الزميل الدكتور:مسعود
وقاد
جامعة الوادي ـ الجزائر
مهما اختلف النقاد في تحديد ماهية الأدب، ومهما
تباينت آراؤهم حول وظيفته، فإنه لا يمكنهم أن ينكروا أن الأدب ينطبع بروح العصر
الذي وُجد فيه، وأنه الابن الشرعيّ لقائله بالبصمات الإيديولوجية والنفسية
والاجتماعية التي يتركها عليه، لذلك كثيرا ما تغنى الفحول من الشعراء بهذه
"الخصوصية" فلم يكن آلـمَ لنفس
المتنبي من اتهامه بالسرقة
الشعرية، ولا أكرهَ لنفس نزار قباني من أن يُرمى بأنه يتكرر في غيره «منذ بداياتي كافحت لكي لا أكون نسخةً عن أي
شاعر آخر لأنني أومن أنه لا يوجد إلا متنبي واحد ... »[1] لكن هذه الخصوصية وهذا الشعور بامتلاك الشاعر
لإنتاجه وتغنيه بالتفرد به تراجع لدى
الشعراء الإحيائيين ، فلم يعد الشاعر من هؤلاء يسعى إلى التميّز في إبداعه
بالتعبير عن المعاناة الآنية التي تعتريه، أو الانشغالات التي يعايشها وتعايشها
أمته، و إنما صار همه هو استحضار التجارب الفنية التي مر بها أغلب الشعراء
العباسيين، فحضرت القصائد بشكلها ومضمونها لأسباب عدة، حاولت هذه الدراسة أن تكشف
اللثام عما تيسّر منها، كما حاولت أن تبيّن السمات التي حضر بها الصوت العباسي في
الشعر الإحيائي و إلى أي مدى كان هذا الحضور.
ومهما يكن من الاختلاف بين الدارسين في شأن
تحديد مدة عصر الانبعاث أو الإحياء ، إذ منهم من لا يفرق بينه وبين عصر النهضة حيث
يربطه بحملة "نابليون بونابرت" على مصر سنة 1798م إلى يومنا هذا[2]، ومنهم من يفرق
بينهما؛ فبينما يبدأ عصر الانبعاث بحملة نابليون وينتهي بنهاية الحرب العالمية
الأولى ، يبدأ عصر النهضة من نهاية هذه الحرب إلى حوالي سنة 1952 وهو تقسيم شكلي[3] - مهما يكن من أمر هذا الاختلاف فإنه لا يطعن في وجود هذه
الحركة وخصائصها واتجاهاتها وطابعها العام في الإنتاج الأدبي والنقدي.
ويربط الدارسون ظهور هذه الحركة – تاريخيا –
بحلول القرن التاسع عشر لما طرأ على حياة الناس من عوامل جديدة كظهور المطبعة و
إنشاء المدارس الحديثة، وإرسال
البعثات إلى أوربا ، وازدهار حركة الترجمة ولكن هذه الأمور لا يمكن أن تكون وسيلة بعث أدبي إلا
إذا وُجدت في بيئة يتوافر لها تراث أدبي تقدّر قيمة الرجوع إليه من خلال الإحساس
به وبمسؤولية الحاضر وتطلعاته ، ومن أجل هذا لم تكن تلك الوسائل تلعب دورها الفعال
لو لم تتفتحْ العيون العربية على ميراث ضخم من تاريخها الأدبي الذي يستوعب كل
اهتماماتها ويرمز إلى كل حاجاتها ، وليس من الصدفة أن يكون العصر العباسي هو الذي
يتسلل بقوة نفوس الشعراء الإحيائيين دون بقية العصور.
لقد أطل العصر العباسي دون غيره من العصور على
الشعراء الإحيائيين كي يمحو تلك الهوة السوداء التي تعثّر عندها الشعر العربي، وهي
هوة عصر الضعف و الانحطاط ، ويُعدّ انتفاض الشعراء رافضين هذا الانزلاق التاريخي
الذي عرفته حركة الشعر بعثا للشعر بالقياس إلى صورة الشعر العربي في تلك الفترة ،
وهو بعث لأنه محاولة لاستعادة مجد الشعر من خلال استدعاء المرحلة العباسية التي
كان الشعر قد بلغ فيها مبلغه من الكمال والقوة ، سواء في لغته أو في أسلوبه أو حتى
في قوالبه و أغراضه ، واستدعائها دون غيرها لأن شعراءها مثلوا النماذج التي يُقتدى بها، و
القصيدة في هذه الفترة بلغت مرحلة المثل الأعلى[4].
إذن فليس غريبا أ ن يحضر الصوت العباسي عند
الشعراء الإحيائيين وهو يضم قمما شامخة لا تضاهى كالمتنبي الذي لم يجد ناصف
اليازجي بأسا في أن يقول: «كأني قاعد في قلب المتـنبي»[5] وقد جعله مثله الأعلى في الشعر وارتاح إليه ، و
البحتري الذي قال سينيته الشهيرة في وصف إيوان كسرى فقام أكثر الشعراء الإحيائيين و المحدثين بمعارضتها سواء
في الشكل أو في المضمون ، و أبي العـلاء و أبي تمام وغيرهم .
وفي هذا العصر
تبلورت رؤية نقدية للشعر ؛ فما نجده "عيار الشعر" لابن طباطبا،
و"دلائل الأعجاز" و"أسرار البلاغة " للجرجاني و"منهاج
البلغاء وسراج الأدباء " للقرطاجي ... لا يمكن أن نعدّه إلا نظرة ناضجة
متقدمة للعمل الإبداعي . هذا إلى جانب المدة الزمنية التي استغرقها العصر العباسي
بتقلباتها السياسية والاجتماعية . إضافة إلى التشابه الكبير الذي نلمحه بين الحياة
الاجتماعية التي عليها العنصر الأجنبي فارسيا وتركيا في العصر العباسي و الحياة
الاجتماعية في بداية عصر النهضة التي سيطر عليها العنصر الأوربي مما حمل الشعر
الإحيائي على محاكاة الشاعر العباسي الذي كان يحيا في مناخ مشابه لمناخه .
إن كل أديب حينما يقدم على عملية الكتابة يضع
نفسه أمام تحدٍّ مكشوف إزاء العمل الأدبي الذي يود الكتابة فيه، وكلما زاد نصيب
ذلك النوع من التواجد ضمن الموروث كان الشاعر أمام تحدّ أكبر ، لأن الأديب لا
يمكنه الإفلات مما هو مخزون في ذاكرته من الموروث نسبيا ، وكثيرا ما تطغى سمات
الموروث على قصيدة شاعر فتستولي على تجربته فتأتي صورته باهتة فيها ، لا تكاد تلمح
في ثنايا القصيدة، فكأن الشاعر «مع الموروث على كفتيْ ميزان، إن رجحت كفة الموروث
ضاع الشاعر لأن الموروث قوي الحضور في الذاكرة، وإن تساوت الكفتان جاء النص سليما
معافىً ولكن لا جديد فيه ، والحالة الثالثة هي رجحان كفة الشاعر، وهذا هو رجحان
النص المبدَع » [6]، و ضمن الحالة الأولى
يمكن تصنيف الشعراء الإحيائيين؛ لأن كفة الموروث قد رجعت عندهم فغابوا عن عصرهم ،
و عبّروا عن ظروف غير ظروفهم، ومعاناة غير معاناتهم ، فكان «الاعتماد على مخزون
ثقافي واسع و متنوع لديهم أكثر من الاعتماد على المعاناة الآنية أو التأثر الحالي»[7]، وكان الدافع إلى
المعاناة الآنية سرعان ما يحيله إلى معادل موضوعي، و تجربة مماثلة كامنة في العصر
العباسي فيستدعيها بموفقها وصياغتها الفنية .
أولا : الموقف : يعتمد الشاعر الإحيائي على ما هو مخزون في
ذاكرته، وليست معاناته هي الموجِّه لتجربته الفنية، و إنما المعاناة تثير في نفسه
شحناتٍ من العواطف سرعان ما ترتدّ إلى مخزون يماثلها في الذاكرة، والربط بين هذا و
ذلك هو الذي يملي عليه الشعر، و بذلك كان الشاعر الإحيائي موزعا بين عصرين؛ عصر
يتواجد فيه و يتجاوزه، و عصر يحمله في ذاكرته فيعبر عنه، فجاء موقفه مضطربا، والذي
يقرأ القصيدة اللامية
للبارودي يجزم بأن قائلها شاعر بدوي من شعراء الجاهلية أو شاعر متأخر أجاد صناعة
الشعر على الطريقة الجاهلية :
أَلاَ حَيِّ مِنْ أَسْمَاءَ رَسْمَ
الْمَنَازِلِ وَإِنْ هِيَ لَمْ تُرْجِعْ بَيَانًا لِسَائِلِ[8]
فعنْ أيِّ (رسم) يتكلم الشاعر ؟ وهل كان من
الشعراء الرُّحَّل الذين يقفون على رسوم المنازل ؟ لم يكن البارودي شيئا من ذلك
لكنه يتجاهل واقعه المادي الحسي و يعبر عن واقع يحمله في ذاكرته .
و الملفت للانتباه أن الشعراء الإحيائيين كانوا
يقرون بقصدهم إلى التقليد مفاخرين بذلك من عاصرهم من الشعراء ، فإقرار ناصيف
اليازجي بأنه -كما مر بنا – قاعد في قلب المتنبي ، و اعتراف البارودي بـ « أن
التذكر للنفوس غرام »[9] و هو يومي إلى التقليد – لدليل قاطع على ولوع
هؤلاء الشعراء باقتفاء أثر الموروث ولاسيما العباسي منه .
و اضطراب الموقف لدى الشاعر الإحيائي - بهذه
الصورة – في تخطيه لعصره و ارتمائه بين أحضان العصر العباسي بصفة خاصة يجعلنا
نتساءل عن الأسباب الكامنة وراء هذه المفارقة، و عن هذا الاتحاد الغريب بين النفوس
الإحيائية والشعر العباسي؛ إذ ليس من باب المصادفة في شيء أن يحاكي أحمد شوقي –
مثلا – أشهر القصائد العباسية، ويعارضها معارضة مكشوفة في شكلها و مضمونها. فمن
المؤكد أن القوة الفنية للشعر في العصر العباسي لم تكن السبب الوحيد لاندفاع
الشعراء الإحيائيين نحو إعادة بعثه، و إنما هنالك جملة من الأسباب يتقدمها ذلك
التوافق الظرفي بين العصرين ؛ فموقف شوقي من انتصار الأتراك في الحرب استدعى موقفا
مشابها من العصر العباسي تجسد في تجربة الشاعر أبي تمام في إشادته بانتصار الخليفة
المعتصم بالله ، انطلاقا من التوافق المطروح في موضوع القصيدة[10]،
فهذه المعارضة تتخطى بؤرة الإعجاب لدى شوقي إلى اختيار التجربة المنغرسة في أعماق
التراث طبقا للموقف الذي يعرض لها . و قل مثل ذلك عن البارودي حينما يستدعي أبا
فراس بتجربته في الأسر، فتحضر القصيدة بشكلها و مضمونها متخطية المسافة بين (خرشنة
) ببلاد الروم أين كان الشاعر العباسي يرفل في أغلال الأسر ، و (سرنديب) إحدى
الجزر الهندية أين كان الشاعر الإحيائي منفيا متعدية أربعة عشر قرنا من الزمن ،
فحينما ألَمَّ بالشاعر طيف ( سميرة ) ارتدّ إلى مخزون في الذاكرة يماثل هذه
التجربة فحضرت رائية أبي فراس الحمداني التي مطلعها :
لَعَلَّ خَيَــالَ الْعَامِرِيَّةِ
زَائِـرُ فَيَسْعَدَ مَهْجُورٌ وَيَسْعَدَ هَاجِـرُ[11]
فينطلق البارودي منشدا على منوالها رائية
مطابقة لها شكلا و مضمونا :
تَأَوَّبَ طَيْفٌ مِنْ سَمِيرَةَ زَائِــرُ وَمَـا الطَّيْفُ إِلاَّ مَا تُرِيهِ
الْخَوَاطِرُ[12]
ومهما تعددت الأسباب التي دفعت الشاعر الإحيائي
إلى الانزياح نحو الفترة العباسية، واستدعاء تجاربها الفنية، فإنها غير كافية
لتبرير تلك القطيعة التي كان يحياها الشعراء الإحيائيون بين ذواتهم وموضوعاتهم،
وذلك التجاهل المبين لعصرهم المعيش الذي أبعدهم «عن الرؤية الشاملة والإحساس بالنسق
الكامل إلى التأمل الجزئي والحرص على التفصيلات المنطقية الدقيقة داخل سلاسل التوليد من القديم»[13]،
فذاكرة الشاعر الإحيائي - و لاسيما في المرحلة المتقدمة – كانت أشبه بالمستودع
الذي يخزن فيه كل ما قرأ من التراث بالحفظ فحسب دون أن يتدخل تدخلا كبيرا في
العلاقات التي تميز بين المعطيات المحفوظة ، فتظل – هـذه الذاكرة – سلبية. في
حفاظها على محتوياتها، و علاقة الشاعر بها أن لها الأولوية المهنية في نظمه من حيث
هي المبدأ الفاعل في هذا النظم، لذلك طغت سمات الموروث على قصائدهم واستولت على
تجربتهم في أغلب الأحيان فجاءت صورتهم باهتة لا نكاد نميزها.
يرى الدكتور شوقي ضيق أن المسألة «لا تنحصر في
استعارة البارودي لكلمة أو عبارة أو شطر أو معنى بكامله من الشعر القديم ، فإن ما
وقع فيه البارودي – و هو على رأس الإحيائيين – من هذا القبيل ليس بالكثير و هو ليس
أكثر من علاقة تدل على شدة التلاحم بين شعره و أشعار القدماء من حيث المعاني
والصور والصياغة حتى يخيَّل إلينا أنه لا يضع القصيدة إلا في أعقاب قراءته لقصائد
الفحول في المعنى أو في الغرض الذي ينظم فيه، وآية ذلك أنك لا تقرأ قصيدة من
قصائده في غرض من الأغراض الشعرية إلا ورأيت معاني القدماء من فحول العصر العباسي
تبعث من جديد، و هو بعث كان يقصده قصدا»[14].
وقد لا يكون هذا الوصف لعملية الإبداع مطابقا لما قام به البارودي و غيره مطابقة
تامة ، إلا أنه لا يبتعد عنه كثيرا و يوحي في الوقت نفسه بتأكيد العمل الآلي
لذاكرة الشاعر الإحيائي.
و خلاصة القول في موقف الشاعر الإحيائي أنه كان
مضطربا و كان يعيش اغترابا في عصره بانزياحه عنه إلى العصر العباسي، و لقد ظهر ذلك
بأجـلى صوره في بداية عصر الحركة الإحيائية، حتى فرض على نفسه تبعية ذاب فيها وتلاشت معالم
شخصيته، وأحدث قطيعة بينه وبين العصر الذي يعيش فيه، مما أوجد في نفسه تناقضا ظهر
جليا بين أجزاء قصائده، لأن «الشاعر الإحيائي لم يكن يفكر في قصيدته تفكيرا كليا يقوم بصهر
عناصرها المختلفة وربطها معا في وحدة عضوية وثيقة تنتج تأثيرا نفسيا موحدا في نفس
القارئ لحظة تلقيه لها، بل كان يفكر في قصيدته باعتبارها مجموعة من المقاطع مستقلة
الأغراض، يقوم كل مقطع منها بفكرة خاصة يتم الانتقال منها إلى غيرها عن طريق ما
يسميه القدماء بحسن الانتقال أو التخلص، ولا جناح على الشاعر –والأمر كذلك- لو حمل
كل جزء من أجزاء قصيدته تأثيرا نفسيا
يتناقض والتأثير الذي حمله الجزء السابق أو الذي سيحمله الجزء اللاحق»[15].
وإذن فالقصيدة الإحيائية تفتقر إلى
الجامع النفسي الذي يحدث أثرا نفسيا موحدا لدى القارئ، وتقوم على التفكك لا يجمع
بين أجزائها إلا الترتيب المنطقي في الانتقال من غرض إلى غرض، ذلك الانتقال الذي
يحرص على إيجاد المشابهة الخارجية بين أجزاء القصيدة.
ثانيا- التشكيل: إن معرفتنا بالكيفية
التي تعامل بها الشاعر الإحيائي مع أدوات التشكيل لإنشاء شعره في إطار سياقه
التاريخي والاجتماعي تضع أيدينا على بنية موقفه الجمالي، ومن ثم على الأبنية
التشكيلية التقليدية وكيفية تعامله معها، ولا شك في أن «مشكل الشاعر ليس مشكل
"توصيل" وإنما هو مشكل "تشكيل"، إنه لا يتوجه بمعنى مسبقٍ
يسعى إلى توصيله ، كما أنه لا يتوجه إلى غرض يسعى إلى التعبير عنه، وإنما إلى أن يثير في اللغة
نشاطها الخالق حتى يكمل له التشكيل الجمالي الذي يوازي به رمزيا واقعه النفسي
والفكري والروحي والاجتماعي»[16].
ولكن بنية التشكيل عند الشاعر الإحيائي مستعارة من الموروث لأنه لا يملك الأداة التي تفجر
الطاقة الشعرية الكامنة داخله، والتي أراد لها أن تظل محتبسة وألا تظهر إلا في
إطار قديم يقوم على جزالة اللفظ، ونقاء العبارة، وقوة الاستعارة،
ومتانة السبك. وللاقتراب أكثر من حيثيات التشكيل عند الشاعر الإحيائي نعرج على
أدواته الفنية:اللغة، والصورة، والإيقاع.
اللغة: اللغة في الشعر ليست
ألفاظا معجمية ذات دلالات حيادية ثابتة، ولكنها لغة انفعال مرنة، وهذا معناه أن
اللفظ ذو خصوصية في الانتقال باللغة من المعنى المعجمي إلى المعنى الشعري، مستحدثا
لغة ثانية إلى جانب اللغة العادية؛ إذ تتسع دلالته وتضيق تبعا لما يبث الشاعر فيه
من طاقات، وما يشحنه به من ذات نفسه، و«القصيدة كتشكيل جمالي لموقف ما لا تعدو
كونها بنية لغوية مركبة من عناصر شتى تتفاعل وتتآزر لتنجز هذا التشكيل ذلك أن
مكونات النشاط اللغوي في القصيدة تتفاعل متجهة إلى إنجاز التشكيل الجمالي»[17]،
لكن الأمر عند الشاعر الإحيائي مختلف تمام
الاختلاف لأن اللغة الشعرية لديه ليست احتفاء بالاستعمال الخاص للألفاظ بهدف تفجير
طاقتها بقدر ما هي حرصٌ على استدعاء القوالب الجاهزة والأطر اللغوية المحفوظة في
الذاكرة والمستدعاة من التراث، وذلك لأن ذاكرة الشاعر الإحيائي –كما سلف- مستودع
يحترق فيه كلُّ ما قرأ من الشعر القديم، ويقتصر دوره على ما «تقوم به ذاكرة
المستودع في عملية النظم التي تتحول إلى عملية استعادة بمعنى أو بآخر»[18].
إذن فالشاعر الإحيائي تعامل مع لغة مشكَّلة –غالبا- سعى جهده إلى إعادة بعثها بكل خصائصها
التي كانت عليها والتي وصفت في "عمود الشعر" بالجزالة والاستقامة،
وتَضْرِب –هذه اللغة-أحيانا في البداوة حتى تًخال أنها لشاعر بدوي قديم ، كما في
قول شكيب أرسلان وهو من الإحيائيين الأوائل :
هُوَ الْحَدُّ حَتَّى الْبُعْدُ لِلْقُرْبِ
سَابِقٌ تَمُوتُ
الْخَوَافِي تَحْتَهَا وَالْقَوَادِمُ[19]
فالشاعر يحكي في هذا البيت ألفاظ المتنبي
الجزلة، ومبالغته الدلالية الغائرة في قصيدته التي يمدح فيها سيف الدولة الحمداني:
ضَمَمْتَ جَنَاحَيْهِمْ عَلَى الْقَلْبِ
ضَمَّةً تَمُوتُ
الْخَوَافِي تَحْتَهَا وَالْقَوَادِمُ[20]
أما إذا تمدح الشاعر الإحيائي فإنه سيميل إلى
الألفاظ الفخمة الجزلة سيرا على شاكلة شعراء المدح العباسيين، من ذلك قول ناصيف
اليازجي:
بِنَاءُ الْعُلاَ بَيْنَ الْقَنَا وَالْبَوَارِقِ عَلَى صَهَوَاتِ الْخَيْلِ تَحْتَ الْبَيَارِقِ[21]
وعلى العموم فإن الشعراء الإحيائيين لم يجددوا
في اللغة ولم يلتفتوا إلى الحملة الشعواء التي شنها ضدهم معاصروهم من النقاد كطه
حسين والعقاد في شأن اللغة، وإنما راحوا يستحضرون الموروث بلغته القديمة التي
استعملها المتنبي وأبو تمام والبحتري وغيرهم وذلك لأسباب عدة أولها؛ الثقافة
العربية الخالصة لهؤلاء الشعراء الذين عادوا إلى الماضي متخطين الهوة السحيقة التي
وقع فيها الأدب العربي في عصر الانحطاط، وحاولوا بعث اللغة العربية من الجمود الذي
آلت إليه. وثانيها الإقبال على اللغة العربية بوصفها لغة الدين؛ إذ الوعي الديني الذي
شمل الحياة العربية في ذلك الوقت لم يكن يفرق بين الإسلام وتاريخه، وبين اللغة
العربية التي ارتبط بها هذا التاريخ والثقافة التي احتوتها هذه اللغة «وازداد هذا
الترابط بين التاريخ واللغة والثقافة بفضل النشاط الذي كان يقوم به المثقفون العرب
في إطار حركة إحياء القديم، وهي أكبر مظاهر الوعي الديني والقومي في المجال الأدبي»[22].
الصورة: إن أول عنصر من
عناصر تشكيل الصورة الشعرية الخيال الذي ينهض بالدور الأساسي في تشكيلها عن طريق
الجمع بين عناصرها المختلفة من مصادرها وإعادة التأليف بينها لتصبح صورة للعالم
الشعري الخاص بشاعر ما، معبرة عن موقفه، ومنذ البداية يمكن التأكيد على أن الشاعر
الإحيائي لم يتمكن من «إيجاد الجامع النفسي الذي يضم عناصر الصورة ويصهرها فتبدو
متجانسة، بل حرص على إيجاد المشابهة الخارجية بين طرفي الصورة»[23] ، وقد تغدو هذه المشابهة الخارجية تناقضا صارخا
يظهر في نفس المتلقي المتأمل مثلما يتجلى في هذا البيت للبارودي:
فَانْهَضْ إِلَى شُرْبِ الصَّبُوحِ فَقَدْ بَدَا شَيْبُ الصَّبَاحِ بِلِمَّةِ الظَّلْمَاءِ[24]
فبواكير الصباح التي يتحدث عنها البارودي قد
تتلاقى مع الشيب في مجرد اللون لكنها تناقضه من حيث الإيحاءات النفسية لكل منهما؛
فبينما يوحي الشيب بالشيخوخة والذبول والفناء، توحي بواكير الصباح بالبهجة
والنضارة والشباب، فأين الجامع النفسي بين طرفي هذه الاستعارة؟
وإلى جانب ما يبدو من التناقض النفسي في الصور
الشعرية لبعض الشعراء الإحيائيين هنالك المبالغات الشعرية التي جنت على الصورة
القديمة حينما استعادتها من التراث المخزون بالذاكرة، من ذلك قول البارودي أيضا:
وَمَا زَادَ مَاءُ النِّيلِ إِلاَّ لِأَنَّنِي وَقَفْتُ بِهِ أَبْكِي فِرَاقَ الْحَبَائِبِ[25]
فهو مسخ لقول البحتري:
وَسَأَسْتَقِلُّ لَكَ الدُّمُوعَ صَبَابَةً وَلَوَ انَّ دِجْلَةَ لِي عَلَيْكَ دُمُوعُ[26]
وقد بنيت الصورة الإحيائية عند الشعراء
الإحيائيين بناء تقليديا، وكان العصر الذي يستوحون منه صورهم أكثر العصور اهتماما
بفكرة المشابهة التي تقوم بوجه خاص على التشبيه، ومهما كان خيال الشاعر واسعا
وإيجابيا فإنه تحت وطأة هذا التصور القائم على المشابهة فحسب – لا يعدو أن يكون
خيالا جزئيا قاصرا لا يطمح إلى الجمع بين طرفين متشابهين وكأنما هو مقصود لذاته لا
ليعبر عن شعور أو يبين حقيقة نفسية أو ذهنية، يقول شوقي في البائية التي أنشدها في
الأتراك معارضا أبا تمام:
قَدْ فُقْتَهُمْ بِالرِّيَاحِ الْهُوجِ
مُسْرَجَةً يَحْمِلْنَ أُسْدَ الشَّرَى فِي الْبِيضِ
كَالْعِنَبِ[27]
وتشبيه الجنود بـأسد الشرى يعد من قبيل المشابهة المستهلكة،
والتصوير المعهود بين الشعراء القدامى يرددها أبو تمام في البائية الشهيرة:
تِسْعُونَ أَلْفًا كَآَسَادِ الشَّرَى نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ قَبْلَ نُضْجِ التِّينِ وَالْعِنَبِ[28]
ولا تكاد الصورة الموروثة عن الشعراء العباسيين تفارق شعر
الإحيائيين، فهم إذا شبهوا ؛ فالشجاع ليث، والحبيب بدر، والنساء ظباء، والشعور
ليالٍ...
الإيقاع: لا يكتمل الحديث عن
تشكيل الشعراء الإحيائيين لصورهم تشكيلا جماليا إلا بالحديث عن جانب من أهم جوانب
هذا التشكيل وهو الإيقاع. والإيقاع حركة داخلية تلتئم من خلالها أجزاء النص فتتشكل
قوة شعرية وجمالية غلابة وعصية على القبض ، إنها تشكل«خطا عموديا يبدأ من مطلع القصيدة
حتى نهايتها ، وبذلك فهو يخترق كل خطوطها الأفقية بما فيها خط الوزن ، ليتقاطع
معها جميعا في نقطة مركزية واحدة هي جذر الفاعلية الإيقاعية »[29].
ولقد نهضت موسيقى الشعر العربي منذ أقدم عصورها
على ازدواجية بنائية تتمثل فيما يعرف بالموسيقى الخارجية التي يحكمها العروض وزنا
وقافية، والموسيقى الداخلية التي تحكمها مجموعة من القيم الصوتية والدلالية
والبلاغية . وقد نهج الشاعر الإحيائي في إيقاعه نهج سالفيه المقلَّدين من الشعراء
العباسيين وغيرهم، ونظم شعره على أغلب بحور الخليل في سائر فنون القول الشعري،
وإذا تعلق الأمر بالمعارضات الشعرية فإن الشاعر لا يغير في شكل القصيدة شيئا، فقد
نظم البحتري سينيته الشهيرة في وصف إيوان كسرى واستهلها بقوله:
صُنْتُ نَفْسِي عَمَّا يُدَنِّسُ
نَفْسِي وَتَرَفَّعْتُ عَنْ جَدَا كُلِّ جِبْسِ[30]
فعارضها شوقي بسينية مماثلة:
اِخْتِلاَفُ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ
يُنْسِي اُذْكُرَا
لِي الصِّبَا وَأَيَّامَ أُنْسِي[31]
ملتزما بحر الخفيف الذي وردت عليه القصيدة
الأولى، وحرف السين رويا للقصيدة، وقافية تتشكل من سببين، مع فارق طفيف هو اعتماد
مطلع قصيدة البحتري على أحرف الصفير السين والصاد؛ لأنه يترجم تجربة شعورية شديدة
الأسى.
وقد اعتمد الشعراء الإحيائيون أشهر البحور
الخليلية التي اعتمدها أسلافهم؛ الطويل، والبسيط، والكامل، والوافر، والمتقارب،
والرمل، والخفيف، والمتدارك، وكانوا يميلون –كما هو شأن القدماء- إلى الاهتمام
بالقافية لأنها الركن الأساسي في تشكيل الصورة الإيقاعية الخارجية والداخلية،
وسعوا إلى انتقاء المطلق منها دون المقيد سيرا وراء مسلك الشعراء العرب وتقاليدهم
الفنية وسننهم المتبعة.
ولتجلية حيثيات الموقف والتشكيل ستورد
هذه الدراسة قصيدتين إحداهما للشاعر أبي العلاء المعري وأخرى لحافظ إبراهيم بينهما
من الداخل والتواشج الشيء الكثير؛ إذ القارئ لقصيدة حافظ إبراهيم التي قالها في
رثاء سليمان أباظة باشا التي مطلعها :
أَيُّهَذَا الثَّرَى إِلاَمَ التَّمَـادِي ؟ بَعْدَ هَذَا أَأَنْتَ غَرْثَانُ صَادِي؟[32]
وبعد ظهور على محاورها الأساسية يشعر بأن هنالك
شيئا يشده إلى الوراء، و يجد قناعة في نفوسه أنه قد وقف يوما ما على نموذج لها في
التراث القديم، رغم أن الشاعر لم يكشف له أنه عارض شاعرا في التراث، أو اقتبس شيئا
من شعره، لكن ذاكرتنا لا تبذل جهدا كبيرا في التعرف على النموذج المماثل لأننا
سرعان ما نسمع صوت أبي العلاء ماخرا عباب الزمن الطويل ليرسو في أذهاننا بمرثيته
"غير مجد في ملتي و اعتقادي "، التي قالها في رثاء أبي حمزة الإمام
الفقيه الحنفي و التي مطلعها :
غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي نَوْحُ بَاكٍ وَلاَ تَرَنُّمُ شَادِي[33]
و الموقف في القصيدتين كليهما واحد هو رثاء رجل
ذي مكانة اجتماعية مرموقة ، فشاعرنا الإحيائي وضع أمام تجربة شعورية قوية، فالموت
مرتبط ارتبطا مباشرا بالحزن و البكاء و هذان أقرب إلى دفع الشاعر نحو الإبداع، لكن
هذه التجربة الشعورية أو المعاناة لا تُنتج تجربة فنية أصيلة تصطبغ برؤى خاضعة
لموقف الشاعر الفني، بقدر ما ترتد بالشاعر إلى ما هو مخزون في الذاكرة فتستدعي تجربة
مماثلة فيستقر على تجربة أبي العلاء في الرثاء، وعلى الرغم من المبالغة التي تقوم
حول ما قدمه أحمد أمين من الآراء في عملية الإبداع لدى الشاعر الإحيائي، حين رأى
أنه لا يضع القصيدة إلا في أعقاب قراءته لقصيدة من قصائد الفحول من الشعراء في
المعنى أو في الغرض الذي ينظم فيه إلا أنها-هذه الآراء – تبدو منطقية؛ إذ ليس من
باب الصدفة أن توافق هذه القصيدة التي بين أيدينا قصيدة أبي العلاء في الموضوع و
المناسبة و الشكل . كما أنه ليس من باب الصدفة-أيضا-أن يمتزج لدى الشاعر الرثاء
بما هو فلسفي وحكمي، ونجد مثل ذلك لدى الشاعر القديم، فحافظ ينطلق من مساءلة الثرى
عن الأجساد التي يتغذى منها و الدموع التي يشربها، ألم يشبعْ؟ ألم يروَ؟ ويعاقبه
على فعله ذاك ثم ينصحه بأن يبحث له عن عالم آخر غير عالمنا يعيش بين ساكنيه، ثم
يترجاه بخدود الملاح أن يكف، ولا يخوض الشاعر في موضوعه الأصلي إلا انطلاقا من
البيت الحادي عشر معددا مناقب مرثيه في حياته، من كرم وفصاحة وشهامة ، وحين ننتقل
إلى النص الثاني (المحكي) نجده يحمل الخطة نفسها؛ حيث لم يستهلَّ أبو العلاء –هو
الآخر- قصيدته برثاء أبي حمزة، وإنما استهلها بعرض معتقده في الحياة والموت؛ فهما
سيان لا فرق بين من تغنَّى ومن ناح، وبين النعِيِّ والبشير، ولا بين بكاء الحمامة
ونوحها ما دامت هذه الصفات عارضة وليست ثابتة، ثم يطلب من صاحبه أن يتوقف في سيره
لأن التراب الذي يسير عليه من أجساد الآباء و الأجداد ، ويدعوه إلى الزهد في هذه
الدنيا و عدم الاغترار بها، و الإعراض عن (عقيدة الدهريين)، و يطلب بعد ذلك من الحمائم أن تسعده
، و أخيرا يختم القصيدة بالرثاء.
إذن فبين القصيدتين تقليد فاضح مكشوف؛
يمهِّد الشاعر القديم لغرض القصيدة بآرائه الفلسفية في الحياة و الموت ، معاتبا
(الثرى) المتعطش للموت، و المتغذي بالأجساد حتى كاد الأنام ينفدون، لكن شتان بين
فلسفة الشاعر القديم و فلسفة الشاعر الإحيائي؛ فبينما ينطلق الأول من آراء متجذرة
تعبر عن عقيدة اعتقدها وظل يدافع عنها ، ينطلق الثاني من خاطر عابر عرض له إثر
التجربة الشعورية التي وضع أمامها، فينسى موضوعه، إذ كيف يتحدث عن الثرى الجائع و
فجأة يدعوه بقدود الملاح لا بالتراب ؟ و أكبر الظن أن الشاعر تكلم عن الثرى ثم
بتأثير التجربة الشعورية المتضخمة توهم أنه يتكلم عن الموت فقال له :
لَسْتُ أَدْعُوكُمُ بِالتُّرَابِ وَلَكِنْ بِقُدُودِ الْمِلاَحِ وَالْأَجْيَادِ[34]
و يقد المعري فلسفته للحياة انطلاقا من أعماق
مداهمته سورتها الظروف القاسية التي عصفت بنفسه منذ الصغر ،فهي فلسفة صادقة مطابقة
لواقعه النفسي، فعندما يرى الحياة تعبا كلها ويعجب ممن يرغب في الاستزادة منها فهو
صادق لان هنالك معادلا نفسيا وواقعيا لهذه الفلسفة لديه :
تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْـ ــجَبُ إِلاَّ مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ[35]
ينسخ حافظ هذا المعني لا ليعبر عن فلسفته
الخاصة في الحياة ولكن ليقلد أبا العلاء ، وكل ما فعله هو العودة إلى ما هو مخزون
في الذاكرة و استدعاء معنى البيت السابق ومزجه بقول أبي العلاء في موضوع آخر :
هَذَا جَنَاهُ أَبِي
عَلَيْـ ـيَ وَمَا جَنَيْتُ عَلَى أَحَدْ [36]
ليصل إلى هذا المعنى :
لَمْ تَلِدْنَا حَوَّاءُ إِلاَّ لِنَشْقَى لَيْتَهَا عَاطِلٌ مِنَ الْأَوْلاَدِ[37]
فمعنى البيت الأول لأبي العلاء مخبوء في صدر
هذا البيت ، ومعنى البيت الثاني مخبوء في العجز، وبذلك فحافظ لا يعبر عن موقف شخصي
أو رؤية ذاتية متميزة تقوم على فلسفة آمن بها بقدر ما يستحضر فلسفة غيره ويعبر من
خلالها عن تجربته الشعورية .
هذا عن موقف الشاعر وهو – كما يبدو – مستعار من
الشاعر القديم أبي العلا المعري، فماذا عن التشكيل؟ وكيف تعامل الشاعر في هذه
القصيدة مع أدواته ؟ اللغة ، و الصورة ، و الإيقاع ؟
1 - اللغة : إن الشاعر على العموم يواجه تحديا كبيرا حين
يقرر الكتابة، لأنه محكوم بعاملين متأرجح بينها؛ نشاط التشكل في القصيدة من ناحية،
وتقاليد الفن المورثة من ناحية ثانية ، لأن « القصيدة تسعى إلى الوجود (الشكل الجمالي)من
خلال الموجود (الواقع اللغوي)،وتفرّدها مرهون بزلزلة منطق التوصيل و تراث التشكيل
في آن»[38]،
هذه الزلزلة التي ينبغي أن تضيف إلى مخزون الأمة شيئا جديدا ، لا أن يتكرر الشاعر
في شاعر آخر، و الحقيقة أن الشاعر الإحيائي فشل- إلى حد كبير – في الإفلات من قبضة
الذاكرة و سلطتها عليه سواء في لغته أو أسلوبه ، لأنه تخطى واقعه اللغوي ليحاكي
واقعا لغويا سابقا بكل معطياته، وهذه القصيدة التي بين أيدينا تجسد هذه المحاكاة
–نسبيا-فحافظ لا يحاول أن يساير واقعه اللغوي بقدر ما ينهل من البيئة العربية
الخالصة التي نهل منها أبو العلاء المعري، أليس الشاعر بدويا إلى أقصى حدود
البداوة و هو يترنح بالثرى، و الغرثان ، الصادي؟ أليست ألفاظا مستمدة من البيئة
القديمة ؟ ولما لجأ الشاعر العباسي إلى الاستعانة على حزنه و بكائه (ببنات الهديل)
كان لزاما على الشاعر الإحيائي أن يوجد معينا له على (همه ) تجسد في قبيلة (جهينة)، ولا مناص له من أن يفعل
ذلك استجابة لناقوس الذاكرة لأن حضور قصيدة أبي العلاء كان قويا ليس لحافظ أن يأخذ
إلا بعناصر البيئة اللغوية الواردة عند المحكي كاملة، كما أن الثقافة العربية
الإسلامية الخالصة لحافظ، التي تلقاها و استوعبتها ذاكرته تمام الاستيعاب قد دفعت
به إلى الارتماء بين أحضان أبي العلاء، و منه بين أحضان قصيدته الزاخرة بالمعاني الإسلامية ، وقد وشى
بذلك جملة من الألفاظ و العبارات ذات المدلولات الدينية كالترحم على المرثي و
التسليم بقضاء الله و قدره و امتداح الخصال الإسلامية في المرثي .
ولكي يكتمل الحديث عن لغة حافظ لا بد من النظر
في قاموسه اللغوي و محاولة فهم طبيعة التقليد فيه، فما من عصر أو حقبة أدبية إلا و
لها مميزاتها الأسلوبية الشائعة و المتداولة بين الشعراء ،وهذه التعابير والمميزات
الأسلوبية تختفي بمجرد حلول عصر جديد لتقوم تعابير جديدة مقامها، والمقصود بهذه
التعابير «الصيغ الجاهزة التي ألفتها الأذن في عصر من العصور أو عند شاعر من
الشعراء حتى أصبحت أقرب إلى (القالب الجاهز) مثل صبا نجد، كاسيات الطلا، عيون
الظباء والمها، نؤوم الضحى، معتقة من عهد نوح، هضيمة الحشا»[39] وهذه "القوالب الجاهزة " في التعبير
تساعد كثيرا في كشف الحضور القوي للصوت القديم والعباسي على وجه الخصوص، لأن
اللفظة منفردة لا تستطيع أن تشكل دلالة متميزة إلا ضمن سياق معين، وإذا ما تردد
هذا السياق فإنه سيشكل صيغة جاهزة تندرج ضمن المميزات الخاصة بعصر ما، وشعر
الإحيائيين -و لاسيما "الأعمدة" منهم- مليء بتلك التعابير التي كان
يتداولها الشعراء العباسيون و القدماء بصفة عامة، ولعل أكثرهم توظيفا لهذه
التعابير البارودي ، ففي قصيدته التي مطلعا :
أَلاَ حَيِّ مِنْ أَسْمَاءَ رَسْمَ الْمَنَازِلِ وَإِنْ هِيَ لَمْ تُرْجِعْ جَوَابًا لِسَائِلِ[40]
نجده يستحضر جملة من التعابير التي انفرد بها
العصر الجاهلي أو الإسلامي مثل : أسماء ، رسم المنازل ، خلاء تعفتها الروامس ،
أهاضيب الغيوم الحوافل ، ريا الخلاخل...[41] ولا تخلو هذه المرثية لحافظ إبراهيم من الصيغ و
التعابير التي وظفت من قبل الشعراء القدامى مثل ، قدود الملاح ، خدود الحسان ،
صروف الزمان عهد ذي الأوتاد ، الكثير الرماد، ثياب من الأسى، بيت الحداد...
2- الصورة : يلخص الأستاذ جابر عصفور طبيعة الصورة عند الشعراء الإحيائيين في أربعة
أمور هي[42] : التفكك و التناقض – غياب الجامع النفسي لطرفي
الصورة – الجمود و التداعي الآتي – النمطية والتعميم ، وفهم الشعراء الإحيائيين
للصورة وتعاملهم معها بهذا
الشكل دفع بهم – حسب رأي الأستاذ-إلى « البدء بتقرير الفكرة نثرا ثم إلحاقها بعد
ذلك بالصورة المزخرفة أو الشارحة أو المقنعة »[43] و الاعتماد على ما اختزنه الذاكرة في توليد
الصورة، و الاهتمام بالجامع الظاهري المنطقي الذي يربط الصور مع إهمال الجامع
الباطني، و الحرص على المطابقة بين الصورة و أصلها الفيزيقي المحكي، والجنوح
بالشعر نحو نبرة منطقية خطابية قوامها إثارة عواطف السامع أو القارئ، ومهما يكن من
قيام هذه النتائج التي توصل إليها الأستاذ على التعميم و المبالغة أحيانا إذ يصعب
على المرء أن يتخيل أن الشاعر التقليدي – في عملية إبداعه للقصيدة- يورد الفكرة
نثرا أولا ثم يصوغ التشبيه أو الكناية المناسبة لها، لأن مهمة الشاعر ليست كمهنة
النجار لتكون بهذه الكيفية –مهما تكن نسبة التعميم والمبالغة في ذلك إلا أننا نخلص
إلى شيء من ذلك ولو جزئيا ما دامت عملية الإبداع عند هذا الشاعر- في أحيان كثيرة-
شبيهة بمحاكاة لعملية سابقة من جهة وهي من جهة أخرى محاكاة لصورة « حسية حرفية
شكلية جميلة جامدة» [44]، و
إن كانت حسية الصورة في الشعر العربي ليس معيبا عنها الشاعر الإحيائي وحده بقدر ما
هي مثلب يُرمى به كل الشعراء، وبنظرة عجلى نلقيها على القصيدة التي بين أيدينا
يتضح لنا ذلك، فحافظ منكر لفعل الموت في الأرض و تماديه في أخْذ مَنْ عليها
وللتعبير عن ذلك جسّد موقفه في (الثرى) وراح يستنطقه و يعاتبه عن فعله، وهي حسية
مأخوذة من قصيدة أبي العلاء؛ فهو الآخر جسّد موقفه من الحياة و الموت ببعض الصور
الحسية المستمدة من واقع الحياة كالتسوية بين صوت النعي و صوت البشير ، أو بكاء
الحمامة و غنائها، ولا يحضر المعري وحده قي هذه القصيدة، و إنما الدعوة وجهت أيضا
إلى الخنساء فحضرت ببيتين في رثاء صخر أخيها اختبآ في قول الشاعر :
كَيْفَ أَمْسَى وَكَيْفَ أَصْبَحَ فِيهِ ذَلِكَ الْمُنْعِمُ الْكَثِيرُ الرَّمَادِ ؟[45]
فالشطر الأول وارد في قول الخنساء :
فَيَا لَهْفِي عَلَيْهِ وَلَهْفَ أُمِّي! أَيُصْبِحُ فِي التُّرَابِ وَفِيهِ يُمْسِي؟[46]
والشطر الثاني مخبوء في قولها:
طَوِيلُ النِّجَادِ رَفِيعُ
الْعِمَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ إِذَا مَا شَتَا[47]
و يعود الشاعر مرة أخرى إلى أبي العلاء
ليستدعيه في البيتين الخامس و السادس في قوله :
لَسْتُ أَدْعُوكُمُ بِالتُّرَابِ وَلَكِنْ بِقُدُودِ الْمِلاَحِ وَالْأَجْيَـاِد[48]
بِخُدُودِ الْحِسَانِ بِالْأَعْيُنِ النُّجْـ ـلِ
بِتِلْكَ الْقُلُوبِ وَالْأَكْبَادِ
و هما ينطلقان من قول المعري :
خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ أَرْضِ إِلاَّ مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ[49]
و خلاصة القول فـي الصورة عند الشاعر الإحيائي
أنها متأثرة تأثرا واضحا بالشعر القديم بمختلف أطواره، ولولا استعداده الفطري
وفهمه للشعر لما كان للشاعر الإحيائي ذكر، ويمكن تلخيص طبيعة الصـورة عند الشعراء
الإحيائيين بما يلي[50]:
- التقليد الفج للقدماء بسبب ضعف المستوى الفني
للشاعر الإحيائي.
- غياب الدلالة الجمالية و النفسية للصورة جراء
الاعتماد على مستودع الذاكرة.
- تكلف جمع الصور من لدن شعراء مختلفين قصد
تمويه القارئ فجاءت الصور ملفقة .
- ضعف التوليد و الابتكار و الاستسلام لسلطة
الذاكرة.
3 - الإيقاع : يعد الإيقاع من أهم الخصائص التي ترتبط بالشعر،
سواء كان خارجيا أو داخليا، و ما تحديد القدماء لمفهوم الشعر بالكلام الموزون
المقفى إلا دليل على أهمية الوزن في الشعر ، و بعملية استقراء سريعة للبحور
الخليلية نخلص إلى أنها تنقسم قسمين: بسيطة و مركبة ، و المقصود بالبسيطة ما جاء
منها على تفعيلة واحدة كالرمل
والرجز والمتقارب وميزتها أن ذبذباتها الزمانية تتحقق « على شكل متعاقب سريع يضمن
استجابة الإنسان مهما كان بدائيا لها ، فيتذوقها و ينفعل لها بسهولة وهذا هو السبب
الذي من أجله كانت أوليات الشعر الإنساني مصبوبة في قالب إيقاعات بسيطة »[51] أما المقصود بالمركّبة فهي البحور التي تقوم
على التفعيلات المتنوعة كالطويل و البسيط و الوافر... ومن خصائصها أن الذبذبات
الزمانية فيها « تتم بشكل لا يتذوقه إلا الإنسان الذي ألفها بحيث اعتادتها حاسته
السمعية ، إن الإيقاع المركب عبارة عن خطوات تالية للخطوات التي قطعها الإنسان و
هو يكتسب الخبرة به»[52] لذلك يفترض أن الإيقاع البسيط حالة بدائية أما
المركب فهو حالة حضارية ، لأن استيعاب الأول يستدعي التلقائية أما استيعاب الثاني
فإنه يستدعي المعرفة، و كون الإيقاع بهذا الطرح يفضي بنا إلى حقيقة مفادها أن النص
يقوم على الثنائيات الضدية و يجسد ما في نفسه صاحبه من التناقض والتعقيد، لذلك جاء
على تفعيلات الخفيف الذي تنتظمه تفعيلتان هما: "فاعلاتن"
و"مستفعلن"، والبحر بهذه البنية المركبة موظف توظيفا مناسبا لأنه ترجم
حالة التناقص التي يشي بها النص والثنائيات الضدية التي وردت بالشكل التالي :
- نوح باكٍ ≠ ترنم شادٍ
- صوت النعيّ ≠ صوت البشير
- بكت الحمامة ≠ غنّت
- الناس للبقاء ≠ أمة للنفاد
- هجد ≠ الساهرون
وهذا التعقيد يمس النص الأول على مستويين ،
الشكل والمضمون؛ يمسه من حيث الشكل بما يبدو عليه من طابع فلسفي منطقي بالغ
التعقيد ، ويمسه من حيث المضمون بالمعاني المتضادة و يحسب للشاعر القديم هذا
التوفيق في التعبير عن حالة متناقضة بهذا البحر المركب، و بالانتقال إلى القصيدة
الثانية لحافظ نجد أنها تقوم على بحر مركب هو الخفيف، وهو البحر نفسه الذي وظفه
المعري، فهل وفّق الشاعر الإحيائي في الأخذ به؟ النص لا يعبر عما هو فلسفي متجذر
في نفس صاحبه، ولا تشكل الثنائيات المتضادة فيه مسرحا لها يستوقف القارئ ويشده
إليه، لأنه – ببساطة- محاكاة للنص القديم و نسخ مشوه له على الرغم من توفر الدافع
القوي للنظم عند صاحبه، و لم يستطيع الشاعر الإحيائي أن يفلت من قبضة الشاعر
القديم في شكل القصيدة ولا في مضمونها، فالقصيدتان من بحر واحد – كما سبق – و على قافية واحدة
وروي واحدة ، كما تلتقي القصيدتان في أكثر الكلمات التي تضم القافية ، فالأجساد،
والنفاد ، وزاد ، والوداد، والعباد، ونادي، والسهاد والحداد كلها وراء النص
الأصلي.
وخلاصة القول أن التشكيل الفني لدى الشاعر
الإحيائي سواء في صورته أو لغته أو إيقاعه لم يتعدّ الترسيمة القديمة التي وضعها
الشاعر القديم، ولاسيما عند البارودي واليازجي وشكيب أرسلان الذين يمثلون
الإحيائية في أوجها، أما عند شوقي وحافظ وغيرهم فيما بعد فإن الأمر اختلف مع تبلور
الكلاسيكية الجديدة، وكانت صورة التشكيل الفني باهتة جدّا لدى الشاعر الإحيائي
الأول لأن التقليد ضيّع تجربته الفنية الخاصة وبددها، وجعله يفر من ذاته إلى تأمل
الموروث الذي استغرقه وصرفه عن الرؤية الشاملة والإحساس بالنسق الكامل إلى التأمل
الجزئي .
الحواشي:
* ) – المقال منشور بمجلة الأثر العدد
09 سنة 2010 – جامعة
قاصدي مرباح – ورقلة –الجزائر.
1) قصتي مع الشعر : نزار
قباني ، منشورات نزار قباني ، لبنان ( د ت ) ص 83 .
2) حنا الفاخوري:
منتخبات الأدب العربي، منشورات المدرسة البولسية، بيروت،ط5،1970، ص 505
3) محمد الكتاني: الصراع بين القديم و الجديد في الأدب العربي
الحديث،ج1،دار الثقافة،المغرب،1982 ، ص 226 .
6) محمد عبد
الله الغذامي: الخطيئة و التكفير – من البنيوية إلى التفكيكية ، الهيئة المصرية
العامة للكتاب ، مصر ، ط4 ، 1998 ،ص 332 .
7) جابر عصفور :
ذاكرة الشاعر التقليدي ، مقال بمجلة العربي ، ع : 458 يناير،الكويت، 1994 ، ص 80 .
8) محمود سامي
البارودي: الديوان، ج1، دار العودة، بيروت، 1998 ، ص 462 .
9) محمد
الكتاني: الصراع بين
القديم و الجديد في الأدب العبي الحديث ، ص 249 .
10)عبد الله
التطاوي : المعارضة الشعرية بين
التقليد و الإبداع، دار الثقافة للنشر و التوزيع ، القاهرة ، ( د . ت ) ص193 .
11) أبو فراس
الحمداني: ديوان، دار صادر ، بيروت، 1990 ، ص 102 .
12) محمود سامي
البارودي: الديوان، ص 236 .
[13] ) جابر عصفور: قصيدة الشعر، مقال بمجلة العربي، العدد:510،الكويت، ماي
2001،ص85.
14) محمد الكتاني:
الصراع بين القديم و الجديد في الأدب العبي الحديث ، ص 254 .
[15] ) جابر عصفور: قصيدة
الشعر، ص82.
[16] ) عبد المنعم تليمة:
مداخل إلى علم الجمال الأدبي،دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1978،ص99.
[18] ) جابر عصفور: ذاكرة
الشاعر التقليدي ، ص83.
[19] ) محمد الكتاني:
الصراع بين القديم والجديد،ص243.
[20] ) المتنبي: الديوان،
دار بيروت للطباعة والنشر،بيروت،1980،ص388.
[21] ) محمد الكتاني:
الصراع بين القديم والجديد في الأدب العبي الحديث، ص263.
[23] ) جابر عصفور: قصيدة الشعر، ص83.
[24] ) محمود سامي البارودي:
الديوان، ص43.
[26] ) البحتري:
الديوان،ج2، مطبعة هندية بالموسكي، مصر، ط1، 1921 ص86. ( متاح على الإنترنت ).
[27] ) أحمد شوقي: الشوقيات، ج1، دار المعارف، القاهرة، (د.ت) ، ص171.
[28] ) أبة تمام : الديوان، المجلد1، دار المعارف، القاهرة، ط4، 1983،ص154.
[29] ) علوي الهاشمي : فلسفة الإيقاع في الشعر العربي ، المؤسسة العربية للدراسات
والنشر ، بيروت ، ط1 ، 2006. ص24 .
[30] ) البحتري: الديوان، ج2، ص56.
[31] ) أحمد شوقي: الشوقيات،
ج1، ص301.
[32] ) حافظ إبراهيم : الديوان ، ج1، ص 62.
[33] ) أبو العلاء
المعري: سقط الزند، ص 08.
[34] ) حافظ إبراهيم : الديوان ، ج1، ص63.
[35] ) أبو العلاء المعري: سقط الزند، ص08.
[37] ) حافظ إبراهيم : الديوان ، ج1، ص63.
[38] ) عبد المنعم تليمة :
مداخل إلى علم الجمال الأدبي، ص 103.
[39] ) إبراهيم السعافين
:مدرسة الإحياء و التراث، درا الأندلس ، بيروت (د.ت)ص 321.
39 ) محمود سامي البارودي: الديوان، ص462
[41] ) ينظر: إبراهيم السعافين:
مدرسة الإحياء و التراث، ص 331.
[42] ) ينظر: جابر عصفور : قصيدة الشعر، ص 18 و ما بعدها.
[43] ) إبراهيم السعافين: مدرسة الإحياء و التراث ،
ص 356
[45] ) حافظ إبراهيم :
الديوان ، ج2، ص133.الخنساء : الديوان ، دار صادر ، بيروت ، 1996 ،ص 31 .
[46] ) الخنساء : الديوان ، دار صادر ، بيروت ، 1996 ،ص 31 .نفسه، ص17.
[48] ) حافظ إبراهيم :
الديوان ، ج1، ص63.
[49] ) أبو العلاء المعري:
سقط الزند، ص 08.
[50] ) إبراهيم السعافين:
مدرسة الإحياء و التراث ، ص 397.
[51] ) محمد السرغيني:
محاضرات في السيمولوجيا ، دار الثقافة للنشر و التوزيع ، دار البيضاء ، ط1، 1987،
ص151 .