقال (( إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون ))  

















الهوامـش والإحـالات:
1و2- ينظر محمد داود، العربية وعلم اللغة الحديث، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د.ط، 2001، ص37.
3و4، المرجع نفسه، ص 40.
5- فاطمة البريكي، قضية التلقي في النقد العربي القديم، العالم العربي للنشر والتوزيع ط1، 2006، ص 144.
6- المرجع نفسه، ص 144
7- المرجع نفسه، ص 111.
8- محمود سليمان ياقوت، منهج البحث اللغوي، دار المعرفة الجامعية، الأزاريطية، ط1، 2000، ص66.
9- المرجع نفسه، ص 65.
10- المرجع نفسه، ص 66.
11- المرجع نفسه، ص 67-68.
12- محمد محمد داود، المرجع السابق، ص244.
13- محمود سليمان ياقوت، المرجع السابق، ص 69.
14- أحمد فرج الربيعي، منهج معجمات المعاني إلى نهاية القرن السادس الهجري، مركز الإسكندرية للكتاب، د.ط، 2001، ص15.
15- محمد محمد داود، المرجع السابق، ص244.
16- المرجع نفسه، ص 244.
17- محمد متولي الشعراوي، تفسير الشعراوي، أخبار اليوم، قطاع الثقافة، د ت، د،ط، مج1، ص 168.
18- المصدر نفسه، مج17، ص 74- 102.
19- المصدر نفسه، مج1، ص 423-424.
20- المصدر نفسه، مج1، ص545.
21- عبد الحميد العلمي، منهج الدرس الدلالي عند الإمام الشاطبي، المملكة المغربية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، د ط، 2001، ص 95-96.
22- المفصل في علم العربية، الزمخشري، دار الجيل، بيروت، د.ط، د.ت، ص03
23- ابن فارس، الصاحبي في فقه اللغة العربية وسنن العرب في كلامها، مكتبة المعارف، بيروت، ط1، 1993، ص 65.
24- أبو الفتح عثمان ابن جني، الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، المكتبة العلمية د.ط، د.ت، ج3، ص245.
25- عبد العال سالم مكرم، اللغة العربية في رحاب القرآن الكريم، عالم الكتب، ط1 1995، ص16.
26- أحمد محمود عبد السميع الشافعي الحفيان، الإجابات الواضحات لسؤالات القراءات العشر المتواترة أصولا وفرشا، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط1، 2002، ص 61-62.
27- الصفاقسي، غيث النفع في القراءات السبع، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، ط1، 1999، ص08.
28- النويري، شرح طيبة النشر في القراءات العشر، تقديم وتحقيق، مجدى سرور وسعد باسلون، منشورات مجمد علي بيضون لنشر كتب السنة و الجماعة دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ط 2003، ص56.
29- عبد العال سالم مكرم، و أحمد عمر مختار، معجم القراءات القرآنية مع مقدمة في القراءات وأشهر القراء مطبوعات جامعة الكويت، المقدمة، ص (ز)
30- الطاهر مشري، الشيخ السلطاني حياته استشهاده بالقرآن والقراءات في شرحه للشواهد، مجلة الحقيقة، جامعة أدرار، العدد: 01 أكتوبر 2002، ص343.

ليست هناك تعليقات: