البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

الأربعاء، 5 سبتمبر 2012

فصول في نقد الحداثة والشعرية ( الباحث سعد الدين كليب)


                                
-





الفصل الأول


الحداثة الشعرية

في النقد الأدبي المعاصر


* تمهيد:

على الرغم من أن الموضوع في الرواية العربية قد احتل مكانة خاصة، في النقد الأدبي العربي المعاصر ؛ غير أنه يمكن التوكيد أن موضوع الحداثة الشعرية هو الموضوع الأكثر إشكالية وحرارة ، في ذلك النقد. ولعل هذا ينهض من أهمية الشعر التاريخية ، في الذوق الجمالي العربي ، كما ينهض من أن الحداثة نفسها ، قد طرحت عدة إشكاليات فنية وجمالية ، بالنسبة إلى الذوق السائد ، من جهة ، وبالنسبة إلى مفهوم الشعرية  POETICS  من جهة أخرى . وقد لانبالغ إذا ماذهبنا إلى أن ما صاحب هذه الحداثة من مقاربات نقدية ، ومن خلاف بين مؤيد ومعارض ، كان له الأثر الكبير، في تطور النقد المعاصر ، وبلورة الكثير من مفاهيمه النقدية . ولكن ، في المقابل، لم يكن لهذه الحداثة أن تتعمق وتتبلور ، لولا ذلك النقد الذي كانت قضية التحديث الشعري إحدى قضاياه الأساسية . ونودُّ أن نسجل في هذا المجال، أن قضية التحديث الشعري قد شغلت النقد الأدبي الحديث ، منذ أوائل هذا القرن . أي منذ أن ظهرت مدرسة الديوان التي كانت لها المبادرة الأولى ، في الهجوم على كل ما هو تقليدي، في الشعر العربي . وإذا ماوضعنا في الاعتبار أن الأطروحات النقدية، لهذه المدرسة، أكثر أهمية من نتاجها الشعري ، ولاسيما في بداياتها الأولى ؛ فإن ذلك يعني أن قضية التحديث الشعري قد ظهرت بوصفها قضية نقدية ، أولاً . وقد يبدو من الطريف أن نشير إلى أن النقد الحديث  ـ والمعاصر طبعاًـ بعكس النقد العربي القديم ، على هذا المستوى . فبينما كان هذا النقد مدافعاً عن عمود الشعر ، والأصول الجمالية المتوارثة ، وحذراً من أي تجديد ، يمكن أن يأتي به شاعر ، حتى فيما يخص الصورة الفنية والمعاني الشعرية ؛ فإن النقد العربي الحديث راح يضيق ذرعاً بما هو تقليدي ونمطي، في الشعر، مثلما راح يدعو إلى ضرورة التفرد والتميز، لاعلى صعيد موقع التحديث من التراث الشعري فحسب. بل على صعيد الشعراء المعاصرين فيما بينهم أيضاً. ولعل تقويم هذا النص أو ذاك بالتقليدية والنمطية يكون من أكثر التقويمات التي يستخدمها النقد الحديث والمعاصر سلبية.
إن قضية التحديث، إذاً، هي قضية النقد، بقدر ماهي قضية الشعر الحداثي. ولهذا لاغرابة في أن يتأثر كل منهما بالآخر، من حيث التعمق والبلورة؛ ولاغرابة أيضاً في أن تتعدد المقاربات النقدية حول الحداثة ومسوغاتها وأسباب نشوئها ومستوياتها وتياراتها. بحيث إن التعرض لكل ذلك يقتضي بحثاً مطولاً قائماً بذاته. وهو مالايستطيع هذا المبحث أن يقوم به، بشكل مسهب. ولهذا، لم يكن بدُّ من الإيجاز الذي لايخلّ بموضوعه.

* النقد ونشأة الحداثة:

لقد ذهب النقد المعاصر، في تفسيره لنشأة الحداثة الشعرية، عدة مذاهب مختلفة فيما بينها. وهي التفسير التأثري التثاقفي، والتفسير الاجتماعي، والتفسير النفسي ـ الذوقي. وإن يكن التفسيران الأولان هما الأكثر شيوعاً، في هذا النقد.
أما من حيث التفسير التأثري التثاقفي. فقد تم النظر إلى المثاقفةacculturation  مع الغرب الأوربي هي الأساس في نشأة الحداثة. وهي مثاقفة من طرف واحد. ولهذا فإن مستوى التأثر أوضح من مستوى التفاعل أو التبادل الثقافي، في هذه المثاقفة. وغالباً مايكون إليوت هو محور هذا  التفسير. بمعنى أن لإليوت من التأثير في نشأة الحداثة، ما يمكن أن يصل إلى درجة الدافع الجوهري. يقول أسعد رزوق في ذلك" إن المثال الإليوتي كان منهجاً احتذى حذوه الكثيرون من شعرائنا وتأثروا به وساروا في خطواته"(1). وثمة من يذهب إلى " ان كل مذهب سياسي وفلسفي وأدبي يظهر في أوربا ينعكس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على الواقع (المقصود: الواقع العربي المعاصر). حتى نرى تأثيره في الكتابة شعراً ونثراً، وفي طرق التفكير والسلوك”" (2). ومن ذلك فقد نشطت الدراسات النقدية التي تربط بين الحداثة العربية وأسسها الأدبية الغربية. وتستجلي مظاهر التأثر، ونقاط الاتفاق والاختلاف، وما إلى ذلك. مما يتعلق بمقولة المثاقفة بوصفها أساس الحداثة.
والحقيقة أن الناظر، في مثل هذه الدراسات، يكاد يخرج بأن مشروعية الحداثة لاتتأتى من بنية المجتمع العربي المعاصر، بقدر ماتتأتى من التأثر الثقافي النخبوي بالغرب الأوربي. سواء أكان ذلك، على صعيد التجديد الإيقاعي، أم التصوير الفني، أم التعامل الأسطوري، أم الموضوعات الشعرية. وقد يبدو من المفيد أن نشير إلى أن الدكتور عز الدين إسماعيل الذي يحترز من الأخذ بهذا التفسير، يجد نفسه مدفوعاً إلى ربط ظاهرة المدينة ، وظاهرة الحزن، في الشعر العربي المعاصر، بإليوت وقصيدته " الأرض اليباب". وذلك على الرغم من توكيده أن الواقع العربي هو الذي أفرز هاتين الظاهرتين(3).
ويذهب التفسير الاجتماعي إلى ربط ظاهرة الحداثة الشعرية بالأطروحات الإيديولوجية لطبقة البرجوازية العربية الصغيرة. بحيث تبدو الحداثة انعكاساًreflection لمجمل التغيرات الاقتصادية التي أصابت بنية المجتمع العربي المعاصر، مع بروز تلك الطبقة. فلا يمكن فهم الحداثة بحسب ذلك ، من دون فهم تلك التغيرات، ومن دون فهم الطبيعة الطبقية أيديولوجياً ونفسياً، للبرجوازية الصغيرة عامة، والعربية منها خاصة. وعلى الرغم من أن هذا التفسير يؤكد أن الصراع الاجتماعي" في التحليل الأخير لايكفي وحده لتفسير الفن، إلا أن هذا الصراع لايمكن إلا أن يتجلى في الفن، وبواسطته . بل إنه في بعض المراحل يغدو جوهرياً وحاسماً"(4).
نقول: على الرغم من ذلك، فإن هذا التفسير قد تعامل مع الحداثة على أنها إحدى الأطروحات الأيديولوجية للبرجوازية العربية الصغيرة. وبما أنها كذلك ، فإنها تتصف بما تتصف به هذه البرجوازية من ترجّح أيديولوجي ونفسي، ومن ثورية أو عدمية، وذلك بحسب موقعها من المشهد الاجتماعي. أي بما أن هذه البرجوازية ليست متبلورة أيديولوجياً، بشكل نهائي أو شبه نهائي، فإن اشتمال الحداثة على ماهو ثوري وعدمي، يغدو أمراً بديهياً. وبذلك فقد أعيدت مظاهر الحزن والقلق والضياع والعدمية والاغتراب والثورية والتوتر الانفعالي التي نواجهها في شعر الحداثة، إلى طبيعة الشاعر الحداثي، من حيث هو برجوازي صغير. يقول وفيق خنسة في شعراء الحداثة " إنهم يتمحورون حول مشجب البرجوازية الصغيرة، ثم يتوزعون على درجاتها ومستوياتها وألوانها، كما توزعوا عملياً على أحزابها وفئاتها وتنظيماتها" (5). ويقول، خنسة في محمد الماغوط، بعد أن تناول شعره بالنقد"هذا هو كشاعر، فمع من نصنفه؟ بمعنى هل ندرسه كشاعر؟ أعتقد أن ذلك ليس مهماً تماماً، ولكن الأكيد أنه ليس واقعياً اشتراكياً، ولارمانتيكياولابوهيمياً، ولارجعياً. إنه حصيلة هذه كلها. إنه نموذج صادق وصريح لمثقفي الريف الفقراء الذين هبطوا إلى المدينة، ولم يثروا، كما أنهم لم ينضموا إلى صف الثورة التي تمثلهم"(6). أي أن الماغوط برجوازي صغير، بكل مايعنيه المصطلح.
وعلى الرغم من أن جمال باروت يحترز من الربط الميكانيكي بين الشعر وأيديولوجية البرجوازية الصغيرة، إلا أنه يذهب، في حديثه عن شخصية الملعون، في شعر أنسي الحاج، إلا أنه "المثال الجمالي النموذجي للبرجوازي الصغير، الآبق، المارق، الذي لايحسّ المجتمع إلاخنقاً لفرديته، ومحقاً ولعناًله، في حين يرى مروقه ثورته الوحيدة"(7).
ولكن ماتجب الإشارة إليه. في هذا المجال، هو أن ثمة عدة مستويات من التفسير الاجتماعي، لنشأة الحداثة الشعرية. وتترجّح هذه المستويات بين جعل الحداثة انعكاساً مباشراً لأديولوجية البرجوازية الصغيرة، وبين النظر إلى الحداثة على أنها نتاج اجتماعي ـ أيديولوجي، من دون اعتبارها انعكاساً سلبياً لتلك البرجوازية. أي من دون ربطها المباشر بما هو اقتصادي، في الواقع العربي. وقد يبدو أن هذا التفسير، بتركيزه على ماهو اقتصادي وأيديولوجي، ينفي عملية المثاقفة مع الغرب الأوربي، غير أن الأمر ليس كذلك. إذ إنه يؤكد هذا المثاقفة، ولكن من خلال الضرورات الاجتماعية العربية. يقول الدكتور فؤاد المرعي في ذلك: إن "التأثر بالغرب لم يكن سبباً في التغيرات التي طرأت على أدبنا الحديث، بقدر ماكان نتيجة لتلك التطورات الاجتماعية"(8). فلا يمكن، وهذه الحال، أن تكون ثمة مثاقفة مع الخارج، من دون أن تكون مفروضة من الضرورات الاجتماعية الداخلية ذات الطبيعة الأيديولوجية(9).
أما بالنسبة للتفسير النفسي ـ الذوقي، فإنه يربط بين الحداثة الشعرية والتغيرات التي أصابت كلاً من الطبيعة النفسية والذوقية العربية، تحت تأثير المستجدات التي جاء بها القرن العشرون. ولعل الدكتور محمد النويهي من أهم القائلين بهذا التفسير. حيث يرى أن التناظر أو السيمتريةSYMMETRY التي يتصف بها الشعر العربي التقليدي، لم تعد تتلائم والطبيعة النفسية والذوقية المعاصرة. إن "نوع الإيقاع الذي تعرفه القصيدة العربية التقليدية لم يعد صالحاً لحاجاتنا الفنية والنفسية والذوقية... وإن درجة الانتظام التي يتطلبها شكل القصيدة التقليدية زائدة الإسراف في السيمترية والرتوب"(10). ومن ذلك، فإن النويهي يذهب إلى أن " البحر العربي المأثور ذو موسيقى حادة بارزة، شديدةالجهر، عنيفة الوقع على طبلة الأذن، عظيمة الدرجة من التكرار والرتوب. وهذه طبيعة ينفر منها ذوقنا الحديث ولم تعد آذاننا تحتملها، وأصبحنا نراها شيئاً بدائياً لايعجب به إلا ذوو الأذواق الفجة التي لم تنضج"(11). ولكي يؤكد مايذهب إليه، فإنه يقارن بين الإنسان البدائي والطفل ،  من جهة، وبين الإنسان المتحضر و الناضج، من جهة أخرى ،فيرى أن الإنسان البدائي والطفل لايعجبهما سوى الحاد والفاقع والعنيف من الروائح والألوان والأنغام ؛ على حين أنه كلما " نضج الإنسان وارتقت ثقافته ونما ذوقه وتهذّب حسه، صار أميل إلى الألوان الخافتة والروائح الخفيفة التي لاتشمّ إلاهوناً، والأنغام الدقيقة المختفية التي تحتاج إلى ذكاء وإرهاف سمع حتى تُلتقط وتتابع"(11)
وبشكل عام، فإن ثمة تغيراً ماقد طرأ على الطبيعة النفسية والذوقية العربية. وهو ماجعلها تنفر من كل مايتنافى معها، على صعيد الشكل الشعري الموروث، وعلى أصعدة أخرى مختلفة أيضاً. ومن ذلك، فإن الميل إلى انجاز التحديث الشعري هو، في أساسه، تعبير عن الاختلاف في تلك الطبيعة . أي أن شعر الحداثة هو الشعر الأوحد الذي يمثل النفسية والذوق المعاصرين، في حين أن الشكل القديم لم يعد" يصلح للنهوض بحاجاتنا الشعرية المعاصرة"(12).
تلك هي أهم التفسيرات التي اقترحها النقد الأدبي المعاصر، لنشأة الحداثة الشعرية. ولكن ماينبغي قوله ، هنا، هو أن ذلك الاختلاف في التفسيرات لايؤدي إلى نوع من القطيعة فيما  بينها. إذ إن النقد المعاصر عامة يرى أن ثمة ضرورة حقيقية لوجود الحداثة الشعرية ، في المجتمع العربي. فسواء كانت المثاقفة هي الأساس أم كانت البنية الاجتماعية الاقتصادية، أم الطبيعة النفسية والذوقية؛ فإن ضرورة الحداثة تبقى هي المنطلق ، لتلك التفسيرات . وعلى الرغم من أن القول بالمثاقفة يربط الحداثة بماهو خارجي، فإنه يرى المثاقفة مع الغرب الأوربي هي ضرورة ثقافية وحضارية، للخروج من شرنقة الركود والجمود التي انحصرت فيها الثقافة العربية طويلاً. بمعنى أن ثمة حاجة في الثقافة العربية إلى الدخول في مثاقفة مع الغرب الأوربي.

* الأنساق النقدية:

وإذا كان النقد المعاصر قد اشتمل على عدة تفسيرات مختلفة، لنشأة الحداثة؛ فإنه قد اشتمل أيضاً على عدة مقاربات نقدية، لما هو جوهري فيها . أي أن نقاد الحداثة يختلفون فيما بينهم حول المستوى الجوهري أو الأكثر أهمية ، في الحداثة الشعرية، والذي جعل منها نمطاً من الإبداع الشعري، مختلفاً عن الشعر الكلاسيكي. ويمكن أن نحصر هذه المقاربات بعدة أنساق. وهي: النسق الموسيقي، والنسق الأسطوري، والنسق الصوري، والنسق الرؤيوي . وهي، كما نلحظ، تكاد تشمل معظم الجوانب، في الحداثة الشعرية . وإذا كانت هذه المقاربة النقدية أو تلك ترى أن الجوهري أو الأهم في الحداثة ، يكمن في أحد هذه الأنساق، فإن ذلك لايعني عدم الأخذ بغيره. بل يعني أن غيره أقل أهمية منه في تحديد ماهو جوهري في الحداثة، مع الإشارة إلى أن بعض النقاد يميلون إلى الأخذ بعدة أنساق معاً، معتبرين إياها محددات أساسية للحداثة. وسوف نتوقف، بشكل موجز ، عند كل واحد من تلك الأنساق.
أما النسق الموسيقي، فيؤكد القائلون بجوهريته أن أهمية الحداثة الشعرية تكمن في خروجها على نظام البيت الشعري الكلاسيكي القائم على تفعيلات محددة سلفاً. هذا البيت الذي يشكل أساس القصيدة العربية موسيقياً، والذي يحيل على نمطية عروضية، لم تعد تتلاءم والذوق المعاصر من جهة، ولم تعد تتلاءم وطبيعة الانفعال الشعري من جهة ثانية. بحيث يصح التوكيد، بحسب هذا النسق، أن الخروج على ذلك النظام هو في ذاته دخول في الحرية التي تميز التجربة الشعرية، ومن دونه لن يتمكن الشاعر العربي من التعبير عن تجربته بالشكل الأمثل. ومن ذلك، فقد تمّ النظر إلى محاولات الرمانتيكية العربية، في تجاوز النمطية، من خلال بعض التنويعات والتلوينات الموسيقية، على أنها نوع من تجميل القيد. يقول النويهي في ذلك:"ومن العبث أن نظن أن إلغاء القافية والروي أو تنويعهما في القصيدة الواحدة مع الاحتفاظ بهذا الشكل الهندسي السيمتري الشديد الانتظام والرتوب يكفي لتخفيف حدة الجرس أو ضيق القيود الشكلية. وهذا شبيه بمايفعله المحكوم عليه بالإعدام شنقاً حين يطلب إلى "عشماوي" أن يوسع حول عنقه قليلاً حتى لايؤلمه"(13).وبهذا المعنى، فإن بقاء نظام البيت هو السائد لايؤدي إلا إلى بقاء القيد على رقاب الشعراء، ولن تنفع كل المحاولات الموسيقية الجزئية، لتجاوز النمطية، في وصول الشاعر إلى التعبير عن تجربته، بشكل حر وأصيل. إذ إن المشكلة الجوهرية تكمن أولاً في سميترية ذلك النظام. هذه السيمترية التي لم تعد تتلاءم، كما لاحظنا سابقاً، والطبيعة النفسية والذوقية المعاصرة.
إن مايذهب إليه النويهي، كانت نازك الملائكة قد ذهبت إليه من قبل، حين رأت أن ثمة أسباباً خمسة أوجبت وجود الشعر الحر، بحسب مصطلحها. وهي النزوع إلى الواقع، والحنين إلى الاستقلال، والنفور من النموذج، والهرب من التناظر، وإيثار المضمون(14). وقد يبدو أن بعض هذه الأسباب لاعلاقة له بالنسق الموسيقي، من مثل السببين الأول والأخير. غير أن كل هذه الأسباب تحيل، في نهاية المطاف، إلى ذلك النسق. إذ إن لها جميعاً منطلقاً واحداً وهو الإحساس بضيق نظام البيت الشعري. فالنزوع إلى الواقع لن يتيسر للشاعر، في إطار هذا النظام. تقول، تحت هذا السبب "أما القيود التي تضيّق آفاق الأوزان القديمة، فهي تلوح للفرد المعاصر ترفاً وتبديداً للطاقة الفكرية في شكليات لانفع لها، في وقت ينزع فيه هذا الفرد إلى البناء والإنشاء وإلى إعمال الذهن في موضوعات العصر"(15). وترى نازك الملائكة، تحت السبب نفسه، أن الشعر الحر يصلح للتعبير عن الحياة الواقعية، لأنه "يخلو من رصانة الأوزان القديمة"(16). وترى، تحت السبب الأخير"إيثار المضمون"، أن الشكل التقليدي يتحكم بالمضمون الشعري، لما فيه من دقة وتنظيم وتناظر، وهو مايجعل الشاعر يضحي بمعانيه من أجل الحفاظ على ذلك الشكل. أما الشعر الحر، فهو "في جوهره، ثورة على تحكيم الشكل في الشعر"(17)، في محاولة لجعل المضمون، لاالشكل، هو الأساس.
وبشكل عام ، فإن الميزة الجوهرية لشعر الحداثة تكمن، بحسب هذا النسق، في المستوى الموسيقي من النص الشعري. فالتحديث الموسيقي قد أتاح للشاعر أن يتخلّص من القيود التي تمنعه من التعبير عن تجربته الشعرية، وعن واقعه المعاصر تعبيراً حياً، ينبض بالحرية والجمال الفني.
وبما أن النسق الموسيقي هوالجوهري، في الحداثة، فلاغرابة في أن تتوالى الدراسات التي تتناول هذا النسق بالبحث والمعالجة، وأن تختلف فيما بينها حول الشكل النهائي الذي يمكن أن يأخذه شعر الحداثة، على الصعيد الموسيقي، ولن نتعرض، هنا، إلى الحديث عن ذلك ، إلا أنه لابأس من الإشارة إلى أن نازك الملائكة كانت من أكثر المتحمسين إلى "قنونة" هذا الشكل. وهو مايتنافى أساساً والمنطق الذي انطلقت منه في اعتبار الحرية شرطاً من شروط الشعر الجديد؛ وهو الذي جعلها تستخدم مصطلح "الشعر الحر" في وصف هذا النمط الشعري الجديد.
وإذا كانت الملائكة قد رأت أن التفعيلة هي الأساس الموسيقي، في هذا الشعر، فإن النويهي يرى أن التفعيلة هي المرحلة الأولى، من مراحل التجديد الموسيقي. إذ ينبغي على هذا الشعر أن يستكمل تجديده بالخروج من النظام الكمي إلى النظام النبري. أي بالخروج من نظام التفعيلة إلى نظام النبر(18).  ولهذا لاينبغي أن نرى في " وحدة التفعيلة العروضية إلا كمرحلة انتقال ، كقنطرة يعبر عليها شعرنا إلى ميادين أعظم اتساعاً، وتطوير أبعد مدى وأعمق جذرية"(19). وعلى الرغم من إقرار النويهي بأن ثمة اختلافاً في القراءات على صعيد قواعد إيقاع النبر، وأن ثمة نوعاً من التطور فيها(20)، غير أنه لايرى حرجاً من توكيد الإمكانية في إنتاج الموسيقا الشعرية العربية، من خلال نظام النبر.
والحق أن ماافترضه النويهي قد وجد صدى كبيراً عند الكثير من النقاد، ممن يتبنون المنهج البنيوي، فراحوا ينظّرون لإمكانية إنشاء موسيقا شعرية خالية من التفعيلة، وقائمة على نظام النبر. وفاتهم في ذلك اختلاف مواقع النبر، بين اللهجات المحلية العربية(21). وغني عن البيان أن البنيويين العرب قد أعطوا النسق الموسيقي، من شعر الحداثة، أهمية خاصة تكاد تفوق أي نسق آخر. وذلك لطبيعة البنيوية التي تهتم بما هو لغوي وصوتي، في المقام الأول. ومن المعلوم أن البنيوية قد تابعت الشكلانيين الروس في معاملتهم للشعر "على أنه استخدام أدبي جوهري للغة: فهو كلام منظم في بنيته الصوتية الكلية. والإيقاعRHYTHM هو عامله الأساسي الأكثر أهمية"(22). أي أن البنيوية العربية قد تعاملت مع هذا النسق، بشكل نقدي ممنهج، يفترض أن الإيقاع أو الموسيقى مسألة جوهرية في الشعر. وبما أن معظم البنيويين العرب قد تحمسوا لنظام النبر، فلم يكن بدٌّ من أن يفترضوا أن الموسيقا الشعرية يمكن أن تكون داخلية لاخارجية، ومعنوية لاحسية. وهو ماجعل من مصطلح الموسيقا الداخلية يبدو وكأنه بدهي، في الدراسات النقدية المعاصرة.
ونرى أن هذا المصطلح من أشدّ المصطلحات التباساً وغموضاً في الوقت نفسه. إذ إن الموسيقا الشعرية لايمكنها إلا أن تكون حسية. ولأنها حسية، فهي خارجية بالضرورة. وذلك بصرف النظر عما إذا كانت حسية الموسيقا الشعرية سمعية أو بصرية أو كليهما معاً. أما السبب في هذا، فينهض من أن كل ما في الفن عامة، هو حسي بالضرورة. وحتى ماهو معنوي لايمكن إلا أن يتبدّى فنياً بشكل حسي. ولهذا فمن الطريف أن يذهب مروان فارس إلى أن "الإيقاع لايمكن أن يكون إلا داخلياً لأن علاقته بالصور والأفكار علاقة سببية لايمكن عزلها"(23). ولاندري ماالذي يجعل من الإيقاع داخلياً، إذا كانت له علاقة سببية بكل من الصور والأفكار؟. وهل الصور الفنية هي معنوية أو حسية، ثم هل تأتي الأفكار في شعر الحداثة إلا مصورة، بشكل حسي؟.
إن مالايمكن تظهيره حسياً، في الفن، لايمكن أن يكون مادة له. ولاغرابة في أن يضطر الشعر الصوفي، في تمثيله لما هو روحاني، إلى الإتكاء على الرموز ذات الطبيعة الحسية، من مثل المرأة والخمرة والكأس..إذ إن الشعر، والفن عامة. إما أن يكون حسياً، أو لايكون. ولاشك في أن ثمة فرقاً بين التمثيل الحسي، في الفن، وبين الوعي الحسي الذي هو مرحلة من مراحل الوعي البشري.
ويذهب النسق الأسطوري إلى " أن الشعر المعاصر قد تأسس منذ أن ولجت الأسطورة كبعد بنيوي شعوري إلى جسد  القصيدة، أي منذ ظهور"أنشودة المطر" للسياب ، في أوساط الخمسينات، وليس مع كسر العمود الشعري التقليدي، أو الخليلي، في أواخر الأربعينات، وإن كان هذا الكسر هو الشرط القبلي الضروري لاتخاذ الأسطورة نهجاً شبه صوفي للرؤيا الشعرية”(24). وبهذا المعنى، فإن النسق الموسيقي ليس له تلك الأهمية التي مرت بنا سابقاً. بل الأهمية الكبرى يتصف بها التعامل الشعري الحداثي مع الواقع ، من منظور الأسطورة.
ويرى يوسف اليوسف أن الأسطورة لم تدخل إلى الشعر، لكي تكون "بمثابة عتلة رافعة للقصيدة. وإنما جاءت بوصفها الرؤيا الشعرية نفسها، وبوصفها جوهر التركيب البنيوي للقصيدة عينها"(25). ولكي يؤكد ذلك ، فإنه يذهب إلى تعداد المنافع الفنية التي قدمتها الأسطورة إلى الشعر، فيرى أنها خمسة. وهي: تعميق الكيف الدرامي للقصيدة، وإعطاء المفاهيم والتصورات بعداً شخصياً، وإعطاء المضمون بعداً كونياً، والتخلص من الزمن أو تعطيله، والتعبير عن رغبة الشاعر في التطهر والتجدد.(26).
أي أن الأسطورة لم تدخل في بنية النص الحداثي فحسب. بل دخلت أيضاً في بنية الوعي الشعري الحداثي. وبهذا، لم يعد بالإمكان عزل النص عن الأسطورة، أو عزل ذلك الوعي عن الوعي الأسطوري. وهذا مايقول به الدكتور اسماعيل، حين يؤكد أن الطريقة الأسطورية، أو مانسميه المنهج الأسطوري، هي التي تجعل للشعر طابعاً مميزاً في باب المعارف الإنسانية، يميزه عن الفلسفة وعن العلوم التجريبية ، ويجعله شعراً"(27).ومن ذلك، فإن اتباع" هذا المنهج في العصر الحاضر ليس مجرد طريقة لحل موقف إنساني، وإنما هو كذلك أسلوب شعري وفني من الطراز الأول"(28). ولهذا لاغرابة في أن يتم النظر إلى الصورة الفنية، في الشعر، على أنها من آثار الوعي الأسطوري القديم أو بقاياه. وهذا، كما هو معلوم، من أطروحات النقد الأسطوري myth criticism الذي كان نورثروب فراي من أهم ممثليه.
وعلى الرغم من أن إسماعيل لايميل عادة إلى الأخذ بنسق واحد. بل يأخذ بعدة أنساق معاً. غير أنه في تناوله لهذا النسق أو ذاك، غالباً ماينساق وراء التعميم الذي يؤدي إلى إعطاء ماهو جزئي أو جانبي بعداً عاماً أو جوهرياً لايحتمله، بحيث يبدو أن إسماعيل لايقول إلا بهذا النسق. غير أن الأمر ليس على هذا النحو، وإنما هي الحماسة لما هو مدروس وحسب. وقد ظهر ذلك، في مجمل فصول كتابه"الشعر العربي المعاصر".
وعلى أية حال، فإن القول بجوهرية الأسطورة، في شعر الحداثة، غالباً ماينهض من اعتبارها شكلاً من أشكال الوعي، وشكلاً من أشكال التصوير الفني. وإذا ماوضعنا في الاعتبار أن ثمة نوعاً من التوحيد بين الوعي الشعري الحداثي والوعي الأسطوري، وبين الصورة الفنية والأسطورة ، فإن ذلك يعني أن شعر الحداثة لايمكن عزله عن الأسطورة، حتى في تناوله للواقع. إذ إن الواقع ينبغي، بحسب ذلك، أن يبدو مؤسطراً في الشعر. والحقيقة أن شعر الحداثة كثيراً مارأى في الأسطورة حاملاً موضوعياً لتجاربه وتصوراته الشعرية، غير أن القول بذلك شيء، والقول بجوهرية الأسطورة شيء آخر تماماً.
لقد شاع هذا النسق شيوعاً كبيراً، في النقد المعاصر، منذ أن أطلق جبرا إبراهيم جبرا مصطلح"الشعراء التموزيين" سنة1958.وكان يقصد به أدونيس والسياب والخال وحاوي، بالإضافة إليه(29). وقد تابعه أسعد رزوق. في دراسة هؤلاء الشعراء الخمسة، من منظور الأسطورة التموزية التي تقوم أساسا على الانبعاث من الموت والجدب واليباب(30). وواقع الحال أن مجمل المقاربات النقدية  لهذا النسق، تنهض أساساً من أسطورة الموت والإنبعاث التي بدت وكأنها المحور الذي يتمحور حوله شعر الحداثة، في علاقته بالواقع الاجتماعي والحضاري العربي المعاصر. بمعنى آخر: إن الحديث عن جوهرية الأسطورة ليس في حقيقته سوى حديث عن جوهرية أسطورة الموت والانبعاث أو الأسطورة التموزية حصراً. وهو ما خصصت له ريتا عوض كتاباً مستقلاً(31)، يدرس تجليات هذه الأسطورة، في شعر الحداثة.
وبشكل عام، يمكن التوكيد أن القائلين بهذا النسق، يذهبون إلى أن مأثرة الحداثة تكمن في تناولها الأسطوري للواقع، بحيث استطاعت أن ترتقي به إلى مستوى الأسطورة. وهي بذلك تكون قد تخلصت من النثرية والتقريرية اللتين تنشآن من التناول الواقعي المباشر. وتكون أيضاً قد ارتقت إلى الكلية من خلال الجزئية، أو كما يقول اليوسف" برهنت الأسطورة على أنها تشابك المتباينات واندماجها في وحدة عضوية.... وبذلك استطاع الشاعر المعاصر أن يعانق الكلية والجزئية، وأن ينجو من المباشرة في التعبير، أن ينجو من النثرية"(32).
أما النسق الصوري، فيرى أن دراسة الصورة الفنية، في شعر الحداثة، يمكنها أن تبين مدى الاختلاف بينه وبين الشعر العربي الكلاسيكي والتقليدي المعاصر. وذلك من منظور أن الصورة الفنية جوهرية في الشعر عامة. فيما أن الصورة، على هذا النحو من الأهمية، فإن تبيانها وتبيان علائقها، عبر المدارس الشعرية، يؤدي بالضرورة إلى تبيان الاختلاف الجوهري بين هذه المدارس ، مع الإشارة إلى أن الصورة لاتعني ماهو جزئي وحسب . بل تعني ماهو كلي أيضاً. بمعنى أن ثمة صوراً جزئية، كما أن ثمة صوراً كلية.
وبما أن الدكتور نعيم اليافي من أهم الدارسين لهذا النسق، فإن الوقوف عند أطروحاته أو بعضها، حول الصورة الحديثة، هو وقوف عند هذا النسق، بشكل أو بآخر.
ينطلق الدكتور اليافي من أن الأشكال البلاغية القديمة إنما هي "أبنية مهدمة استنفدت طاقاتها، وخلقت جدتها، وطال عليها الزمن"(33). وهي، لذلك، لم تعد ملائمة لهذا العصر بخلفيته الثقافية، مما يقتضي تعاملاً صورياً جديداً. وهو ماأنجزه الشعر الحديث.
أما الصفات التي تتصف بها الصورة الحداثية،أو المعاصرة، بحسب تعبير اليافي، فيمكن إجمالها بالأمور التالية:
آـ تعد الصورة الفنية أحد مكونين اثنين، في القصيدة المعاصرة، وقد عبرت عن تجارب الشعراء رؤية وبناء، أما المكون الثاني فهو الإيقاع.
ب ـ إن أساس الصورة الفنية يكمن في الخلق، لافي المحاكاة، كما كان سائداً في الشعر العربي، ومن ذلك ، فقد تخلت الصورة المعاصرة عن وظائف الصورة التقليدية في الشرح والتزيين.
ج ـ أضحت الصورة، في الشعر المعاصر، وسيلة الخلق والكشف والرؤيا وأداة التعبير الوحيدة عن العلاقة المتشابكة المعقدة مابين الأنا ـ الآخر، الداخل ـ الخارج.
د ـ تلاحمت الصورة بشكل أوضح وأقوى مع أنساقها الخارجية والداخلية.
هـ ـ من الصعوبة الحديث عن بنية عامة ثابتة للصورة، في القصيدة المعاصرة(34).
وذلك بالإضافة إلى أن هذه الصورة قد "ألغت ثنائية التعبير المعروفة فكرة+ صورة، وجعلت التعبير عن الفكرة يتم من خلال الصورة أو بالصورة"(35).
وإذا ماقابلنا هذه الصفات بصفات الصوررة التقليدية، فإن التطور في الصورة المعاصرة يغدو أكثر وضوحاً. أما هذه الصفات فهي : التعارض بين الفكرة والصورة، والتزينية، وطغيان الصور المفردةجاهزة ومكررة وثابتة، والتفكيك والتراكم والتناقض(36). وذلك علاوة على الثنائية التي تقوم عليها الصورة التقليدية التي هي محاكاة أولاً. وبهذا المعنى، فإن القفزة النوعية التي قام بها الشعر المعاصر، تجد صداها الأساسي، في الصورة الفنية، ولاغرابة في ذلك، إذ إن الصورة في الشعر هي "أداته الرئيسة في الخلق والتصوير"(37).
غير أن ماتنبغي الإشارة إليه، في هذا المجال، هو أن اليافي لايرى في الصورة وفي تطويرها مسألة فنية فحسب. بل إنه يرى فيهما أيضاً إحالة على الإطار المعرفي للعصر. أو كما يقول "يعد الإطار المعرفي الفلسفي والثقافي والاجتماعي والفني المهاد التي تأسست عليها تقنيات القصيدة عامة وتقنيات الصورة خاصة"(37). فتطور الصورة إذاً، لاينهض مما هو فني وحسب. بل ينهض أيضاً من كل ما ينطوي عليه العصر الحديث وبذلك، فإن الصورة الفنية تمثل المبدع ، بقدر ماتمثل عصره، على كل الأصعدة. ولاشك في أن هذه النظرة تتسم بالحيوية والجدلية. وذلك من خلال ربطها بالصورة الفنية بمجمل العلائق الداخلية والخارجية، وعدم النظر إلى الصورة على أنها ذات مستوى فني وحسب، ولكن اهتمامها الشديد بالصورة، يجعل منها ذات بعد جزئي، على الرغم من محاولة هذه النظرة توسيع مفهوم الصورة، ليشمل النص الشعري الحداثي عامة، في أحد مستوياته.
وهكذا نلحظ أن النسق الصوري يرى أن تطور القصيدة المعاصرة ينهض أساساً من تطور تقنيات الصورة الفنية. ولايمكن لأي تجديد، مهما يكن مستواه ، إلا أن ينعكس في الصورة، أو الأصح: لايمكن إلا أن يطال الصورة أولاً، وما ذلك إلا لأن الصورة هي الأداة الرئيسية أو الجوهرية في الشعر.
ويذهب النسق الرؤيوي أخيراً، إلى أن ماهو جوهري، في شعر الحداثة، يكمن أولاً في الرؤيا. فالرؤيا الحداثية هي التي تسوغ وجود الحداثة، وليس المستويات الفنية أو الشكلية. ويتم التوكيد في هذا النسق، أن الشعر العربي الكلاسيكي هو، في المقام الأول، شعر رؤية؛ على حين أن شعر الحداثة هو شعر رؤيا، ويؤكد الدكتور غالي شكري "أن كلمة الرؤيا ـ إذا شئنا الدقة في التعبير والتأريخ ـ لاتنطبق أبعادها إلا على هذا الشعر الحديث"(38). ويربط شكري بين الرؤيا المأساوية القاتمة وبين الغموض الذي يتسم به هذا الشعر، مؤكداً أن "ليس التلاعب بالأوزان أو اللغة أو الصور هو السر الكامن وراء هذا الغموض، وإنما هي الرؤيا المأساوية القاتمة في جوهرها العميق"(39). ومن ذلك فإن أهمية هذا الشعر وتميزه يقومان أولاً على تحوله من الرؤية إلى الرؤيا. ولعل هذا مادفع أدونيس إلى تعريف الشعر الحداثي بقوله:"إنه رؤيا. والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفهومات السائدة. هي، إذن، تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها"(40). وبما أن الأمر على هذا النحو، فلاينبغي "أن نبحث في القصيدة الجديدة عن الصورة أو الفكرة بحد ذاتها. بل عن الكون الشعري فيها وعن صلتها بالإنسان ووضعه"(41).
ويختلف القائلون بهذا النسق حول طبيعة الرؤيا، في الحداثة الشعرية، وهل هي رؤيا مأساوية، أو ثورية، أو ميتافيزيقية. ومن دون أن ندخل في تفصيلات هذه الرؤى، يمكن القول إن شعراء مجلة "شعر" ونقادها يميلون إلى اعتبار أن الميتافيزيقا هي الأساس الأول في كل شعر عظيم(42). وغالباً ماتتم المزاوجة بين الرؤيا الميتافيزيقية والرؤيا المأساوية؛ على حين أن نقاد الواقعية كانوا يميلون إلى الرؤيا الثورية. مع الإشارة إلى أن هؤلاء يفضلون استخدام مصطلح "المضمون" على استخدام مصطلح "الرؤيا". ويؤكدون، في الوقت نفسه، أن الفن العظيم لايمكن إلا أن يكون ذا مضمون عظيم. وفي كلتا الحالتين، فإن هذا النسق يبحث عن الجوهري في شعر الحداثة، خارج المستويات الفنية، وإن يكن هذا الجوهري لايمكن إلا أن يظهر من خلال هذه المستويات بمعنى أن الحداثة هي موقف رؤيوي أولاً. ومن دون هذا الموقف تغدو الحداثة مجرد نقلة شكلية لاطائل منها.
ونودّ أن نتوقف، في هذا المجال، عند تحديد أدونيس لشعر الحداثة. إذ إنه يمثل وجهة النظر الرؤيوية، بشكل عام.
 يرى أدونيس أن هذا الشعر يتخلى عن عدة أمور، تمنعه من أن يكون حداثياً. وهي:
آ ـ التخلي عن الحادثة، لأن ثمة تنافراً بين الحادثة والشعر.
ب ـ التخلي عن الواقعية التي تحيل على التعامل النثري العادي، واستخدام الكلمات وفقاً لدلالاتها المألوفة.
ج ـ التخلي عن الجزئية والميل إلى التعبير عن كلية التجربة الإنسانية.
د ـ التخلي عن الرؤية الأفقية، والميل إلى الغوص فيما وراء الظواهر والأشياء.
هـ ـ التخلي عن التفكك البنائي(43).
إن التخلي عن كل ذلك يعني الانطلاق من الرؤيا. مثلما يعني الدخول في عالم الشعر الحقيقي والخالد الذي هو كشف وارتياد للمجاهيل، أو كما يقول أدونيس " إن تحديد شعر جديد خاص بنا نحن، في هذا العصر، لايُبحث عنه، جوهرياً، في فوضى الشكل ولافي التخلي المتزايد عن شروط البيت، بل في وظيفة الممارسة الشعرية التي هي طاقة ارتياد وكشف"(44).
وقد يبدو أن تركيز أدونيس، ومن ورائه النسق الرؤيوي ، على الرؤيا بوصفها جوهرية، قد أدى إلى إهمال الشكل الفني لشعر الحداثة. غير أن واقع الحال عكس ذلك تماماً.
فقد تم إيلاء الشكل أهمية خاصة، في هذا النسق، أو الأصح أن نقول إنه قد تم النظر إلى الشكل والرؤيا بوصفها مضموناً على أنهما يشكلان وحدة لاانفصام فيها. يقول أدونيس، في ذلك "فالشكل والمضمون وحدة في كل أثر شعري حقيقي. وهي وحدة انصهار أصيل. ويأتي ضعف القصيدة من التفسخات والتشققات التي تُستَشف في هذه الوحدة"(45). فأهمية الرؤيا لاتلغي أهمية الشكل، وإنما تكمن المسألة في المنطلق الأول. أي هل الحداثة موقف أولاً، أو أنها شكل أولاً. ولقد أجاب هذا النسق عن ذلك، بأن الموقف أو الرؤيا هي الأساس الجوهري في الحداثة. وبما أنه كذلك، فلايمكن إلا أن يفرض شكله الخاص به. ومن المعلوم أن التجريبية الشكلانية هي أساس نتاج شعراء الرؤيا. وقد يبدو من الطريف، هنا، أن من يذهب إلى أن الرؤيا هي الجوهري في الحداثة، يقع في الاهتمام بما هو شكلاني؛ إلا أن الطرافة تتلاشى ، حين نؤكد أن قيام الرؤيا مما هو حدسي ميتافيزيقي غرائبي، بالنسبة إلى أولئك الشعراء، يتكامل والبحث عن أشكال غرائبية.
ونرى لزاماً علينا أن نشير إلى أنه إذا كان أدونيس ـ وشعراء الرؤيا أيضاً ـ قد ذهب إلى ضرورة أن تكون الرؤيا، بوصفها مضموناً، حدسية وميتافيزيقية، فإن الكثيرين من النقاد والشعراء ـ ولاسيما القائلين بالواقعية ـ قد رفضوا هذا الطرح لمفهوم الرؤيا، معتبرين أن الرؤيا الاجتماعية الثورية التي تتناغم وحركة الواقع هي الرؤيا الحقيقية التي على شعر الحداثة أن يصدر منها، وأن يعمقها في الواقع والنص معاً. يقول أحمد يوسف داود، في معرض رده على أدونيس "فالإبداع لايكون بالرؤيا/الإلهام/حسّ النبوّة وإنما بالرؤية/المعرفة. وهكذا لاتنفصل اللغة عن أصولها إلا بمقدار أنفصال الممكن عن الراهن"(46). أو بمعنى آخر: ليس ثمة رؤيا يمكن أن تنفصل عن الرؤية. ولهذا فدعوى التجاوز والتخطي التي يدعيها شعراء الرؤيا ليست في حقيقتها، سوى مقولة وهمية، لاأساس لها من الصحة.
تلك هي الأنساق التي سادت النقد المعاصر، في مقاربته لما هو جوهري في الحداثة الشعرية. حيث اهتم كل نسق بأحد جوانب الحداثة، وجعل منه جوهرياً، بالنسبة إلى الجوانب الأخرى.
وإذا ما كنا قد أوجزنا القول في هذه الأنساق، فإننا قد حاولنا أن نعطي، قدر الإمكان، صورة كلية عامة عنها. ونرجو أن نكون قد استطعنا ذلك. ويبقى السؤال ماالإشكالية التي تعانيها هذه الأنساق منفردة ومجتمعة؟.
إن أولى تبديات هذه الإشكالية تكمن في النظرة الجزئية إلى الحداثة، حيث يتم التركيز على جانب واحد، في أغلب الأحيان، ويتم النظر إليه على أنه الجوهري، وأن ماسواه ثانوي. وكأن الحداثة ليست كلاً موحداً، يصعب تجزيئه، أو توزيعه على وحدات مستقلة. ولاشك في أن ثمة جوهرياً وثانوياً في كل ظاهرة فنية أو ثقافية أو اجتماعية. ولكن أن نجعل من الجزئي كلياً، ومن الخاص عاماً، ومن الثانوي جوهرياً، فإن في ذلك مغالطة، لن تؤدي إلاَّ إلى التوهم. ولقد بدا ذلك واضحاً في النسق الموسيقي والنسق الأسطوري. حيث ذهب الأول إلى جعل الإيقاع الذي هو جزئي، في الصدارة من الكلية. وذهب الثاني إلى جعل الثانوي المرحلي جوهرياً استراتيجياً، من خلال النظر إلى الأسطورة على أنها أهم مكونات الحداثة. وقد أثبتت الحداثة، فيما بعد السبعينات من هذا القرن، عكس ذلك. حيث تخلت عن الأسطورة، وبقيت هي، من دون أن تتأثر بنيتها الجمالية.
وتتبدى تلك الإشكالية أيضاً في اضمحلال المعالجة الجمالية لظاهرة الحداثة. فعلى الرغم من توكيد تلك الأنساق أن الشعر شكل جمالي، إلا أن مجريات التناول النقدي تثبت أن ماهو جمالي أقل حضوراً مما هو فني أو رؤيوي. والحق أن النسق الصوري هو الأقرب إلى المعالجة الجمالية. وذلك من خلال ربطه تقنيات الصورة الفنية بالأطر النظرية والاجتماعية العامة؛ ومن خلال فهمه لتلك التقنيات على أنها أسلوب في وعي العالم. غير أن اهتمامه الأكبر بالصورة الفنية قد فوّت عليه فرصة النظر إلى ظاهرة الحداثة من عدة جوانب هامة أخرى. لعل أهمها جانب الوعي الجمالي الحداثي، وطبيعته المختلفة عن الوعي الجمالي التقليدي أو الكلاسيكي.
وعلى الرغم من أن المنطلق الذي انطلق منه النسق الرؤيوي كان بالإمكان أن يتعمق باتجاه المعالجة الجمالية، غير أن توهان هذا النسق فيما هو حدسي وغرائبي وميتافيزيقي، قد جعل منه قاصراً عن وعي الحداثة. نقول ذلك، ونحن نعي جيداً أن جملة "التخليات" التي اقتراحها أدونيس، لايمكن صرف النظرعنها، أو عن بعضها، في فهم الحداثة الشعرية.
وتظهر تلك الإشكالية، من جهة ثالثة، في أنها غالباً ماتقطع الصلة بين الحداثة وماسبقها من محاولات تجديدية، في الشعر العربي الرومانتيكي. بحيث تبدو الحداثة نقلة نوعية لاتراكم كمياً لها، في حين أن الشعر الرومانتيكي كان له الفضل الأول أو المبادرة الأولى، في تجديد الشعر العربي الحديث، منذ أوائل القرن العشرين. ولم يظهر ذلك، على مستوى الموسيقا الشعرية فحسب. بل ظهر أيضاً على مستويات عدة مختلفة. حتى إن التعامل مع الأسطورة يعود إلى هذا الشعر. وقد يكون من المشروع، في هذا المجال، أن نتساءل: لماذا يتم التوكيد دائماً أن الحداثة قد أفادت من إليوت، على صعيد التعامل الأسطوري، ولاتبدر حتى إشارة إلى الرومانتيكية العربية في ذلك، على الرغم من أن الحداثة قد خرجت جمالياً وتاريخياً من معطف الرومانتيكية العربية. لاشك في أن ثمة تجاوزاً كبيراً في الحداثة لأطروحات الرومانتيكية؛ غير أن ذلك لايلغي أهميتها في المبادرة إلى التحديث.
لقد أغفلت معظم تلك الأنساق، في محاولتها بلورة الحداثة، أن تشير إلى أهمية ماقامت به الرومانتيكية، وهو ماأوحى بأن ثمة قطيعة حقيقية وشاملة، قامت بها الحداثة مع كل ماهو ناجز شعرياً، على الصعيد العربي. وذلك في الوقت الذي لم تكن فيه الحداثة إلا نقلة نوعية لتراكم كمي، امتد إلى خمسين سنة من قبل، حين راحت الرومانتيكية تطرح وعياً جمالياً جديداً مختلفاً، بقدر ما، عن الوعي السائد.
ويبقى أن نؤكد أن النقد المعاصر بأنساقه المختلفة قد أنتج معرفة نقدية بالحداثة الشعرية، لايمكن التقليل من أهميتها بحال من الأحوال، كما لايمكن تجاوزها في أي مقاربة نقدية ممكنة. فعلى الرغم من أن ثمة إشكاليات في فهم هذا النقد للحداثة، إلا أن ذلك لايؤدي إلى القول إن هذا النقد قاصر عن وعي ظاهرة الحداثة الشعرية، أو أنه لم يستطع الكشف عما هو إيجابي أو سلبي فيها.



الــهوامـــش :

1ـ رزوق، أسعد: الأسطورة في الشعر المعاصر. منشورات مجلة الآفاق، بيروت، 1959.ص:107.
2ـ جيدة، د.عبد الحميد: الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر. مؤسسة نوفل، بيروت، 1980.ص: 112
3ـ إسماعيل، عز الدين: الشعر العربي المعاصر. دار العودة، بيروت، ط:1، 1981. راجع الفصلين الأول والثاني من الباب الثالث.
4ـ الشريف، جلال فاروق: الشعر العربي الحديث ـ الأصول الطبقية والتاريخية. اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1976. ص:5ـ6
5ـ خنسة، وفيق: دراسات في الشعر العربي السوري. ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1981.ص:15.
6ـ نفسه، ص:79.
7ـ باروت، محمد جمال: الحداثة الأولى. اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، الشارقة، ط:1، 1991.ص: 92.
8ـ المرعي، د.فؤاد: المؤثرات الأجنبية في حركة الحداثة الشعرية. مجلة الموقف الأدبي ـ عدد: 193/194. دمشق، 1987.ص:53.
9ـ لابأس من الإشارة إلى أننا كنا قد أخذنا بهذا التفسير، في أطروحتنا للدكتوراه "القيم الجمالية في الشعر العربي الحديث" عام1989.
10ـ النويهي، د. محمد: قضية الشعر الجديد. دار الفكر، ط:2، 1971.ص:98.
11ـ نفسه، ص:94.
12ـ نفسه، ص: 98.
13ـ نفسه، ص:95.
14ـ الملائكة، نازك: قضايا الشعر المعاصر. دار العلم للملايين، بيروت، ط:5، ص:56ـ65
15ـ نفسه، ص: 56.
16ـ نفسه،ص:57.
17ـ نفسه، ص:63.
18ـ النويهي، المرجع السابق، ص:231ـ248.
19ـ نفسه، ص: 231.
20ـ نفسه، ص:239
21ـ راجع: المعداوي، أحمد: البنية الإيقاعية الجديدة للشعر العربي. مجلة "الوحدة". العدد: 82/83. الرباط، 1991. حيث يعرض الدارس لتلك المحاولات مبيناً مافيها من قصور أو مغالطة.
22 -
SELDEN, RAMAN, AREADERS GUIDE TO CONTEMPORARY  LITERARY THEORY. LONDON: 1988.P.9.
23ـ المعداوي: المرجع السابق. ص:57.
24ـ اليوسف، يوسف سامي: الشعر العربي المعاصر. اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1980. ص:44.
25ـ نفسه، ص:42
26ـ نفسه ،ر1 :ص : 42ـ43.
27ـ إسماعيل: المرجع السابق، ص: 225.
28ـ نفسه، ص: 231.
29ـ جبرا، جبرا إبراهيم: المفازة والبئر والله. مجلة "شعر". العدد: 7/8. صيف1958. ص:57.
30ـ رزوق: المرجع السابق. حيث يدرس أولئك الشعراء من هذا المنظور.
31ـ وهو: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث. المؤسسة العربية، بيروت، 1978.
32ـ اليوسف: المرجع السابق، ص: 43ـ44.
33ـ اليافي، د.نعيم: مقدمة لدراسة الصورة الفنية. وزارة الثقافة، دمشق، 1982. ص: 8
34ـ اليافي، د.نعيم: الصورة في القصيدة العربية المعاصرة. مجلة "الموقف الأدبي"، العدد: 255/256. دمشق، 1992. ص:46.
35ـ نفسه، ص:26.
36ـ اليافي، د.نعيم: تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث. اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1983.ص: 364.
37ـ اليافي: الصورة في القصيدة العربية المعاصرة. ص:46.
38ـ شكري، د. غالي: شعرنا الحديث إلى أين؟. دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط:2، 1978. ص: 13.
39ـ نفسه، ص: 12.
40ـ أدونيس: زمن الشعر. دار العودة، بيروت ، ط:3، 1983. ص:9.
41ـ نفسه، ص:12.
42ـ باروت: المرجع السابق، ر1: ص:45ـ52.
43ـ أدونيس: المرجع السابق، ص:10ـ 13.
44ـ نفسه، ص:14.
45ـ نفسه، ص:15.
46ـ داود، أحمد يوسف : لغة الشعر. وزارة الثقافة، دمشق، 1980.ص: 254.
|qq

 

الفصل الثاني


الوعي الجمالي

في الحداثة الشعرية


* تمهيد:

على الرغم من أن الوعي الجمالي AESTHETIC CONSCIOUSNESS يشكّل الأساس الذي انطلقت منه الحداثة الشعرية العربية، إلا أنه بقي ثانوياً أو هامشياًبالنسبة إلى النقد الأدبي المعاصر، في إجابته عما هو أساسي في هذه الحداثة. وعلى الرغم من أن هذا النقد لم يكد يترك ظاهرة من ظواهر الحداثة الشعرية، من دون معالجة أو دراسة نقدية، فإن اهتمامه بما هو جمالي عامة بقي أقل قيمة من اهتماماته الأخرى.
ولعل السبب الأبرز في ذلك يكمن في قلة عناية هذا النقد بعلم الجمال AESTHETICS  تنظيراً وتطبيقاً. وهو ماانعكس سلباً على بعض أطروحات هذا النقد، من مثل عدم الربط، أو ضآلته، بين الظاهرة الشكلية وأساسها الجمالي، ومن مثل تحويل الجزئي إلى كلي، وتعميم الخاص بهذا الشاعر أو ذاك على الحداثة الشعرية عامة؛ ومن مثل التعامل مع هذا المستوى الفني أو ذاك بمعزل عن المستويات الأخرى من جهة، وعن المضمون الجمالي من جهة ثانية. ولاشك في أننا لانتهم النقد المعاصر بالقصور عن وعي ظاهرة الحداثة. إذ إن واقع الحال يؤكد أن هذا النقد، في معظمه، كان على درجة عالية من الفهم والتبصر بهذه الظاهرة، كما كان على درجة من المتابعة النقدية لها، بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ النقد العربي. بحيث يمكن القول إن حركة الحداثة الشعرية لم يكن لها أن تأخذ ماأخذته من أهمية كبرى في الثقافة العربية المعاصرة، بهذه السرعة القصوى؛ لو لم تصاحبها حركة نقدية نشطة، تتناولها بالدرس والبحث والعناية، وتتحمّس لما تطرحه من جديد يختلف عما هو معهود في الشعر العربي، ويتلاءم ومنطق التحديث الذي يتبناه النقد الأدبي الحديث عامة.
ولكن اللافت للنظر في هذا النقد هو غياب التحليل النقدي، أو ضآلته، لعلاقة ظاهرة الحداثة بالظاهرة الجمالية عامة، والوعي الجمالي خاصة. ومعظم مايقال في هذه المقاربة النقدية أو تلك عن هذه العلاقة هو أن ثمة ذوقاً جمالياً جديداً راح يتبلور عربياً؛ أو أن تغيراً ما قد طرأ على طبيعة الاستيعاب الجمالي في الإبداع والتلقي؛  أو أن الشعر الحديث ذو بنية جمالية مغايرة ومختلفة عن الشعر العربي القديم. ولكن ماهي طبيعة هذا الذوق الجديد أو التغير أو البنية، فإن هذا مايسكت عنه النقد المعاصر مكتفياً بالإشارة أو التقرير. وكأن الأمر بدهي لاخلاف حوله، أو كأنه لايستأهل المعالجة النقدية. ولاشك في أن مايقرره هذا النقد صحيح في جوهره. غير أن هذا الصحيح يحتاج إلى تسويغ علمي ومعالجة نقدية تبيّن طبيعته وانعكاساته، كما تبين مستوياته التعبيرية.
إن الفن بوصفه "أعلى أشكال تملك الواقع بحسب مقاييس الجمال"(1)، إنما هو نتاج الوعي الجمالي، في نمط من أنماطه التاريخية. ولهذا فإنه يكثف التجربة الاجتماعية تكثيفاً فنياً راقياً، من منظور ذاتي تخيلي تقويمي. مما يعني أن إحالة الفن على الواقع لايمكن أن تكون إحالة مباشرة، مثلما أنه لايمكن ربطه بما هو فردي صرف. ولعلّه من المفيد أن نستأنس بما يؤكده غولدمان، في هذا المجال، وذلك بمقولته بصدور الفن عن بنىً ذهنية ماوراء فردية تنتمي إلى مجموعة خاصة، وهي تتشكل، على نحو دائم، وتنحلّ في مجموعات اجتماعية حين تعدّل صورتها عن العالم كإستجابة لتغّيُّر الواقع أمامها. وتبقى هذه الصور الذهنية معروفة على نحو رديء، ونصف مدركة في شعور الممثلين الاجتماعيين؛ غير أن الكتاب العظام هم القادرون على بلورة تلك الصور في شكل واضح متماسك(2)
إن الوعي الجمالي الحداثي هو أحد تلك الصور الذهنية التي راحت تتشكل في المجتمع العربي المعاصر، بفعل المستجدات المتعدّدة والمختلفة التي بدأت بالبروز، منذ أوائل القرن العشرين. ومن هنا، فإن تبيان هذا الوعي هو في أساسه تبيان للخلفية الناظمة للحداثة الأدبية العربية عامة، والشعرية منها خاصة.
ونرى أن التصنيف المدرسي لهذه الظاهرة الفنية أو تلك ينبغي أن ينطلق أولاً من تحديد طبيعة الوعي الذي يقف خلفها. أما أن ننطلق، في التصنيف، من المستويات الفنية وحسب، فإن في ذلك قصوراً عن استيعاب الظاهرة نقدياً.
ولاشك في أنه لايجوز الفصل بين الوعي الجمالي والمستويات الفنية. ولكن في المقابل. فإن كثيراً من تلك المستويات يمكن أن يكون عاماً وشائعاً بين مختلف الحركات الشعرية أو المدارس الفنية، في مرحلة تاريخية معينة. غير أن هذا لايعني عدم أهمية تلك المستويات في التصنيف. إذ إن الوعي الجمالي لايمكن استقراؤه من دونها، فهي الحامل المادي له أو هي شكله المشخّص مادياً، ولاسيما حين تكون تعبيراً مباشراً عنه، كما حصل مع الحداثة الشعرية العربية. فما هي طبيعة الوعي الجمالي الحداثي. وماعلاقته بتلك المستويات، وبماذا يتميز من نظيره الكلاسيكي؟.
يمكن تعريف الوعي الجمالي عامة بأنه الوعي الذي يتناول الظواهر والأشياء، من خلال سماتها الحسية وأثرها في الطبيعة النفسية والروحية للمتلقي، منطلقاً من المقاييس الجمالية   AESTHETIC  STANDARDS  التي تشكل مضمونه القيمي. ويتلاءم الوعي الجمالي طرداً مع تلك المقاييس، بحيث إن أي تغير يطرأ على واحد منهما، يطرأ على الآخر بالضرورة. غير أن تغير الوعي يكمن في آليته الذهنية ـ الإنفعالية، على حين أن تغير المقاييس يكمن في المثل العليا الناظمة لها، فليس ثمة وعي جمالي دون مقاييس، وليس ثمة مقاييس من دون مثل عليا. وتدخل هذه الأقانيم، بشكل يصعب فيه التمييز بينها. إلا أنه يمكن القول إن الوعي هو الآلية الذهنية ـ الانفعالية المنتجة للظاهرة، والمقاييس هي الناظمة لها، أما المُثُل فهي المعيار الأعلى الذي تسعى الظاهرة إلى تشخيصه وتمثيله بوساطة تلك المقاييس.
وعلى الرغم من أن الوعي الجمالي أكثر ثباتاً، على الصعيد التاريخي، من أشكال الوعي الأخرى، إلا أن هذا لايؤدي إلى القول بثباته المطلق. فبما أنه نتاج اجتماعي تاريخي، فإن قابليته للتغير والتبدل أمر لاشك فيه. وتبدو هذه القابلية أكثر وضوحاً في المراحل الاجتماعية التي تتسم بنهوض ـ أو نكوص ـ ثقافي قيمي شامل. وبما أن الفن أعلى أشكال تملّك الواقع بحسب مقاييس الجمال، فإنه المؤشر الأكثر مصداقية في الدلالة على ذلك التبدل أو التغير في الوعي الجمالي، إذ إن مايصيب هذا ينعكس في ذاك بالضرورة. ولعلنا لانجانب الصواب إذا ماذهبنا إلى أن التغير الجزئي الذي أصاب الشعر العربي ، في العصر العباسي وفي الأندلس يتلاءم والتغير الجزئي الذي أصاب الوعي الجمالي العربي في الفترتين العباسية والأندلسية ، كما أن التغير الكلي الذي جاءت به الحداثة الشعرية العربية يتلاءم والتغير الكلي الذي أصاب الوعي الجمالي المعاصر. هذا الوعي الذي ظهرت ملامحه الأولى، على استحياء، في أوائل القرن العشرين، مع الرومانتيكية العربية، ولاأدلّ على هذا من اتساع رقعة الفنون الأدبية خاصة. حيث لم يعد الشعر هو الإبداع الأدبي الأوحد أو الأكثر أهمية. بل أصبح أحد فنون الأدب إلى جانب المسرحية والرواية والقصة القصيرة. ولاشك في أن دخول هذه الفنون إلى الأدب العربي يعني، فيما يعنيه، اتساع الحاجات الجمالية العربية وتنوعها من جهة، واختلاف الوعي الجمالي من جهة أخرى. وغنيٌّ عن التوكيد أن المثاقفة ACCULTURATION مع الغرب الأوربي كان لها دور فاعل في ذلك، غير أنها لم تكن، بحال من الأحوال، هي الأساس فيه. إذ إن الخارج لايمكنه أن يؤثر تأثيراً فاعلاً في الداخل، إلا بحسب الضرورات والحاجات الداخلية.
لقد جاءت الحداثة الشعرية العربية تلبية لحاجة جمالية ناشئة، في المجتمع العربي المعاصر، وتعبيراً عن وعي جمالي راح يتبلور عبر نصف قرن تقريباً. وإذا كان هذا الوعي قد ارتبط تاريخياً بظهور قوى اجتماعية معينة كالطبقة الوسطى، والفئة المثقفة منها خاصة، فلايؤدي ذلك إلى أن هذا الوعي خاص بتلك الطبقة، أو يمكن أن يزول بزوال صدارتها الاجتماعية، أو أن يكون انعكاساً REFLECTION  عن طبيعتها الطبقية وأطروحاتها الأيدولوجية.
يتميز الوعي الجمالي، في الحداثة الشعرية العربية، من الوعي الكلاسيكي العربي بعدة سمات تجعله وعياً جديداً بكل ماتعنيه الكلمة، كما تجعل نتاجه الشعري مختلفاً عن الشعر العربي الكلاسيكي والتقليدي المعاصر. وفيمايلي نتحدث عنها، وعن تجلياتها فنياً، وعما يقابلها في الوعي الجمالي الكلاسيكي.

1ـ التجادلية:

لعل التجادلية(*) تكون هي السمة الجوهرية من بين سمات الوعي الجمالي الحداثي، فهي السمة الأكثر تبدياً، في الشعر فنياً وجمالياً. فلايكاد مستوى من مستويات النص الشعري الحداثي يخلو منها، أو من بعض آثارها. سواء أكان ذلك على صعيد البنية الفنية العامة أم على صعيد البنية الإيقاعية أم التصويرية أم على صعيد القيم الجمالية المطروحة.
وكما هو معلوم ، فإن هذه السمة تحيل على فهم العالم والوجود الإنساني من منظور التناقض وتبادل التأثير فيما بين الظواهر والأشياء والعناصر والجوانب ...إلخ. فليس ثمة شيء يمكن أن يوجد أو يستمر أو يموت، بمعزل عن عناصر المحيط الذي هو فيه، أو بمعزل عن محيطه عامة. وهو ماينفي إمكانية استقلال الظواهر والأشياء.... بعضها عن بعضها الآخر، ويؤكد وجودها القائم على التناقض والصراع وتبادل التأثير. وبما أن الأمر كذلك، فليس هنالك ماهو ناجز بشكل نهائي. إذ إن التطور والتبدل والتغير من الصفات الملازمة لكل ماهو موجود. ولهذا لم يعد النظر إلى الأشياء يتمُّ من خلال الثبات أو الاستقلال أو الكمال. إن كل شيء ينبغي أن يؤخذ في تجادله مع الأشياء الأخرى، من دون أن يعني ذلك إغفال التميز الذاتي الخاص به.
تلك هي الخلفية الفلسفية للوعي الجمالي الحداثي. حيث راح هذا الوعي يتسم بآلية ذهنية تجادلية، ترى العالم في وحدته القائمة على التناقض والصراع لاعلى التكامل  والتناظرSYMMETRY  كما هي الحال في الوعي الجمالي الكلاسيكي العربي الذي تشكّل التكاملية الميتافيزيقية سمته الجوهرية. وعلى الرغم من أن المجال لايسمح بالحديث عن هذا الوعي، إلا أنه تمكن الإشارة إلى أن مفهوم الكمال مفهوم جوهري في الفكر العربي ـ الإسلامي، سواء أكان ذلك على صعيد الوجود أم المعرفة أم القيم عامة، والجمالية منها خاصة(3). وبحسب ذلك، فإن لكل موجود كماله اللائق به. وهو كامل لما فيه من عناصر الكمال التي وهبتها إياه المشيئة الإلهية. أي أن هذه العناصر لاتتأتى له ذاتياً أو من المحيط الذي هو فيه. بل تحصل له بحسب ماهو مقرر إلهياً. وبهذا فإن العالم الذي هو كامل بالضرورة، ينطوي على موجودات كاملة ذاتياً ومتكاملة فيمابينها، ولاشك في أن هذا لايلغي تبادل التأثير. بل يلغي التناقض الذي هو جوهر التطور بحسب الفهم التجادلي.
فأساس الاختلاف، إذاً، بين الوعي الحداثي والكلاسيكي، على المستوى الفلسفي الجمالي، يكمن في أن الأول يعي العالم في تناقضه وتجادله، على حين أن الثاني يعيه في تكامله وتناظره ، وهو ماأدى إلى اختلافات عديدة بينهما. ولكن قبل المضيّ بذكر هذه الاختلافات، لابدّ من القول إن الوعي الجمالي عامة ليس وعياً فلسفياً نظرياً للعالم أو الوجود. إنه قد يتقاطع أو يتداخل مع هذه النظرة الفلسفية أو تلك، من دون أن يتطابق وإياها كلياً. إذ لو حدث ذلك لانتفى كونه وعياً جمالياً. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، قد تختلف النظرة الفلسفية اختلافاً شديداً، من غير أن يقود ذلك إلى اختلاف في الوعي الجمالي. ولعل أكبر شاهد على ذلك، هو استمرار الوعي الجمالي الجاهلي حتى بدايات العصر العباسي الذي أضاف بعض التغييرات الجزئية إليه. ومن جهة ثالثة، إن تبني هذا الوعي الجمالي أو ذاك لايعني بالضرورة تبنياً لمجمل الخلفية الفلسفية التي يستند إليها. فقد يكون الشاعر حداثياً من دون أن ينتمي فكرياً إلى الفلسفة الجدلية بقوانينها المختلفة، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً. كما يمكن أن ينتمي الشاعر إلى تلك الفلسفة، غير أن وعيه الجمالي وعي كلاسيكي صرف. والحق أن هذه من المسائل المعقدّة التي تحتاج من الباحثين دراسة علمية متأنية.
لقد أدى ذلك الاختلاف إلى افتراق الوعي الحداثي عن الكلاسيكي، على صعيد النظرة إلى الجمال. فبينما كان الوعي الكلاسيكي يميل إلى تعريف الجمال بأنه الكمال الموصوف بالاعتدال(4)، فإن الوعي الحداثي يرى أن الجمال هو التميز القائم على الحرية والحيوية. أي أن هذا الوعي يشترط للجمال ثلاثة عناصر، وهي التميّز والحرية والحيوية.
فما يوحي بالعادية، أو يندرج تحت الشيوع والعمومية، أو لايلفت الانتباه بما فيه من صفات التميّز ، يصعب أن يكون جميلاً، غير أن التميّز وحده لايكفي للجمال. إذ لابدّ من أن يكون مبنياً على الحرية والحيوية. أما الأولى فتنفي أن يوجد الجمال فيما هو مستلب أو مقيد أو منصاع لنظام يفرض عليه ماليس من خصائصه أو طبيعته. وأما الحيوية فتنفي أن يوجد الجمال في الثبات أو السكون STATIC أو مايوحي بهما كالجمود والركود والانحطاط والتقهقر .... إلخ. وبهذا فإن العادي أو المقيد أو الساكن لايمكنه أن يتصف بالجمال، بحسب الوعي الحداثي. حيث إنه يفتقر إلى أحد عناصر الجمال التي هي عناصر متجادلة ومتكاملة فيما بينها.
فالجميل، في الوعي الحداثي، إذاً، هو المتميّز الحر والحيوي في آن معاً. ومن ذلك فإن اللذة الجمالية الناجمة منه ليست لذة الإحساس بالكمال والاعتدال، كما في الوعي الكلاسيكي العربي، بل هي لذة الاحساس بالانطلاق، وكأن الجميل يدهشنا بالآفاق التي يفتحها أمامنا، ويحيلنا  على وجودنا الذي ينبغي أن لايكون معاداً ومكروراً أو محدّداً بأطر ثابتة مطلقة تحدّ من الحرية والحيوية فينا. ومن هنا كانت الرغبة في تجديد الشعر شاملة تقريباً. إذ إن التجديد يعني التعبير عن تلك النظرة الجديدة إلى الجمال، والمختلفة عن النظرة العربية الكلاسيكية إليه. وبذلك نفهم قول أدونيس:
البدعةَ، البدعةَ! المحدثَ، المحدثَ!
نبطل سنة قديمة
نردّ للإنسان اسمه(5)
إن البدعة أو التحديث ليس اعتباطاً أو مجرد رغبة في مجاوزة الوعي السائد. بل هو في الأساس إبطال لما يحدّ من طاقات الإنسان، ويجعله غريباً عن طبيعته أو مستلباً من أعراف وقوانين أصبحت ، مع الزمن، قيداً له.
إن هذه النظرة إلى الجمال هي نظرة عامة مشتركة بين شعراء الحداثة العربية كافة، فعلى الرغم من أن هذه الحداثة ليست تياراً شعرياً واحداً(6). إلا أنها تنطلق في تقويم الجمال من نظرة مشتركة. ولايتباين الأمر إلا على صعيد الحوامل الجمالية. كأن يميل هذا التيار إلى اعتبار التميز والحرية والحيوية من صفات القوى الاجتماعية التقدمية ومثلها الأعلى البطل الثوري خاصة؛  ويميل ذاك التيار إلى اعتبار هذه العناصر خاصة بالفئة الليبرالية المثقفة ومثلها الأعلى البطل الفادي. وذلك على المستوى الاجتماعي ـ الجمالي. أما ما سوى ذلك، فليس ثمة من تباين يكاد يذكر جمالياً. وغني عن البيان أن التباين في النظر إلى الحوامل ينهض من التباين في الموقع الأيديولوجي لهذا أو ذاك من التيارات والشعراء. وهو، في نهاية المطاف، تباين أيديولوجي لا جمالي، ولا أدل على ذلك من الاشتراك في السمات الفنية العامة التي تنظم النص الشعري الحداثي.
لقد أشرنا سابقاً إلى أن الملامح الأولى لهذا الوعي قد ظهرت مع الرومانتيكية العربية، ونودُّ أن نشير، في هذا المجال، إلى أن تعريف الجمال بأنه التميز القائم على الحرية والحيوية، يدين بالكثير منه لتلك الرومانتيكية التي ذهبت إلى أن الحرية والفردية شرطا الجمال اللذان يعنيان التميز. وهو ماسعى إليه الشعر الرومانتيكي العربي، ونظّر له كلٌّ من العقاد والمازني(7)، ولكن إذا كان هذا الشعر قد خطا بعض الخطوات، في طريق التجديد، تعبيراً عن نظرته الجديدة إلى الجمال، فإن النقلة النوعية قد تمت مع شعر الحداثة الذي خرج تاريخياً وجمالياً، من معطف الرومانتيكية ولقد انعكس ذلك كله في السمات الفنية العامة لهذا الشعر، ونتوضّح أثر ذلك في كل من الشكل الإيقاعي والبنية الصورية.

آـ الشكل الإيقاعي(*) 


إن تجديد الشكل الإيقاعي للقصيدة العربية هو التجديد الأكثر سطوعاً، في شعر الحداثة، في بداياته الأولى، ولعله يكون أكثر المستويات استئثاراً للحوار والنقاش والجدل بين المؤيدين والمعارضين، في خمسينيات هذا القرن. حتى بدا، أحياناً، وكأنه التجديد الأوحد الذي جاءت به الحداثة ويمكن تسويغ ذلك الجدل بأن شعر الحداثة، بشكله الإيقاعي المختلف، قد تجاوز المستوى الأكثر سطوعاً، في القصيدة العربية، وفي وحدة البيت الشعري القائم على شطرين متعادلين موسيقياً. ولايمكن فهم التجديد الإيقاعي، بمعزل عن الوعي الحداثي ومفهومه عن الجمال . إذ إن اعتبار الحرية شرطاً من شروط الجمال قد دفع إلى اعتبار الشكل الإيقاعي الكلاسيكي شكلاً عاجزاً عن استيعاب الانفعال الشعري في انطلاقته وحيويته، شكلاً لايتلاءم والحرية التعبيرية من جهة، ولايتلاءم من جهة أخرى، والنظرة الجمالية الجديدة، وهو مااقتضى إيجاد شكل إيقاعي يحقق ماقد عجز عنه ذلك الشكل. فكان أن ظهر الشكل الإيقاعي المفتوح غير المحكوم بضوابط نمطية ناجزة سلفاً، والمرتبط بطبيعة الانفعال الشعري. بحيث أصبح هذا الشكل هو المعادل الإيقاعي للتجربة الشعرية الخاصة بهذا النص أو ذاك. وقد يكون من المستحيل أن نجد نصيّن متطابقين بالشكل الإيقاعي، في شعر الحداثة. وما ذلك إلا للاستحالة في أن نجد تجربتين متطابقتين تماماً، حتى لدى الشاعر الواحد.
إن انتفاء النمطية الناجزة عن الشكل الإيقاعي الحداثي لايتجاوب أيضاً والحيوية التي هي أحد شروط الجمال. إذ إن هذا الشكل هو التمثيل الحسي لحركة التجربة الشعرية، في صعودها وهبوطها وتأرجحها، وفي كثافتها واستطالاتها، وفي تسارعها أيضاً. وهو مايفسّر التدفق الإيقاعي أحياناً حتى نهاية المقطع، أو نهاية النص الشعري بكامله؛ ومايفسر أيضاً الوقفات الإيقاعية المتكررة أحياناً، بشكل متوالٍ؛ كما يفسر إلغاء القافية أو تنويعها أو تغيير مواقعها من النص، بحيث لم تعد تأتي بالضرورة في نهاية الأشطر الشعرية. أي لم تعد القافية تعني الوقف الإيقاعي بالضرورة، على النحو الذي كانت عليه في الشعر العربي الكلاسيكي.
إن كل ذلك جعل من الشكل الإيقاعي الحداثي مفتوحاً على احتملات لاتكاد تحصى من الاختلافات الإيقاعية بين النصوص الشعرية. وذلك على الرغم من أن التفعيلة بقيت هي الوحدة الصوتية ـ النغمية، في تيار التفعيلة من شعر الحداثة. ولابأس من الإشارة، في هذا المجال، إلى أن الحديث عن إيقاع سمعي محدّد في قصيدة النثر، ومايزال رجماً بالغيب. وإن يكن ثمة محاولات مخلصة لتسويغه، من خلال النظام النبري، لامن خلال النظام الكمي(8). وعلى أية حال، فإن الحداثة في طرحها شكلاً إيقاعياً مفتوحاً، قد فتحت الباب واسعاً أمام الاختلافات الإيقاعية النصيّة، بشكل لم يعد فيه بالإمكان الكلام على نمط أو اثنين أو غير ذلك، للشكل الإيقاعي الحداثي. ولنطرح أمثلة على هذا، من بعض النصوص المبنية على تفعيلة (متفاعلن)، كما تتوضح تلك الاختلافات، وذلك على الرغم من أن الأمر أصبح شائعاً ومعروفاً:
يقول مصطفى خضر، بتدفق إيقاعي يصل إلى سبع عشرة تفعيلة:
لمن التماثيلُ المهشّمةُ؟
الوجوهُ تهبُّ، يطمسها الغبارُ،
تذوب أقنعةٌ وأهدابٌ من الحجرِ،
النهارُ يزفُّ مزهواً حشودَ الملح،
والملأُ المقدّسُ يعلن النسيانَ مملكةً:
رؤوسٌ من حجر(9)
ويستخدم محمد على شمس الدين ستاً وعشرين تفعيلة موزّعة على الشكل التالي:[9/10/5/2] مع التزام بقافية واحدة وذلك في قوله:
قمر الجنوب على التلال
قمرٌ خفيف... ثم لايهوي كعصفور على كتف الجبال
وثيابه البيضاء ينشرها على الأشجار آونةً
ويجلس مثل تمثال على قدمين حافيتين من قصب الخيال
وأقول ياقمري الذي قتلوكَ
هبْ لي من أقاصي كفِّك البيضاء أغنيةً
ونشرب قبل بارقة الزوالْ(10)
وغالباً مايميل بلند الحيدري إلى التشطير المتلاحق والمنتهي بقواف متنوعة، من مثل قوله:
نفس الطريقْ
نفس البيوت، يشدّها جهد عميقْ
نفس السكوتْ
كنا نقولُ: غدا يموت وتستفيقْ
من كل دار
أصوات أطفال صغارْ
يتدحرجون مع النهار على الطريقْ(11)
يشتمل هذا المقبوس على سبعة أشطر، ينتهي كل منها بقافية، أما من حيث عدد التفعيلات في الأشطر، فقد جاءت على النحو التالي:[3/2/1/3/1/3/1 ]
فليس ثمة، إذاً، شكل إيقاعي نمطي واحد. سواء فيما يتعلق بعدد التفعيلات في الشطر أو المقطع، أم فيما يتعلق بنمط التقفية. فيمكن أن تحذف القافية نهائياً من المقطع أو النص، ويمكن أن تتنوّع تنوعاً منتظماً أو غير منتظم، كما يمكن أن تتواتر القوافي المتماثلة، من دون أن يفصل بينها عدد من التفعيلات. ومن الخطأ أن نتصور إمكانية الوصول إلى قانون ينظم الشكل الإيقاعي الحداثي، ماخلا القول إن التفعيلة هي الوحدة الصوتية ـ النغمية، في تيار التفعيلة. وماذلك إلا للارتباط الدقيق بين ذلك الشكل والانفعال الشعري. إذ إن الإيقاع الحداثي تظهير أو تحسيس سمعي لهذا الانفعال.
ومن المفيد أن نتوقف، في هذا المجال، عند إحدى الدعاوى الزاعمة أن هذا الشكل الإيقاعي ليس بجديد. فقد سُبق إليه منذ القرن الهجري الخامس. يقول أحمد المعداوي في ذلك: " إن هذه التقنية التي قُدّمت منذ زمن على أنها أحد الإنجازات الإيقاعية المتقدمة لحركة الشعر الحديث ليست في الواقع كذلك، وإنما هي تقنية معروفة على الأقل منذ القرن الخامس الهجري"(12)
ويستشهد على ذلك بما نسب إلى أبي العلاء المعري من رسالة وصل منها قول موزون على تفعيلة الرجز (مستفعلن وجوازاتها) . وقد ذكره ابن خلكان في وفياته. ونثبته نحن، هنا، بالشكل الذي أثبته ابن خلكان، مع تعليقه عليه: [ " أصلحك الله وأبقاك لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم إلى منزلنا الخالي لكي نحدث عهداً بك يازين الأخلاء فما مثلك من غير عهد أو غفل".....فوجدته يخرج من بحر الرجز وهو المجزوء منه. وتشتمل هذه الكلمات على أربعة أبيات على روي اللام وهي على صورة يسوغ استعمالها عند العروضيين . ومن لايكون له بهذا الفن معرفة فإنه ينكرها لأجل قطع الموصول منها.... وهذا إنما يذكره أهل هذا الشأن ـ أي أهل العروض ـ للمعاياة لا لأنه من الأشعار المستعملة](13)
أما المعداوي فإنه يثبته على النحو التالي، مع ملاحظة اختلافين. أولهما أن ما أثبته المعداوي فيه تضعيف الياء في كلمة (الخالي)، وحذف اللام من (كي). ولايختلف الوزن، وإن تكن الصورة التي أثبتناها هي الأصلح لغوياً. وثانيهما هو الاختلاف بين (زين) التي أثبتناها و (خير) التي أثبتها هو. وطبعاً لايختلف الوزن في الحالين. ويعود هذان الاختلافان إلى الاختلاف بين الطبعتين:
أصلحك الله وأبقاك
لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم
إلى منزلنا الخاليّ
كي نُحدث عهداً بك ياخير الأخلاء
فما مثلك من غير عهد أو غفل(14)
لقد فات المعداوي، بتوزيعه القول على هذه الصورة، ماقاله ابن خلكان من أن هذه الكلمات تشتمل على أربعة أبيات على روي اللام، من مجزوء الرجز، أي على النحو التالي:
أصلحك الله وأبقاك لقد كان من الـ
واجب أن تأتينا اليوم إلى منزلنا الـ
خالي لكي نحدث عهداً بك يازين الأخلّْ
لاء فما مثلك من غير عهد أو غفل
كما فاته أيضاً قول ابن خلكان، من أن هذا إنما يذكره أهل هذا الشأن للمعاياة، لالأنه من الأشعار المستعملة. وهذا القول فيه من البيان مالايستدعي التعليق عليه. ولنا فيما يقوله الجاحظ حول دخول الوزن إلى النثر خير دليل:
" اعلم لو أنك اعترضت أحاديث الناس وخطبهم ورسائلهم، لوجدت فيها مثل مستفعلن فاعلن كثيراً ومستفعلن متفاعلن، وليس أحد في الأرض يجعل ذلك المقدار شعراً. ولو أن رجلاً من الباعة صاح: من يشتري باذنجان . لقد كان تكلّم بكلام في وزن مستفعلن مفعولان، وكيف يكون هذا شعراً وصاحبه لم يقصد إلى الشعر؟"(15).
وفي المحصلة، فإن الأمر لايرتبط بإقامة الوزن، بل بالقصد إلى الشعر. ولم يكن المعري، إذا صحت نسبة المقطوعة إليه، يقصد إلى قول الشعر بحال من الأحوال. ولهذا جاءت المقطوعة عبارة عن كلام نثري موزون على مجزوء الرجز فحسب. والحق أن النظرة القديمة لم تكن تعتبر الرجز من الشعر. ولهذا حين قال النبي الكريم في غزوة أحد قولاً موزوناً بحسب مجزوء الرجز، لم يذهب أحد إلى الادعاء بأنه قال شعراً. أما القول فهو:
أنا النبي لاكذبْ


أنا ابن عبد المطلبْ

وذلك على الرغم من أن هذا القول أكثر موسيقية بما لايقاس من قول المعري، ومن هنا، فإن دعوى المعداوي بأن الشكل الإيقاعي الحداثي ليس بجديد، وبأنه تقنية معروفة منذ القرن الهجري الخامس، هي دعوى باطلة أساساً. ولو افترضنا جدلاً أن ثمة محاولات شعرية (نقول: شعرية) قديمة، في هذا الشكل، فإن ذلك لايقدّم ولايؤخر شيئاً. لأن  الأمر لايتعلق بالحالة الفردية المنقطعة . بل يتعلق أولاً وأخيراً بالظاهرة الفنية العامة. ويبقى أن نذكر أن الذوق الجمالي العربي الكلاسيكي لايقرر أن توالي التفعيلات هو ما يصنع البيت الشعري. بل يقرر أن التوالي المنتظم المحدد هو الذي يصنعه . وهذا ماقد تجاوزه شعر الحداثة.
ولكن إذا كان المعداوي قد أخطأ في دعواه هذه، فإن مايذهب إليه من أن لجماعة أبولو أسبقية في الشكل الإيقاعي الجديد على الحداثة(16) ، حيث ظهرت الكتابة الشعرية بأشطر متفاوتة الطول، عند خليل شيبوب وعلي أحمد باكثير ومحمد فريد أبو حديد وغيرهم، فإنه صحيح ومعروف أيضاً. وهذا يؤكد مانذهب إليه من أن الحداثة الشعرية قد خرجت من معطف الرومانتيكية العربية تاريخياً وجمالياً.
والحق أن هذه الرومانتيكية قد كانت لها المحاولة التجديدية الأولى، على الصعيد الإيقاعي، في الشعر العربي الحديث. حيث ظهر التنويع في القوافي، والميل إلى اللوازم الإيقاعية في نهاية بعض المقاطع، والميل إلى المقطعات الشعرية القصيرة، علاوة على استخدام الأشطر المتفاوتة الطول، ولكن من دون أن يخرج الشاعر، في مجمل نتاجه الشعري، عن وحدة البيت. ولاشك في أن هذا ينسجم والتغيرات التي أصابت الوعي الجمالي العربي، في بدايات هذا القرن.
ولقد تابعت الحداثة الشعرية ماكانت الرومانتيكية قد بدأته، فأنجزت شكلها الإيقاعي المفتوح  غير المحدد سلفاً، أو غير النمطي. فظهرت الأشطر الشعرية المتداخلة إيقاعياً، والمترابطة فيما بينها، وتم التجاوز النهائي، في نتاج شعراء الحداثة، لمفهوم وحدة البيت، هذا المفهوم الذي لم يعد يتلاءم والوعي الجمالي الحداثي في رؤيته للعالم من منظور التداخل وتبادل التأثير؛ كما لم يعد يتلاءم ومفهومه عن الجمال الذي يُشترط فيه الحرية والحيوية، وكي يتوضح عدم التلاؤم هذا، نتوقف قليلاً عند الشكل الإيقاعي للقصيدة العربية الكلاسيكية، في تعبيره عن وعيها الجمالي.
تقوم هذه القصيدة. كما هو معلوم، على توالي الأبيات المستقلة إيقاعياً ومعنوياً (والمرتبطة فيمابينها شعورياً طبعاً) . حيث يشكّل كل بيت وحدة إيقاعية قائمة بذاتها، لاتتأثر بما هو خارج عنها، أي أن الكمال الإيقاعي والمعنوي من سمات البيت الشعري. ولقد أشرنا سابقاً إلى أن الجمال، في الوعي الكلاسيكي هو الكمال الموصوف بالاعتدال. أما أين ظهر الاعتدال في البيت الشعري، فنقول: إنه يظهر في اشتمال البيت على شطرين متماثلين ومتناظرين إيقاعياً. أي أن الشطرالأول يعادل الشطر الثاني. ولايصح بحال من الأحوال خلاف ذلك. سواء أكان هذا في الأبحر التامة، أم المجزوءة. بمعنى آخر: إن الشطر الشعري ينبغي أن يكون كاملاً، لايحتاج إيقاعياً إلى أن يكتمل بالشطر الثاني. ولاينفي ذلك تدوير الوزن أحياناً في بعض الأبيات. ولاسيما من البحر الخفيف الذي يقول فيه صاحب "موسيقا الشعر العربي " ومن الجدير بالذكر أن أكثر ماتقع الأبيات المدوّرة في عروض هذا البحر. وهو دليل على القوة، إلا أنه في غير الخفيف مستثقل حتى عند المطبوعين من الشعراء"(17)
 إن كمال البيت الشعري يقوم، إذاً، على التناظر والتماثل والتعادل والتكامل بين شطرين كاملين إيقاعياً، ويمكن القول أيضاً إن الشطر نفسه لايخلو من تلك السمات، ولاسيما في الأبحر الممتزجة، حيث تتوالى التفعيلات المختلفة بشكل محدد منتظم من مثل تكرار . "مستفعلن فاعلن" في البحر البسيط، أو تكرار"فعولن مفاعيلن" في البحر الطويل... إلخ. أو لنقل بصورة أخرى: إن القصيدة تشتمل على أبيات كاملة ذاتياً على الصعيد الإيقاعي ومتكاملة فيمابينها. والبيت يشتمل على شطرين كاملين ذاتياً ومتكاملين تناظرياً فيما بينهما. ويشتمل الشطر، في الأبحر الممتزجة، على وحدتين إيقاعيتين كاملتين ومكتملتين فيما بينهما أيضاً. مع الإشارة إلى أن هاتين الوحدتين غالباً ماتكونان متداخلتين في الشطر الواحد.
إن هذا الشكل الإيقاعي يعبّر خير تعبير عن الوعي الكلاسيكي الذي يرى العالم من خلال التناظر والتكامل، ويرى في الجمال على أنه الكمال الموصوف بالاعتدال. غير أن هذا الشكل ليس بإمكانه أن يكون حاملاً للوعي الحداثي الذي يرى العالم من خلال التداخل والتناقض وتبادل التأثير. إذ إن ثمة اختلافاً حاداً بين هذا الوعي وذلك الشكل. ولهذا السبب لاغرابة في أن تسعى الحداثة إلى إنجاز شكلها الإيقاعي الذي لاينهض من التناظر والتماثل... بل من التداخل وتبادل التأثير والتنوع في إطار الوحدة العامة للنص.

ب ـ البنية الصورية:

من المعروف أن بعض النقاد(18) يؤكد أن ثمة انقلاباً جذرياً قد أصاب الصورة الفنية ARTISTIC IMAGE  ، في الشعر الحديث. فلم تعد الصورة مجرد شرح للفكرة أو توضيح لها أو مجرد زخرفة، يمكن الاستغناء عنها، من دون أن يختل المعنى، كما في الشعر الكلاسيكي والتقليدي المعاصر. بل أصبحت الصورة الحداثية داخلة، في صميم النص الشعري ، بطريقة بنائية حيوية؛ كما أصبحت الصورة هي الفكرة، ولاانفصال بينهما. ومن جهة أخرى، فقد تغيرت العلاقة بين عناصر الصورة، بشكل أصبحت فيه هذه العلاقة تقوم على صهر العناصر، لاعلى تجاوزها وتقابلها، أي تمَّ الإنتقال " من الثنوية البلاغية إلى الشعرية الصاهرة"(19) كما يقول الدكتور اليافي.
وعلى الرغم من أن الصورة الحداثية قد دُرست دراسة مستفيضة، في النقد الأدبي الحديث، بحيث لامجال للإضافة، في هذا الإطار، إلا أننا نتوقف عند تبيان صلة هذه الصورة بالوعي الجمالي الحداثي. وهو ما لم يعط حقّه من الدرس. وسوف نتناول هذه الصلة من جانبين اثنين. هما: بنية الصورة، وخلفيتها التعبيرية. وذلك بإيجاز شديد، قدر الإمكان.
تنهض بنية الصورة الحداثية من العلاقة التجادلية بين عناصرها، بشكل يستحيل فيه الفصل بينها، أو النظر إلى أحد العناصر بمعزل عن تداخله بالآخر. والعناصر، هنا، لاتعني الظواهر والأشياء التي تتكون منها الصورة فحسب، بل تعني أيضاً الأفكار والانفعالات والأساليب البلاغية المستخدمة.
فالصورة الحداثية، بهذا المعنى، هي نتاج كلي للعلاقة التجادلية بين تلك العناصر. ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك.
يقول محمود درويش:
مشت الخيول على العصافير الصغيرة
فابتكرنا الياسمين(20)
ويقول أحمد عبد المعطي حجازي، في إحدى اللوحات التشكيلية:
قطرتان من الصحو،
في قطرتين من الظلِّ
في قطرة من ندى
قل هو اللون في البدء كان
وسوف يكون غدا(21)
ويقول خليل حاوي:
ليتني مازلت في الشارع أصطاد الذباب
أنا والأعمى المغني والكلاب
وطوافي بزوايا الليل،
بالحانات من باب لباب
أتصدّى لذئاب الدرب....‍‍‍‍‍‍‍!
ماذا؟ ليتني مازلت درباً للذئاب(22)
وعلى الرغم من أن هذه الصور تختلف فيما بينها، في العناصر والأجواء والإيحاءات، فإنها تنهض من الوعي الحداثي في سمته التجادلية، فهي مبنية على التجادل لاعلى التناظر بين العناصر. فالياسمين، في الصورة الأولى، لايتمّ ابتكاره من التناظر بين الخيول والعصافير. بل يتمُّ من خلال التناقض والصراع الحاد بينهما. أي أن انسحاق العصافير بأرجل الخيول(مع الأخذ بعين الاعتبار مايرمز إليه كل منهما) هو الذي يدعونا إلى ابتكار الياسمين . فعناصر هذه الصورة، إذاً، أربعة، وهي الخيول والعصافير و "نا"  الدالة على الفاعلين، في فعل "ابتكرنا". وجميع هذه العناصر متجادلة فيما بينها. فالخيول تتناقض مع العصافير فتسحقها، ونحن أو"نا" الدالة على الفاعلين، تتناقض مع الخيول ومع موت العصافير، فتبتكر الياسمين الذي هو من نوعية العصافير. أي أن الياسمين هو الآخر على تناقض مع الخيول والموت معاً. ومن جهة أخرى، فثمة تناقض بين فعل الابتكار وفعل الموت الذي تمارسه الخيول. وفي النتيجة، فإن الإيحاء المنسجم الذي تقدمه هذه الصورة يقوم على التناقض بين عناصرها المختلفة. وما يقال في هذه الصورة يقال في الصورتين التاليتين. فالتجادل بين القطرات، في الصورة الثانية، هو الذي يشكّل اللون أو اللوحة التشكيلية، والفن عامة. فلابدّ للفن، لكي يكون معبّراً، من أن يتكوّن مما هو متناقض في العالم كالصحو والظل والندى(بما ترمز إليه). وكذا هي الحال، في الصورة الثالثة. حيث المعاناة الفردية تنهض من التناقض بين "الأنا" وكلٍّ من الدرب والذباب والذئاب.
هذا من حيث العلاقة بين العناصر. أما من حيث الجمع بينها، من مجالات حياتية متباعدة ومختلفة ومتناقضة أحياناً، فإن هذا الأمر بات شائعاً في كتب نقد الشعر الحداثي. إذ من المعروف أن هذا الشعر قد أفاد من تقنيات الصورة الفنية السوريالية التي تقوم أساساً على الجمع بين المتناقضات والمتباعدات. وإذا ماعدنا إلى الصور السابقة، فإننا نجد، في الصورة الأولى، جمعاً بين الخيول الدابّة والعصافير المحلّقة والياسمين النابت والذات الإنسانية؛ كما نجد، في الصورة الثانية، جمعاً بين القطرة وكلٍّ من الصحو والظل؛ ونجد، في الصورة الثالثة، جمعاً بين الليل والزوايا، والأعمى والكلاب، والحانات والذئاب، والصيد والذباب. غير أن ماتنبغي الإشارة إليه، في هذا المجال، هو أن تلك العلاقة التجادلية أو هذا الجمع بين المتباعدات والمتناقضات، ينبغي أن ينتج عنه إيحاء جميل منسجم. ولن يكون هذا ممكناً، إلا إذا كانت الصورة بل التخييل الفني عامة يحيل على الكينونة الواقعية، ومن دون ذلك لن يكون التخييل، كما يؤكد تيودور أدورنو THEODOR ADORNO، سوى تخييل مجاني رخيص ومحدود القيمة(23).
وعلى هذا النحو، فإن الوعي الحداثي في سمته التجادلية قد انعكس في الصورة الفنية. وهو ما أدى بها إلى أن تشتمل على عناصر متداخلة متجادلة مستقاة من مجالات متباعدة أو متناقضة. فانعدمت الثنائيات المتقابلة أو المتناظرة التي كانت الصورة  الكلاسيكية تقوم عليها، وانعدمت أيضاً تلك المقاربة والمناسبة اللتان كانتا أساس هذه الصورة.
وثمة أمر آخر، ينبغي الحديث عنه، في بنية الصورة، وهو التداخل  بين الفكرة والمجاز أو الشكل البلاغي عامة. إذ أن الفكرة، في الصورة الحداثية، تأتي عبر المجاز، فهي فكرة مصوَّرة أو صورة مفكّرة. يقول الدكتور اليافي:
" لعل خير بداية ننطلق منها للحديث عن تقنيات الصورة المفردة أن نتذكر أمرين يخصَّان القصيدة المعاصرة. أولهما أنها ألغت ثنائية التعبير المعروفة: فكرة+ صورة، وجعلت التعبير عن الفكرة يتمُّ من خلال الصورة أو بالصورة، وثانيهما أنها رأت في الصورة أداة الخلق أو التعبير الوحيدة عن التجربة الشعورية بأبعادها كلها ومضامينها وخصائصها. أي جعلت من الصورة المكِّون الرئيس لها"(24)
بمعنى أن ماجاء به شعر الحداثة، على صعيد الصورة ينسجم والمقولة المعروفة التي أطلقها بيلنسكي، في تعريفه للفن، وهي " الفن تفكير في صور " (25).
لقد ردم الشاعر الحداثي تلك الفجوة بين الفكرة والصورة، التي لاحظها في الشعر العربي الكلاسيكي والتقليدي المعاصر. فراح يرى ماحوله ويفكر فيه، من خلال الصورة الفنية التي أصبح لها، عنده، وظيفة جمالية معرفية مزدوجة. وهذا مايتلاءم وسمة التجادلية التي ينهض منها وعيه الحداثي. ولعل عودة إلى الصور الفنية المذكورة سابقاً تؤكد هذه الناحية. ولابأس من التمثل ببعض الصور الأخرى:
يقول السياب:
ياغيمة في أول الصباح
تعربد الرياح
من حولها، تنتف من خيوطها، تطير
بها إلى سماوة تجوع للحرير
سينطوي الجناح،
ستنتف الرياح ريشه مع الغروب
ياغيمة ماأمطرت، تذوب(26)
ويقول محمد الماغوط:
كسنبلة مكسوَّة بالشعر
رأيتك تنزف على فوهة الخليج
أيها المشوَّه
تحصي جراحك وندوبك
كما تحصي الغابة طيورها عند المساء
يامعيلي أيام المحنه
أيها المطر والرعب والرصاص(27)
ويقول سعدي يوسف:
الرياح التي لاتهبُّ العشية
والرياح التي لاتهبُّ الصباح
حمَّلتني كتاب الغصون:
أن أرى صيحتي في السكون(28)
إن في هذه الصور تداخلاً حاداً بين الفكر والمجاز، بحيث يستحيل التعامل مع هذا من دون ذاك. فهما يشكلان وحدة مطلقة في التعبير، وفي الوظيفة الجمالية المعرفية المزدوجة لدى الشاعر الحداثي. فسعدي يوسف، مثلاً، سعى إلى القول إن الحياة تخرج من أحشاء الموت، أو إن المستقبل يخرج من الواقع الراكد أو الذي يبدو راكداً، غير أن هذه الفكرة لم تأت بالشكل الذي سردناه ـ وهو شكل قاصر عن الإحاطة بتلك الصورة ـ بل أتت صورية ـ معرفية ممتلئة  بالإيحاءات، ومحمولة على التعامل المجازي مع الأشياء، مما جعلها تشعّ في اتجاهات تعبيرية متعددة، لايصحّ حصرها أو حجزها بما سردناه من معنى الصورة أو فكرتها.
وفي الحديث عن الخلفية التعبيرية للصورة الحداثية، يمكن القول إن هذه الصورة تصدر عن رؤية ورؤيا تجادليتين للظواهر والأشياء، والواقع الإنساني عامة. أي أن هذه الصورة لاتعبّر عن الثبات والسكون، بل عن الحركة والتفاعل والتحول. سواء أكان ذلك في مايخص ماهو ناجز، أم ماهو في قيد الإنجاز. ومن هنا، فإن سمة التحول(29) من السمات الأساسية للخلفية التعبيرية لهذه الصورة. وإن وقفة عند بعض ماسلف من صور، تثبت ذلك وتوضّحه.
فصورة محمود درويش تصدر عن تحول الموت إلى حياة، من خلال الصراع المميت بين الخيول والعصافير؛ وصورة خليل حاوي تصدر عن تحول الفرد المعذب من المناوأة إلى الانسحاق؛  وصورة السياب تصدر عن تحول إمكانية الحياة إلى موت وتلاش، من خلال عربدة الرياح حول الغيمة؛ وصورة سعدي يوسف تصدر عن وعي التحول الخفي في الواقع من السكون إلى الحركة.... إن هذه الصور مجرد أمثلة عفوية على صدور الصورة الحداثية عن وعي التحول في الواقع والعالم. أما الصور التي تعلن هذا التحول صراحة، فلاتكاد تحصى، نذكر واحدة منها، في هذا المجال، يقول محمد عمران:
أمشي على غضب الهواء/ أنا النذير،
يكون زلزال، فتنهدم الجهات،
وتسقط الأنقاض في قاعي، ويختلط الركامْ
جثث/ وينعجن القتيل بقاتليه،
وتدخل الحربُ السلامْ
تتداخل الأضداد ـ
تلبس خوذةٌ كوفيةً
جَمَلٌ ثيابَ محاربٍ
ملكٌ فدائياً.
فدائيٌّ عمامةْ
وتكون عاصفةٌ، فيلتفُّ الظلام على الظلام
وتكون فاتحةُ القيامهْ(30)
وهكذا نلحظ أن الصورة الحداثية قد جاءت تعبيراً عن وعيها الجمالي في سمته التجادلية. سواء أكان ذلك في العلاقة بين العناصر، أم الجمع بينها من مجالات متناقضة أو متباعدة، أم كان في التداخل بين الفكر والمجاز، أم كان في خلفيتها  التعبيرية التي تتصف بالتحول، أم كان في الوظيفة الجمالية المعرفية المزدوجة لها.
إن كل ذلك قد جعل من هذه الصورة مختلفة اختلافاً جذرياً عن مثيلتها في الشعر العربي الكلاسيكي والتقليدي المعاصر. ولكي يتوضح هذا الاختلاف، نشير إشارة سريعة إلى أن الصورة الكلاسيكية تقوم على المقاربة والمناسبة بين العناصر والأشياء المكونة لها؛ وتقوم أيضاً على الثنائية البلاغية التي تحتفظ باستقلالية عنصري الصورة، فلايتداخلان إلا ماندر؛ وتقوم من جهة ثالثة على توضيح المعنى أو شرحه أو زخرفته وتزيينه. مما يعني استقلال الصورة عن الفكرة. فكثيراً مايشتمل البيت الشعري الكلاسيكي على التناظر بين الفكرة والصورة. وذلك من مثل الأبيات المشهورة التالية، لكلِّ من امرىء القيس والخنساء والمتنبي، على التوالي:

مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً


كجلمود صخر حطّه السيل من علِ

*                    *
وإن صخراً لتأتمّ الهداة به


كنه علم في رأسه نار

*                      *
ماكلّ مايتمنى المرء يدركه


تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

*                       *
حيث يشتمل الشطر الأول على الفكرة، ويشتمل الشطر الثاني على الصورة، مع الإشارة إلى أن هذا التناظر ليس قانوناً ينظم الصور الكلاسيكية كافة، في البيت الشعري الواحد. بل إنه ينظم علاقة الصورة بالفكرة في ذلك الشعر عامة. وعلى أية حال فإن الأمر قد أصبح معروفاً وشائعاً، بما يكفينا مؤونة الإفاضة فيه. ولكن مانريده في هذا المجال هو أن التناظر الذي نلمسه بين عنصري الصورة الكلاسيكية، أو بين الفكرة والمجاز فيها، يتلاءم تماماً ووعيها الجمالي الذي يرى العالم من خلال التكامل والتناظر، كما أسلفنا غير مرة.

2 ـ الدرامية:

من المعلوم أن موقف الشعر العربي الكلاسيكي، والتقليدي المعاصر أيضاً، هو في الأساس موقف غنائي من العالم. إذ يتم التعبير عن الظواهر والأشياء، من خلال أثرها الانفعالي في الذات الفردية التي هي المحور الذي يتمحور حوله النتاج  الشعري. سواء أكان ذلك في طبيعة الانفعال، أم في رؤية العالم، أم في أسلوب التعبير. ولهذا فإن متلقيّ هذا الشعر لايتلقى العالم. بل يتلقى الذات التي ترى العالم وتتأثر به أو تعانيه.
ولاشك في أن الفن عامة هو موقف ذاتي، ولانستطيع البتة أن نتلقى العالم، كما هو في الفن، إذ لايمكن أن نرى فيه العالم بشكل موضوعي. بل نراه من منظور الذات المبدعة. ولكن ثمة فرق بين أن نراه من منظور الذات، وبين أن نرى الذات الفردية في تأثرها الانفعالي به. وهذا الفرق هو الذي يقف وراء اختلاف الشعر الغنائي عن الشعر الدرامي أو عن الدراما عامة. ففي حين يذهب الأول إلى التعبير عن المسائل الذاتية المتعلقة بالمبدع مباشرة، وبشكل شخصي؛ يذهب الثاني إلى التعبير عن مسائل مختلفة ذات طابع عام، لاترتبط بالضرورة بشخص المبدع الذي يستتر دائماً وراء شخصياته الدرامية.
ولسنا، هنا، في معرض التمييز بين الغنائية LYRICISM  والدرامية DRAMATIC في الأدب. ولكن ماأردناه هو الإشارة إلى أن موقع الذات الفردية من النتاج الغنائي يحيل على موقعها من العالم، وطريقة تعاملها معه، فهي ترى في نفسها محوراً أساسياً يقابل العالم بظواهره وجوانبه، مما يدفعها إلى التعامل معه ذاتياً بشكل ينسجم وموقعها المحوري.
فثمة، إذاً، قطبان اثنان في الوعي الغنائي بعامة، وهما الذات الفردية والعالم الموضوعي. وهما إذ يتبادلان التأثير، على الصعيد الانفعالي، لايأخذان الأهمية نفسها على صعيد التعبير. فالذات بهمومها وهواجسها وشواغلها هي القطب الأهم. ولهذا فإن متلقي الشعر الغنائي يهتم بالذات التي ترى وتتأثر وتعاني، أكثر من اهتمامه بالعالم.(*) وإذا مااهتمّ به، فلكي يتوضّح أثره في تلك الذات التي غالباً ماتتجاوب وذاته الفردية. وكأننا نقول بذلك إن الشعر الغنائي يفرض تلقياً جمالياً مناسباً له في الموقف. ولاشك في أن هذا يعود إلى أن ذلك الشعر ينهض من حاجة جمالية ذات طابع ذاتي ـ غنائي. ولم يكن للشعر العربي الكلاسيكي أن ينشأ، وأن يستمرَّ، لقرون عديدة، بشكله الغنائي، لولا سيطرة الحاجة الجمالية الغنائية ووعيها الذاتي، في المجتمع العربي.
غير أن ماحمله القرن العشرون من تغيرات وتبدلات متنوعة ومتعددة أصابت المجتمع العربي الحديث، قد أثرت تأثيراً كبيراً في الحاجات الجمالية وفي الوعي الجمالي أيضاً. فظهرت الفنون الموضوعية والدرامية، ثم تصدّرت هذه الفنون، مع تنامي حاجاتها الجمالية ساحة الأدب العربي الحديث، ولم يعد للحاجة الغنائية الصرف تلك الأهمية التي كانت لها من قبل. وهو مااقتضى تحولاً ملائماً على صعيد الوعي الغنائي، فكان أن اتصف بالدرامية.
أي أن التحول الذي أصاب المجتمع العربي قد دفع بالحاجات الجمالية، إلى الاتساع والتنوع والاختلاف. مما أفقد الوعي الغنائي الصرف مشروعيته الجمالية، وجعله يتحول بما يتلاءم والمستجدات. فظهر مايمكن تسميته بالوعي الغنائي ـ الدرامي.
إنه وعي غنائي، لأنه ينطلق من الذات الفردية في وعي العالم. وهو درامي، لأنه يجسد العالم من خلال الصراع الذي هو جوهر الدراما، بشكل يبدو فيه الصراع شبه موضوعي. أو لنقل: لأن ثمة ذاتاً فردية متموضعة. بمعنى أن "موضعة" الذاتي في الحداثة الشعرية العربية هي الشكل الأنسب لطبيعة الحاجات الجمالية التي أفرزت الفنون الأدبية الموضوعية والدرامية كالرواية والقصة القصيرة والمسرحية، ولم يكن بإمكان الشاعر الحداثي المعنيّ بالتعبير عن إيقاع العصر، أن يغضّ النظر عن ذلك التحول في الحاجات، كما يفعل الشاعر التقليدي المعاصر الذي مايزال ينظر إلى العالم من المنظور الذاتي الغنائي الصرف.
إن موضعة الذاتي تعني التخفيف من بروز الذات الفردية أو إحالاتها، في التعبير الشعري، بحيث لايبدو النص الشعري إحالة مباشرة على ذات المبدع. بل يبدو معادلاً موضوعياً لذاته في علاقته بالعالم. وعلى هذا النحو، فإن النص الحداثي يتقاطع وذات المبدع، غير أنه لايتطابق وإياها. إذ إنه يعادلها فنياً، ولايماثلها شخصياً. وقد انعكست هذه الموضعة الذاتية على الصعيد التعبيري من خلال النمذجة الفنية والبناء الشعري الدرامي، ولكن قبل الحديث عن هذين الجانبين، لابأس من الإشارة إلى أن موضعة الذاتي، في الحداثة الشعرية، لاتتناقض وما نلحظه عند هذا الشاعر أو ذاك من بروز حاد للمسائل الفردية. إذ إن هذا المسائل غالباً مايتمّ التعبير عنها بشكل غنائي ـ درامي. بمعنى أن ثمة تحوّلاً في وعي تلك المسائل، وفي طريقة التعبير عنها. فالدرامية لاتلغي وجود الذاتية. بل تلغي نمطاً معيناً في التعامل معها. وينبغي أن لاننسى أن الحداثة الشعرية هي في نهاية المطاف حركة غنائية تتسم بالدرامية. وليست بحال من الأحوال حركة درامية.

آ ـ النمذجة الفنية:

إن النمذجة الفنية أسلوب تقني جديد، طرحته الحداثة الشعرية العربية، في محاولتها التعبير عن وعيها الغنائي الموصوف بالدرامية. وهو أسلوب نقلته الحداثة من الفنون الأدبية الموضوعية والدرامية، إلى الشعر الغنائي. ولم يكن لهذا الأسلوب من أهمية تذكر، فيما قبل الحداثة من شعر عربي. ولكن قبل الإشارة إلى هذا الأسلوب ـ إذ أن المجال لايسمح بالإفاضة(*) - لابد من التمييز بين النمذجة الفنية والنمذجة الجمالية. حيث إن الأولى تعني خلق شخصيات ذات طبيعة نفسية أو اجتماعية معينة، تتنامى في سياقها الفني، مستقلة بهذا القدر أو ذاك عن ذات المبدع. أما الثانية فتعني تجسيد إحدى القيم الجمالية كالجمال أوالقبح أو الجلال أو البطولية... إلخ، من خلال هذه الصورة أو تلك الحالة، أو ذلك الموقف. ولايخلو إبداع فني، مهما يكن نوعه أو نمطه، من هذه النمذجة. إن النمذجة الفنية تنطوي على النمذجة الجمالية، غير أن هذه لاتنطوي على تلك بالضرورة. إذ إن النمذجة الجمالية هي سمة الفن عامة، أما النمذجة الفنية فهي سمة الفنون الموضوعية والدرامية خاصة. وبهذا المعنى فإن الشعر العربي الكلاسيكي قد طرح الكثير الكثير من النماذج الجمالية، ولكنه قلّما مال إلى طرح النماذج الفنية. هذه النماذج التي شكلت قوام الكثير من النصوص الشعرية الحداثية وذلك من مثل: المومس العمياء للسياب، والأخضر بن يوسف، لسعدي يوسف، ومهيار الدمشقي لأدونيس، وإبراهيم ليوسف الخال، ولعازر لخليل حاوي....إلخ.
إن الاتكاء على النمذجة الفنية لايخفّف من حدة الغنائية، في الشعر، فحسب. بل إنه أيضاً يلغي التقريرية أو يخفف منها، كما يفسح المجال لدخول عدة أصوات، في النص الشعري، وهو مايحيل على بروز صفة الصراع التي تميز عادة الأعمال الدرامية. ومن جهة أخرى، فإن هذه النمذجة قد أفسحت المجال، أمام الشاعر، كي يخرج من التعبير عن ذاتيته، إلى التعبير عن الذوات الأخرى التي يتعاطف أو يتقاطع أو يتصارع أو يتناقض وإياها، أي أن هذه النمذجة قد وسّعت المساحة التي يتصدى لها الشاعر بفنه. فلم يعد الأمر متعلقاً بالتعبير عن أثر الظواهر والأشياء في الذات الفردية. بل أصبح متعلقاً أيضاً بالتعبير عن ذلك الأثر في الذوات الأخرى التي أصبح لها الحق بالوجود، من خلال النمذجة، بمعزل عن فردية الشاعر.

ب ـ البناء الدرامي:

يؤكد الدكتور عز الدين اسماعيل، في دراسته للأبنية الشعرية، في الشعر المعاصر، أن ثمة ميلاً واضحاً إلى الشكل الدرامي، ظهر ذلك من خلال إنتاج القصائد الطويلة التي تبدو وكأنها ملاحم شعرية حديثة(31). ويرى أن هذه القصيدة:
"تزداد بنيتها تعقيداً حتى صارت القصيدة موقفاً فكرياً غاية في التعميم والشمول، وغاية في الدقة والرهافة في الوقت نفسه.... وتطورت في اتجاه الشكل الدرامي فصارت مجموعة من الأصوات المختلفة والمتميّزة، وازدادت تركيباً وتعقيداً وإفراطاً في الطول حتى قاربت منهج التأليف الموضوعي..."(32).
وعلى الرغم من أن الدكتور إسماعيل يصف هذه القصيدة بالطويلة، غير أنه لايشترط فيها الطول الكمي بالضرورة، فقد تكون القصيدة قصيرة نسبياً، وتكون في الوقت نفسه متصفة بصفات القصيدة الطويلة من حيث التعقيد والشمول والدقة والرهافة. فالشكل أو البناء الدرامي هو الأساس.
ولاشك في أن هذا البناء لم يكن له أن يتمّ، لولا سمة الدرامية التي تميز الوعي الجمالي الحداثي الذي راح يتخفف من الغنائية، حيناً من خلال النمذجة، وحيناً من خلال البناء الشعري، وحيناً من خلالهما معاً.
وعلى الرغم من أن الدكتور إسماعيل قد درس هذا البناء، إلا أنه لابأس من الإشارة السريعة إليه، توضيحاً لسمة الدرامية في الوعي الحداثي.
يتميز البناء الدرامي، في شعر الحداثة، بتعدّد الأصوات وتناقضها، وبتطور الصورة الفنية من بعضها وتواشجها فيما بينها، وبالتماسك البنيوي الذي يجعل من النص كلاً واحداً، يصعب اجتزاؤه إلى وحدات مستقلة؛ ويتميّز أيضاً بطرح المشاعر المصطرعة، وبالتنامي الانفعالي للحالة الشعرية المطروحة، وبتنوّع الجوانب التي يرصدها النص الشعري. وغني عن البيان أن هذه السمات يمكن أن توجد جميعاً في نص واحد، كما يمكن أن يوجد معظمها في نص آخر. فقد تتعدد الأصوات في النص من دون تنوّع في الجوانب، وقد يتنامى الانفعال من دون أن تصطرع المشاعر..ولكن البناء الدرامي يتنافى عادة وأحادية الصوت، مثلما يتنافى والتفكّك أو المراوحة في انفعال ذي طبيعة واحدة ثابتة. ولاشك في أن النص النموذجي للبناء الدرامي هو ذلك النص الذي ينطوي على تلك السمات مجتمعة. وما أكثر النصوص النموذجية في ذلك. ويكفي أن نتذكر ذلك الكمّ الهائل من القصائد الطويلة التي طالت لتشمل ديواناً شعرياً بكامله. وبدهي أن البناء الدرامي ليس خاصاً بالقصائد الطويلة ـ وإن يكن أكثر وضوحاً فيها ـ بل إنه يشمل أيضاً بعض القصائد القصيرة، وحتى بعض المقطعات الشعرية التي تبدو، للوهلة الأولى، غنائية صرفاً، ولتبيان ذلك، نتوقف عند واحد من النصوص القصيرة جداً. أما النص فهو قصيدة لأحمد عبد المعطي حجازي، بعنوان "إيقاعات شرقية"(33)
أغويتني
ياأيها الوجه الحسن
ولم تقدّم لي الثمن
لاطرحة العرس،
ولافرحة أعضاء البدن
            *
وكان شعري خيمة،
وكان نهداي عشيقين،
وكانت سُرّتي كأساً،
وكانت فخذي
إبريق خمر ولبن ‍‍!
وذبحوني!
آه أهلي! ذبحوني!
لم تقدّم لي الكفن
ياأيها الوجه الحسن
            *
وكان شعري
وكان نهداي
وكانت جثّتي
ينهشها الإيقاع
ينـ ....!
قد يبدو هذا النص خالياً من الدرامية في بنائه، لما يتصف به من طرح لما هو فردي، ولما يظهر عليه من استعلاء لنبرة الإيقاع البادية بالتقفية المتوالية، والتشطير الموسيقي. غير أن ذلك لم يلغ البناء الدرامي أو يخفف منه. بل لعله يعمق فيه هذا البناء. بحيث يتكامل الشكل الإيقاعي ومايطرحه النص من حالة يتداخل فيها الإحساس بالجمال والإحساس التراجيدي.
إن هذا التداخل هو الملمح الأول من ملامح البناء الدرامي، في هذا النص الذي يبدأ بالغواية التي هي الإحساس بالجمال، وينتهي بنهش الإيقاع (أو الزمن) للجثة، وهو مايعني الإحساس التراجيدي. وما بين هذين الإحساسين فعل صفته البشاعة والقبح وهو فعل الذبح. بمعنى أن ثمة اصطراعاً في المشاعر، كما أن ثمة تنامياً في الانفعال  راح يعلن عن نفسه، منذ أن اكتفى الوجه الحسن بالغواية، متخلّفاً عن دفع ماتتطلّبه من تتويج بطرحة العرس أو أو فرحة أعضاء البدن. حيث بدا أن هنالك نوعاً من الخيبة بالوجه الحسن. ثم تحولت الخيبة إلى فجيعة، وتعمقت الفجيعة لتغدو مأساة، حين تخلّف الوجه الحسن حتى عن تقديم الكفن، لتبقى الجثة مرمية في العراء، ينهشها الزمن بفعل لايكاد ينتهي (ينهشها الإيقاع ينـ....!)
ونلحظ أن هذه التحولات لم تأت بمعزل عن الصراع أو التناقض بل إنه الأساس فيها. فالغواية تتناقض والإحجام، وتتناقض أيضاً وقوانين الأهل. كما أن ذلك الجمال يتناقض وفعل الذبح، والكفن يتناقض والوجه الحسن، والجثة هي الأخرى تتناقض وفعل الإيقاع أو الزمن. ويمكن القول أيضاً إن النص بمجمله يقوم على التناقض بين قطبين اثنين. الأول هو الجمال ومصاحباته (الغواية والحسن والعرس والفرحة والخمر...) والثاني هو القبح ومصاحباته (الإحجام والذبح أو النهش) ومن خلال التناقض والصراع بينهما تتولد النهاية التراجيدية....ـ ...ينـ /حيث يسقط الجمال سقوطاً مدوّياً. ومايزال دويه مستمراً .
إن كل ذلك يجعل من النص كلاً واحداً، لايمكن اجتزاؤه؛ ويجعل من صوره الفنية متواشجة، يتنامى بعضها من بعض، ولانعتقد أن ثمة حاجة للإفاضة في ذلك وهكذا نلحظ أن هذا النص يقوم على البناء الدرامي، على الرغم من قصره النسبي الذي يوحي بالغنائية. ومالاحظناه في هذا النص، نلاحظه أيضاً في مقطع شعري من قصيدة بعنوان "ثلاث حالات لإمرأة واحدة"(34) لسعدي يوسف، والمقطع الذي سوف نثبته يمثل الحالة الثانية. حيث يظهر فيه التنامي الانفعالي والتطور الصوري والتماسك البنيوي:
في المحطة، كان القطار الأخير إلى برشلونه
يطلق الصفرات الأخيره
كنت شاحبة في غصون الصباح التي
تشرب البرد والريح والتمتمات الأخيره
ترحلين إذن؟
تبحثين عن العمل المنزلي...
بمملكة في بلاد الشمال
أنت... سيدة المطعم الغجري...
ألم تبصري كيف طاف المغنّون حولك؟
كيف رأونا عروسين،
بين زهور النحاس وأطباقه وغصون الظلال
ليلة...
ثم تمضين...
شاحبة...
في القطار الأخير إلى برشلونه(35)
لقد انعكس ميل الحداثة الشعرية إلى الدرامية،إذاً، في النمذجة الفنية والبناء الدرامي، وهو مايؤكد محاولتها الجادة التعبير الفني عما استجّد من حاجات جمالية، لم يعد بالإمكان انعكاسها بالشكل الغنائي الصرف، على نحو يعادلها فنياً. ومما يجب ذكره، أخيراً، أن الميل إلى الدرامية، في الشعر العربي، كان قد بدأ، بشكل أولي، مع الرومانتيكية العربية، "وليس عجيباً أن تظهر لدى شعرائنا الرومانتيكيين بدايات درامية. لأن معنى التجربة الشعرية وأفقها قد اتسع على أيديهم واصطبغ بغير قليل من الجدية في معاناة الحياة"(36).

3ـ الكلية:

إن الكلية هي السمة الثالثة من سمات الوعي الجمالي الحداثي، ولها علاقة وثيقة بكلّ من التجادلية والدرامية. إذ إن الوعي الذي يرى العالم في وحدته القائمة على التناقض وتبادل التأثير، لايمكنه أن يتعامل مع الظواهر والأشياء بوصفها وحدات جزئية ذات كينونة مستقلة متمايزة، أي لايمكنه إلا أن يراها في إطارها الكلي. وكذا هي الحال بالنسبة إلى سمة الدرامية التي تفترض رؤية الظاهرة في تحولها من حالة إلى أخرى، من خلال الصراع، ومن خلال علاقاتها بالظواهر الأخرى، وهو مايعني رؤية كلية أيضاً. والحق أن هذه السمات الثلاث ترتبط فيما بينها بعلاقة جدلية، يصعب النظر إلى واحدة منها بمعزل عن الثانية. مما يؤكد الاتساق والانسجام في الوعي الحداثي، ويؤكد أيضاً أن هذا الوعي متكامل في طريقة تعامله الجمالي مع الواقع والعالم.
تفترض الكلية، إذاً، النظر إلى الظاهرة في جوانبها المختلفة والمتعددة، وفي ارتباطها بالظواهر الأخرى. فلاتؤخذ معزولة، أو يؤخذ جانب منها فحسب، ومن هنا فإن الكلية تفترض تقويماً جمالياً كلياً. إذ إن الرؤية الكلية للظاهرة تنعكس في تقويم جمالي كلي بالضرورة، وقد يقال، في هذا المجال، إن الكلية، على النحو المذكور، هي سمة البحث العلمي، لاسمة الوعي الجمالي.
لاشك في أن هنالك اختلافاً كبيراً بين الكلية في البحث العلمي، والكلية في الوعي الجمالي. ففي حين أن الأول يتجه إلى وعي العلاقات والسمات الكلية التي تنظم الظاهرة، في ذاتها من جهة، وفي محيطها من جهة أخرى، وذلك بأدوات معرفية مجردة، وبذهنية علمية منطقية، تسعى إلى تحويل الظاهرة الحية إلى قانون نظري مجرد. فإن الثاني ـ الوعي الجمالي الحداثي ـ يتجه إلى وعي الظاهرة بسماتها وعلاقاتها وذلك بأدوات حسية فنية، وذهنية انفعالية تصويرية، وهو مايعني رصد الأثر الانفعالي الناجم عن الظاهرة، لارصد الظاهرة، كما هي، مثلما يفترض في  البحث العلمي. ومن هنا فإن الوعي الجمالي لايقوم على فهم الظواهر، كما هي عليه، بل يقوم على فهمهما، في تأثيرها الإنفعالي ـ الجمالي في الذات الإنسانية، بمعنى أن الوعي الجمالي ليس وعياً موضوعياً، وإنما هو وعي ذاتي ـ أنفعالي. ولذلك من الخطأ أن نبحث عن الواقع الموضوعي، كما هو، في الفن، والصحيح هو البحث عن ذلك الواقع في تشكّله الذاتي. فليس ثمة حقائق موضوعية في الفن. بل ثمة حقائق فنية، وربما الأصح أن نقول إن ثمة ظواهر فنية. فالفن ينتج ظواهر، كما أنه يحيا على الظواهر، حسبما يقول هيغل(37).
وباتصاف الوعي الحداثي بالكلية يكون قد افترق مرة ثالثة عن الوعي الكلاسيكي العربي في صفته الجزئية التي ظهرت واضحة فيما يسمّى بالأغراض الشعرية؛ وظهرت أيضاً في شكل القصيدة القائم على أبيات، كل منها يشكل جزئية متكاملة غير منقوصة؛ كما ظهرت في التقويمات الجمالية الجزئية لبعض الأعضاء الأنثوية، وبعض الحيوانات والنباتات وبعض الأفعال والحالات الاجتماعية والنفسية، حيث يمكن التوكيد أن الوعي الكلاسيكي قد اصطبغ بالجزئية، في مجمل نشاطه الجمالي، وقلّما يميل إلى الكليّة في الرؤية والرؤيا والتقويم والتأثير الانفعالي، أي في نشاطه الجمالي، وانعكاسه الفني.
لقد انعكست الكلية، في غير مستوى من مستويات النص الشعري الحداثي. فبدا هذا النص وكأنه يسعى إلى الإحاطة والشمول، في كل مايتناوله أو يتعرض له. ولأن المجال لايسمح برصد كل مستويات النص، فإننا نكتفي بالحديث عن اثنين منها فقط، جرياً على عادتنا في هذا المبحث. أما هذان المستويان، فهما: الموضوع الفني والتقويم الجمالي.

آ ـ الموضوع الفني:

لقد تغيرت العلاقة الجمالية بين الذات المبدعة وموضوعها الفني تغيراً كبيراً، في شعر الحداثة، عما كانت عليه من قبل في الشعر الكلاسيكي، فقد كانت المحاكاة هي الأساس في تلك العلاقة. على حين أصبحت، في شعر الحداثة، قائمة على الخلق. فلم يعد الموضوع سوى محرّض جمالي، تنطلق منه الذات المبدعة إلى الخلق بما يتلاءم وطبيعة التحريض، وبما يتلاءم أيضاً وطبيعة الاهتمامات الذاتية. ومن هنا، فإن الموضوع، من حيث هو موضوع ناجز، قد غاب عن شعر الحداثة، ليحضر بدلاً منه تحريضه الجمالي. بل يمكن القول إن ماحضر هو التحريضات الجمالية لعدة موضوعات متشابكة ومتناغمة، في الوقت نفسه. ولهذا فقد تراجع شعر الموضوع إلى الخلف، وتصدّر شعر التجربة POETRY OF EXPERIENCE. إذ إن شعر الموضوع يفترض شعوراً محدداً واضحاً مرتبطاً بموضوعه، أما شعر التجربة فينطوي على مشاعر وحالات وموضوعات متعددة ومتنوعة. وهو ماينسجم ومفهوم التجربة عامة حيث تتداخل المشاعر والموضوعات فيما بينها تداخلاً شديداً، بسبب طبيعة التجربة التي تنصهر فيها الموضوعات والمشاعر، لتغدو كلاً موحداً(38).
إن النص الشعري الحداثي لايعالج عادة، موضوعاً محدداً، وإنما يعالج تجربة روحية أو نفسية أو اجتماعية أو كلها معاً ـ وهو الأعمّ الأغلب ـ وبذلك فإن الميل إلى الكلية قد دفع بالنص الشعري إلى أن يكون نص تجربة، لانص موضوع. مما أدى به إلى تجاوز ثنائية الذات والموضوع، وتجاوز الشعور المحدّد، وإلغاء الأغراض الشعرية المعهودة. وقد يبدو أن شعر الحداثة لم يعد ينتج، جراء ذلك التحول، معرفة جمالية بالموضوع. لأنه اكتفى من الموضوع بتحريضه الجمالي فحسب. غير أن واقع الحال يؤكد عكس هذا. فالميل إلى التعبير عن التجربة قد جعل من المعرفة الجمالية، في شعر الحداثة، تتسع لتشمل عدة موضوعات ومشاعر في آن معاً. وبهذا فإن المعرفة الجمالية المتحصلة من قصيدة التجربة هي معرفة كلية تشتمل على كلّ مايتعلق بالمحرض الجمالي. سواء أكان ذلك موضوعاً أم شعوراً أم وعياً، من دون أن يعني هذا انفصالاً فيمابينها، أو بروزاً لجانب دون آخر. فالتجربة هي الكلّ المتناغم المتكامل الذي لايمكن تجزيئه إلى وحدات مستقلة. وإذا ما أردنا أن نحافظ على استخدام مصطلح الموضوع، في شعر الحداثة، فإنه لامناص من فهمه فهماً مختلفاً، بحيث لايحيل على الواقع الموضوعي، وإنما يحيل على التجربة التي أصبحت هي الموضوع الفني في شعر الحداثة. وغني عن البيان أن هذا التحول لاينسجم وسمة الكلية فحسب. بل ينسجم أيضاً وسمة التجادلية بما تعنيه من تبادل التأثير وانتفاء الاستقلالية، عن العناصر والجوانب.
ولكن ينبغي الإشارة إلى أن الرومانتيكية العربية كانت قد خطت الخطوة الأولى في تجاوز الموضوع الواقعي من حيث كونه قابلاً للمحاكاة؛ ومالت باتجاه الموضوع النفسي الذي يقترب من التجربة. غير أن الفرق بين التجربة والموضوع النفسي يبقى قائماً، وفحواه أن هذا الموضوع ينحصر في إطار الطبيعة النفسية الخاصة بالفرد، في حين أن التجربة أعمّ وأشمل، وهي قابلةلمجمل الموضوعات، على اختلاف مصادرها وطبائعها، ولمجمل الأنماط النفسية والروحية والاجتماعية. ونعتقد أن الأمثلة الشعرية المثبتة في هذا البحث تؤكد ماذهبنا إليه وتغني عن التمثيل على ذلك.

ب ـ التقويم الجمالي:

من البدهي، في علم الجمال، أن الفن بعامة تقويم جمالي للظواهر والأشياء، من منظور المثل الأعلى للفنان. فهو، بهذا المعنى ، تقويم ذاتي. غير أن هذا التقويم الذاتي لاينشأ بمعزل عما هو موضوعي في تلك الظواهر. بل إنه ينشأ من خلال العلاقة بها، وعبر طبيعة التأثير الذي تخلّفه في الذات التي لاتقوّم، ولاتتأثر هي الأخرى بمعزل عن مثلها الأعلى وذوقها الجمالي. ولأن المثل الأعلى والذوق والوعي والحاجة ومكانة الظواهر بالنسبة إلى الإنسان، كلاً منها يتغير، فإن تغيُّر التقويمات الجمالية يغدو أمراً محتوماً. إذ إنها نتاج تلك الجوانب مجتمعة. ومن هنا لاغرابة في أن نشهد اختلافاً في التقويمات الجمالية، من بيئة إلى أخرى . بل من فرد إلى آخر أيضاً، فيما يخص التقويمات الجزئية.
نقول ذلك، تمهيداً للحديث عن التقويم الجمالي، في شعر الحداثة. حيث إن هذا الشعر قد تمخّض عن تقويمات جمالية مختلفة، بشكل واضح، عن تلك التي تمخض عنها الشعر العربي الكلاسيكي والتقليدي المعاصر. سواء أكان ذلك بطبيعة التقويم. أم بتنوعه وتعدّده، أم بعلاقاته بكلّ من الموضوع والذات.
فمن المعلوم أن طبيعة التقويم، في الشعر الكلاسيكي، غالباً ماتكون طبيعة حسية، فيما يتعلق بالظواهر الطبيعية. وقد ظهر ذلك في الصورة الفنية في ذلك الشعر، كما ظهر في دفاع النقد العربي القديم عن حسية الصورة(39).
ومن جهة ثانية، فإن ذلك الشعر غالباً مايطرح قيمة جمالية واحدة لموضوعه الفني، وما مصطلح الأغراض الشعرية إلا دليلاً على هذا. فكلّ غرض يختصُّ بقيمة محددة. فالجمال للغزل، والتراجيدية للرثاء، والبطولية للفخر والمديح، أما الهجاء فله القبح والكوميدية. وقلما تتداخل هذه القيم في موضوع واحد. غير أنها قد تتعدّد في النص الواحد، بشكل تراكمي، مع توالي الأغراض الشعرية. ومن جهة ثالثة، فإن التقويم، في ذلك الشعر، ينهض من احترام الذات لصفات الموضوع الفيزيائية والاجتماعية. ممايدفعها إلى محاكاته فنياً، والإخلاص له في إعادة إنتاجه جمالياً. وقد ظهر ذلك في كثرة الصفات المشتركة التي يراها الشعر العربي الكلاسيكي لهذا الموضوع أو ذاك، كالصحراء والناقة والأطلال والفرس والخمرة والمرأة والحرب والفارس...إلخ. وقد ظهر أيضاً في دفاع النقد العربي القديم عن صفات الموضوع، والهجوم على الشعراء الذين يقصّرون أو يغيّرون في ذلك، ولو بدرجات محدودة. ولعل في تتبّع الآمدي للأخطاء التي يرى أن أبا تمام قد وقع فيهاً دليلاً واضحاً على هذا(40). ولاشك في أن هذا التتبع يحيل على موقف جمالي يرى ضرورة أن يكون الشعر محاكاة للموضوع الواقعي، من منظور المثل الأعلى السائد. ومن الطريف، هنا، أن ماكان الآمدي قد رآه صفة سلبية، في شعر أبي تمام، تراه الحداثة ، شعراء ونقاداً، صفة إيجابية، جعلت من أبي تمام الشاعر الأثير بالنسبة إلى الحداثة، وهو مايعني تناغم شعر أبي تمام والوعي الجمالي الحداثي.
لقد طرحت الحداثة الشعرية تصوراً جديداً للتقويم الجمالي، فأصبح ذا طبيعة معنوية محمولة على عناصر حسية. وهو ماانعكس في الصورة الفنية ذات العناصر الحسية والإيحاء المعنوي؛ وانعكس أيضاً في التعامل الرمزي مع الأشياء، فبدت ذات طبيعة معنوية، على الرغم من كونها حسية في واقعها الموضوعي، أو بدت حسية على الرغم من معنويتها في ذلك الواقع. ولاشك في أن هذا ينسجم ومنطق التحريض الجمالي الذي تتبناه الحداثة الشعرية. بمعنى أن أثر الموضوع الواقعي هو الذي يتمّ التعبير عنه، لا الصفات العامة لهذا الموضوع. ولأن ذلك الأثر يمكن أن يكون حسياً، مثلما يمكن أن يكون معنوياً، فقد تمّ النظر إلى الموضوع من خلال أثره. وهو ماأدى إلى تحسيس المعنوي، كما أدى إلى تحويل المعنوي إلى حسي، على أن الأمر مرتبط، في نهاية المطاف، بطبيعة الأثر لاطبيعة المؤثّر.
ولأن الحداثة الشعرية تسعى إلى طرح التجربة لاطرح الموضوع، ولأن التجربة تتداخل فيها الموضوعات والانفعالات والمشاعر والرؤى، فقد ظهرت التقويمات الجمالية في النص متداخلة ومتعددة ومتصارعة. وقلّما نلحظ نصاً حداثياً يطرح قيمة جمالية واحدة. بل إن التداخل والتعدد والتصارع في التقويمات من صفات النص الشعري الحداثي عامة. وقد لانبالغ في القول بأن الصورة الفنية الواحدة قد تنطوي أحياناً علىعدة تقويمات. وقد مرَّ بنا سابقاً الحديث عن صورة محمود درويش (مشت الخيول على العصافير الصغيرة فابتكرنا الياسمين). ورأينا كيف تعددت التقويمات وتصارعت. ولابأس من الإشارة، في هذا المجال، إلى أن ذلك  يتلاءم والوظيفة الجمالية ـ المعرفية المزدوجة للصورة الفنية، في شعر الحداثة، حيث أصبحت الصورة انعكاساً للتجربة، ولابد للعاكس من أن يمثّل المعكوس، بدرجة ما من الدقة والموضوعية.
وكي يتوضح المنطق التقويمي الحداثي، نتوقف عند ثلاثة من المقاطع الشعرية ذات الحالات والأنماط المختلفة.
يقول صلاح عبد الصبور، في قصيدة بعنوان "البحث عن وردة الصقيع":
أبحث عنك في ملاءة المساء
أراك كالنجوم عاريه
نائمة مبعثره
مشوقة للوصل والمسامره
ولاقتراح الخمر والغناء
وحينما تهتّز أجفاني/ وتفلتين من شباك رؤيتي المنحسره
تذوين بين الأرض والسماء
ويسقط الإعياء
منهمراً كالمطره
على هشيم نفسي الذابلة المنكسره
كأنه الإغماء.(41)
ويقول محمود درويش، في قصيدة "بيروت":
تفاحة للبحر، نرجسة الرخام
فراشة غجرية، بيروت. شكل الروح في المرآة
وصف المرأة الأولى، ورائحة الغمام
بيروت من تعب ومن ذهب، وأندلس وشام
فضة. زبد. وصايا الأرض في ريش الحمام
وفاة سنبلة. تشرُّد نجمة بيني وبين حبيبتي بيروت
لم أسمع دمي من قبل ينطق باسم عاشقة تنام على دمي...وتنام...(42)
ويقول مريد البرغوثي، في قصيدة "رنة الإبرة":
تطريز ثوبك صامت...ويقولُ
الأخضر المبحوح ناي ناعم
مسُّته كفٌّ الريح والراعي
وأزرقه دفوف حولها شُعل وأحمره طبولُ
ومنمنمات رسومه همس وإصغاء
وغامقها به نعَس
وفاتحها له نفَس وفاجرها خجولُ(43)
على الرغم من أن هذه المقاطع متباينة في الأسلوب والحالة المرصودة والإيحاء، فإنها تصدر جميعاً من منطق تقويمي جمالي موحّد . فثمة الطبيعة المعنوية للتقويم، وتداخل التقويمات، والتعامل مع الأشياء من خلال تحريضها الجمالي ـ الانفعالي.
ففي المقطع الأول الذي يمكن أن يحيل على المعاناة الوجودية أو على المعاناة الفكرية ـ الفلسفية أو كلتيهما معاً، نلحظ أن الذات تعاني بحثاً مريراً عن الفكرة المنشودة أو المثل الأعلى، في الأشياء الغامضة(ونشير إلى أن بقية مقاطع القصيدة تتابع البحث عن الفكرة في مجالات الحياة كافة). فترى الفكرة عارية، نائمة، مبعثرة، ولكن تراها أيضاً راغبة في التجسّد(الوصل)، وفي الانتشار الجميل (الخمر والغناء). غير أن الذات سرعان مايصيبها الإعياء، وكأنها مااستطاعت تحمّل مارأت أو حمله واعتناقه، فتذوب الفكرة، وتعود الذات إلى ما كانت عليه من ذبول وانكسار، في غياب المثل الأعلى أو الفكرة المنشودة.
نلحظ أن محور المقطع محور معنوي، في الأساس ، ولكنه تجسد بعناصر حسية، مثل الملاءة والمساء والنجوم والخمر والغناء والشباك والهشيم. إلا أن دلالات هذه العناصر ذات طبيعة معنوية بحت. فلايمكن طبعاً أن يبحث الشاعر عن المثل الأعلى في ملاءة المساء، بالمعنى الحرفي للتركيب بل ليس ثمة ملاءة للمساء أصلاً. كما لايمكن أن يتشوّق المثل الأعلى إلى الوصل والمسامرة أو الخمر والغناء. وعلى الرغم من أن هذه الإشارة تبدو ساذجة، في تلقي الشعر، إذ من البدهي أن ينهض الشعر من المجاز، إلا أننا أردنا منها أن تشير إلى العملية التي تنظم هذا المقطع، وهي تحسيس المعنوي، وإعطاء الحسي منحى معنوياً، في الوقت نفسه.
وذلك على النحو التالي:

معنوي    =        حسي    =        معنوي

فكرة                شكل              دلالة
وبهذا النحو، يكون المقطع قد حافظ على طبيعته المعنوية، كما يكون أيضاً قد حافظ على عناصر الصورة الحسية. إذ إن الحسي هو الحامل الجمالي للمعنوي في الفن عامة. حتى فيما يسمّى بالفن التجريدي فإن الحسية هي الحامل لأشكاله التجريدية.
واضح من المقطع أن الشاعر لم يهدف إلى محاكاة شيء أو موضوع ما، وإنما عبّر عن الأثر الذي تركته فيه الفكرة، بحالتها المرصودة، وهو أثر متعدد متنوع، أدى إلى تقويمات متعددة متنوعة. ففي البدء، نلحظ الفكرة خارقة الجمال (كالنجوم)، ثم نلحظها مؤسية (مبعثرة)، ثم تغدو ذات جمال أليف هادئ (الوصل والمسامرة)، فذات جمال لذيذ صاخب (الخمر والغناء)، ثم نلحظها مأساوية(تذوين)، وينتهي المقطع بطرح قيمة المعذب، من خلال الإعياء المنهمر والنفس الذابلة المنكسرة. وبهذا، فإن المقطع قد طرح ثلاثة تقويمات جمالية: الجميل بأشكاله المتعددة، والمأساوي، والمعذب. ولاتتكامل التجربة، في هذا المقطع، إلا عبر العلاقة بين هذه التقويمات.
أما المقطع الثاني، مقطع درويش، فإنه أكثر تعقيداً، وأكثر غنى على صعيد المنطق التقويمي الحداثي، من دون أن يعني هذا حكماً فنياًعلى أحد المقطعين. حيث تتوالى الصور الفنية، حول بيروت، بشكل يبدو فيه المقطع جملة من الصور المتلاحقة والمتزاحمة والمتناقضة التي تتمحور جميعاً حول تعميق الإحساس بأن بيروت هي مدينة المتناقضات. إنها الكلُّ الرائع الجميل القائم على التناقض. فهي، بحسب قراءتنا التي لن تخلو مما هو ذاتي وعياً وذوقاً، تلك الفتاة الرائعة الحسن والمنذورة للموت فداء للآخرين ـ ينبغي أن نتذكر، هنا، الأساطير والحكايا حول تقديم أجمل الفتيات كأضحية للبحر أو النهر الهائج ـ وهي الجمال المتحجر الصلد (نرجسة الرخام )، وربما تكون الجمال الحيوي الطالع من الصلادة؛ وهي الحيوية والعفوية والحرية والاحتراق (الفراشة = الحيوية والاحتراق. والغجرية = العفوية والحرية)؛ وهي العدم أو الذي لاتمكن معرفته (شكل الروح في المرآة)؛ وهي الجمال المتخيّل جراء الشهوة (وصف المرأة الأولى)، وهي الألفة المصحوبة بالدهشة (رائحة الغمام)، وهي الخبوُّ والبريق (تعب وذهب)، وهي التراجيدية والبطولية (أندلس وشام)، وهي الشيء الثمين والشيء الذي لاقيمة له (فضة وزبد) وهي الرسوخ المستقرُّ في الحيوية والحرية (وصايا الأرض في ريش الحمام)، وهي موت الجمال المخصب (وفاة سنبلة)، وهي الضياع والتوهان (تشرُّد نجمة). تلك هي بيروت التي يتعشقها الشاعر، وتنعم بالراحة على دمه (تنام على دمي)
نلحظ من ذلك أن كل صورة، في المقطع، هي تقويم جمالي. وقد تشتمل الصورة على تقويمين معاً، بشكل يمكن القول فيه إن المقطع ينطوي على خمسة عشر تقويماً، وهي عدد الصور الجزئية فيه. وهذه الصور أوالتقويمات لاتحاكي بيروت بل ترصد التحريض الجمالي لبيروت في الذات الشعرية. وهو مايعني إنتاج معرفة ببيروت وبالذات في علاقتهما معاً.
ومن اللافت للنظر في هذا المقطع، أنه لاوجود لأي عنصر معنوي يدخل في تركيب الصور الفنية. فكل عناصرها حسية، كالتفاحة والبحر والنرجسة والرخام والفراشة والرائحة والريش....إلخ، حتى الروح، وهي معنوية، تم النظر إليها حسياً (شكل الروح). أي ليس ثمة محاولة لتحسيس المعنوي، فبيروت حسية،، وعناصر الصورة حسية كذلك. غير أن دلالات الصور معنوية بحت، ولاوجود فيها للحسية إطلاقاً. وفي هذا تكمن المفارقة الفنية. إذ نتحصل على المعنوي مما هو حسي . ومن البدهي أن هذا لم يكن له أن يحدث، لو لم يكن التحريض الجمالي هو الأساس في التعبير... فأثر الحسي ليس بالضرورة حسياً فقط بل إن فيه بعداً معنوياً، وقد يكون الأثر المعنوي أوضح وأعمق من الأثر الحسي... فالضرب قد يؤثر في الكرامة تأثيراً أكبر وأدوم وأعمق، مما يؤثر في الجسم.
وعلى الرغم من أن المقطع ينطوي على صور وتقويمات جزئية مختلفة ومتناقضة إلاأن التقويم العام الذي يطرحه هو تقويم إيجابي. ويتلخص بعلاقة التناغم والتداخل والانسجام بين كلِّ من الذات وبيروت المتناقضة (عاشقة تنام على دمي). ولعل هذا من الشروط الأساسية في الفن عامة. إذ ينبغي أن يقدم العمل، في نهاية المطاف، طرحاً منسجماً متسقاً يخلو من التناقض في الرؤيا والتقويم، وإلا فإنه يفتقد إلى الشرعية الفنية. حيث يغدو أمشاجاً متنافرة، لاكلاً موحداً.
ويطرح المقطع الثالث، مقطع البرغوثي، تشكيلاً شعرياً للزيّ الفلكلوري للمرأة الفلسطينية، بلونه الأساسي الغائب (الأسود) والمعروف لدى المتلقي العربي، وبألوانه التجميلية كالأخضر والأزرق والأحمر، وبخيوطه ومنمنماته الزخرفية. وقد أراد الشاعر من ذلك أن يكون الثوب الفلسطيني تمثيلاً للتاريخ الفلسطيني ذي الخلفية المأساوية. وكأن اللون الأسود هو تلك الخلفية، أما الألوان الأخرى فهي نوعية ردّات الفعل الفلسطيني عبر التاريخ. بمعنى آخر: إن ذلك الثوب يمثل تاريخ فلسطين بحدادها (الأسود)، وأحزانها الدفينة (الأخضر المبحوح) وأفراحها وأهازيجها ( وأزرقه دفوف )، ونضالها ومقاومتها (وأحمره طبول )، وحياة أبنائها العاطفية (همس وإصغاء)، وميل القوى البارزة إلى الخمول (وغامقها به نعس )، وحيوية القوى غير البارزة (وفاتحها به نفس)، وقيمها التي تبتذل التفاخر بالعيب والفجور (وفاجرها خجول).
ولايختلف هذا المقطع عن المقطع الثاني، من حيث الدلالة المعنوية المتحصّلة مما هو حسي. ولكنه يختلف عنه من حيث إن الثوب لايعني نفسه بقدر مايمثل تاريخاً محدداً، في حين أن بيروت هي المعنية في المقطع السابق. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن بيروت المصوّرة توحي بإيحاءات معنوية حصراً. أما الثوب فيمكن أن يوحي معنوياً، بالإحالة على سواه، ويمكن أن يوحي حسياً أيضاً، وذلك فيما إذا نظرنا إلى الثوب على أنه لايعني سواه بل يعني نفسه حصراً وهذا ممكن في إحدى القراءات التي ترى أن الشاعر لم يهدف إلى غير التشكيل الشعري للثوب الفلكلوري. أي أنه نقل الثوب المحسوس بصرياً إلى ثوب محسوس سمعياً. ويختلف هذا المقطع، من جهة ثالثة، عن سابقه، في أنه يرصد الانسجام الحاصل من الاختلاف والتناقض (بين الأخضر والأزرق والأحمر، وبين الغامق والفاتح). في حين أن سابقه ليس معنياً برصد الانسجام. بل هو يرصد الاختلاف والتناقض فحسب، في بيروت؛ ويرصد من جهة أخرى الانسجام بين الذات وبيروت المتناقضة التي قد لاتوحي بالانسجام، بحسب المقطع.
إن الاختلاف في التعامل مع الأشياء، في شعر الحداثة، لايحيل على الاختلاف في طبيعة التحريضات الجمالية للأشياء، في الذات المبدعة فحسب. بل يحيل أيضاً على انتفاء النمطية الواحدة أو الموحّدة في الطرح الفني. فعلى الرغم من أن للحداثة وعياً جمالياً موحداً، إلا أنها لاتنطوي على نمطية فنية واحدة، ومااشتمال الحداثة على عدة تيارات شعرية إلا دليل على ذلك. صحيح أن هنالك نواظم مشتركة، ولكن هنالك أيضاً فوارق ملحوظة بين تلك التيارات ولا شك في أن كلّ ذلك ينسجم ومفهوم الجمال الذي يُشترط فيه التميّز والحرية والحيوية، بحسب الوعي الحداثي.

* إشارة أخيرة:

وهكذا نلحظ أن الوعي الجمالي الحداثي هو وعي تجادلي درامي كليّ، يختلف اختلافاً جذرياً عن الوعي الكلاسيكي العربي الذي هو وعي تكاملي غنائي جزئي. وهو ماأدى إلى تلك الاختلافات الواضحة، على صعيد الشكل الفني بين كلّ من شعر الحداثة والشعر العربي الكلاسيكي. غير أنه لابد من الإشارة، في هذا المجال، إلى أمرين هامين. الأول منهما أن هذا الاختلاف في طبيعة الوعي لايعني أن هنالك تطوراً. بل هنالك تحوّل أو تبدّل فحسب. إذ إن التطور يشير إلى أن ثمة أفضلية في اللاحق على السابق. وهو ماليس له مصداقية في تاريخ الفن عامة. فليس صحيحاً أن الفن الحديث أفضل من الفن القديم؛ كما ليس صحيحاً أن شعر الحداثة أفضل من الشعر العربي الكلاسيكي، وليس العكس صحيحاً بالضرورة. لقد كان الشعر العربي الكلاسيكي تلبية لحاجات جمالية متأصلة، وتعبيراً عن وعي جمالي يتلاءم وتلك الحاجات من جهة، ويتلاءم من جهة أخرى والمرحلة التاريخية التي ظهر فيها. وتلك هي الحال بالنسبة إلى شعر الحداثة الذي جاء أيضاً تلبية لحاجات جمالية جديدة، لم تكن موجودة من قبل، أو على الأقلّ: لم تكن لها تلك الأهمية التي تستدعي شكلاً فنياً جديداً ومختلفاً. ولكن إذا كانت المفاضلة بين شعر الحداثة والشعر العربي الكلاسيكي خاطئة ومغلوطة، إذ إن لكلّ منهما بيئته وحاجته ووعيه؛ فإن للمفاضلة بين شعر الحداثة والشعر التقليدي شرعيتها العلمية النقدية. فهما ينتميان إلى بيئة اجتماعية واحدة، ويتفاضلان في التعبير الجمالي عنها.
أما الأمر الهام الآخر، فهو أن اتصاف النص الشعري بسمات  الوعي الحداثي لايؤدي حتماً إلى اتصافه بالفنية، إذ إن هذه مرهونة بطبيعة النص الشعري لابطبيعة الوعي الذي يصدر عنه. بمعنى آخر: إذا لم يكن النص راقياً على الصعيد الفني، فإن تلك السمات لن تنقذه من الرداءة أو الهبوط.
إن شعراء هذه المرحلة أو تلك قد لايتفاوتون، على صعيد الوعي الجمالي، غير أنهم يتفاوتون، بالضرورة على صعيد تمثيله فنياً. ولاشك في أن الشاعر الأرقى فنياً هو في الوقت نفسه الأكثر تمثيلاً للوعي الجمالي.
لقد أدى اتصاف الوعي الحداثي بتلك السمات، إلى بروز ظاهرة الغموض في شعر الحداثة عامة ـ بدرجات متفاوتة بين النصوص طبعاً ـ حتى بدا أن الغموض لازمة من لوازم الحداثة الشعرية. وقد طرح النقد الأدبي المعاصر، في تسويغ هذه الظاهرة، عدة تفسيرات. منها "أن طبيعة الرؤيا الحديثة هي المصدر الحقيقي لما يشكوه البعض من غموض الشعر الحديث، فليس التلاعب بالأوزان أو اللغة أو الصور هو "السرّ" الكامن وراء هذا الغموض، وإنما هي الرؤيا المأساوية القاتمة في جوهرها العميق"(44). ومنها مايعيد الغموض إلى ثلاثة أسباب، وهي اعتماد الشاعر على ثقافته، وموقف الرؤية، وشخصية الفكر والتعبير الشعريين(45). ومنها مايربطه بالتفكير الشعري عامة، لابالتعبير الشعري، من جهة ومن جهة أخرى يربطه بطبيعة اللغة المجازية في الشعر. وهو مايعني أن الغموض من طبيعة الشعر عامة. ولايتميز الشعر الحديث من غيره في ذلك إلا في كونه قد أعطى الغموض أهمية لم تكن له من قبل(46) ومن التفسيرات أيضاً مايذهب إلى ربط الغموض بمفهوم النص الغائب إذ "يجب على أي دارس يعالج الغموض في النص الشعري أن ينظر إلى قضية النص الغائب (الإحالة)... حتى يمكنه ضبط عملية القراءة الصحيحة لغوامض الدلالة"(47). مما يؤدي إلى أن الغموض يرتبط بالنص، بقدر مايرتبط بالمتلقي. ولعل ارتباطه بالثاني هو الذي يجعل منه إشكالياً، فـ "نظراً  لغياب الاهتمام النقدي بالنص الغائب، ومعالجة مشكلاته وضحالة الخلفية المعرفية للجمهور العربي، يصبح الغموض الدلالي إشكالاً حقيقاً"(48)
وعلى الرغم من أهمية الرؤيا والتفكير الشعري والعمق الثقافي في بروز ظاهرة الغموض، في شعر الحداثة، إلا أن ثمة جانباً أساسياً مفقوداً، في تلك التفسيرات، وهو طبيعة الوعي الجمالي الحداثي، ولاسيما في سمته التجادلية وسمته الكلية.
ولقد توضح من مسار هذا المبحث أن الوعي الحداثي أكثر تعقيداً وتركيباً واتساعاً وعمقاً من الوعي الكلاسيكي. فلا شك في أن الوعي الذي يتعامل مع الظواهر من منظور الجزئية والاستقلالية والثبات، سوف يكون أقل تعقيداً وعمقاً...من ذلك الوعي الذي يتعامل معها من منظور الكلية والتجادلية والحيوية. أي أن الطبيعة المعقدة المركبة للوعي الحداثي هي المصدر الأول لظاهرة الغموض في النص الشعري الحداثي الذي لم يكن إلا تعبيراً فنياً عن تلك الطبيعة. غير أن ذلك لايعني بالضرورة أن كل غموض نلحظه في هذا النص أو ذاك، مصدره طبيعة ذلك الوعي. فقد لايصدر النص عن وعي جمالي أصلاً بل عن وعي فكري ـ فلسفي بحت، وهو مايؤدي إلى الانحراف عن الوعي الجمالي عامة، ومن ثَمَّ عن الفن. وقد يصدر أيضاً عن لعب مجاني باللغة، مما يعني انعدام الإحالة على ذلك الوعي، فيغدو مصدر الغموض هو اللعب اللغوي المجاني. وكأننا نقول بذلك إن ثمة غموضاً لا جمالياً، في بعض نصوص الحداثة الشعرية. ونمثّل لذلك بمقطعين لكل من أدونيس، وفايز خضور، يمثل المقطع الأول انحرافاً إلى الوعي الفكري ـ الفلسفي، ويمثل الثاني اللعب اللغوي المجاني:
يقول أدونيس:
ثدي النملة يفرز حليبه ويغسل الإسكندر
الفرس جهات أربع ورغيف واحد
والطريق كالبيضة لابداية له(49)
ويقول فايز خضور:
العفن الأزرق هدّب أنفاق السمّار، ومازالت
توغل، توغل أقدام التيار
تنتظر الشصّ الأسود في كبريت الفجر المطفأ
وحواكير الصفصاف الأسيان تحرّش أستار
التابوت العائم(50)
فقد يبدو غموض المقطع الأول ناتجاً من الطبيعة المعقدة المركبة للوعي الحداثي. غير أن الأمر ليس كذلك البتة. إذ إنه ناتج من التعامل الذهني لا الجمالي مع الأشياء من جهة ومع اللغة من جهة أخرى. فالنملة بدأبها المتواصل تعلّم الإسكندر المقدوني كيفية الخروج من الإحباط الذي تخلّفه فيه صعوبة الطريق ـ طريق الفتوحات. أو إنها تفرز حليبها وتغسله من اليأس الذي يوحي إليه بأن الطريق لايكاد ينتهي. فهو كالدائرة (كالبيضة) التي لابداية ولانهاية لها. وما يعمق هذا اليأس أن العالم واسع بجهاته الأربع (الفرس جهات أربع) في حين أن الإسكندر المقدوني لايملك سوى عمر واحد (رغيف واحد). فكيف له، إذاً، أن يوزّع هذا الرغيف على تلك الجهات؟. أو كيف يتمكن من ترويض فرسه ـ العالم ـ برغيف واحد فحسب؟. ولكن على الرغم من ذلك فإن الحكمة التي يفيدها الإسكندر من النملة تؤكد قدرة الإنسان على صنع مايبدو له مستحيلاً.
ولقد أراد أدونيس، من كل ذلك، أن يؤكد إمكانية الإنسان في اكتشاف هذا الوجود معرفياً، على الرغم مما يكتنفه من أسرار لاتكاد تنتهي. وغني عن البيان أن هذا الطرح هو طرح فكري ـ فلسفي بحت، لاعلاقة له بالوعي الجمالي سواء أكان حداثياً أم كان غير ذلك. أما مايبدو من تصوير غرائبي في هذا المقطع، فليس له قيمة جمالية البتة. إذ لم ينتج أساساً من تعامل جمالي. بل من تعامل ذهني مع الأشياء وعلاقاتها. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإننا لانرى في هذا التصوير غرائبية بكل ماتعنيه الكلمة من معنى. فالصورة الفنية الأولى التي تقرّر أن (ثدي النملة يفرز حليبه ويغسل الإسكندر) تدخل في تناصٍٍ INTERTEXTUALITY  مع أحد الأمثال الشعبية التي تصف علاقة البخيل بما حوله، أما المثل فهو:"حلاب النملة". وقد أفاد منه أدونيس ـ ربما بشكل غير واع ـ لتبيان أن على المعرفة أن تستنفد الأشياء في أدق جوانبها، كما لاينبغي أن ننسى علاقة الإسكندر بالنملة، في إحدى الحكايات الشعبية الخاصة به.
أما الصورة الثانية، في هذا المقطع، وهي (الفرس جهات أربع ورغيف واحد)، فهي لاأكثر من تحويل بسيط في الشيء الواقعي، نتج من التداخل بين الفرس والعالم. فبدلاً من القول: إن الفرس بقوائم أربع ورأس واحد، فقد قيل: الفرس جهات أربع ورغيف واحد. ولاشك في أنه لو قيلت الجملة الأولى، لما كانت إلا سطحية لامعنى لها في الشعر، ولكننا أردنا من ذلك أن هذا المقطع لايقوم على الغرائبي بالمعنى الدقيق للكلمة. بل يقوم على تعامل ذهني ـ فلسفي  لاجمالي. ولهذا لم نلحظ فيه تلك الطبيعة الجمالية المعقدة والمركبة، وإن بدا أنه غامض معقد، من حيث التعبير اللغوي.
أما مقطع فايز خضور فيقوم على تخييل سائب لاينظمه إلا الناظم الموسيقي اللغوي. حيث تدخل المفردات في علاقة اعتباطية، لاتصدر عن تجربة أو همٍّ شعري كما لاتطرح أية فكرة أو شعور أو رؤيا متسقة. إذ إن المجانية في التعامل اللغوي والصوري هي الأساس في هذا المقطع، وهو ماجعل منه مجرد لعب فانتازي لاينبض بأي دفق جمالي.
إن الغموض الذي يتصف بشرعية جمالية هو ذلك الصادر من الطبيعة المعقدة والمركبة في الوعي الحداثي، وليس من الطرح الذهني أو التخييل السائب. وقد لانبالغ إذا ماذهبنا إلى أن نصيب الغموض اللاجمالي في شعر الحداثة لايقلّ عن نصيب الغموض الجمالي فيه. ولاغرابة في ذلك، إذ إن الحداثة، شأنها شأن أية حركة شعرية أخرى، تنطوي على تفاوت ـ قد يكون حاداً ـ على صعيد المستوى الفني، للشعراء من جهة، وللنصوص من جهة أخرى.
إن للحداثة نسقاً جمالياً محدداً يقتضي بالضرورة نسقاً محدداً في التلقي الفني. وأي تعامل مع شعر الحداثة، من منظور التلقي التقليدي، لن يؤدي، بأية حال، إلا إلى استغلاق النص واتهام الحداثة، من ثم، بشتى الإتهامات. لعلّ أقلّها نفي مفهوم الشعرية POETICS  عنها.
إن حداثة النص تتطلب حداثة في التلقي، تماماً مثلما أن حداثة الوعي تتطلب حداثة النص. ومن هنا، فإن لدور المتلقي أهمية كبرى في تحديد درجة الغموض في هذا النص الحداثي أو ذاك. فقد يبدو نصٌّ ماغامضاً. بل مبهماً، بالنسبة إلى متلق ذي وعي تقليدي، وقد يبدو غموضه شفافاً بالنسبة إلى متلق ذي وعي حداثي. غير أن هذا التفاوت في درجات الغموض بالنسبة إلى أنواع التلقي، لايعني عدم أهمية النص في تحديد الغموض. فإذا لم يكن الغموض موجوداً في النص وجوداً موضوعياً، فلامعنى للاختلاف حول درجة حضوره. إن انعكاس الغموض في ذوات المتلقين هو الذي تختلف درجاته بحسب وعي المتلقي وطبيعته. وبهذا المعنى، فإننا نرى أن الغموض صفة موضوعية من صفات الحداثة الشعرية، بسبب تعبيرها عن وعي جمالي معقد مركب، ولكن درجات الغموض ترتبط بذاتية المتلقي. فالغموض في النص الحداثي، إذاً، موضوعي ، أما درجاته فذاتية.
وتنبغي الإشارة، في هذا المجال، إلى أن ربط الغموض بمفهوم النص الغائب خاصة، فيه الكثير من مجانية الصواب. إذ إن عدم معرفة النص الغائب لايؤدي إلى غموض النص بالنسبة إلى المتلقي. بل يؤدي إلى عدم استيعابه استيعاباً نقدياً متكاملاً. وكما نعلم فإن التلقي الفني يختلف عن التعامل النقدي، فقد نتلقى نصاً شعرياً بشكل فني راق، من دون أن نعرف أن هذا النص يدخل في علاقة تناصيّة مع نص غائب آخر. ومن البدهي أن على الناقد أن يكتشف العلاقة، فيما إذا وجدت، بين نصه المنقود والنصوص الغائبة، ولكن الناقد لايكون بذلك متلقياً فحسب، بل يكون دارساً وباحثاً. وبهذا المعنى فإن ربط الاستيعاب النقدي المتكامل بمعرفة النص الغائب أمر مشروع جداً. ولكن ربط الغموض به، فيه الكثير من الخطأ العلمي. وماذلك إلا لأن النص الشعري عامة، ينبغي أن يشكِّل كياناً قائماً بذاته، على الرغم من إحالاته النصية.
إن الفن في نهاية المطاف، تعبير عن وعي جمالي ذي طبيعة محددة. وإذا لم نفهم هذه البدهية، فإن تحويل الفن إلى شكل سياسي أو فلسفي أو أخلاقي أو ديني، يغدو أمراً محتوماً؛ كما يغدو من المحتوم أن نبحث عن أسباب غير جمالية في دراسة نشأة هذه الظاهرة الفنية أو تلك، وهو ماحصل مع بعض النقاد في دراسة الحداثة الشعرية العربية.
إن ماتوصّل إليه هذا المبحث من سمات الوعي الحداثي، ليس بالضرورة نهائياً. فقد تتمخض الأبحاث النقدية عن سمات أخرى مختلفة، أو تقترح تعديلاً ما، لما توصّل إليه.. فهو يبقى في النتيجة، محاولة نقدية، نرجو أن تكون دقيقة مع الإشارة إلى أن دراستنا لهذه السمة أو تلك، من خلال بعض الجوانب الفنية، لايعني أن هذه لاتشمل الجوانب الأخرى. بل إن لتلك السمات جميعاًمنعكسات في مجمل الجوانب الفنية، وماقمنا به هو نوع من التمثيل لا الحصر. ومن جهة أخرى، لم يكن لهذا المبحث إلا أن يستفيد من الحركة النقدية النشطة التي صاحبت الحداثة الشعرية. ولكن من منظور علم الجمال الذي لاينقطع البتة عما ينجزه النقد الأدبي.



الهوامش:

1ـ المرعي، د. فؤاد: الجمال والجلال، دار طلاس، دمشق، ط 1، 1991، ص:89.
2- SELDEN  RAMAN , AREADERS  GUIDE  TO  CONTEMPORARY LITERAY   THEORY,  LONDON: 1988.  P. 38.               
3ـ راجع: كليب، د. سعد الدين: مفهوم الكمال في الفكر العربي الإسلامي. مجلة "المعرفة" السورية. العدد: 371، دمشق، 1994، ص:10.
4ـ هذه إحدى النتائج التي توصلنا إليها، في كتابنا المخطوط : البنية الجمالية في الفكر العربي الإسلامي. فصل: القيم الجمالية، فقرة: الجمال.
5ـ أدونيس: الآثار الكاملة: م:2 دار العودة، ط2،1971، ص:174.
6ـ راجع : شكري، د. غالي: شعرنا الحديث إلى أين؟. دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط2، 1978, ص: 23 ـ 30.
7ـ راجع: إبراهيم، د.زكريا: الفنان والإنسان، مكتبة غريب، القاهرة، د/تا، ص: 152ـ 156.
8ـ راجع: المعداوي، أحمد: البنية الإيقاعية الجديدة للشعر العربي. مجلة "الوحدة" العدد: 82/83. الرباط، 1991، حيث يعرض الدارس لتلك المحاولات مبيناً مافيها من قصور أو مغالطة.
9ـ خضر، مصطفى: المرثية الدائمة. وزارة الثقافة، دمشق،1984،ص :21
10ـ شمس الدين، محمد علي: لاتنم هذه الليلة. مجلة الكرمل، العدد: 6، نيقوسيا، قبرص، 1982،ص: 167.
11ـ الحيدري، بلند: ديوانه، دار العودة، بيروت، ط2، 1980، ص: 265.
12ـ المعداوي: المرجع السابق، ص:72.
13ـ ابن خلكان: وفيات الأعيان. جـ: 2. د/تا، ص: 98. في ترجمة مظفر بن إبراهيم العيلاني.
14ـ المعداوي: المرجع السابق، ص:72.
15ـ الجاحظ: البيان والتبيين، جـ:1.تح: عبد السلام هارون: لجنة التأليف والترجمة والنشر،القاهرة، 1948، ص: 288ـ289
16ـ المعداوي: المرجع السابق، ص: 70 ـ 71.
17ـ فاخوري: محمود: موسيقا الشعر العربي. منشورات جامعة حلب، 1978، ص:46.
18ـ راجع : اليافي، د. نعيم: تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1983، ص: 364ـ 365.
19ـ اليافي، د. نعيم: الصورة في القصيدة العربية المعاصرة، مجلة "الموقف الأدبي" العدد:255/256، دمشق، 1992، ص: 30.
20ـ درويش: محمود: ديوانه، م:2، دار العودة، بيروت،ط3، 1980، ص:487.
21ـ حجازي، أحمد عبد المعطي: كائنات مملكة الليل، دار الآداب، بيروت،ط: 1، 1978، ص: 52.
22ـ حاوي، خليل: ديوانه، دار العودة، بيروت، ط:2، ص:45.
23 - ADRONO  , THEODOR  ;  AESTHETIC  THEORY.  LONDON ; 1985. P.  248
24ـ اليافي: الصورة في القصيدة العربية المعاصرة، ص: 26.
25ـ بيلنسكي، ف. غ: نصوص مختارة، تر: يوسف حلاق، وزارة الثقافة، دمشق، 1980، ص:83.
26ـ السياب، بدر شاكر : ديوانه، م:1، دار العودة، بيروت 1971، ص: 274.
27ـ الماغوط، محمد: الآثار الكاملة. دار العودة ، بيروت،ط:2، 1982،ص: 45.
28ـ يوسف: سعدي: الأعمال الشعرية 1952 ـ 1977. دار الفارابي، بيروت، 1979. ص:121
29ـ راجع: اليافي : الصورة في القصيدة العربية المعاصرة، ص: 23ـ 24.
30ـ عمران، محمد: اسم الماء والهواء، وزارة الثقافة، دمشق، 1986، ص: 18ـ 19.
31ـ إسماعيل،د. عز الدين: الشعر العربي المعاصر، دا ر العودة ، بيروت، ط:3، 1981، ص:248.
32ـ نفسه، ص:276ـ 277.
33ـ حجازي: المصدر السابق، ص:47ـ 48.
34ـ يوسف، المصدر السابق، ص: 144ـ 146.
35ـ نفسه، ص:145
36ـ إسماعيل: المرجع السابق، ص:268.
37ـ هيغل: المدخل إلى علم الجمال، تر: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط:2 ، 1980، ص:27.
38ـ راجع في ذلك : لانغيوم، روبرت: شعر التجربةـ المونولوج الدرامي في التراث الأدبي المعاصر. تر: علي كنعان وعبد الكريم ناصيف. وزارة الثقافة، دمشق، 1983، ص: 43ـ88
39ـ راجع قصبجي، د. عصام: نظرية المحاكاة في النقد العربي القديم، دار القلم  العربي، حلب، ط1، 1980، ص: 102.
40ـ راجع: الآمدي: الموازنة، تح: محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العلمية، بيروت.د/تا، ص: 123ـ 226 (فصل: أخطاء أبي تمام في اللفظ والمعنى).
41ـ عبد الصبور، صلاح: شجر الليل، دار العودة، بيروت، ط2 1977، ص: 13ـ 14.
42ـ درويش، محمود: حصار لمدائح البحر، دار العودة، بيروت، ط2، 1985، ص: 89.
43ـ البرغوثي، مريد: رنة الإبرة، مجلة الكرمل،العدد: 35، نيقوسيا، قبرص، 1991، ص:142.
44ـ شكري: المرجع السابق، ص: 12.
45ـ راجع: اليافي، د. نعيم: الشعر العربي الحديث، وزارة الثقافة، دمشق، 1981، ص: 155ـ 156.
46ـ راجع: إسماعيل: المرجع السابق، ص: 187ـ 194.
47ـ رماني، إبراهيم : النص الغائب في الشعر العربي الحديث، مجلة "الوحدة" العدد: 49، الرباط، 1988، ص: 53.
48ـ نفسه، ص: 60.
49ـ أدونيس: المصدر السابق، ص: 177.
50ـ خضور، فايز: ديوانه، م: 1. دار الأدهم، د/تا، ص: 150.


 

الفصل الثالث

 

جمالية الرمز الفني

في شعر الحداثة

* تـأســـيـس نـظـري:

إذا كانت المدرسة الرمزية SYMBOLISM قد جعلت من التعبير الرمزي هو الشكل الأوحد للتجربة الجماليةفي الفن؛ فإن ذلك لايعني أن الرمز بوصفه شكلاً من أشكال التعبير الجمالي، لم يكن له وجود أو أهمية في الفن من قبل. كما لايعني أن شعر الحداثة العربية يمكن أن ينضوي تحت المدرسة الرمزية، لاتكائه الكبير على التعبير الرمزي، أو لإفادته التقنية من هذه المدرسة، بحسب مايذهب إليه بعض النقاد (1). إذ يؤكدون أن هذا الشعر ينتمي مدرسياً إلى الرمزية. وهم، في هذا التأكيد، ينسون أن التصنيف المدرسي ينبغي أن ينطلق من تحديد هذا المستوى الفني أو ذاك، كما أسلفنا سابقاً.
ولتعميق هذه المقولة، نشير إلى أن التعامل الرمزي، في تلك المدرسة، لم يكن أسلوباً فنياً فحسب. بل كان أيضاً موقفاً جمالياً وفلسفياً من العالم، وقد تبدّى هذا في الأطروحات الاجتماعية والأخلاقية والفنية، لتلك المدرسة التي ترى "أن الواقع لايصلح أن يكون منطلقاً للفن، فالمثال هو المطمح. والجمال وحده هو الموضوع"(2). ومن ذلك، لم يكن مالارميه ـ أحد أهم الشعراء الرمزيين ـ يهدف من الجمال إلا إلى الجمال (3). وليس هذا فحسب. بل إن سعيه الدؤوب إلى الجمال المثالي قد جعله يحلم ، لمدة عشرين عاماً، بأن ينتج شعراً صافياً من دون أن ينتج إلا القليل من الشعر(4). وقد تطرّف مالارميه، بوصفه ممثلاً للرمزية ، في الاهتمام بما هو تقني، إلى الحد الذي يمكن فيه أن تتم المصالحة بين جماليات الشعر الصافي ـ كما ظهرت عنده ـ وبين الجماليات الكلاسيكية المتكلفة(5). ولم يكن الأساس في ذلك إلا الرغبة الجامحة في الوصول إلى الجمال المثالي المطلق الذي يحيل على الواقع ولايتدنّس بسلبياته. ومايصحّ على مالارميه يصحّ على غيره من شعراء المدرسة الرمزية، من مثل بودلير ورامبو اللذين لم يكونا أقل نزوعاً إلى الجمال المثالي من مالارميه، ولم يكونا أيضاً أكثر غزارة منه على صعيد الإنتاج الشعري.
إن هذا النزوع إلى الجمال المثالي هو الذي يسوِّغ دعوة المدرسة الرمزية إلى مقولة الفن للفن.
حيث لاينبغي أن يحيل الفن على سواه، إذ الهدف من الجمال هو الجمال، فحسب وغني عن البيان أن مفهوم الجمال، هنا، يعني ما هو تقني ، مثلما يعني ماهو مثالي مجرد.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن لقب "المنحط" DECADENT الذي كان الشاعر الرمزي يكرّم نفسه وأصدقاءه به، كان في أساسه موقفاً سلبياً حاداً من عالم مادي مبتذل. أي "كانت بدعة الانحطاط وسيلة يحمي بها المرء (أي الشاعر الرمزي) نفسه من تفاهة البرجوازية وبلادة عالم يستسلم أكثر فأكثر للاتجاه الصناعي(6)". وكأن الانحطاطDECADENCE   هو الوجه الآخر للجمال المثالي.... بمعنى أن الشاعر الذي يسعى إلى هذا النوع من الجمال، سوف يكون ممتناً، إذا ماوُصِف بالانحطاط، في واقع مبتذل خال من الجمال. فعدم الانحطاط يبدو للشاعر الرمزي انغماساً في القبح السائد. ولهذا فإن افتخاره بالانحطاط هو في أساسه رفض للواقع بقيمه وعلاقاته، مثلما هو دفاع عن الجمال المثالي الذي لم يتلوّث بالنفعية البرجوازية التي لاينجو منها شيء أو قيمة. ومن هنا، فإن طرح الرمزية لمقولة الفن للفن لاينسجم والجمال المثالي الذي تسعى إليه فحسب، بل ينسجم أيضاً ورفض الجوهر القيمي للبرجوازية ألا وهو النفعية. وكما يقول سارتر، فإن البرجوازية  "لاتفهم العمل الأدبي على أنه خلق مجاني مجرّد . بل على أنه خدمة مأجورة"(7).
ولهذا فإن رفض ذلك الجوهر قد أدى إلى الارتفاع بالجمال إلى ماهو مثالي مجرد، مثلما أدّى إلى نفي النفعية عن الفن. حتى قال غوتييه " كل فنان يهدف إلى ماسوى الجمال فليس بفنان"(8).
أما أوسكار وايلد، فإنه يصفح " عن صاحب الفن المفيد إذا أدرك أن فنه ليس جميلاً"(9).
فالرمزية إذاً، موقف اجتماعي ـ جمالي، قبل أن تكون أسلوباً فنياً، أو الأصحّ أن هذا الموقف هو الذي انعكس بشكل فني رمزي. ولهذا فإن أي حركة شعرية لاتتلاءم في أطروحاتها الاجتماعية والجمالية، مع أطروحات تلك المدرسة، لايمكن لنا أن نعدّها منتمية إليها أو منضوبة تحتها، وإن تكن قد أفادت من منجزاتها التقنية. فالتشاكل في الأسلوب الفني لايؤدي بالضرورة إلى التشاكل في الموقف الجمالي. مع العلم أن هذا الموقف هو الأساس في التباين المدرسي في الفن.
نقول ذلك، على الرغم من كونه بدهية في الدرس الجمالي للفن. غير أن هذه البدهية كثيراً مايتمُّ تناسيها، حين يذهب بعض النقاد إلى تصنيف شعر الحداثة العربية تحت هذه المدرسة أو تلك، ولاسيما الرمزية.
إن إطلاق مصطلح التيار الرمزي على شعر الحداثة يغفل أن ثمة تعارضاً. بل تناقضاً، على صعيد الموقف الإجتماعي ـ الجمالي، بين كل من الرمزية وشعر الحداثة.
فالواقع هو المجال الحيوي الذي يتحرك فيه هذا الشعر، وهو المعنيّ بالتقويم والتغيير، لا المثال أو الجمال المجرد، كما هي الحال في الرمزية. ولهذا فإن شعر الحداثة قد زجَّ بنفسه في أتون الصراع الاجتماعي، رافضاً أن ينكفئ على ماهو ذاتي أو شكلي أو وهمي . أي أن لهذا الشعر وظيفة اجتماعية ـ جمالية ذات مضمون ثوري تغييري. وهو مايعني أن صفة "الثوري" هي التي يفخر بها الشاعر الحداثي، لا صفة "المنحطّ". وذلك بصرف النظر عن طبيعة تلك الثورية. وهل هي طبيعة سياسية أو فكرية أو قيمية.
لقد طبعت صفة الثورية شعر الحداثة بطابع صدامي مع كل مايتنافى والقيم الجمالية التي يدافع عنها أو يسعى إلى طرحها. ولهذا لاغرابة في أن تتصدّر قيمة البطولي HEROIC لائحة القيم المطروحة. إذ إن البطولي هو المعادل الجمالي للثوري. ولاغرابة أيضاً في أن يتصّف الجمال، في شعر الحداثة، بطابع صدامي. بل حتى مفهوم المغترب المعذب الذي كثيراً مانواجهه في هذا الشعر، لايقوم على ماهو وجودي، كما في الرمزية، وإنما يقوم على ماهو اجتماعي وسياسي وقيمي ذو طابع صدامي أيضاً. والحقيقة أن دراسة القيم الجمالية التي طرحها شعر الحداثة تؤكّد بمالايدع مجالاً للشك أن هذا الشعر على تناقض مع الرمزية بوصفها موقفاً اجتماعياً ـ جمالياً. غير أن هذا التأكيد لاينفي إفادة هذا الشعر من الرمزية بوصفها أسلوباً فنياً.
يمكن تعريف الرمز الفنيARTISTIC  SYMBOL  بأنه صورة الشيء محوّلاً إلى شيء آخر، بمقتضى التشاكل المجازي، بحيث يغدو لكلٍّ منهما الشرعية في أن يستعلن في فضاء النص. فثمة، إذاً، ثنائية مضمرة في الرمز. وهذه الثنائية تحيل على تقويمين جماليين متماثلين. مع الإشارة إلى أن هذا التماثل هو الأساس في التحويل الذي يجريه المبدع. أي هو الأساس في جعل الثنائية واحدية في الرمز. ولابأس من الإفادة من تعريف مؤلفي نظرية الأدب للرمز، على أنه "موضوع يشير إلى موضوع آخر. لكن فيه مايؤهّله لأن يتطلب الانتباه إليه لذاته ، كشيء معروض"(10).
إن للرمز الفني عدة سمات إذا انتفت عنه، انتفى كونه رمزاً، وتحوّل إلى أن يكون مجرد إشارة أو علامةMARK  أما تلك السمات فهي: الإيحائية، والانفعالية والتخييل، والحسية، والسياقية(11). إن سمة الإيحائية تعني أن للرمز الفني دلالات متعددة، ولايجوز أن يكون له دلالة واحدة فحسب، وإن يكن هذا لايمنع من أن تتصدر إحدى الدلالات.
إن تعدد الدلالات ينهض من الكثافة الشعورية والمعنوية التي يعبر عنها الرمز، ويقوم عليها. أي أن الإيحائية إذ تكون سمة للرمز، تكون أيضاً سمة للتجربة الجمالية من حيث الكثافة والعمق والتنوع. ولهذا فإن المجانية أو الاعتباطية في طرح الرموز، لن تؤدي، بحال من الأحوال، إلى إيحائية ذات وظيفة جمالية ـ تعبيرية. فالإيحاء الجمالي هو إيحاء مكثف ممتلئ بموضوعه، يؤدي وظيفة يعجز عنها التناول المباشر للتجربة أو للظواهر والأشياء.
أما سمة الانفعالية، فتعني أن هذا الرمز هو حامل انفعال لاحامل مقولة. وهو بذلك يختلف عن الرموز الدينية والمنطقية والعلمية والعملية التي هي مقولات ومفاهيم، لاانفعالات وأحاسيس.
ومن البدهي أن هذه السمة تأتي من طبيعة التجربة الجمالية التي هي طبيعة انفعالية بالضرورة. ولهذا فإن الرمز الفني لايلخّص فكرة أو يعبّر عن رأي ، أو يطرح موقفاً فكرياً؛ وإنما يكثف انفعالاً، ويعبر عن تجربة.
وتعني سمة التخييل أن الرمز نتاج المجاز لانتاج الحقيقة. ولهذا فإن ثمة تناولاً مجازياً للظواهر والأشياء، بحيث تتحول عن صفاتها المعهودة، لتدخل في علاقة جديدة مختلفة عن سياقها الواقعي. غير أن هذا التحول محكوم بطبيعة الأثر الجمالي الذي تخلفه الظواهر والأشياء في الذات المبدعة. بمعنى أن التخييل لاينبغي أن يكون سائباً، في الرمز، من الكينونة الواقعية. وهذا ليس خاصاً بالرمز وحده. بل هو أساس التخييل في الفن عامة. وذلك كما يؤكد ادورنوADORNO حيث يرى أن الانفلات المطلق من الكينونة الواقعية. لن يؤدي إلا إلى تخييل مجاني رخيص ومحدود القيمة(12).
وتحيل سمة الحسية على أن هذا الرمز يجسّد ولايجرّد، بخلاف الرموز الأخرى، أي أن التحويل الذي يتم في الرمز لاينهض بتجريد الأشياء من حسيتها بل ينقلها من مستواها الحسي المعروف إلى مستوى حسي آخر، لم يكن لها من قبل أو لم نعهده فيها. وهو مايتلاءم وصفة الحسية التي يتصف بها الفن عامة. غير أنه لابدّ من الإشارة إلى أن الحسية في الرمز لاتتنافى والإيحائية المعنوية فيه. فقد تكون عناصر النص الشعري كلها حسية، إلا أن دلالاته معنوية. إذ إن المعنوي، في الفن، لايمكن إلا أن يتبدّى حسياً.
أما سمة السياقية التي يتّسم بها الرمز الفني، من دون الرموز الأخرى، فتعني أن هذا الرمز لا أهمية له خارج السياق الفني. إن السياق هو الذي يعطيه أهميته وكينونته المتميزة، ومضمونه الجمالي. ومن ذلك، فإن الظاهرة الطبيعية الواحدة يمكن أن يتولّد منها عدد غير محدود من الرموز الفنية، بحسب عدد الآثار أو التحريضات الجمالية، فلاغرابة، إذاً، في أن يتناقض رمزان، على الصعيد الجمالي والإيحائي، وهما من كينونة واقعية واحدة، وفي الوقت نفسه يكون لكلٍّ منهما الأهمية ذاتها.
إن هذا الرمز، بارتباطه بالسياق الفني، متغيّر ومتجدّد دائماً، من حيث المضمون. فكل سياق يفرض مضموناً خاصاً به. ولايجوز التعامل مع الرمز الفني بمعزل عن سياقه، وكأن له كياناً عاماً مشتركاً بين النصوص الشعرية كافة، أو كأن الكينونة الواقعية ينبغي أن تفرض كينونة رمزية محدّدة.
إن سمة السياقية هي إحدى السمات الخاصة بالرمز الفني، حيث نلحظ أن الرموز الأخرى هي رموز غير سياقية. أي أن لها معنى محدداً، بمعزل عن السياق الذي ترد فيه، وذلك بسبب كونها مقولات معرفية، لاانفعالات جمالية. ولنأخذ الرمز الصوفي مثلاً على ذلك. فهذا الرمز رمز عقدي ـ معرفي ينتمي إلى نظرية المعرفة، بخلاف الرمز الفني الذي ينتمي إلى التجربة الجمالية. ومن هنا، فإن ثمة رموزاً صوفية يتعامل بها الصوفي شاعراً كان أم متفلسفاً أم سالكاً أم واصلاً أم عارفاً. وذلك من مثل رموز المحبوب والارتحال والخمر والسُّكر والحمامة والحية...إلخ. فرمز السكر مثلاً، لدى الحلاج وابن عربي وابن الفارض وابن الدباغ، هو نفسه من حيث المضمون. سواء أكان هذا في الشعر أم في النثر أم في المجاهدة الصوفية. وليس الأمر على هذا النحو في الرمز الفني الذي لامضمون محدداً له. وهو ماسوف نلحظه فيما يأتي من معالجة لرمزي الريح والحجر. ولكن لابدّ من القول إن السياقية لاتنفي أن يشترك عدة شعراء أو نصوص في مضمون واحد لهذا الرمز أو ذاك، أو أن يهيمن مضمون محدد على مرحلة معينة. إذ إن هذا يعود إلى هيمنة هاجس اجتماعي ـ جمالي معين، على هذه المرحلة أو تلك، بسبب الضرورات الاجتماعية والأيديولوجية. والحق أن هذا الاشتراك يفيد في تبيان نبض الواقع وحركته في النصوص الشعرية.

* مستويات الرمز في الشعر:

لقد طرح شعر الحداثة العربية أنماطاً عدة، من الرموز الفنية التي تمكنت من تكثيف تجربته الجمالية، في علاقته بالواقع الإجتماعي ـ التاريخي الذي راح يتنامى فيه، بحيث جاءت هذه الرموز بوصفها معادلاً فنياً موضوعياً، للهواجس الاجتماعية والفردية التي برزت مع بروز هذا الشعر. ومن دون أخذ ذلك بعين الاعتبار، يصعب أن نفهم شيوع رموز الخصب والانبعاث، في مرحلة النهوض الوطني، في خمسينيات القرن العشرين. مثلما يصعب أن نفهم  شيوع رموز اليباب والتشيؤ والاغتراب، مع تنامي الإحساس بإخفاق حركة التحرر العربية في إنجاز مشروعها الإجتماعي ـ الحضاري.
ومن البدهي أننا لانربط بشكل ميكانيكي بين الرمز الفني والهاجس الإجتماعي، وإنما نسعى إلى تأكيد أن كثيراً من الرموز يصعب فهمها، بمعزل عن الهاجس الإجتماعي، ولاسيما الرموز العامة أو الخاصة منها، فإن للطبيعة النفسية والروحية للمبدع أثراً حاسماً، في إنتاجها. غير أن هذه الرموز قد لاتبقى رموزاً خاصة، فيما إذا تقاطع فيها غير مبدع. وذلك من مثل رمز "الجدار" الذي طرحه أحمد عبد المعطي حجازي، من خلال معاناته النفسية والروحية، وقد ظهر بعده عند العديد من شعراء جيله.
أما أنماط الرموز التي طرحها شعر الحداثة، فهي الرمز الأسطوري، والرمز التاريخي والرمز الاصطناعي(*) والرمز الطبيعي، علاوة على البنية الرمزية العامة. ونلحظ أن ثمة مستويات عدة في التعامل مع تلك الرموز، ولاسيما الرمز الأسطوري والتاريخي منها.
وهذه المستويات هي: المستوى التراكمي، والاستعاري، والإشاري المفهومي، والمحوري. ولابأس من التمثل لكل مستوى من هذه المستويات التي قد تتجاور في النص الشعري الواحد.
فمن حيث المستوى التراكمي، فقد بدا أن الشاعر الحداثي وكأنه اكتشف في الأسطورة نصاً فنياً معادلاً لما يسعى إلى التعبير عنه ، فراح يترك للأسطورة حرية القول عنه، مماجعل من بعض النصوص الشعرية مزدحماً بالرموز الأسطورية التي كادت أن تكون هي القول الشعري نفسه . بكلمة أخرى: إن الأسطورة بدت ، في هذا المستوى ، وكأنها الحامل للهاجس الشعري ، حتى تراكمت الرموز بحيث لم تعد رموزاً بقدر كونها إشارات إلى الأسطورة من جهة. وإلى الهاجس الشعري من جهة أخرى، ولعل السياب من أوائل الشعراء الذين أغرقوا في التعامل مع الرموز، في هذا المستوى. ولنقرأ السياب في مقبوس يعالج فيه تراجيدية المومس العمياء، من خلال تراجيدية الملك أوديب، في أسطورته المعروفة:
من هؤلاء العابرون
أحفاد (أوديب) الضرير ووارثوه المبصرون
(جوكست ) أرملة كأمس، وباب (طيبة) مايزال
يلقي (أبو الهول) الرهيب عليه، من رعب ظلال
والموت يلهث في سؤال (13).
وعلى الرغم من أن السياب قد تمكّن، في هذا المقبوس، من التعبير عن تراجيدية المومس العمياء، من خلال الأسطورة، فإن المقبوس بقي في إطار ترجمة الأسطورة إلى واقع، لاأسطرة الواقع.هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن هذه الأسماء لم تستطع أن تتحول إلى رموز، بالمعنى المصطلحي، إذ إنها بقيت تحمل معناها الأصلي، ولم يضف المقبوس إليها أيّ بعد جديد. كما أنها لم تأخذ شرعيتها من النص، علاوة على أن المقبوس لم يترك لها فسحة، كي تتنفس، أو أن تعلن عن نفسها، وإنما جاءت متراكمة بشكل أفقدها الكثير من الدفق الجمالي، مثلما أفقدها الإيحائية التي من دونها، لامعنى لاستخدام الرمز والتعبير الرمزي عامة. ولعل المستوى التراكمي يتوضّح أكثر، حين نقرأ المقبوس التالي، لمحمد عمران:
إرم ذات العماد
ذاك شدّاد بن عاد يزحم الأبواب
حشد من عباد
يفتحون الأرض، أوديب على صهوة طيبه
يشنق الغول. وهذا قيدر
يعقر الناقة. هذا يوسف
يتعرى من قميص الحسن في كفٍّ زليخا
تكشف الساقين بلقيس لدى الصرح
ابنة الشيخ على البئر
وموسى يرفع الدلو، ويرتاح إلى الظلّ
"أبي يدعوك"
هذي بابل ! هذي سدوم (14)
إن مراكمة مثل هذه الرموز، في نص شعري واحد، لايُفقد الرمز إيحائيته وحسب. بل يُفقد النص شعريته أيضاً. فكيف تراكمت هذه الرموز، في مقبوس قصير كهذا. فقد انعدمت حركة الرمز في السياق، ولم يبق منها غير الإحالة الأسطورية، أو التاريخية المؤسطرة. أي أن الإحالة الجمالية شبه معدومة. وحين تنعدم هذه، ينعدم بالضرورة جمال الرمز والنص عامة.
قد يبدو، للوهلة الأولى، أن عمران قد سعى، من خلال مراكمة تلك الرموز، إلى التعبير عن فوضوية الواقع الإجتماعي ـ السياسي، هذه الفوضوية التي سوف تؤدي به إلى الدمار والخراب، تماماً كما حدث لبابل وسدوم. غير أن التعبير عن الفوضوية لايتأتى من خلال فوضوية النص الشعري، أو فوضوية التعامل الفني مع الرموز. فالقبح لايتمّ التعبير عنه، في الفن، بشكل قبيح، وإنما بشكل يوحي بالجمال. وهذه هي ميزة الفن خاصة.
إن عمران لم يكن يتعامل، في هذا المقبوس، مع رموز، لها الحق في التعبير والإيحاء والحركة داخل النص، بقدر ماكان يتعامل مع إشارات ذات معنى محدّد. ومن الملاحظ أن عمران، في سعيه إلى مراكمة الرموزـ الإشارات، لم يكن مدفوعاً من هاجس اجتماعي ـ جمالي محدد، مما جعل النص مشتّت الإيحاء، ومتناقض الإحالات أيضاً. وهذا ماتوضّح في محمولات الرموز ـ الإشارات. فمحمول ابن عاد وأوديب، في النص، محمول بطولي. وفي قيدر ـ أو قدار عاقر ناقة صالح ـ محمول قبيح. وثمة محمول جميل في يوسف وزليخا، وسليمان وبلقيس، وموسى وابنة الشيخ ـ زوجه فيما بعد ـ كما أن ثمة محمولاً بطولياً في "موسى يرفع الدلو" لينتهي النص بمحمول تراجيدي (بابل، سدوم). غير أن هذه التراجيدية مفتعلة ومبتسرة أيضاً. إذ إن كل المحمولات الجمالية المطروحة، ماخلا محمول قيدر، لاتوحي بأن ثمة خطيئة تُوقعها في التراجيدية. أما خطيئة قيدر التي أدت إلى دمار ثمود. حيث ) أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين(([1]) فإنها ليست خطيئة تراجيدية. لأن القبيح لايمكنه أن يكون تراجيدياً، بحال من الأحوال.
وبهذا فإن المستوى التراكمي يسيء إلى النص، قبل أن يسيء إلى الرمز. إذ إن شعرية هذا تتأتى من شعرية ذاك. ولايمكن أن تنفصل إحداهما عن الأخرى.
أما من حيث المستوى الاستعاري، فإن الشاعر لايبدو فيه معنيّاً بالرمز. بل بمضمونه الذي يبدو له جاهزاً، وذا إيحاء محدد نهائي؛ مما يدفعه إلى استعارته للتعبير عن حالة أو معنى ما، أو يدفعه إلى جعله مشبهاً به. ومن المعلوم أن المشبّه في عملية التشبيه هو الغرض من إقامة هذه العملية، وليس المشبه به الذي يكون الغرض منه التوضيح أو التأكيد أو التدليل على مضمون المشبّه. وهذا مايتنافى وجمالية الرمز التي تؤكد أهمية الرمز بذاته، بوصفه موضوعاً يستحقّ الانتباه إليه بذاته ففي المستوى الاستعاري، إ ذاً، تقزيم للرمز، وتحويل له إلى إشارة محددة المضمون بشكل نهائي، كما في قول صلاح عبد الصبور:
وأبي يثني ذراعه
كهرقل (15)
أو قول علي كنعان:
ياتجار قريش
ياأعداء نبوءات الدم
ياالعلق الرابي في الأحواض الرطبة
هاأنذا أشعل في باب السوق
فتيل دمي بشرى للفقراء(16)
أو قول أحمد سليمان الأحمد:
ماكانت كلمات الشاعر
تحمل أي معان لولا الثورة والثوار
لم تولد (كأثينا) جاهزة من فكر إله
هذي الأشعار(17)
ولعل المستوى الإستعاري من أسوأ المستويات تعاملاً مع الرموز. حيث يختزل الشخصية الأسطورية أو التاريخية أو الواقعية بإشارة، ويختزل الإشارة بمقولة ناجزة، وليس هذا فحسب.  بل إن الإشارة تأتي معدومة الدفق الجمالي، ويمكن حذفها من السياق أو استبدالها، من دون أن يؤثر ذلك فيه ،أو في التجربة المطروحة ،فهرقل ،مثلاً ،يمكن استبداله بآخيل أو أنكيدو أو عنترة ..الخ ، من دون أن يتأثر المعنى أو الحالة الشعورية . وذلك بما أن الغرض منه إبراز المقدرة البدنية الفائقة فحسب .أما بالنسبة إلى ( أثينا ) فإن حذفها من السياق يبدو أفضل من إثباتها فيه .كأن نقول (لولا الثورة والثوار ،لم تولد هذي الأشعار ) وإن يكن هذا القول مبتذلاً

وغير شعري. حيث إن الشاعر في استعارته لأثينا، قد أشار أيضاً إلى ما يقصده من هذه الاستعارة، وهو الولادة من رأس الإله. وكأن هذه الإشارة جاءت بوصفها وجه الشبه، في عملية التشبيه التي عقدها الشاعر بين الشعر وأثينا.
وعلى الرغم من أن رمز "تجار قريش" رمز قد وفّق به الشاعر، من حيث الإيحاء الجمالي بما يجري في الواقع المعاصر من متاجرة بقضية الفقراء، ومصادرة لها. غير أن متابعة هذا الرمز بجملتي النداء التاليتين، بما يوحي وكأن ثمة شرحاً له، قد ضيّقت المجال الإيحائي الذي يمكن أن يحوزه هذا الرمز. بمعنى أن جملتي النداء تحدّدان التلقي بالمنحى الذي سارتا فيه. وفي هذا تضييق لما هو واسع، وإغلاق لما يمكن أن يكون مفتوحاً.
وبالنسبة إلى المستوى الإشاري المفهومي، فإنه يتبدّى باعتبار الرمز مقولة فلسفية، أو سياسية، أو أخلاقية. مما يؤدي بالرمز إلى الانحراف عن الحقل الجمالي إلى حقول أخرى ذات ماهية مختلفة. وهو ما يؤدي، بدوره، إلى الانحراف عن الشعري إلى الفلسفي أو السياسي أو الأخلاقي. غير أن الرمز ليس هو السبب في ذلك. بل الوعي الشعري الذي إذا ما انحرف عن نسقه الجمالي، انحرف النص بكامله عن الشعرية POETICS . فبدلاً من أن يتعامل الشاعر جمالياً مع الظواهر والأشياء والحالات والرموز، فإنه يعاملها على أنها مقولات يمكن نقلها من حقولها المعرفية إلى الحقل الجمالي. وفي ذلك مافيه من إشكاليات فنية.
ونلحظ، فيما يخص هذا المستوى، أن الرمز لايأتي، في النص، إلا بوصفه حاملاً للأفكار التي يتبناها الشاعر. فالمبدع القومي العربي يميل إلى رموز ذات سمة عربية؛ والمبدع القومي السوري يميل إلى رموز ذات أصل سوري قديم؛ والمبدع الأممي يميل إلى رموز ذات بعد أممي ...إلخ. ومن البدهي أننا لانعترض على هذا التوزّع، من حيث هو تعبير جمالي ـ وإن يكن لهذا التوزع أساس أيديولوجي لا جمالي ـ غير أن الاعتراض ينصبُّ على التعامل مع تلك الرموز، من منظور كونها أفكاراً ومقولات ومفاهيم، لامن منظور التجربة الجمالية التي يمكن أن تشحنها بطاقة انفعالية وإيحائية.
إن هذا المستوى قد أدخل الرموز، في دائرة مغلقة، لم يعد بالإمكان أن تفلت منها. وهو مايسوغ إهمالها، في شعر الثمانينات، بعد أن استنفدت الغرض منها، وأصبحت مبتذلة، من حيث الإيحاء. أما هذه الرموز فهي نفسها تقريباً الرموز العامة الدالة على الخصب والانبعاث؛ أو رموز البطولة العربية في سمتها الاشتراكية، من مثل الصعاليك وأبي ذر الغفاري والقرامطة؛ أو رموز القبح الدالة على القمع والاستلاب من مثل الحجاج وتيمور لنك وهولاكو. ولابأس من الإشارة، في هذا المجال، إلى أن هذه الرموز قد ابتذلت، لا لأنها أصبحت رموزاً عامة متداولة بين النصوص الشعرية الحداثية. بل لأن كثيراً منها قد تمَّ إنتاجه تحت ضغط الحقول غير الجمالية ونمثّل على ذلك بمقبوسين لكل من أدونيس وخليل حاوي.
يقول أدونيس في طائر الفينيق:
فينيق ليس من يرى سوادنا
يحسُّ كيف نمّحي
فينيق، أنت من يرى سوادنا
يحسُّ كيف نمّحي
فينيق مت فدىً لنا
فينيق ولتبدأ بك الحرائق
لتبدأ الشقائق
لتبدأ الحياة
ياأنت، يارماد، ياصلاة(18)
ويقول خليل حاوي في تموز إله الخصب:
ياإله الخصب، يابعلاً يفضُّ التربة العاقر
ياشمس الحصيد
ياإلهاً ينفض القبر ويافصحاً مجيد
أنت ياتموز، ياشمس الحصيد
نجّنا، نجّ عروق الأرض
من عقم دهاها ودهانا
أدفئ الموتى الحزانى
والجلاميد العبيد(19)
واضح من هذين المقبوسين أن فينيق وتموز ينهضان من مقولة واحدة، وهي مقولة الانبعاث، من خلال مفهوم البطولية الفردية، وبما أن الأمر على هذا النحو، فلن يتضرّر سياقا المقبوسين، إذا مااستبدل فينيق بتموز أو العكس. فكل من الرمزين يمتلك الاستقلالية عن سياقه، بوصفه مقولة ناجزة. وعلى الرغم من أن المقبوس الثاني أكثر صدوراً عن التجربة الجمالية، من المقبوس الأول؛ إلا أنه وقع فيما وقع فيه الأول، من تعامل مع رمز ناجز، لايحتاج من الشاعر إلا إلى إدخاله في السياق الفني. ولهذا فإن استبداله برمز آخر، له البعد الرمزي نفسه، لن يؤثر سلباً في ذلك السياق. وفي المحصلة، فإن القول الفكري هو الذي يقف وراء هذين المقبوسين.
تلك هي المستويات الثلاثة الدنيا التي شاعت في شعر الحداثة، في علاقته بالرمز الفني، ولاسيما الأسطوري والتاريخي. ولاشك في أنها مستويات متداخلة، ومتشاكلة أيضاً. غير أن الفرق الأساسي بينها يكمن في غرضية الرمز داخل النص. فعلى حين تكمن غرضيّة المستوى التراكمي في أن الرموز معادلة للهاجس الشعري؛ تكمن غرضية المستوى الاستعاري في أن الرمز توضيح أو توكيد أو تدليل على الفكرة المطروحة؛ وتكمن غرضيّة المستوى الإشاري المفهومي في التعبير عن الموقف الفكري. وتبقى هذه المستويات الثلاثة في إطار الإشارة أو العلامة، وقلّما تتجاوزها إلى حدود الرمز الفني بوصفه شكلاً يستوعب التجربة الجمالية.
وقد يقال، في هذا المجال، كيف يمكن أن نصنف هذه المستويات تحت مصطلح الرمز الفني، إذا لم تفارق كونها إشارة أو علامة..؟
ونقول: إن تصنيفها على هذا النحو ينطلق من أن الشاعر حين كان يستخدمها، إنما كان يرى فيها رموزاً تعبّر عن تجربته، وليس لنا أن نصادر حقّه في ذلك. أما أن يكون قد نجح أو أخفق في استخدامها، فهذا شأن آخر تماماً. ولنا كلُّ الحقّ في أن نحاوره في ذلك، أو أن نقوِّم استخدامه سلباً أو إيجاباً.
وأما بالنسبة إلى المستوى المحوري من التعامل مع الرموز، فيمكن التوكيد أن هذا المستوى هو الذي ينطبق عليه مصطلح الرمز الفني بكل مايعنيه المصطلح، حيث نلحظ الإيحائية والانفعالية والسياقية والتخييل والحسية، في هذا المستوى الذي يشكّل محور القول الشعري. ولقد توزع هذا المستوى، في شعر الحداثة، إلى شكلين اثنين. وهما: محورية الرمز في النص الشعري عامة، ومحوريته في الصورة الفنية خاصة. أما بالنسبة إلى الشكل الثاني، فإن بنية الصورة فيه تنهض من أبعاد الرمز الإيحائية، وتتأسس عليها. بحيث إن إيحائية الصورة تقوم على إيحائية الرمز، كمثل قول السياب:
أهذه مدينتي؟ جريحة القباب
فيها يهوذا أحمر الثياب
يسلّط الكلاب
على مهود إخوتي الصغار... والبيوت(20)
إن يهوذا ليس محور هذه الصورة فحسب. بل هو بؤرة الإيحاء الجمالي فيها أيضاً. فالقباب لم تنجرح إلا بيهوذا، ولم تنوجد الكلاب إلا به، ولم يرتعب الصغار والبيوت لولاه.
وإذا كان يهوذا أحمر الثياب لشهوانيته الدموية، فإن القباب حمر بدمها المراق، وأيضاً فإن الكلاب متدافعة نحو الدماء. ومايقال في القباب يقال أيضاً في الصغار والبيوت حيث دمها المراق بفعل الكلاب. أي أن شهوانية يهوذا الحمراء قد انعكست إيجابياً على الكلاب التي هي من مرادفاته، وانعكست سلبياً على القباب والصغار والبيوت التي هي من نقائضه. وقد انعكس كلّ ذلك في توجيه الصورة نحو التراجيدية.
ومن المفيد، هنا، أن نشير إلى أن يهوذا في الأناجيل، ليست له هذه الأفعال التي حمله إياها السياب، في هذه الصورة، غير أن للشاعر الحق، في أن يعامل الرمز من المنظور الذي يخدم هاجسه الشعري وتجربته الجمالية، إذا ماكان الرمز يحمل الطاقة الإيحائية في ذلك. لقد رأى السياب، في يهوذا، رمزاً للديكتاتور.  من منظور أن يهوذا قد أراق دم المسيح، أو كان السبب في إراقته، من خلال تسليمه المسيح لجنود الطاغية هيرودس. فالعلاقة بين يهوذا وهيرودس هي التي أوحت للسياب بتحويل يهوذا إلى رمز للطاغية أو الديكتاتور، مع احتفاظ يهوذا بفعل الخيانة والغدر. وكأن يهوذا، في صورة السياب، ليس رمز الديكتاتور فحسب بل هو رمز الديكتاتور الذي كان قد وعد المدينة بالأمان، وانقلب عليها بالخيانة والغدر والاستلاب. فالمدينة، بهذا المعنى، لاتعاني من الطغيان فقط، وإنما تعاني أيضاً من الخيانة وانكسار الأحلام. وهو ما يضاعف التراجيدية فيها. وبهذا فقد تصرّف السياب برمز يهوذا بما يتلاءم وهاجسه الشعري من جهة، وبما يتلاءم وطاقة الرمز الإيحائية من جهة ثانية.
إن انبناء الصورة الفنية على الرمز إذ يضيف إليها طاقة إيحائية، يوسّع إمكانيتها التعبيرية في استيعاب ظواهر وحالات وتجارب اجتماعية ونفسية وروحية جديدة، مما يؤكّد سيرورتها الجمالية. وهذا مانلمسه في الكثير من الصور الفنية المبنية على الرمز، سواء أكان أسطورياً أم تاريخياً أم اصطناعياً أم طبيعياً.
يقول سعدي يوسف في المنزل بوصفه رمزاً اصطناعياً:
منذ عشرين عاماً وعامين
لي منزل بدمشق العتيقة،
جدرانه راحتاي
وأشجاره لهفتي
منزل في دمشق العتيقة
حاذرت أن يطأ العابر المتعجل أعتابه
أو يراه المتاجر،
أو تدّعيه الغيوم الجديدة
إنه الآن يمشي معي
في البلاد التي كرهت
والبلاد التي هويت
والبلاد التي لاأراها (21)
إن المنزل، في هذه الصورة ـ المقطع، هو منزل حقيقي بقدر ماهو رمزي. إنه الوجود والكينونة والمصير والذات، مثلما هو جدران وأعتاب وأشجار. ولهذا لاغرابة في أن يكون المنزل هو بؤرة الإيحاء الجمالي، في هذه الصورة. وعلى الرغم من أن الشاعر قد توقف عنده طويلاً، إلا أنه لم يحاول شرحه أو توكيده. بل كان ينطلق منه لتوسيع دائرته التعبيرية. وهو ماجعل إيحاءه متعدداً ومتنوعاً، بحيث من الصعب أن يتحدد في بعد واحد. ولابأس من الإشارة إلى أن سمات الرمز الفني قد تجسدت كلها في هذا الرمز المحوري ـ المنزل. فهو رمز سياقي أولاً، لم يتكئ الشاعر فيه على ماهو ناجز من أفكار حول المنزل؛ كما لايمكن استبداله أو حذفه بأية حال من الأحوال. ومن جهة ثانية، فإن هذا الرمز ممتلئ بالانفعال الجمالي. إنه يصدر عن الإثارة والتحريض والتفاعل. لاعن المعالجة الذهنية. ولهذا فإن إيحاءه انفعالي لاذهني أو فكري.
أما من حيث الحسية، فواضح أن الرمز لم يجرِّد المنزل، وإنما نقله من مستوى حسي إلى آخر مختلف، مع احتفاظه بإيحاء المستوى الأول. وفي هذا يكمن التخييل الذي ينهض من التعامل المجازي مع المنزل. إنه تخييل يستنبط القيمة الجمالية للمنزل، ليعمقها بقيمة أخرى.
والحق أن هذا الرمز ـ والصورة عامة ـ لايمكن استيعابه نقدياً من دون الأخذ بعين الاعتبار جمالية المكان، والطبيعة الشعورية واللاشعورية لعلاقة الإنسان بالمكان الذي ليس له وجود موضوعي فحسب. بل إن له وجوداً ذاتياً، لايقل قيمة وأهمية وحساسية عن وجوده الموضوعي.
وأما ما يخصّ محورية الرمز في النص الشعري عامة، فإن ثمة الكثير من النصوص الشعرية التي أنبنت على رمز محدد، وتمحورت على إيحائه، ويمكن أن نشير، في هذا المجال، إلى "المسيح بعد الصلب" و "سربروس في بابل" للسياب، و "الأخضر بن يوسف" لسعدي يوسف، و "في جوف حوت" و "العازر عام 1962" لخليل حاوي، و "الصقر" و "تحولات الصقر" و "مهيار الدمشقي" لأدونيس، و "شاهين" و" الملاجة" لمحمد عمران، و "هيلين" لنزيه أبو عفش، و "زرقاء اليمامة" لأمل دنقل...إلخ.
غير أن ماتنبغي الإشارة إليه هو أن الرمز المحوري في النص غالباً مايتداخل في النموذج الفني. بمعنى أن الرمز يبدو نموذجاً، مثلما يبدو النموذج رمزاً. ولهذا فإن تحليل النصوص المذكورة آنفاً لايمكن أن يغفل هذا التداخل الذي كثيراً مايصل إلى مستوى الاتحاد أو الوحدة.
وإذا كان المجال لايسمح بتحليل نص شعري، من نمط النصوص الآنفة الذكر، بسبب طولها النسبي، فإن ذلك لايمنع من تحليل نص قصير، هو أقرب إلى المقطع منه إلى القصيدة. أما النص فهو المعنون بـ "أورفيوس"(23) لأدونيس:
عاشق أتدحرج في عتمات الجحيم
حجراً، غير أني أضيء
إن لي موعداً مع الكاهنات
في سرير الإله القديم
كلماتي رياح تهزّ الحياة
وغنائي شرار
إنني لغة لإله يجيء
إنني ساحر الغبار
إن ثمة تعاملاً رمزياً مع اللغة، يجعلها تشعّ في اتجاهات متعددة، غير أنها منسجمة ومتكاملة. وهي في إشعاعها تنطلق من هاجس شعري محدد. وهو الرغبة الجامحة في الخروج من عالم القبح أو الاغتراب والتشيؤ، إلى عالم الحرية الذي هو الجمال الأمثل. وذلك هو الأساس في مقولة الانبعاث. إلا أن هذه المقولة جاءت انفعالية تخييلية. ولم يظهر عليها البعد الذهني أو الفكري. فبدا أورفيوس تجسيداً للانبعاث، على الرغم من أن الأسطورة اليونانية لاترى فيه واحداً من آلهة الانبعاث، وإن يكن قد نزل إلى العالم السفلي وخرج منه حياً.
لقد تكامل هذا النص، من أجل إنتاج المناخ الانبعاثي. حيث إن بنيته تنهض من الحركة التحويلية، وذلك في (أتدحرج، أضيء، تهز، يجيء)؛ وثمة الاندغام الروحي بالأشياء(عاشق، الكاهنات، غنائي)؛ وثمة أيضاً مايدل على أداة التحويل (رياح، إله، ساحر). هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ثمة التناقض والصراع بين العاشق والحجر، وبين الإله القديم والإله الذي يجيء، وبين العتمة والضوء، وبين الجحيم والحياة. إن هذا التناقض، على مستوى النص، يجد أساسه في التناقض بين الرغبة والواقع، على صعيد التجربة الجمالية الكامنة وراء هذا النص.
لقد تحول العاشق في صراعه مع الواقع أو الجحيم إلى ساحر، وتحولت الجحيم إلى غبار. وذلك في الوقت الذي أرادته فيه الجحيم أن يكون حجراً أو كائناً يعاني التشيؤ والاغتراب. أي لقد استطاع العاشق أن يتخلص من آثار الجحيم، وهو ما جعل تلك الجحيم غباراً لايمتلك إمكانية التأثير.
وهكذا نلحظ أن الهاجس الذي يعبر عنه هذا النص هاجس انبعاثي تحويلي. ولكن هل حقاً، يمكن التوكيد أن أورفيوس، هنا، هو رمز انبعاثي فحسب؟.
ألا يحيل هذا الرمز على المبدع في تجربته الجمالية. حيث يلج إلى جوهر الظواهر والأشياء محوّلاً إياها إلى كينونة شعرية. وذلك بحسب أورفيوس شاعر الأسطورة اليونانية؛ أو ألا يمكن أن يحيل على البطل الفرد، بحسب فلسفة أدونيس؛ وألا يمكن أن يحيل على العاشق فحسب ... إلى ماسوى ذلك من دلالات ينبض بها هذا النص.
إن أورفيوس، في هذا النص، رمز بقدر ما هو نموذج فني. ولهذا فهو لايستوعب ذاتية الشاعر فحسب. بل يستوعب أيضاً الكثير من الحالات والتجارب المتشابهة أو التي يتقاطع معها. أي أن غناه التعبيري ينهض من انفتاحه على ماهو موجود، وما يمكن أن يستجدَّ من حالات وتجارب. ونرى من المفيد أن نشير إلى أن انبناء هذا النص على الرمز ـ النموذج قد جعل منه نصاً درامياً، على الرغم من قصره. فهو ليس تعبيراً غنائياً عن ذاتية الشاعر، وإنما هو معادل فني درامي لهذه الذاتية. فأورفيوس مستقل عن الشاعر، وهو في الوقت نفسه، متقاطع معه، مما يسمح لنا بأن نتعامل مع أورفيوس بوصفه كائناً موجوداً وجوداً موضوعياً، وإن يكن هذا لايؤدي إلى عزله المطلق عن الشاعر.
ونود أن نسجل، في هذا الإطار، أن الشاعر الحداثي في تناوله للرموز التاريخية والأسطورية، غالباً ماكان يعود إلى تلك الشخصيات ذات التأزّم الدرامي في سياقها التاريخي أو الأسطوري.
وقلما يعود إلى تلك التي تخلو حياتها من هذا التأزّم. ولاشك في أن لهذه العودة أسباباً درامية وانفعالية واجتماعية. حيث إن هذا التأزم أكثر لفتاً للنظر، وأكثر تعبيراً، وأكثر امتلاء بالحيوية والفاعلية. وهو علاوة على ذلك يتلاءم وسمة الدرامية التي يتسم بها الوعي الجمالي الحداثي، مثلما يتلاءم والواقع الإجتماعي ـ السياسي. فلاغرابة، إذاً، في أن يكثر شعر الحداثة من رموز الحسين، وأبي ذر، وصقر قريش، والحجاج، والحلاج، وأبي نواس، وقابيل وهابيل، والمسيح، ويوسف، وتموز، وفينيق، وأوليس، وأوديب...إلخ فلكلِّ من هذه الرموز تأزّمه الدرامي الخاص.

* رمـــز الــريـح:

درسنا، فيما سبق، مستويات الرمز الفني، ولاسيما الأسطوري والتاريخي، ولم نتعرض للرمز الطبيعي، فقد أرجأنا الكلام فيه لما له من تميز في التعامل الجمالي. وسوف نخصص له ماتبقى من هذا الفصل، من خلال رمزي الريح والحجر. ولكن إذا كان هذا الرمز مختلفاً عن غيره، فإن ذلك لايعني أن تلك المستويات لاتسري عليه، ولاسيما المستوى الإشاري المفهومي والمستوى المحوري. مع الإشارة إلى أن مايمكن أن يقال في الرمز الطبيعي، لايختلف كثيراً عما يمكن أن يقال في الرمز الاصطناعي، إذ الفرق بينهما أن هذا من عمل الإنسان، وذاك من عمل الطبيعة، ويبقى أن لكلّ منهما علاقته التاريخية والعملية والانفعالية والمعرفية بالإنسان.
يتسم الرمز الطبيعي بكون قيمته الجمالية متبدلة متغيرة، بشكل دائم، مما يجعل تاريخه مستمراً وغير محدد نهائياً. ولعل هذا ممايميزه من الرمزين الأسطوري والتاريخي اللذين يمتلكان وجوداً محدداً في الذاكرة الاجتماعية، هذه الذاكرة التي تفرض نسقاً معيناً في تلقي هذين الرمزين. أي أنهما لايتصفان بالحيوية التي يتصف بها كل من الرمز الطبيعي والاصطناعي .
إن هذه الحيوية تعطي المبدع حرية عظمى في التعامل الرمزي، بحيث لايبدو مقيداً بتلك الذاكرة. ونحن إذ نؤكد ذلك، لانغفل أن للأشياء تواريخ، في الوعي الإجتماعي، لايمكن للمبدع أن يهملها أو يتغاضى عنها؛ غير أن هذه التواريخ متواصلة النمو والتبدل والتغير والإضافة والحذف والتعديل، بحسب التجارب الإجتماعية المتبدلة أيضاً.
فالنهر، مثلاً، بالنسبة إلى المجتمع القبلي، غيره بالنسبة إلى المجتمع المدني؛ كما أنه بالنسبة إلى سكان المناطق الصحراوية غيره بالنسبة إلى سكان المناطق الحراجية أو الجبلية. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن للنهر أطواراً تختلف باختلاف فصول السنة؛ مثلما أن للمجتمع أغراضاً تختلف باختلاف الحاجات ... إلخ. إن هذه الاختلافات في النهر وفي الحاجة إليه، تنعكس اختلافات في التقويمات العملية والتقويمات الجمالية.
وليس من العبث أن ترى الأسطورة اليونانية أن للأنهار آلهة وحوريات. أي ليس من العبث أن ترى في النهر إلهاً جليلاً جباراً، حين يكون النهر هائجاً؛ وأن ترى فيه حورية جميلة وادعة، حين يكون هادئاً منساباً.
وفي المحصلة، إن هذه التعددية في أطوار الأشياء، وفي الحاجات إليها، وفي أساليب استخدامها، وفي المواقف الاجتماعية منها، تنعكس تعددية هائلة غير محدودة، في الذات المبدعة التي هي الأخرى لها أطوارها النفسية والروحية المختلفة والمتعددة. ولهذا لاغرو في أن يكون الرمز الطبيعي ـ والاصطناعي أيضاً ـ ذا قيم جمالية متباينة ومتناقضة أيضاً. غير أن هذه التعددية غير المحدودة لاتعني الإعتباطية والفوضى، في التعامل الجمالي مع الأشياء، بحيث يفتقد الرمز إلى الإحالة الجمالية. أي أن هذه التعددية ليست نتاج التعامل المجاني الاعتباطي، وإنما هي سمة الظواهر والأشياء في علاقتها بالحياة الاجتماعية بمختلف أشكالها. ولهذا فإن أي إيحاء يمكن أن يستولده المبدع من الرمز، يجد أساسه في إحدى سمات الشيء منظوراً إليها من الذات المبدعة، في طور من أطوارها. وليست عملية الترميز، بحال من الأحوال، عملية اعتباطية مجانية، كما يخيل لبعض الشعراء، ممن تستهويهم اللعبة اللغوية الفانتازية.
لقد شاع رمز الريح، في شعر الحداثة، بشكل لافت للنظر، حتى يمكن التوكيد أنه قلما نجد شاعراً حداثياً لم يكن له موقف جمالي من الريح بوصفها رمزاً، وبوصفها حقيقة أيضاً. وهو ما أدى إلى أن تتكثّر إيحاءات هذا الرمز وتتنوّع وتتناقض، بما يصعب فيه التصنيف الدقيق والشامل. ولذلك فإن ماسوف نسجله، هنا، لن يكون سوى إشارة إلى هذا التكثر.
من المعلوم أن الريح من النماذج البدئيةARCHETYPES  التي يتشكل منها اللاشعور الجمعيCOLLECTIVE  UNCONSCIOUS ، وذلك بوصفها رمزاً للدمار والخراب. إذ إن الآلهة حين كانت تغضب على قوم ما، تسلّط عليهم أداتها التدميرية الفتاكة، وهي الريح، فتجعلهم نسياً منسياً. وكما يقول بيير داكو، فإن الشعوب القديمة قد منحت آلهتها أسلحة فتاكة واحدة، وهي الصاعقة والرعد والريح(24). ولاشك في أن ذلك ينهض من طبيعة التجربة الاجتماعية ـ التاريخية التي تناولت الريح والصاعقة والرعد.
وفي القرآن الكريم، مايشير إلى ذلك بشكل واضح. فغالباً ماتكون الريح، فيه، دالة على الدمار والخراب والعقم والجدب. ومن اللافت للنظر، في هذا المجال، أن الريح حين تستخدم في الآيات، بصيغة المفرد، تكون دالة على الدمار والخراب. أما حين تستخدم بصيغة الجمع، فإنها تدل على الخير والخصب، حيث تسوق المطر.
ولقد عُرف عن النبي الكريم أنه كان يتعوّذ عند رؤيته الريح ويضطرب، فيخرج من بيته، ويدخل، ويُقبل ويُدبر (25). وثمة حديث نبوي في الريح يقول:
<< نُصرتُ بالصَّبا وأُهلكت عاد بالدبَّور>> (26).
فلقد انتصر النبي وصحبه في يوم الأحزاب بوساطة الصَّبا -ريح الشرق- كما أهلكت عاد بريح الجنوب.
ولكن إذا كانت الريح سلاحاً بيد الإله، يستخدمه من اجل التدمير، فإن هذا لايعني أنها رمز سلبي وحسب. فهي تحمل أيضاً معنى إيجابياً، وذلك من منظور أن الريح لاتسلّط إلا على الأقوام الخاطئة بالمعنى الديني، فتتطهر الأرض من الخطيئة الدينية والأخلاقية، فيكون التدمير، عندئذ، شكلاً من أشكال التطهير.
لقد أردنا من هذه الإشارة التاريخية السريعة، القول بأن الريح في اللاشعور الجمعي تحمل معاني الخير والشرّ في الوقت نفسه، وإن يكن الخير مُضمراً في الأعمّ الأغلب. كما أردنا أيضاً التوكيد أن طبيعة التجربة الاجتماعية -التاريخية هي التي تحدّد محمولات الأشياء وذلك بالاستناد إلى سمات هذه الاشياء في تأثيرها اجتماعياً.
وإذا أتينا إلى رمز الريح، في النصوص الشعرية الحداثية، فإننا نلحظ تبايناً شديداً في التعامل الجمالي معه. فالسياب مثلاً، غالباً مايرى في الريح رمزاً سلبياً يحيل على الخراب والدمار اللذين يشيعهما فحش الواقع السياسي. ولهذا فإن الريح، في الكثير من استعمالات السياب، سلاح بيد الديكتاتور، يشلّ به حركة الواقع والإنسان، ويؤبّد به الأجواء التراجيدية التي تخدم استمراره القمعي الاستلابي. فالريح، بهذا المعنى، من أهم معالم الواقع التراجيدي، عند السياب. يقول:
الظلمة تعبس في قلبي
والجو رصاص
والريح تهبُّ على شعبي
والريح رصاص (27)
ويقول:
وتوشك أن تدق طبول بابل ثم يغشاها
صفير الريح في أبراجها وأنين مرضاها (28)
أما خليل حاوي، فإن للريح، عنده محمولاً مختلفاً، وهو التشيؤ والاغتراب. ولهذا فإن الصقيع والجليد والعراء من مصاحبات الريح عنده. وإذا كان السياب يرى في الريح سلاحاً بيد الديكتاتور، فإن حاوي يراها سلاحاً بيد الواقع المادي المبتذل. مما يعني أن الثورة على الريح هي ثورة على القيم المادية المبتذلة التي تغرّب الإنسان عن ذاته وعن محيطه، كما يعني أن المعاناة من الريح هي معاناة من تلك القيم. ولابأس من الإشارة، هنا، إلى أن الريح عند حاوي غالباً ماتكون نقيض الفرد، على حين أنها غالباً ماتكون، عند السياب، نقيض المجتمع، يقول حاوي:
في ليالي الضيق والحرمان
والريح المدوّي في متاهات الدروب
من يقوينا على حمل الصليب (30)
ويقول أيضاً:
علّه يفرخ من أنقاضنا نسل جديد
ينفض الموت، يغلُّ الريح
يدوي نبضة حرى بصحراء الجليد (31)
ويقول:
سوف يمضون وتبقى
صنماً خلفه الكهان للريح
التي توسعه جلداً وحرقاً (32)
ويرى فيها علي الجندي رمزاً للتيه بأشكاله النفسية والروحية والاجتماعية بعامة. ولهذا فإن القلق بمرادفاته من مصاحبات الريح عند الجندي. أي أن ثمة تشاكلاً بين حاوي والجندي، في تناول رمز الريح. ولكن في حين اتجه حاوي به إلى موضوعة الاغتراب، اتجه به الجندي إلى سمة ملازمة للاغتراب، وهي التيه النفسي والروحي. يقول:
.. يتها الريح التي تحملني من رصيف لرصيف
حفرت وجهي أخاديد الصراحه
نهشت لحمي أقلام الجراحه
أنزليني يتها الريح على قارعة الليل
اتركيني في بساتين المساكين الذين انتبذوا
تحت سور النفي.
أوعودي بجثماني إلى الصحراء في الأرض المباحه (33)
ويقول:
ننام على الريح ليس لنا من قوائم
وليس لنا غير أجنحة وعيون ومناقير جارحة نافره (34)
أما أدونيس، فيرى في الريح رمزاً إيجابياً، يمكن أن يحمل مفهومي الجميل والجليل معاً. إن للريح عنده طاقة تحويلية، تبعث في الموات دماً جديداً، كما تحول الوجود الإنساني تحويلاً ثورياً.
ومن هنا، فقد استوعب رمز الريح فلسفة أدونيس الشعرية، في ضرورة التجاوز والتخطي لما هو ناجز في الواقع بعلاقاته وقيمه. حتى يصحّ القول إن رمز الريح كثيراً مايرادف البطل الأدونيسي مهيار الدمشقى. فإذا كان مهيار دائم الثورة على واقعه، وعلى ذاته أيضاً، فإن الريح هي سلاحه في تلك الثورة، او هي سلاحه وثورته في آن معاً.
يقول:
هاأنا في طريقي إلى أرضي الثانيه
ومعي رايتي ورياحي (35)
ويقول أيضاً:
كانت الريح عينين مسنونتين
تخرقان الظلام وعاداته، تجرحان
جسد الليل، تشربان
دمه الأسود المصفّى
حينما تصعد المقابر، أو يسقط الملاك
كانت الريح جنية والأغاني
وجهها واليدين(36)
ولعل المحمول نفسه نجده عند فايز خضور. حيث الثورة التي تحيل على الخصب المتجدد، وتنفي العقم واليبس والجدب في الواقع والذات معاً. ولهذا غالباً مايكون المطر والغيم والأغاني، من مصاحبات رمز الريح عنده. يقول خضور:
وحدها الريح تستلني من رماد الهشاشة
تغري بهتك نسيج الكآبه(37)
ويقول أيضاً:
أيهذا المغني الجميل السفيه
أمُّك الريح فاسلم لها .. يامطر(38)
وإذا كان بعض الشعراء قد اتخذ موقفاً جمالياً شبه نهائي من الريح ، نلمسه في معظم نتاجه الشعري. فإن بعضاً منهم قد اتخذ منها مواقف جمالية مختلفة ومتناقضة أحياناً، وذلك بحسب تجربته الجمالية، في هذا النص أو ذاك. ولانرى أن ثمة أفضلية لهذا الشكل أو ذاك من التعامل الجمالي مع الرموز. إذ المحك النهائي هو الكيفية التي يظهر فيها الرمز في سياقه الفني.
إن أحمد عبد المعطي حجازي من الشعراء الذين لم يتخذوا ذلك الموقف شبه النهائي من الريح. مما جعلها تختلف إيحائياً من نص إلى آخر. غير أن أبعادها الإيحائية في جملة نصوصه الشعرية، تأتلف تماماً والأبعاد التي مرت بنا سابقاً. ولاغرابة في ذلك. إذ إن الحاضن الاجتماعي والجمالي واحد، بالنسبة إلى شعراء الحداثة، على اختلاف طبائعهم وتجاربهم الذاتية.
ولابأس من التمثيل لبعض مواقف حجازي من رمز الريح. ففيما يخصّ الإحالة على الدمار والخراب، يقول:
كيف صار كل هذا الحسن مهجوراً
وملقى في الطريق العام،
يستبيحه الشرطي والزاني‍!
كأني صرت عنيناً فلم أجب نداءها الحميم المستجير
تلك هي الريح العقور(39)
ويقول في إحالتها على الإغتراب:
سوف تضرب نافذتي طيلة الليل
أجنحة المطر المتوحش
ناعقة فوق رأسي،
وتستأنف الريح مابدأت من عويل(40)
إن عودة إلى محمولات رمز الريح، كما جاءت في شعر الحداثة، توضّح أن كلاً من تلك المحمولات له مايسنده في إحدى سمات الريح في علاقتها بالتجربة الاجتماعية عامة، وبالتجربة الجمالية خاصة. فبما أن الرمز هو صورة الشيء محولاً إلى شيء آخر، بمقتضى التشاكل المجازي، فيمكن القول شعرياً إن الريح هي الدمار والخراب، من منظور تأثيرها المدمر في الحقول والمزروعات والمنازل الفقيرة. أي ان تأثير الريح السلبي أصبح هو الريح، وأصبحت الريح هي الدمار في اللاشعور الجمعي وفي شعر الحداثة. فثمة، إذاً، تشاكل مجازي بين الريح والدمار.
ومن حيث إحالة الريح على التيه، فإن خاصية الحركة الدائبة التي تتميز بها الريح، تدلُّ على عدم الاستقرار. وهذا من صفات التائه نفسياً وروحياً. وكذا هي الحال في المغترب الذي هو تائه بالضرورة. مع الإشارة إلى أن دوي الريح لايختلف مجازياً بالنسبة إلى المغترب عن <<دويّ>> الحياة المادية المبتذلة.
أما في إحالة الريح على الثورة، فإن فعل الثورة الذي يدمرّ بنية الواقع السائد يمكن مجازياً أن يكون هو فعل الريح في جانبها التدميري الذي له بعد تطهيري بحسب اللاشعور الجمعي.

* رمـــز الــحجر:

وعلى الرغم من أهمية رمز الريح في تبيان العلاقة بين الإيحاء الجمالي وكلّ من سمات الشيء أو الظاهرة الطبيعية، والتجربة الاجتماعية، إلا أن رمز الحجر بمحمولاته الجمالية أكثر إيضاحاً وتبياناً لتلك العلاقة، لما يتّسم به الحجر من ارتباط مباشر بالحياة السياسية العربية المعاصرة، ولاسيما في فلسطين المحتلة.
إن دراسة هذا الرمز، في شعر الحداثة، تبين أن ثمة موقفين متناقضين عامّين منه، يتبدى الموقف الأول في النتاج الشعري ذي الأجواء الاغترابية، ويتلخص هذا الموقف في اعتبار الحجر رمزاً للتشيؤ والاغتراب. ويتبدى الموقف الثاني في شعر المقاومة الفلسطينية ولاسيما في سبعينيات القرن العشرين. حيث أن محمولات هذا الرمز غالباً ماتكون إيجابية، تكثف تجربة المقاومة الفلسطينية.
أما فيما يخص الموقف الأول، فإن المعاناة الروحية للفرد المغترب، قد وجدت في الحجر معادلاً موضوعياً في التعبير عن إشكالاتها. فمن خلال رمز الحجر، تم التعبير عن الفراغ الروحي، وعن العلاقة المتأزمة بين الفرد المغترب والمجتمع، وعن القلق النفسي، وعن الإحساس الحاد بالعزلة والتوحّد. ونرى أن كثيراً من النصوص أو الصور الشعرية يصعب استيعابها من دون فهم تلك الجوانب التي رؤيت في رمز الحجر. وسوف نترك لبعض المقبوسات أن تعبر عن نفسها، فيما يخص رمز الحجر، وذلك لضيق المجال من جهة، وخوفاً من التكرار من جهة أخرى.
يقول أدونيس:
في الحجر التائه لون القلق
لون خيال سرى
من ياترى
مرَّ هنا واحترق(41)
ويقول حاوي:
ضجر في دمه
في عينه الصمت الذي
حجّره طول الضجر
وجهه من حجر
بين وجوه من حجر(42)
ويقول نذير العظمة:
وجهي أنا ممتلئ بالشوك والحجارة
يبحث عن بداءة طرية
يبجث عن بكاره (43)
ويقول السياب:
أقضّ يامطر
مضاجع العظام والثلوج والهباء
مضاجع الحجر(44)
ويطرح سعدي يوسف عدة إيحاءات للحجر، بحيث يبدو متبدّلاً من حال إلى حال، بحسب التبدلات التي تمر بها الذات الشعرية، في واقعها الإجتماعي، وذلك في المقطع التالي:
يوم عالجتها بالحجر
- هذه الروح - قال الحجر:
هل أكون انتهيت؟
كم دفعنا إلى حجر، كي نطوّف دهراً به...
أمس قلّبته في يدي.. أيها الحجر النيزك، الحجر
الأبيض، الحجر المتلون: أيُّ زمان قطعنا معاً!
أيَّ أرض حللنا! وأيُّ مواطن لم تنفتح وطناً!
ربما كنت لي ساعداً يوم كنا صغاراً.. وصرت الهراوة
في الرأس حيناً، ولكننا الآن ندّان: أنت الذي
جئت من أول الكون.. هل جئتني؟ وأنا الناهض
-الدهر -هل أنثني؟(45)
لقد أردنا من هذا المقطع أن يكون صلة الوصل بين ذينك الموقفين من هذا الرمز، في شعر الحداثة. إذ إنه قد تعامل مع الحجر بوصفه العلاج السحري للروح المتأزمة (يوم عالجتها بالحجر-ثمة في هذا الاستخدام تناصّ مع حجر الفلاسفة)، وعامله بوصفه رمزاً للعبث واللاجدوى (كي نطوف دهراً به ـ وثمة تناصّ مع صخرة سيزيف)؛ وعامله بوصفه رمزاً للصيرورة (أيها الحجر النيزك.. المتلون)؛  كما عامله بوصفه سلاحاً (ساعداً، الهراوة)؛ وعامله أخيراً بوصفه رمزاً للأبدية (جئت من أول الكون...)
ومن اللافت للنظر أن هذا الرمز، على الرغم من تعدد إيحاءاته في المقطع، لم يقع في الاعتباطية أو المجانية، وماذلك إلا بسبب المنطق التحويلي الذي يقف وراء تلك الإيحاءات حيث إنها تصدر عن أطوار مختلفة مرَّ بها الحجر في علاقته بالذات الشعرية.
يمكن التوكيد أن رمز الحجر، قلما يستخدم في الشعر الفلسطيني المعاصر، بوصفه رمزاً سلبياً، أو رمزاً دالاً على التشيؤ والاغتراب. وتكاد تتمحور إحالاته الجمالية حول المقاومة، وحول الخصب والانبعاث أيضاً!.
ولابأس من الإشارة، في هذا المجال، إلى أن رمز الحجر قد حلّ محلّ رموز الزيتون والبرتقال والليمون التي كانت قد استوعبت مرحلة الذهول والالتياع والحنين التي خلفت النكبة في عام 1948. غير أنها استنفدت طاقاتها الإيحائية، فيما بعد، في تحوّلها إلى مجرد إشارة فحسب؛ كما أنها استنفدت مهامها الجمالية التعبيرية، بعد أن أخذت المقاومة الفلسطينية في البروز. وهو مااقتضى رموزاً جديدة تقوم بالمهام الجديدة التي أنتجها واقع الصراع العربي ـ الصهيوني. فكان رمز الحجر أحد الرموز التي ظهرت جراء الانتفاضات الشعبية المتناثرة، على مدار العقدين السابع والثامن. أي أن خصوصية التجربة النضالية الفلسطينية هي التي فرضت تلك الخصوصية في التعامل مع رمز الحجر الذي كثيراً مابدا حاملاً لمفهوم البطولي.
يقول معين بسيسو:
تفاجئني الأرض، إن الحجاره
تقاتل والأنظمه
بنادقها ملجمه
تفاجئني الأرض، إن أكفّ الصبايا
مرايا
وكفُّ الشهيد بحجم السماء (46)
إن ثمة تكاملاً وتجادلاً بين الحجارة والصبايا والشهيد والأرض. فالأرض تلد الحجارة، وهذه تتمرأى بأكف الصبايا، لتصبح هي القضية الأولى في كف الشهيد. فالحجارة في تحول دائم، فمن الأرض إلى الصبايا، ومنهن إلى الشهيد،، ومنه إلى الأرض ـ السماء ومن الأرض إلى البطولية.
إن هذا التكامل والتجادل هما مانلمسه في الحجر ـ الأسطورة، عند محمود درويش في قوله:
أنا الحجر...
أنا الحجر الذي مستّه زلزلة
رأيت الأنبياء يؤجرون صليبهم
واستأجرتني آية الكرسي دهراً
ثم صرت بطاقة للتهنئات
تغير الشهداء والدنيا
وهذا ساعدي
تتحرك الأحجار
فالتفوا على أسطورتي (47)
إن مايلفت النظر في أمثال هذا التعامل الرمزي مع الحجر، هو أن مصاحبات هذا الرمز كثيراً مايكون لها ارتباط بالخصب والاخضرار والطفولة. فأحمد دحبور يقرن " حجارة الصباح " بـ "خضرة الدنيا" (48). أما بسيسو فإنه يتلو بلاغ الشجر وبلاغ الحجر(49)، كما أنه يرى تلَّ الزعتر مرصعاً بالقمح والأحجار(50). ويقرن درويش الحجر بالزعتر، في قصيدته الشهيرة "أحمد الزعتر" حيث (ليدين من حجر وزعتر. هذا النشيد)(51)؛ ويرى نشيده، في نص آخر، متبدياً باخضرار المدى واحمرار الحجارة (52). أما سميح القاسم فيرى الحجر مرتبطاً بالوردة والتفاحة. وهذا ماسوف نتحدث عنه تالياً. ويقول عصام ترشحاني:
هم.. علّمونا كيف نمسك نارهم
ونشدُّ أزر جحيمها
هم.. علّمونا كيف تنتفض الحجارة
والحدائق والطيور (53)
ومن منظور أن البطولية هي المخلّص من الاحتلال والاستلاب، فقد رؤيت البطولية شكلاً من أشكال الخصب والانبعاث. أي أن الحجر قد أصبح بطلاً انبعاثياً. والحقيقة أن هذا من أغرب الاستخدامات لرمز الحجر. غير أن الغرابة تنتفي حين نتذكر واقع الانتفاضة الفلسطينية وأهمية الحجارة في نضالها؛ وحين نتذكر أيضاً أن إيحائية الرمز تتأتى أولاً من طبيعة التجربة الاجتماعية التي تتناوله.
لقد صعد درويش برمز الحجر إلى مستوى البطل الأسطوري، وصعد به سميح القاسم إلى مستوى البطل الإنبعاثي مرتكزاً على استراتيجية الانتفاضات من جهة، وعلى أسطورة الانبعاث من جهة أخرى. يقول القاسم في مملكة الآر. بي. جي:
كان شعبها من الأطفال
وكانت مليكتهم
سنونوة تطير دوماً نحو الربيع
أما الملك / فكان حجراً
مات الحجر / فصار وردة
ماتت الوردة / فصارت تفاحة
من رماد الموتى انطلقت عنقاء جديدة
تطير دوماً نحو اسمها (54)
إن زواج الحجر بالسنونوة الربيعية، قد جعل منه بطلاً انبعاثياً، يموت لاليفنى، بل كي يتحول إلى طور أرقى، ليتحول إلى وردة، فتفاحة، فعنقاء جديدة تعلن عن الربيع أو الانبعاث.
لقد دخل الحجر، في الشعر الفلسطيني المعاصر، مرحلة الألوهة المؤنسنة، أو بحسب مصطلحات علم الجمال، دخل مرحلة الجلال، وهذا مايؤكده القاسم حين يقول:
هكذا، بالضربة القاضيه
بالوردة والتفاحة والحجر
الثالوث المقدّس
الإله الذي لايغادر ضحاياه
دون صلاة صغيرة (55)
لعل اقتران الحجر بالوردة والتفاحة، في المقبوسين السابقين، يحيل على تلازم القيم الكلاسيكية الثلاث. وهي الحق والخير والجمال. فإذا كانت الوردة هي الجمال، والتفاحة هي الخير مرتبطاً بالجمال، فإن الحجر هو الحق مرتبطاً بكل من الخير والجمال. إن القاسم في توحيده لهذه القيم بإله واحد ـ وهذا الإله هو رمز للمقاومة ـ يكون قد أوحى بشكل فني ذكي، بأن الحق والخير والجمال من سمات القضية الفلسطينية. وهو مايعني أن العداء أو الحياد تجاه هذه القضية يعني موقفاً سلبياً من قيم الحق والخير والجمال.
إن هذه القيم الثلاث نجدها متجلية أيضاً في قول بسيسو:
أيتها الخوذات البيضاء حذار
من طفل نبتت بين أصابعه النار
من طفل يكتب فوق جدار
يكتب بعض الأحجار
وبعض الأشجار، وبعض الأشعار (56)
وهكذا فإن التوحد بين الحجر والشجر والشعر أو بين الحق والخير والجمال، واضح في الكثير من شعر المقاومة.
نلحظ، مما سلف، كيف تم التعامل مع رمز الحجر في شعر الحداثة عامة، وفي شعر المقاومة منه خاصة. ولكن ماتنبغي الإشارة إليه، في هذا المجال، هو أن رمز الحجر في دلالته على المقاومة، قد تم ابتذاله في شعر التسعينيات الذي جعل من الانتفاضة الفلسطينية موضوعاً له (57). فلم يعد رمزاً بقدر ماأصبح مجرد إشارة إلى الانتفاضة. أي كأن رمز الحجر في دلالته على المقاومة، قد دخل فيما دخل فيه رمز الزيتون من طريق مسدود، على الصعيد الإيحائي والجمالي. مما قد يستدعي رمزاً آخر يواصل ماكان رمز الحجر قد بدأه.
وبهذا، فقد طرح شعر الحداثة أنماطاً عدة من الرموز الفنية التي استوعبت موقفه الجمالي والاجتمالي من الواقع الذي راح يتنامى فيه. ولم يكن ثمة وعي جمالي جديد، يرى أن تحريض الأشياء، في هذا الشعر، لو لم يكن بالإمكان أن يبرز التعامل الرمزي مع الظواهر والأشياء، لا الأشياء، هو أساس القيمة الجمالية في الشعر، والفن عامة. وقد يبدو أن هذا المنطلق الجمالي ينسجم وما يذهب إليه شكلوفسكي من أن " الفن هو أحد طرق المعايشة الفنية للموضوع، أما الموضوع فليس بذي أهمية "(58). غير أن الأمر ليس على هذا النحو تماماً. فلاشك في أن الفن معايشة فنية أو جمالية للموضوع. ولكن للموضوع أهمية في هذه المعايشة. فهو أحد قطبي العلاقة الجمالية، ومن دونه لايكون ثمة معايشة أو علاقة. فهو المحرّض والمؤثّر. ولابد من أن تنعكس بعض صفاته، في عملية الإدراك. وما يؤكد ذلك أن شعر الحداثة في تعامله الرمزي مع الموضوعات لم يكن يغفل هذه الصفة أو تلك منها. ولولا ذلك لما تيسّر له أن ينتج رموزاً ذات إيحاء مكثف، رموزاً تتكئ على بعض صفات الأشياء أو الموضوعات، مثلما تتكئ على الطبيعة النفسية والروحية للمبدع. وفي هذا تكمن الحرية التي نالها الشاعر الحداثي. في تعامله الجمالي مع الظواهر والأشياء. فلم يعد موكّلاً بمحاكاتها. بل أصبح له الحقّ بتشكيلها تشكيلاً جديداً، يخرج بها من علاقاتها الموضوعية، من دون أن يلغي تأثيراتها فيه .

الهوامش:


1ـ راجع في ذلك: الأيوبي، د. ياسين: مذاهب الأدب ـ الرمزية.جـ: 1. المؤسسة الجامعية، بيروت. ط 1، 1982. ص: 206 ـ 253.
2ـ اليافي، د. نعيم: تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث. اتحاد الكتاب، دمشق، 1983. ص:287.
3 - BOWRA , C. M , THE  HERITAGE  OF  SYMBOLISM . LONDON : 1943 . P . 3 .
4 -  IBID . P . 13.
5 -  RAYMOND  ,MARCEL , FROM  BAUDELAIRE  TO SURREALISM  , LONDON : 1970  P.111.
6ـ ويمزات وبروكس : النقد الأدبي، جـ : 4. تر: د. حسام الخطيب ومحي الدين صبحي. المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، دمشق، 1977. ص: 65.
7ـ سارتر، جان بول: الأدب الملتزم . تر: جورج طرابيشي. دار الآداب، بيروت، ط:2، 1967. ص: 144
8ـ أحمد، محمد فتوح: الرمز والرمزية في الشعر المعاصر. دار المعارف، القاهرة، ط:2، 1978، ص:21
9ـ وايلد، أوسكار: صورة دوريان جراي. تر:لويس عوض. دار المعارف، القاهرة، 1969. ص: 5(في المقدمة).
10ـ وارين وويليك: نظرية الأدب. محي الين صبحي، مرا: د. حسام الخطيب. المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الإجتماعية، دمشق، 1972. ص:243.
11ـ ربما من المفيد أن نشير إلى أن الدكتور اليافي يرى أن للرمز الفني سبع خصائص. وهي: الأصالة والإبتكار والحرية الكاملة غير المقيدة، والطبيعة الحسية، والكيفية التجريدية، والرؤية الحدسية، والنسقية، وثنائية الدلالة. راجع المرجع السابق، ص: 280 ـ 283. ويلحظ القارئ أن ثمة تقاطعاً بين مانطرحه وما يطرحه اليافي.
12 - ADORNO, THEODOR, AESTHETIC THEORY . LONDON : 1985. P: 248
13ـ السياب، بدر شاكر: ديوانه، م:1. دار العودة، بيروت ـ 1971. ص:510 ـ 511.
14ـ عمران، محمد: الدخول في شعب بوان. اتحاد الكتاب العرب. دمشق، 1972. ص: 14ـ15.
15ـ عبد الصبور، صلاح: ديوانه، م: 1+2. دار العودة، بيروت، 1972. ص: 26.
16ـ كنعان، علي: أعراس الهنود الحمر. دار المسيرة، بيروت، 1979. ص:27.
17ـ الأحمد، أحمد سليمان: الرحيل إلى مدينة التذكار. دار الأجيال، دمشق، 1970.ص: 98ـ 99
18ـ أدونيس: الآثار الكاملة، م:1. دار العودة، بيروت، 1971. ص:264ـ 265.
19ـ حاوي، خليل: ديوانه، دار العودة، بيروت، 1982. ص: 89ـ 90.
20ـ السياب: المصدر السابق، ص: 472 ـ 473.
21ـ يوسف، سعدي: قصائد أقل صمتاً. دار الفارابي، بيروت، ط: 1، 1979. ص:85.
22ـ أدونيس: المصدر السابق، ص: 377.
23ـ داكو، بيير: انتصارات التحليل النفسي. تر: وجيه أسعد. وزارة الثقافة، دمشق، 1983. را: ص: 334
24ـ صحيح مسلم، ج3. دار الطباعة العامرة، القاهرة. 1330 ه. را: ص:26 ـ 27
25ـ نفسه، ص: 27.
26ـ السياب: المصدر السابق، ص: 438.
27ـ نفسه، ص: 438.
28ـ حاوي، المصدر السابق، ص:22.
29ـ نفسه، ص:92ـ 93.
30ـ نفسه، ص: 139.
31ـ الجندي،علي: قصائد موقوتة. دار النديم، بيروت، د/تا. ص: 76ـ 77.
32ـ نفسه، ص: 87.
33ـ أدونيس: المصدر السابق، ص: 412.
34ـ أدونيس: الآثار الكاملة، م: 2. دار العودة، بيروت، 1971. ص: 519ـ 520.
35ـ خضور، فايز: نذير الأرجوان. دار فكر، بيروت، 1989. ص:68ـ 69.
36ـ نفسه، ص:117ـ 118.
37ـ حجازي، أحمد عبد المعطي: كائنات مملكة الليل، دار الآداب. بيروت. 1978.ص:10ـ 11.
38ـ نفسه، ص:126.
39ـ أدونيس: المصدر السابق، م: 1. ص:50.
40ـ حاوي: المصدر السابق، ص:208.
41ـ العظمة، نذير: الخضر ومدينة الحجر. اتحاد الكتاب العرب، دمشق،1979، ص:44
42ـ السياب، المصدر السابق، ص: 463.
43ـ يوسف:المصدر السابق، ص:33ـ 34.
44ـ بسيسو، معين: الأعمال الشعرية الكاملة. دار العودة، بيروت، 1979. ص: 665.
45ـ درويش، محمود: ديوانه، م:2. دار العودة، بيروت، 1980. ص:245.
46ـ دحبور، أحمد: مجلة فكر، العدد56/57، بيروت، 1984. ص:118.
47ـ بسيسو: المصدر السابق، ص:668.
48ـ نفسه، ص: 625.
49ـ درويش: المصدر السابق، ص:469.
50ـ نفسه، ص:523.
51ـ ترشحاني، عصام: منارات لأحزان العشب. دار القدس، بيروت، 1979. ص: 37.
52ـ القاسم، سميح: جهات الروح. دار الحوار، اللاذقية، 1984. ص: 114ـ 115.
53ـ نفسه، ص:70.
54ـ بسيسو: المصدر السابق، ص:652ـ 653.
55ـ كليب، د. سعد الدين: قصيدة الانتفاضة "الشعر السوري أنموذجاً" مجلة "المعرفة" العدد:365. دمشق، 1994. را: ص:84ـ 102.
56 -  SELDEN , RAMAN . AREADER’S  GUIDE  TO CONTEMPORARY  LITERARY  THEORY . LOKDON : 1988 . P . 10 .


qqq



الفصل الرابع


جمالية النموذج الفني

في شعر الحداثة


* تأســـيــس نـظـري:

يعدّ النموذج الفني ARTISTIC  TYPE من أهم الأساليب التقنية التي استخدمها شعر الحداثة العربية، في تعبيره عن وعيه الجمالي الذي يتصف بالدرامية DRAMATIC من جهة؛ وفي تعبيره عن الواقع الإنساني من جهة أخرى، إذ إن إنتاج النموذج الفني لايعني التخفّف من الغنائية LYRICISM فحسب. بل يعني أيضاً المعالجة الفنية لأوسع مساحة ممكنة، من الواقع بعلاقاته وقيمه المختلفة. ولهذا، فإن دراسة هذه التقنية هي،في أحد مستوياتها، دراسة لتجلي التجربة الشعرية بشكل درامي، في شعر الحداثة؛ مثلما هي دراسة لطريقة التناول الفني للواقع.
فمن المعلوم أن الشاعر الحداثي لم يعد، في الأعمّ الأغلب، يعبّر عن تجربته الشعرية بشكل غنائي صرف، كما كان الشاعر الكلاسيكي ينحو في شعره. بل بات أقرب إلى الموضوعية في تناول تجربته، وفي إنتاجها شعرياً. وهو ماأدى إلى استتار ذاتيته، في بعض النصوص استتاراً تصعب فيه إحالة هذه النصوص على تلك الذاتية، من دون أن يعني ذلك استتار الموقف الذاتي من هذه الظاهرة أو تلك. أي أننا لم نعد نتلقى ذاتية الشاعر من خلال نماذجه الفنية، بقدر مانتلقى موقفه الذاتي منها. ولذلك فإن الكلام على النموذج بوصفه تعبيراً عن تلك الذاتية، سوف يقع في مغالطة نقدية وعلمية في آن معاً. وذلك كما فعل الناقد يوسف اليوسف (1) بنموذج "حفار القبور" للسياب. حيث راح اليوسف يستقرئ نفسية السياب التدميرية السادية، من خلال هذا النموذج السلبي الذي أبدعه السياب تعبيراً عن موقفه الجمالي والأيديولوجي السلبي من ظاهرة اجتماعية محددة (*) .
ومن الطبيعي أننا لاننفي أن يكون لنفسية الشاعر أو ذاتيته حضور ما، في بعض نماذجه الفنية. إذ إن شعر الحداثة هو، في نهاية المطاف، شعر غنائي يتصف بالدرامية، ولكن ننفي أن تكون هذه النماذج تعبيراً مباشراً وصرفاً عن ذاتيته. ولو كان الأمر على هذا النحو، لما كان ثمة حاجة للحديث عن النمذجة الفنية بوصفها معادلاً موضوعياً لموقف الشاعر من هذه الظاهرة أو تلك؛ وبوصفها تقنية تستوعب مجمل الظواهر النفسية والروحية والاجتماعية التي يعالجها الشاعر أو يعانيها.
إن الميل إلى إنتاج النموذج ينهض، أساساً، من محاولة الشاعر الحداثي، في استيعاب الواقع الإنساني استيعاباً درامياً، يتمكن به من تملك العلاقة الجدلية بين الذاتي والموضوعي، بين الأنا والآخر، وهو مالم يعد ممكناً بالشكل الغنائي الصرف الذي يمكن القول إنه أصبح عاجزاً عن استيعاب الواقع، وعن التعبير عن الوعي الجمالي الحداثي. إنّ عجز هذا الشكل هو الذي دفع الشاعر الحداثي إلى البحث عن تقنية جديدة، تنهض بما عجز عنه ذلك الشكل، فوجده في الأسلوب التقني الذي تتكئ عليه المسرحية والرواية، وهو النموذج أو الشخصية الفنية. إذ من المعروف أن المساحة الاجتماعية التي تعالجها الرواية أو المسرحية، بسبب أسلوب النمذجة، أكثر اتساعاً وعمقاً من المساحة التي يعالجها الشعر الغنائي؛ غير أن الشعر الحداثي، بميله إلى النمذجة، راح يستوعب، إلى حد ما، تلك المساحة. حيث بات يتناول كثيراً من الظواهر التي كان الشعر الغنائي عامة يبتعد عن تناولها.
ومما لاشك فيه أن ثمة اختلافاً واضحاً، في أسلوب النمذجة، بين الشعر الحداثي وكلٍّ من المسرحية والرواية. فعلى حين أن هذين النوعين يطرحان حيوات الأشخاص في ظروف اجتماعية محددة، ويصوران تناميها وتبدلاتها في علاقتها بالأحداث، وعلاقتها فيما بينها؛ نجد أن الشعر يميل إلى إنتاج النموذج ـ الموقف في علاقته بهذا المستوى أو ذاك من مستويات الواقع. بمعنى أن النموذج الشعري يتنامى ذاتياً، في إطار سماته النوعية المحددة. إنه لايحتمل التنامي من نوعية إلى نوعية أخرى مغايرة، والسبب هو أن الشعر لايستوعب حياة المنمذج كاملة. بل يطرح موقفه الذي يوضّح سماته. فهو حين ينتج نموذجاً ما، يتكئ على كينونته القيمية، لا على حياته المادية والروحية والاجتماعية، كما نلحظ في الرواية  والمسرحية.
ويختلف النموذج الشعري عن كلٍّ من النموذج الروائي والمسرحي، في أنه موضوعي ـ ذاتي يحيل على موقف الشاعر من الظاهرة المنمذجة إيجاباً أو سلباً. أما الآخران فمستقلّان عن ذات المبدع. ولهذا فهما أكثر موضوعية من النموذج الشعري. إذ إن طبيعة الإبداع الشعري تجعل الشاعر لايتخلى عن طرح موقفه الذاتي. فموقف السياب، مثلاً، من "حفار القبور" أو  "المومس العمياء" موقف واضح وصريح. أما موقف دوستويفسكي، مثلاً، من أفراد العائلة المتهرئة ـ عائلة كرامازوف ـ فليس واضحاً تمام الوضوح. فما موقفه من الأخ الأصغر المترهبن، أو الأخ الأوسط المتثاقف، أو الأخ الأكبر المتهتك، أو الأخ المنسي المصروع... إلخ؟ ولاشك في أن موقف دوستويفسكي السلبي من عائلة كرامازوف جملة، واضح تماماً. غير أنه رسم شخصياته تلك، بشكل موضوعي بالنسبة إلى ذاته. أما الشاعر، بسبب طبيعة فنه، فلايمكنه ذلك. وعلى أية حال، فإن لكل فن طبيعته الخاصة به.
إن سمة النموذج الفني الجديرة بالاهتمام تكمن في أنه يستطيع احتواء ظواهر اجتماعية جديدة دائماً(2). وذلك بسبب التعميم المجازي الذي يتصف به، وبسبب اهتمامه بما هو جوهري في الظاهرة المنمذجة. ويمكن القول إن النموذج الذي لاينهض بذلك، لن يتملّك الظاهرة التي ينمذجها، كما لن يتمكن من الإيحاء الجمالي. مما يعني أن النمذجة الفنية لاتتم بمجرد إيجاد شخصية مختلفة عن شخصية الشاعر. فلابد من أن تكون هذه الشخصية ذات إمكانية تعبيرية عن موقف أو تجربة أو ظاهرة ما، وذات إمكانية إيحائية، يمكن بها أن تستوعب ظواهر أخرى مختلفة، وأن تتواصل وما يستجدُّ على صعيد الواقع. ولكن ذلك غير ممكن، إذا ماكان النموذج عبارة عن مقولة عقلية. إذ إن للمقولة نسقاً مغايراً لنسق التجربة التي يسعى شعر الحداثة إلى التعبير عنها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإذا كان النموذج صادراً من تعميم مجازي، فإن ذلك لايؤدي إلى أنه تعميم عقلي للظاهرة. بل إن العلاقة الانفعالية بين الذاتي والموضوعي توجب أن يكون النموذج ذا نسق انفعالي مجازي لايمكن اختزاله بمقولة عقلية. إن هدف الشعر الحديث ـ كما يقول صاحب كتاب شعر التجربة ـ "يتجلى في فتح قناة من الموضوع الشخصي إلى نموذجه الأصلي عبر تجنّب المقولة العقلية للنموذج"(3). ولهذا فإن النموذج بما هو تعميم مجازي، يحيل على الطبيعة الانفعالية للتجربة الشعرية عامة.
وتنبغي الإشارة، في هذا المجال، إلى أن النموذج لايتمُّ، من دون الوحدة العضوية ORGANIC  UNITY التي هي سمة أساسية من سمات القيمة الجمالية AESTHETIC  VALUE عامة. فالتنافر والنشاز وعدم الاتساق لايمكنها أن تنتج قيمة جمالية. سواء أكان ذلك فيما يتعلق بالنموذج، أم فيما يتعلق بالنص عامة. ولهذا، لابدَّ من أن يكون النموذج المطروح متماسكاً على الصعيد البنيوي لتشكيله الفني، ولإحالاته الجمالية. بحيث لايبدو جمعاً اعتباطياً لبعض الصفات الإنسانية المتنافرة، أو لايبدو خالياً من الاتساق الإيحائي أو الإيحائي الجمالي المتسق.
إن النموذج الفني بوصفه حاملاً للتجربة الشعرية، ينبغي أن يمتلك الإمكانية في أن يكون ذا كينونة ذاتية مختلفة، بهذا القدر أو ذاك، عن كينونة الشاعر الذاتية، بحيث يستحقّ الانتباه إليه بذاته، شأنه في ذلك شأن الرمز الفني، بمعزل عن مبدعه. بل كثيراً مانجد الشاعر يدخل في حوار أو تناقض أو صراع مع نموذجه الذي قد يبدو، على الصعيد الجمالي، جميلاً أو قبيحاً، وبطولياً أو تافهاً، وتراجيدياً أو معذباً أو كوميدياً. ومن هنا، فإن النموذج ليس استيعاباً درامياً للتجربة فحسب بل إنه أيضاً يفرض بناء شعرياً درامياً بالضرورة. أي أن النص الشعري الذي ينهض على النمذجة، لابدّ من أن يكون بناؤه الفني درامياً. حيث تتعدد الأصوات وتتناقض، ويتنامى الانفعال، وتتطور الصور من بعضها، وتتواشج فيما بينها، وتصطرع المشاعر والأحاسيس.. إلخ.وإذا ما أضفنا إلى كل ذلك أن النموذج غالباً مايتصف بتأزم درامي حادّ، فإن درامية البناء الفني للنص تغدو، عندئذ، أوضح من أن يشار إليها، ويغدو التداخل بين الذاتي والموضوعي عاماً في النص كله. "فالشاعر يتحدث عن نفسه عبر الحديث عن آخر (موضوع)، وهو يتحدث عن آخر عبر الحديث عن نفسه، وهو لايخاطب نفسه أو الآخر، كلاً على حدة، وإنما يخاطبهما معاً، فنراه يخاطب الآخر لينبئ نفسه بشيء ما، ومع ذلك فإن الشيء الذي ينبئ به نفسه يتأتى من الآخر" (4). وبهذا المعنى، فإن الشاعر في انتاجه للنموذج يختلق شخصية موضوعية، تكثف موقفه الجمالي ـ الذاتي، ليدخل معها في حوار يبلورها ويبلور موقفه أيضاً.وقد يسند إليها مايسعى إلى أن يقوله. فتقول قوله، على أنه قولها؛ كما قد يسند إليها مايتنافر أو يتناقض وقوله. فتقول، عندئذ، نقيض قوله، على أنه قولها أيضاً. وتبقى هذه الشخصية ـ أو هذا النموذج ـ هي المعادل الموضوعي للموقف الذاتي النهائي للمبدع، من هذه الظاهرة أو تلك. سواء أكان الموقف سلبياً أم كان إيجابياً. مع الإشارة إلى أن السلبية أو الإيجابية، هنا، تبقى نسبية. بمعنى أن النموذج ليس فكرة أو مقولة يمكن أن نصفها بالصواب أو الخطأ. بل هو كائن فني متعدد الأبعاد ومختلف المواقف والمشاعر. ولهذا كثيراً ما يصعب وصفه بالإيجابية أو السلبية المطلقة. وإن يكن للمبدع موقفه النهائي منه. فبما أن للنموذج استقلالاً ما عن ذات المبدع، فمن حقه أن يمتلك الإمكانية الإيحائية في أن يحيل على موقف تقويمي لا يتقاطع بالضرورة وتقويم المبدع له. والحق أن هذا شائع في الكثير من النماذج التي طرحها شعر الحداثة. وهو ما سوف نلحظه في بعض النماذج التي سوف نتعرض لها في هذا المبحث.
نخلص إلى أن سمات النموذج الفني، في الشعر، تتحدد بالتعبير عن جوهر الظاهرة المنمذجة تعبيراً مكثفاً مركزاً، من دون الالتفات إلى ما هو ثانوي أو عرضي أو يومي، مما قد يشكّل أساساً من أسس النمذجة في الرواية والمسرحية؛ ويتحدد بالتعميم المجازي القائم على الطبيعة الانفعالية للعلاقة بين الذاتي والموضوعي، وبدرامية الموقف، والتنامي في إطار النوعية المحدّدة، وبالوحدة العضوية، وبالإيحاء الجمالي المتكثّر؛ كما يتحدد أيضاً بالحسية الصورية التي من دونها لا يكون للنموذج كيان قائم بذاته، ولا يستطيع أن يتكثّر إيحائياً. فمن دون الحسية الصورية يغدو النموذج مجرّد رأي مطروح، يتطلب المحاورة الذهنية لا المعايشة الجمالية. أومن اللافت للنظر أن النقد الأدبي الخاص بالشعر الحداثي، لم يلتفت إلى التنظير للنموذج الفني، على الرغم من الأهمية العظمى التي له، في هذا الشعر الذي قام في معظم نصوصه على النمذجة. مع العلم أن ذلك النقد قد تناول هذه التقنية، غير أنه كان يرى فيها نوعاً من القناع الفني (5)، لا نموذجاً فنياً. ونرى أن مصطلح القناع MASK قاصر عن الإحاطة بهذه التقنية التي هي نمذجة بكل ما يعنيه المصطلح. إذ إن الفرق بين القناع والنموذج ينهض من أن الأول يحيل على ذات الشاعر المتقنعة، أما الثاني فيحيل على الظاهرة المنمذجة في علاقتها بذات الشاعر. علاوة على أن القناع يُعنى ـ كما هو مطروح نقدياً ـ بالشخصيات التاريخية والأسطورية، أما النموذج فهو أعم وأشمل. حيث يتناول كل شخصية، على الإطلاق، سواء أكانت تاريخية أم أسطورية أم واقعية أم متخيلة. مع الإشارة إلى أن التخيل أساسي في النمذجة الفنية عامة، حتى لو كان النموذج واقعياً بحتاً.
إن أسلوب النمذجة الفنية هو الأسلوب الأقدر على استيعاب القيم الجمالية بشكل تجسيدي تخييلي. حيث تبدو القيمة الجمالية فيه محمولة على شخصية فنية متكاملة؛ كما تدخل هذه القيمة، من خلال النمذجة، في تجادل مع القيم الأخرى. مما يعني أن النص القائم على النمذجة يشتمل على عدة قيم في آن معاً. وهذه القيم لاتتجاور بل تتناقض، ولاتتوالى، بل تتداخل. وهي في كلّ ذلك لاتظهر بوصفها آراء جمالية، وإنما بوصفها كائنات حية تتفاعل وتتصارع وتتنامى. ولهذا فإن القيمة الجمالية التي يجسدها النموذج تتطور وتتعمق بحسب حركة النموذج في النص، وبحسب تجادله مع الأصوات الأخرى. ومن ذلك فإن القيمة الجمالية إذ تتجسّد بالنموذج، لايمكن فهمها أو استيعابها من دون استيعابه. ولعلَّ النماذج الروائية أو المسرحية تكون مثالاً حياً على ذلك.
إن استيعاب النمذجة للقيم الجمالية لايعني نفسه بقدر مايعني استيعاباً للظواهر والأشياء التي تتناولها التجربة الشعرية. وإذا ماكان الشعر ـ والفن عامة ـ في جانب منه، تقويماً جمالياً للظواهر والأشياء في علاقتها بالمبدع، فإن ذلك لاينفي أن ثمة أسلوباً أقدر من غيره في استيعاب هذا التقويم. ولعلَّ النمذجة هي الأقدر من بين الأساليب الأخرى، كالصورة والرمز، على ذلك الاستيعاب، لما تتسم به من تعميم وشمول وكلية وتعدّد في تناول الظاهرة المقوّمة. فالصورة الجزئية مثلاً تتناول بالتقويم هذا الجانب أو ذاك من الظاهرة، ولاتتناول الظاهرة في كليتها؛ على خلاف النمذجة التي من سماتها كليّة التقويم وتعدّده. مع الإشارة إلى أن النموذج هو، بشكل أو بآخر، صورة فنية غير أنها كلية. بمعنى أنه الصورة المتحصلة من النص بمجمله. ولهذا، فإن النموذج بوصفه صورة كلية ينطوي على صور جزئية عديدة، تشكّل قوامه الجمالي والفني معاً.

* أنــماط الـنمذجة فـي الـــشعر:

لقد طرح شعر الحداثة العربية الكثير من النماذج الفنية التي استوعبت تجربته الجمالية، في علاقته بالواقع. بحيث يمكن القول إنه لاوجود لظاهرة أو قيمة أو حالة في الواقع العربي المعاصر، لم يكن ثمة نموذج فني يستوعبها أو يجسدها. سواء أكان الأمر مرتبطاً بما هو اجتماعي أم سياسي أو وجودي أو نفسي... وهو مايسوّغ التعدد الهائل في النماذج من جهة، وفي القيم الجمالية من جهة أخرى. وإذا ماكان بالإمكان أن نصنّف النماذج بحسب القيم التي تجسدها، وهي غالباً ما تتمحور حول الجمال والقبح والجلال والبطولية والتفاهة والعذاب والتراجيدية والكوميدية؛ فإن طبيعة الموقف من هذه القيم تتباين وتختلف بحسب التجربة الشعرية الخاصة بهذا الشاعر أو ذاك بل بهذا النص أو ذاك أيضاً. وإذا ماكان بالإمكان أيضاً أن نحدد الأنماط العامة التي تنظم هذه النماذج، فإن ثمة صعوبة في الزعم أن النماذج يمكن أن تنصاع كلياً لتلك الأنماط. فلكلّ نص طريقته في تناول النموذج، وفي صياغته الشعرية، وفي إحالاته الجمالية، وإن يكن هذا لا يلغي إمكانية التصنيف العام، من خلال عدة أنماط شاعت بين النصوص.
إن النمط الأول، في تقنية النموذج، كما طرحه شعر الحداثة، يقوم على تكشّف النموذج ذاتياً، من خلال الموقف الدرامي المتأزم، مع تدخّل الذات الشعرية، في سيرورة النموذج وصيرورته، من أجل إعطاء صورة متكاملة عنه. أي غالباً ما يكون النموذج هو المتحدّث الأساسي، في النص. أما الذات الشعرية فتغدو وكأنها الراوي NARRATOR الذي يتدخل في سير الموقف، كي يبلور النموذج ويعمقه. مما يحيل على أن ثمة نوعاً من التناغم الفني بين النموذج والراوي، من أجل بلورة الموقف الدرامي المطروح، عبر دخول النموذج في تجادل مع نقائضه. وقد يكون الراوي أحد هذه النقائض، كما قد يكون الراوي على انسجام قيمي جمالي مع النموذج. فالتناغم الفني بين النموذج والراوي لا يعني، إذاً، تناغماً أو انسجاماً على الصعيد القيمي بينهما بالضرورة.
ونتوقف عند قصيدة "الصقر" (6) لأدونيس، بوصفها مثالاً على هذا النمط. حيث إن النموذج هو المتحدث الأساسي، على حين أن الراوي لا يتدخل، في سياق الموقف الدرامي، إلا قليلاً، بما يكفل توضيح هذا الموقف، وتوضيح معاناة النموذج أيضاً.
تعالج القصيدة شخصية عبد الرحمن الداخل المعروف بصقر قريش، والذي تشكّل حياته سيرة درامية بحقّ. غير أن القصيدة إذ تنطلق من هذه الشخصية التاريخية، تتجاوز السيرة الذاتية لها، لتطرح شخصية البطل الفرد. بما يتلاءم والمثل الأعلى الجمالي للبطولية الفردية التي ينطلق منها شعر أدونيس عامة. ومن ذلك، فإن نموذج الصقر البطولي ليس صياغة فنية لشخصية عبد الرحمن الداخل التاريخية. بل هو صياغة للمثل الأعلى الجمالي للبطولية الفردية. وإن تكن هذه الصياغة تنهض مما هو تاريخي في سيرة صقر قريش. وتقتضي الإشارة، في هذا المجال إلى أن كلّ الشخصيات التاريخية والإسطورية والواقعية التي عالجها شعر الحداثة، وجعلها نماذج فنية، قد عولجت من منظور المثل الأعلى للشاعر. بمعنى أن هذا الشاعر لم يكن يتعامل مع تلك الشخصيات بشكل حيادي أو من منظور مثلها هي، أو بحسب الأيديولوجية التي كانت تعبّر عنها، في واقعها التاريخي أو الأسطوري. ولهذا فإن البحث عن المشاكلة التامة أو شبه التامة بين الشخصية التاريخية والنموذج الذي يعالجها، هو بحث لاطائل منه(7).
تتأسس درامية قصيدة "الصقر" على ثلاثة محاور. الأول هو الصقر أو النموذج البطولي. والثاني هو السياق الاجتماعي التراجيدي. والثالث هو الجمال الطبيعي ـ المكاني. ومن خلال العلاقة الجدلية بين الصقر وكلّ من السياق والطبيعة، تتكامل شخصية الصقر، وتتبلور بطوليته، وتتكشف له الحقيقة. وهي أن بطوليته الفردية هي المنقذ الأوحد من السياق التراجيدي، وهي التي سوف تجعله يبني "أندلس الأعماق" (8)، أو يقيم واقعاً إنسانياً يتلاءم وجوهر الذات الإنسانية المبنيّ على الحرية. ومن هنا، فهو ينتقل من "موت" إلى آخر، من دون أن يسقط تراجيدياً، ومن دون أن يتخلى أو يتراجع عن بطوليته لحظة واحدة:
هدأت فوق وجهي بين الفريسة والفارس الرماح
جسدي يتدحرج والموت حوذيّه والرياح
جثث تتدلى ومرثيّه (9)
وعلى الرغم من هذا السياق التراجيدي، فإن الصقر يعلو عليه، رافضاً أن يتحول إلى جثة أو إلى مرثية. إنه ينتمي إلى الحياة، ويمتلئ بالرغبة فيها. فإنه في برهة الموت، يتواصل وجلال الفرات، مستمداً منه مايعمّق إحساسه بالحياة وبالبطولية أيضاً:
أسمع صوت الفرات:
قريش..
قافلة تبحر صوب الهند
تحمل من أفريقيا، من آسيا للهند
تحمل نار المجد (10)
بمعنى أن الجلال في صوت الفرات صادر من جلال قريش. حيث نار المجد التي يتمثلها الصقر، من أجل إبداع أندلس الأعماق. وكما راح يتمثل تلك النار، راح يتمثل أيضاً الماء الدافق، في الفرات:
وقلت للأشياء والفصول
تواصلي كهذه الأجواء
مدّي لي الفرات
خلّيه ماء دافقاً أخضر كالزيتون
في دمي العاشق في تاريخي المسنون(11).
وحين يتشرد الصقر، لا ينكسر أو يقع في الضياع والتيه، وإنما يسعى إلى التعرف إلى كل شيء، متمثلاً إياه في تبدّياته الجميلة. فهو يصغي إلى العقارب، وهي تصيء، ويهدي القطا في المجاهل، ويتوحد بالأرض، ويوشوش حتى الحجار (12). بكلمة أخرى: لقد عانى الصقر وعاين كلّ شيء: ذاته، وتاريخه، وواقعه، والوجود من حوله. وفهم السر الكامن وراء كل ذلك، مما جعل بطوليته شاملة. سواء أكان ذلك في علاقته بالموت، أم بالحياة، أم بحلمه الجميل ـ أندلس الأعماق. إن بطوليته هي الكيمياء التي تبدّل في طبيعة الأشياء، فتحوّل الموت وجوداً جديداً، والخوف باعثاً على الحرية:
متعب، حملته متاهاته، حملته الصخور
فحنى فوقها، يغذّي متاهاته، ويغذّي الصخور
والفضاء
موقد،
والرياح عجوز تقصّ حكاياتها
والصقور
موكب يفتح السماء (13)
وبهذا، فالجسد الذي كان يتدحرج والموت حوذيّه، تحوّل إلى وجه والشمس حوذيّه، فاتحاً العالم، ومتحولاً إلى صقور تفتح السماء. فالبطل غدا أبطالاً، والبطولية غدت جماعية. ذلك هو نموذج الصقر من حيث هو قيمة جمالية تجسّد المثل الأعلى، في البطل الفرد الذي هو أساس المجتمع وأساس التغيير بحسب أدونيس.
واضح أن هذا النموذج درامي، من الطراز الرفيع. إذ إنه يتنامى من خلال تجادله مع السياق التراجيدي للواقع، ومع الجمال الطبيعي ـ المكاني. فارتباطه الجدلي مع ذلك السياق أوضح فيه سمة البطولية، وارتباطه بالفرات عمّق فيه هذه السمة، وارتباطه بالأرض وجّه هذه البطولية إلى بناء أندلس الأعماق. فكل شيء كان ينهض ببلورة البطولية في الصقر، حتى تحول الصقر إلى صقور. مع العلم أن بطولية الصقر كانت واضحة منذ أن كان جسده يتدحرج والموت حوذيه. بمعنى أن الصقر لم يتحول من نوعية إلى نوعية مغايرة، على الصعيد الجمالي. بل إنه تنامى في إطار نوعيته المحددة.
إن نموذج الصقر هو المتحدث الأساسي، في هذا النص. إنه هو الذي يروي ماحدث ويحدث له، وهو الذي يتقلب من حال إلى حال، من دون تدخُّل من الذات الشعرية أو الراوي إلا في أواخر النص. حيث توقّف الصقر عن الكلام، ليتكلم الراوي بدلاً منه. ونشير، هنا، إلى أن نموذج الصقر كان يروي ما عاناه وما عاينه، حتى وصل إلى إنجاز حلمه، ليتوقف عن الكلام. وكأنه لايصحّ أن يتحدث الصقر عن انتصاراته وفتوحاته. هذه التي أخذ الراوي على عاتقه أن يسردها بتعاطف شديد:
الصقر في متاهه، في يأسه الخلاق
يبني على الذروة في نهاية الأعماق
أندلس الأعماق
أندلس الطالع من دمشق
يحمل للغرب حصاد الشرق (14)
فثمة تناغم، إذاً، على الصعيدين الفني والجمالي، بين النموذج البطولي والراوي. وهو ماجعل الراوي يبادر إلى الكلام عن فتوحات بطله، حين رفض هذا الحديث عنها. وهو ماجعله أيضاً يرى أن الوجود كله يترنم ببطله:
كل سماء باسمه كتاب
وكل ريح باسمه نشيد (15)
إن التناغم الذي نلحظه بين الصقر والراوي، نلحظه أيضاً بين الصقر والفرات الذي يمكن القول إنه الراوي التاريخي الذي يمدُّ الصقر بأنباء الماضي من بطولات وانتصارات ومآس. بمعنى أن ثمة، في النص، ثلاثة رواة. الأول هو النموذج، وهو المتحدث الأساسي في النص. والثاني هو الفرات الذي ينبئ الصقر بما قد حدث ماضياً، وأما الثالث فهو الذات الشعرية أو الراوي المعلّق. ولقد تكامل هؤلاء الرواة من أجل تقديم صورة متكاملة عن شخصية الصقر والمواقف الدرامية المتأزمة التي مرَّت بها. ونشير إلى أن هذا التكامل قد ظهر على النحو التالي: النموذج يروي مايحدث له الآن. والفرات يروي للنموذج ما حدث لأجداده القدامى. والراوي المعلّق يروي لنا ما أنجزه الصقر من فتوحات. ومما يلفت النظر في لغة هؤلاء الرواة أنها تتمحور حول الزمن الحاضر، على الرغم من اختلاف موقع هذا الراوي عن ذاك، واختلاف الأزمنة أيضاً. أي أن زمن النص هو الزمن الراهن. والحق أن راهنية الزمن قد جعلت من الموقف الدرامي يبدو وكأنه يتأزّم الآن، وجعلت من الصقر يعاني ويعاين وينكسر وينتصر الآن أيضاً. فليس ثمة ماض، على الرغم من أن هنالك رواية لما هو ماض. إلا أن هذه الرواية جاءت بلغة الحاضر. وكأن النص يقول من خلال ذلك إن كل ما يمكن استحضاره من الماضي هو حاضر بالضرورة. فالماضي لا يكون ماضياً إذا ما دخل في بنية الراهن. ومن ذلك، فإن حضور قريش في النص هو حضور الراهن لا حضور الماضي. وهو لا يقلُّ أهمية عن حضور السياق التراجيدي الذي يعانيه الصقر:
.. أسمع صوت الفرات:
" قريش..
لؤلؤة تشعّ من دمشق
يخبئها الصندل واللبان
أرقُّ ما رقَّ له لبنان
أجمل ما حدَّث عنه الشرق..." (16).
ولاشك في أن قصيدة "الصقر"x لا يمكن أن تستوعبها هذه الإشارات التي هدفها دراسة النموذج الفني لا دراسة القصيدة. ولكن لا بأس من الإشارة إلى أن الدرامية قد وسمت هذا النص بمجمل مناحيه، في النموذج، والبناء، والصورة، واللغة القائمة على التناقض، وفي الرموز الفنية.
أما النمط الثاني، في تقنية النموذج الفني، فهو أن يكون الراوي هو المتحدث الأوحد، في النص. أي أن النموذج ينكشف من خلال رواية الراوي الذي يرصد تحركات نموذجه، والتأزم الذي يقع فيه، مثلما يعلن عن موقفه منه. وهذا النمط يعطي مجالاً أوسع للراوي، في أن يصف ويقوِّم، بخلاف النمط الأول الذي يحدُّ من فاعليته بالنسبة إلى النموذج. ونطرح مثالاً على ذلك قصيدة "حالة" (17) لسعدي يوسف. أما القصيدة فهي:
شيخ في العشرين
يستيقظ، دوماً، في ساعات الصبح الأولى
يمشط شعراً مبلولاً
ويدير المذياع، وينصت للباكين
يختار قميصاً ورديا
وحذاء ذا كعب عال، وكتاباً أبيض
يقرأ شيئاً منه، وإذ ينهض
يصنع مايقرأ كرسيا
في غرفته، حيث العمل المأجور
ثلاثة أطفال بدناء:
أولهم: لايقرأ حتى نفسه
ثانيهم: ضيَّع في مزبله رأسه
ثالثهم: يحلم بالفقراء
كلَّ مساء، يغلق شيخ في العشرين
شقّته، وينام وحيدا
أمس استيقظ في منتصف الليل
تناول موساه
وحزّ بيسراه وريدا
وأدار المذياع وأنصت للآتين
ل وصل هذا النموذج إلى الانتحار، حين اكتشف حقيقة وجوده الذاتي. وهي أنه مجرد مخلوق صغير معذب، لايملك حتى ممارسة حلمه. لقد افتقد هذا النموذج الحيوية، في اللحظة التي ينبغي أن يتمتع بها (شيخ في العشرين). وبما أنه قد افتقدها نهائياً، فإن كل محاولاته الشكلية، من أجل الإدعاء بها، هي محاولات زائفة أساساً. وذلك كأن يرتدي قميصاً وردياً ـ دلالة على الحيوية ـ أو كأن يبلُّ شعره بالماء ـ دلالة على الحيوية أيضاً.
لقد شاخت روحه، ولم يعد بالإمكان أن يتجاوز ذلك. مما يجعل الانتحار خاتمة مناسبة، لشيخوخة دائمة، في عز الصبا الذي من المفترض أن يكون هو الذروة في الحيوية.
يحيل هذا النموذج جمالياً على مفهوم المعذب. حيث نلحظ أنه يمتلئ بالتناقضات الروحية والأمراض النفسية (ثلاثة أطفال بدناء) . ونرى أن هؤلاء الأطفال البدناء ليسوا في الحقيقة سوى طفل واحد بسمات ثلاث. أي ليسوا سوى هذا النموذج المعذب الذي سمته المعلنة هي الحلم بالفقراء، وثورتهم. غير أنه (لايقرأ حتى نفسه) في علاقته بهذا الحلم. ومن هنا فإنه قد (ضيّع في مزبلة رأسه). بمعنى أنه لايمتلك وعياً أصيلاً بذاته، وبحلمه، وبفقرائه المتخيّلين. إن عدم وعيه هو الذي يؤسس لعذاباته الروحية والنفسية الحادة، حيث يعيش انتظاراً صعباً ووهمياً خبر قيام الثورة من المذياع ـ وربما خبر قيام الانقلاب العسكري ـ إنه ينتظر فحسب، مصغياً إلى أصوات الباكين، لعلّها تتحول من تلقاء نفسها إلى أصوات للآتين. أضف إلى كل ذلك أنه لا يقرأ أو يتثقّف إلا من أجل أن يبدو مثقفاً، وليس من أجل أن يعي ما حوله. فهو كلما قرأ شيئاً، جعل منه كرسياً له، يتعالى به. أو لنقل: إن إحساسه بفرديته إحساس متعاظم، لا يكاد يفارقه لحظة واحدة، بدءاً بتسريح شعره المبلول، وانتهاءً بنومه وحيداً، في شقّته. فالفردية، إذاً، هي المزبلة التي ضيع فيها هذا النموذج رأسه. وهذه الفردية هي الحاجز الذي ينهض بينه وبين حلمه، وبينه وبين الحيوية، وبينه وبين وعيه الأصيل لذاته ولموقعه.
إن درامية الموقف الذي يعانيه هذا النموذج، تتأتى من التعارض الحاد بين فرديته وحلمه، وبين الحيوية المفقودة والرغبة فيها، وبين تصوره لذاته وتكشّف حقيقتها له، وهذه هي البرهة الدرامية العليا، في هذا النص. حيث ينهض الصراع بين مواصلة الحياه كما هي، وبين الانتحار المنقذ من العذابات الروحية والنفسية. ومن خلال ذلك، تنامى النموذج، وتبلورت ملامحه وسماته. فهو بإحساسه الدائم بالموت (شيخوخته) اندفع إلى خوض تجربة الموت التي هي آخر تجاربه المؤلمة. وبفعل تناميه، لاحظنا كيف استيقظ في بداية النص على قناعه الشكلي (أناقته الشكلية)، في حين أنه استيقظ في نهايته، على ذاته الحقيقية غير المزيفة أو المقنعة. مع العلم أن ذاته واحدة، في الحالتين، فقد كان في البداية عاجزاً عن مواجهة قناعه؛ وفي النهاية كان عاجزاً أيضاً عن مواجهة ذاته الحقيقية. وبهذا فهو لم يتطور نوعياً، بل تنامى وعيه لذاته.
إن هذا الشيخ الذي في العشرين لم ير الحقيقة سوى برهة واحدة، وهي برهة استيقاظه منتحراً. وماتبقّى من حياته، فممتلئ بالوهم والزيف. حتى في برهة انسراب الدم من عروقه، خيٍّل إليه أن أصوات الآتين راحت تنسرب من المذياع، فراح ينصت إليها متخيلاً أن حلمه يتحقق؛ تماماً كما كان ينصت إلى أصوات الباكين متخيلاً أنها سوف تتحول بما يتلاءم وإنجاز حلمه.
نلحظ أن هذا النموذج مبني بشكل درامي داخلي. فصراعاته في داخله أكثر منها في الخارج، وإشكاليته ذاتية في الدرجة الأولى. ولعلّ هذا ماجعل العالم الخارجي باهتاً في النص. صحيح أن الاستلاب وانتفاء العدالة الإجتماعية، وشيوع القبح في العالم الخارجي، هي التي انعكست سلبياً في ذات النموذج. غير أنه، بما يعانيه من إشكالات روحية ونفسية، عجز عن أن يكون فاعلاً لا منفعلاً. لقد عجز عن المواجهة فانكفأ إلى ذاته التي مااستطاع أن يواجه حقيقتها أيضاً.
وعلى الرغم من أن الدرامية في هذا النموذج هي درامية داخلية، إلا أنها تنطوي على تأزم حاد جداً، تأزم ظهر في العزلة التي يعانيها النموذج (ينام وحيداً)، كما ظهر في استيقاظه منتحراً. وعلى الرغم من السردية التي اتصف بها النص، غير أنها لم تَضِعْ في الأمور الثانوية الجانبية. فحتى الإشارة إلى حذاء هذا الشيخ المعذب على أنه ذو "كعب عال" هي إشارة إلى ما هو جوهري في ذات النموذج. إذ إنها تحيل على سمة التعالي فيه على كل ماهو حقيقي. فحذاؤه ذو كعب عال، مثلما أنه يصنع من قراءاته كرسياً له. أي أن ثقافته ذات كعب عال أيضاً. وهو مايؤكد أن ثمة وحدة عضوية في هذا النموذج. فكل السمات والملامح المطروحة تتكامل منتجة نموذجاً ذا نسق جمالي، يتسم بالوحدة العضوية. فليس ثمة تنافر أو نشاز في بنيته الفنية، وفي مضمونه القيمي، وفي إحالاته الجمالية.
كما نلحظ أن الراوي هو المتحدث الأوحد، في هذا النص. فقد تعرفنا إلى النموذج من خلال الراوي، لامن خلاله هو، ولكن إذا ماتساءلنا عن هوية الراوي، وعن موقعه من النموذج، فإننا لن نجد جواباً دقيقاً في النص. وكل ماهنالك أن للراوي موقفاً مسبقاً من النموذج. وقد تبدّى هذا الموقف ببعض التعبيرات الشعرية من مثل (شيخ في العشرين)، و(ثلاثة أطفال بدناء) و(ضيع في مزبلة رأسه). حيث إن في هذا التعبيرات موقفاً تقويمياً واضحاً، يمكن أن نفهم منه أن الراوي على تناقض مع النموذج، ويمكن أن نفهم منه أيضاً أن الراوي يعرف كل شيء عن نموذجه. وكلّ من هذه المعرفة وذلك التناقض، يتيح له أن يتخذ هذا الموقف الذي يبدو سلبياً بشكل عام. غير أن هذه السلبية لاتمنع أن يكون ثمة تعاطف ما، بين الراوي والنموذج. فالراوي، وإن اتخذ ذلك الموقف، يتعاطف مع الحالة الإنسانية التي يعانيها النموذج، ولاسيما حين وصل هذا إلى لحظة الانتحار، فبدت لغة الراوي محزونة منكسرة. ويكفي توكيداً لتعاطف الراوي مع النموذج أن هذا النموذج يحيل جمالياً على المعذب، ولايحيل مثلاً على القبيح أو الكوميدي أو التافه. إذ من المعلوم أننا لانستطيع أن نقوّم المعذب بمعزل عن مشاعر الأسى والحزن، ولكن أيضاً لانقوّمه بمعزل اللوم والنقد. وهو مابدا بوضوح، في موقف الراوي من النموذج، في هذا النص.
إن مالمسناه في قصيدة "الصقر" نلمسه في هذه القصيدة، من حيث هيمنة الزمن الحاضر، مع اختلاف هام، وهو أن هذه القصيدة إذ تطرح النموذج وهو يتنامى في الزمن الراهن تنقلب في نهايتها لتطرحه من خلال الزمن الماضي. بمعنى أن النص ابتدأ بالراهن وانتهى بالماضي. وهو ماجعل من حركة النص حركة مرتدة إلى الوراء فقد كان النموذج (يستيقظ، يمشط، يدير، ينصت، يختار، يقرأ، ينهض، يصنع)، وأصبح فيما بعد (استيقظ، تناول، حزّ، أدار، أنصت). وهو ما يتلاءم وحركة النموذج الدرامية من معاناة الحياة إلى الدخول في الموت، من الوجود إلى العدم.
 وإذا كان هذا الراوي فرداً، لا نعرف موقعه تماماً من النموذج، وإن يكن يحيل على ذات الشاعر؛ فإن ثمة نصوصاً تطرح رواة واضحين من حيث الهوية والموقع، كما أن ثمة نصوصاً لا تطرح الراوي الفرد، وإنما الراوي ـ المجموعة أو الكورس الذي يحيل غالباً على الذات الاجتماعية. ونشير إلى أن الراوي الكورس يبدو أكثر موضوعية من الراوي الفرد، لأن السرد يكون عندئذ صادراً من مجموعة، لا من فرد. وغالباً ما تفسّر المجموعة هويتها وطبيعتها وموقعها من النموذج، في أثناء السرد الشعري. وإذا ما استخدمنا، هنا، مصطلح السرد NARRATIVE ، وهو مصطلح خاص بالنصوص السردية لا الشعرية، فإننا لا نقصد به أن ثمة أسلوباً سردياً في النص الشعري الدرامي، إذ إن للأسلوب السردي طبيعته وخصائصه وشروطه؛ وإنما نقصد به أن الراوي يعرض بشكل شعري مكثف حالة نموذجه والموقف الدرامي الذي يدخل فيه. أي أن السرد الشعري لا ينبغي أن يبدو قصصياً. وإن حدث هذا، فإنه يعني الانحراف عن الشعرية POETICS. والحق أن بعض النصوص الحداثية وقعت في مثل ذلك. حيث انقلب السرد الشعري إلى سرد قصصي، وتحولت اللغة الشعرية الانفعالية المكثفة، إلى لغة نثرية عادية أو حيادية.
ومثالاً على الراوي الكورس الذي يحيل على الذات الاجتماعية، نتوقف عند قصيدة "شهريار الزمن الأخير" (18) لمحمد عمران، التي تعالج شخصية شهريار الخيالية.
تنقسم هذه القصيدة إلى نصين اثنين: الأول بعنوان "شهريار والمرايا" والثاني بعنوان "مذكرات شهريار الملك". وهما نصّان مستقلان عن بعضهما بنيوياً. وقد كُتبا في فترتين مختلفين، ولا يجمع بينهما إلا الحديث عن شخصية شهريار. وعلى الرغم من أن الحديث عنه متسق في النصين، إلا أننا سوف نتوقف عند النص الأول الذي يقوم على الراوي الكورس. أما النص الثاني فيقوم على النمط الأول من تقنية النموذج الفني، حيث النموذج هو المتحدث الأساسي، على حين أن للراوي فيه دوراً ثانوياً.
يطرح النص، من خلال شخصية شهريار الرمز، نموذج الديكتاتور الذي يستعبد كل شيء، محوّلاً إياه إلى مادة للاستلاب والقمع، وإلى مادة لاستهلاكه الشخصي ورفاهيته الفردية. إنه يتعامل مع شعبه أو "رعاياه" تعامل الذئب مع الخراف، يسبي ويروّع ويقتل ويأكل، فلا يكاد ينجو شيء من بطشه أو من استلابه:
وشهريار
بيت بلا جدار
ليل من العهر، من الجنون، والدمار
وشهريار
محارب. أبوه من فوارس التتار
وأمه من سبي هولاكو
وشهريار
قرصنة في عتمة البحار
جموح راعي بقر.
وشهريار
سيد هذي المدن الخرساء (19).
ولأنه على هذا النحو من الصفات اللاإنسانية، فمن البدهي أن يكون الدم لذّته الأولى. إنه يلتذّ بالدماء، مثلما يلتذ بالموائد العامرة والأجساد العارية. بل يمكن القول إنه لايلتذّ بالجنس والطعام، إذا لم يكن قصره مشبعاً بالدماء:
 "ياشهريار
صففنا الموائد من كل لون
أتينا بناقر دفٍّ،
براقصة من وراء البحار
فرشنا سريرك بالعري..
يا شهريار "
ويعبق بالدم قصر الأمير
يطير على شفتي سندباد (20)
واضح أن شهريار، في هذا النص، هو نموذج للقبح والفظاعة، لابالمعنى السياسي فحسب. بل بالمعنى الإنساني عامة. ولأن هذا النموذج مرهون بعلاقته بالآخرين الذين هم مادة استلابه، فلم يكن بدٌّ من أن يكون الآخرون هم الراوي. أي أن هذا النموذج يتوضح وتتكامل صفاته، من خلال سرد الراوي ـ الكورس الذي لايخفي موقفه منه؛ لأن هذا الراوي لايسرد، في الحقيقة، سوى المعاناة التراجيدية التي يعانيها تحت هيمنة شهريار. بمعنى أن سرد الراوي ذو منحيين: المنحى الأول هو تبيان المعاناة الاجتماعية التراجيدية التي يعانيها، والمنحى الثاني هو تبيان الأساس الذي يقف وراء هذه المعاناة، ويكمن في وجود شهريار الديكتاتور الذي حوّل الجماعة إلى صدى له، وإلى مرايا لأفعاله:
وحوش الرياح نحاس.
تسيل الأناشيد نهراً،
جرفنا مع الموج.
هذا مدانا السحيق يرنُّ،
السنا الصدى والمرايا؟ (21)
إن كون الجماعة هي الصدى والمرايا، يعني أن هذه الجماعة لا تسرد إلا ما حدث فعلاً لكنها تسرده من خلال انعكاسه فيها (مرايا)، فهي الشاهد العدل، وهي المدّعي المظلوم في الوقت نفسه. ومن ذلك فإن موقع الراوي، من النموذج واضح تمام الوضوح، وكذا هي الحال في طبيعته وهويته. إنه "الرعية" المسبية التي أراد لها شهريار أن تكون خرساء، أو مجرد، "صدى" فحسب.
لقد قام هذا النص، إذاً، على الراوي ـ الكورس بوصفه المتحدث الأوحد. مما يعني أن كل التقويمات التي طرحها الراوي، ينبغي أن نفهمها على أنها موقف الراوي من النموذج، لا على أنها رأي النموذج بنفسه. فلا شك في أن للنموذج رأياً مختلفاً إلا أن الراوي لا يُعنى بذلك الرأي، مهما تكن مسوغاته. والسبب يكمن في أن القتيل لن يُعنى، بحال من الأحوال، بمسوغات قاتله.
 إن كون الراوي ـ الكورس هو المتحدث، قد جعل النص ينحاز إلى صف الجماعة المقموعة المستلبة، كما جعله يهاجم الاستلاب والقمع من خلال هذا النموذج. وفي هذا يبرز الموقف الاجتماعي ـ الجمالي للذات الشعرية التي غابت فنياً عن النص، وحضرت جمالياً. بمعنى أن الذات الشعرية قد طرحت كل ما تعانيه وتريده، من خلال الراوي ـ الكورس. فثمة موضعة للذاتي من خلال الراوي، بحيث يبدو أن لا علاقة للذات الشعرية بالراوي، والنص عامة. غير أن واقع الحال أن الراوي لا يحيل على الذات الاجتماعية، إلا من خلال الذات الشعرية التي تعاني ما تعانيه تلك الذات. وهو ما يسّر موضعة الذات بالراوي، في هذا النص.
أما النمط الثالث، في تقنية النموذج الفني، فيقوم على أن الراوي هو المتحدث الأساسي، والنموذج هو المتحدث الثانوي. أي أن هذا النمط عكس النمط الأول الذي يكون فيه حديث النموذج أساسياً، وحديث الراوي ثانوياً.
ويتفق هذان النمطان في سمة التناغم الفني ـ لاالجمالي بالضرورة ـ بين الراوي والنموذج من أجل تقديم صورة متكاملة عن الموقف الدرامي الذي يعانيه النموذج. ويختلفان في أن النمط الأول يعطي للنموذج الحق الأكبر في قول مايريد. مما يعني أن النص هو في معظمه صوت النموذج جمالياً وأيديولوجياً. أما النمط الآخر فإنه يعطي الحق للراوي الذي يهيمن صوته جمالياً وأيديولوجياً على النص. والحقيقة أن هذا الاختلاف أساسي، لاثانوي. فعلى حين أنه مطلوب منا أن نتفاعل، في النمط الأول، مع النموذج؛ فإنه مطلوب منا، في النمط الآخر، أن نتفاعل مع الراوي ونصغي إليه، ونندمج فيه أحياناً.
إن اختلاف دور الراوي والنموذج، في هذه التقنية، لايعني نفسه بقدر مايعني اختلاف المنظور الجمالي والأيديولوجي اللذين ينطلق منهما النص، ويسعى إلى طرحهما. فحين يكون النموذج هو المتحدث الأساسي، فإن النص يكون تعبيراً أساسياً عن منظور النموذج. وحين يكون الراوي هو المتحدث الأوحد، فإن منظوره هو الأوحد في النص. أما حين يكون الراوي هو المتحدث الأساسي، فإن منظوره يكون هو الأساسي أيضاً ، في النص. وذلك بصرف النظر عن إمكانية أن يكون ثمة تناغم جمالي ـ وأيديولوجي أيضاً ـ بين الراوي والنموذج في هذا النص أو ذاك. مع الإشارة إلى أن هذا التناغم يفرض رؤيا موحَّدة بالضرورة. حيث لايكون هنالك اختلاف جمالي أو أيديولوجي بينهما. أما في حالة عدم التناغم، أو في حالة التناقض والاختلاف، فإن النص غالباً مايطرح نسقين مختلفين من الرؤيا: نسق الراوي، ونسق النموذج. وإن يكن النص لايمكن إلا أن ينحاز إلى رؤيا بعينها، في نهاية المطاف.
ومثالاً على النمط الثالث، نتوقف عند قصيدة "قصة الأميرة والفتى الذي يكلم المساء" (22) لأحمد عبد المعطي حجازي. حيث نلحظ أن الراوي قد أخذ معظم السرد الشعري، وحتى صوت النموذج غالباً مايأتي محمولاً على صوت الراوي. وثمة صوت آخر يأتي أيضاً محمولاً على صوت الراوي. وهو صوت الأميرة التي هي أحد أسس الموقف الدرامي، في هذا النص.
ونشير في البداية إلى أن الراوي يرى في نموذجه " الفتى" تعبيراً عن مفهوم المعذب؛ ولهذا فإن مشاعر الأسى والحزن واللوم واضحة في سرده، لما يجري مع نموذجه. غير أننا نرى أن هذا النموذج أميل إلى أن يكون كوميدياً، من نمط دون كيشوت، منه إلى أن يكون معذباً. ويكمن السبب في ذلك، أن هذا النموذج يقع في تناقض حياتي حاد حيث الوسيلة التي تقصر عن إنجاز الغاية، وحيث التوهم الذي يبعد الغاية عن الإنجاز؛ تماماً مثلما حدث مع دون كيشوت الذي كانت غاياته نبيلة ورائعة، في حين كانت وسيلته لاتتلاءم ومايسعى إلى إنجازه، علاوة على التوهم الذي سببه غاياته، وقصور وعيه الواقعي. وفي ذلك إشكاليته الكوميدية.
لقد وقع الفتى في الشرك الذي نصبته الأميرة لأمثاله من "الأبطال" الحالمين بأن  "تصبح الحياة عشّ حب، به رغيف واحدوطفلة ضحوك"(23). وذلك بأن راحت تعلن أنها "نصيرة الجياع"، و:
قلبي على طفل بجانب الجدار
لايملك الرغيف(24)
لقد كان لهذا الإعلان وقعه الإيجابي المباشر، على الفتى الذي كان يتكلم مع المساء عن أحزانه وأحلامه بعالم جميل، قوامه الحب والسعادة. ولأن وقع ذلك الإعلان كان إيجابياً عليه، فقد اندفع إلى عشق الأميرة التي بدت منقذة له مما هو فيه من معاناة، وراح يكيل لها المدائح والعواطف. ولكن:
فابتسمت له قائلة: "لا أنت شاعر كبير
ياسيدي أنا بحاجة إلى أمير
إلى أمير"
وانسدَّ في السكون باب (25)
لقد كان الفتى طوباوياً بحقّ (شاعر كبير)، حين توهّم أن أحلام الفقراء يمكن أن ينجزها السادة الأمراء. وهو لم يكن طوباوياً فحسب. بل كان أيضاً منخوراًمن الداخل. فعلى الرغم من أنه كان يحلم بالعدالة الاجتماعية، ظاهرياً فإنه كان في شكّ من إنجازها مما يعمّق التناقض بينه وبين حلمه، تماماًكما كان نموذج سعدي يوسف:
... وفي ليالي الخوف طالما رأيته يجول في الطريق
يستقبل الفارّين من وجه الظلام
ويوقد الشموع من كلامه الوديع
ففي كلامه ضياء نجمة لاتنطفئ
ويترك اليدين تمشيان بالدعاء
على الرؤوس والوجوه
وتمسحان مايسيل من دموع
"الصبح في الطريق
ياأصدقائي إنني أراه
فلاتخافوا ... بعد عام يقبل الضياء".
وعندما يمشون تمشي فوق خدّيه الدموع
ويفلت الكلام منه، يفلت الكلام
هل يقبل الضياء حقاً بعد عام"(26)
ولأنه لم يكن واثقاً من حتمية الضياء، فقد توهم أن الأميرة يمكن أن تنهض بما عجز هو عن الوثوق بحتميته. إذ الأميرة" جوهرة نادرة في تاج عصرنا"(27).
لقد كان هذا الفتى ـ النموذج يرى أن ذروة السعادة الإنسانية تكمن في أن يملك المرء الماس والحرير واللآلئ. وهو لم يكن يحلم برغيف واحد، إلا أنه لايملك الرغيف. وعلاوة على ذلك فهو يحسّ بضآلته وتفاهته بسبب فقره، أمام تلك الأميرة الشرقية التي تهوى الغناء، تهواه لاتحترفه(28). أما حين يجد نفسه أمام الفقراء فلايحس بالانتماء إليهم، على الرغم من كونه واحداً منهم، بل يحس بالشفقة على وضعهم. مما يجعله يدعي أن الضياء سوف يأتي بعد عام. أي أنه يموّه الحقيقة. فالضياء لن يأتي بعد عام. ولأنه يعرف هذا فقد سارع إلى إنقاذ نفسه، ولكن من دون جدوى. فالأميرة بحاجة إلى أمير لا إلى مدّع صغير. وبهذا يتوضّح أن حلمه برغيف واحد، وطفلة ضحوك، لم يكن في أساسه إلا حلماً بالماس والحرير، وبالأميرة الشرقية. فثمة إذاً، تناقض حاد بين مايبطنه وما يعلنه، بين حلمه الفردي وادعائه بالحلم الجماعي، بين رغبته وواقعه، بين غاياته ووسائله. وهذا التناقض لايحيل على التراجيدي أو على المعذب  كما أوحى إلينا الراوي. وإنما يحيل على الكوميدي على الرغم من عذاباته. بل إن هذه العذابات  ذات طبيعة كوميدية، في المقام الأول . إذ إن بعضها صادر من عشقه الواهم لأميرته الشرقية التي تهوى الغناء، تهواه لا تحترفه. والحقيقة أن هذا الفتى لم يكن أيضاً يحترف الغناء ـ أو الحلم الجماعي ـ بل كان يهواه فحسب. غير أنه لم يكن أميراً، حتى يبدو موقفه مسوّغاً مثل موقف الأميرة. إنه شخصية موهومة منفعلة. ولم يكن فاعلاً في أي سلوك أو موقف قام به. سواء أكان ذلك مرتبطاً بالرغيف ـ الحرير، أم بالطفلة ـ الأميرة، أم بدموع الفارين من وجه الظلام، أم بمخاوفه وهواجسه، أم بتصريح الأميرة، أم بطرده من قصره ـ الحلم، حتى وصل إلى نهايته المحتومة:
يجاهد الحنين يوقفه
كان الحنين يجرفه (29)
وهكذا، فإن الفتى ـ النموذج راح يتنامى، من خلال تناقضاته التي كانت أساس الموقف الدرامي، في هذا النص. وتكمن ذروة ذلك الموقف في طرد الفتى من القصر الذي هو، في الحقيقة، حلمه وغايته. بمعنى أن هذا النموذج راح يتكامل ذاتياً، في سماته النوعية المحددة، حتى لحظة سقوط الكوميدي.
ولقد كان الراوي هو المتحدث الأساسي الذي وضّح تلك السمات، وذلك السقوط. أما الراوي، فهو الذات الشعرية التي على صلة ما بالنموذج، تتيح لها أن تعرض وتسرد. حيث إنها كانت تشهد تناقضاته وتناميه، مثلما شهدت سقوطه.
ونلحظ أن الراوي هو محور السرد الشعري، في هذا النص، على حين كان النموذج هو محور الموقف الدرامي، علاوة على دوره الثانوي في القول. وعلى الرغم من أن الراوي حاول ألاّ يقوّم النموذج تقويماً جمالياً مباشراً، غير أن أسلوبه في العرض والسرد، وفي طبيعة الصور الفنية المستخدمة، انطوى على ذلك التقويم الذي ينهض من مشاعر الأسى والحزن أولاً :
أعرفها، وأعرفه
تلك التي مضت ولم تقل له الوداع .. لم تشأ
وذلك الذي على إبائه اتكأ
يجاهد الحنين يوقفه
كان الحنين يجرفه (30)
أما بالنسبة إلى الأميرة التي تشكّل أحد محاور هذا النص، فلولا وجودها، لما كان بالإمكان الحديث عن تأزم درامي، في هذا النموذج. وكأن الأميرة هي العامل الدرامي الذي جعل من النموذج يتأزم ويتنامى ويسقط. مع الإشارة إلى أن الأميرة هي الصوت الذي يحاوره صوت النموذج بشكل حوار خارجي (ديالوج)، مثلما كان يحاور صوت المساء بشكل حوار داخلي (مونولوج). إلا أن حواره مع المساء أكثر شعرية من حواره مع الأميرة. حيث بدا نثرياً في الكثير منه.
تلك هي الأنماط الثلاثة التي يمكن أن تستوعب تقنية النموذج الفني، في شعر الحداثة، من دون أن يعني ذلك أن لاوجود لأنماط أخرى، وإن تكن أقل أهمية وشيوعاً في ذلك الشعر.
ولكن لابد من القول، في هذا المجال، إن هذه التقنية لاتفرض حجماً محدداً للنص الشعري. فقد يكون النص مجرد مقطع قصير جداً، وقد يكون قصيدة عادية الحجم، كما قد يشغل ديواناً بكامله. ومن البدهي أن ذلك يعود إلى طبيعة الموقف الدرامي الذي يطرحه النص. فكلما اتسع النص اتسع بالضرورة الموقف الدرامي، واتسعت أيضاً حركة النموذج، وتعددت جوانبه، وتعمقت سماته. غير أن ذلك لن يضيف شيئاً إلى هذه التقنية، وإنما إضافته تتمحور حول طبيعة النموذج وخلفيّته، وإشكالاته وأطروحاته الجمالية والأيديولوجية. ولابأس من التمثيل على النص ـ المقطع الذي يقوم على هذه التقنية بنمطها الثالث، حيث الراوي هو المتحدث الأساسي.
يقول فايز خضور،تحت عنوان "اغتيال"(31):
عندما ودّع أهله
ولفيف الرفقاء
كان في يمناه ورده
وعلى الثغر الرماديّ رفيف لابتسامه
حذراً كان، ولم تسعفه نأمه
خوف خوف الصبح من غدر المساء...
قال: بعد الفجر آتيكم
فيا أمي افرشي طرّاحة الصوف لأجلي
كافر برد الشتاء..
                     ...
أوصد الباب بيسراه وشدّه
شاء يهمي دمعة الشوق، ولكن خنقتها الكبرياء
                     ...
غير أن الشمس ماوافته.. قبل الفجر جاء..
لم يكن يحمل ورده
كان تابوتاً، وحمالين مبتلين دمعاً ودماء
والرصاصات علامه
إن درامية هذا النص تنهض أساساً من المفارقة بين ماكان عليه النموذج، في البداية، وبين ماصار إليه، في النهاية. فمن النبض بالحيوية والإشراق، إلى النبض بالدم والموت. غير أن هذه المفارقة لم تأت بشكل مفاجئ. بل جاءت بشكل متنام. إذ إن النموذج كان يخاف الغدر، ويتوقع أن يحدث في كل لحظة. ولكن قسوة المفارقة تكمن في أن النموذج قد ودّع أهله ورفقاءه، وهو يحمل بيمناه وردة، ولكنه حين عاد، عاد محمولاً على تابوت أو عاد تابوتاً.
لن نطيل الوقوف، عند هذا النص، إذ إن ماسلف من حديث عن النصوص السابقة قد يضيء الموقف الدرامي فيه، مثلما يضيء علاقة الراوي بالنموذج، ونتوقف أخيراً عند أحد النصوص التي لم تنجح في صوغ نموذج منسجم فنياً وجمالياً؛ لتبيان أن هذه التقنية ليست مجرد جمع اعتباطي لبعض السمات. فلابدّ من وجود الانسجام في شخصية النموذج، وفي تمثيله لما ينمذجه. والحق أن الانسجام الفني هو أحد شروط القيمة الجمالية للفن عامة، لا للنموذج فحسب. على أن لا نفهم الانسجام فهماً شكلياً. بل على أنه المنطلق الداخلي المتوازن والمتكامل، للعمل الفني (32).
أما النص الذي سوف نتوقف عنده، فهو قصيدة "كلمات سبارتكوس الأخيرة" (33) لأمل دنقل.  مع الإشارة إلى أن دنقل قد أنتج الكثير من النماذج المنسجمة المتكاملة فنياً وجمالياً. والوقوف عند هذا النص، لايعني أن دنقل لايجيد تقنية النمذجة، بل شأنه شأن شعراء الحداثة الذين أخفقوا حيناً، ونجحوا حيناً، في هذه التقنية.
يظهر سبارتكوس في المقطع الأول من النص، مثلاً أعلى في البطولية الجماعية. حيث يعلن الرفض المطلق، لكلّ أشكال الاستلاب والقمع واليأس والعبثية. فيقول:
المجد للشيطان... معبود الرياح
من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم"
من علّم الإنسان تمزيق العدم
من قال "لا" فلم يمت
وظلّ روحاً أبدية الألم(34)
تلك هي كلمات سبارتكوس الأولى، أما كلماته الأخيرة، فهي:
ياأخوتي: قرطاجة العذراء تحترق
فقبّلوا زوجاتكم
إني تركت زوجتي بلاوداع
وإن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها.. بلا ذراع
فعلّموه الانحناء،
علّموه الانحناء، علّموه الانحناء (35).
قد يبدو أن ثمة تحوّلاً، في سبارتكوس، من البطولية إلى التراجيدية. غير أن الأمر ليس على هذا النحو. فالبطولي لايتحول بسقوطه التراجيدي، إلى شخصية ضئيلة تافهة وإنما يتحول إلى بطل تراجيدي، نتعاطف معه، ونشفق عليه من السقوط؛ لأنه يدعونا إلى تجاوز ماوقع فيه من خطيئة سبّبت له السقوط؛ ولأننا أيضاً نفتقد بسقوطه ماهو قيّم اجتماعياً. أما سبارتكوس ـ النموذج فهو بطولي في البداية، قبيح تافه، في النهاية. وهو الذي لم يحن جبهته حياً، يطالب بشيوع الانحناء، ويفلسفه إيجابياً، حين وصل إلى المشنقة.
إن دنقل لم يتخذ موقفاً محدداً من نموذجه، ولهذا، فقد وقع نموذجه في التناقض الجمالي والبنائي والإيحائي، في الوقت نفسه. ومايوضّح ذلك هو البنية الفنية للنص، التي تتألف من أربعة مقاطع مستقلة شعورياً، فيما بينها، تمام الاستقلال. ففي المقطع الأول نجد النموذج بطولياً، يعلن رفضه للقبح والتفاهة. وفي المقطع الثاني، نجده يطرح رؤياه التي تؤكد استفحال القبح في الواقع، وأن الناس جميعاً معلّقون "على مشانق القيصر"(36). وبما أن "الانحناء مرٌّ" فإن النموذج يدعو الناس إلى أن يرفعوا رؤوسهم عالياً. وبعد ذلك مباشرة ـ أي المقطع الثاني نفسه ـ نتفاجأ بالنموذج البطولي وهو يقول:
فالانحناء مرٌّ
والعنكبوت فوق أعناق الرجال ينسج الردى
فقبّلوا زوجاتكم.. إني تركت زوجتي بلاوداع
وإن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها بلاذراع
فعلّموه الانحناء
علّموه الانحناء (37).
إن هذا الانتقال المفاجئ، من الرفض المطلق للانحناء، إلى الدعوة إلى الانصياع له، هرباً من الموت، لايجد، في النص، مايسوّغه شعورياً وفنياً. فكيف إذا كان الذي يدعو إلى الانحناء هو البطولي سبارتكوس الذي لم يحن جبهته، وهو حيّ؟
ويجيء المقطع الثالث، لنجد فيه سبارتكوس يقدّم آيات الخضوع والاعتذار، إلى سيده العظيم:
ياقيصر العظيم: قد أخطأت ... إني أعترف
دعني ـ على مشنقتي ـ ألثم يدك (38).
ثم يرجوه أن يرحم الشجر والجذوع من القطع والبتر، بما أنه يسعى إلى شنق الجميع. أي لقد تاب البطولي عن بطوليته، وبات واحداً من الداعين إلى شيوع الثقافة القمعية التي يفرزها القيصر. وهي الانحناء، وإن يكن بشكل ساخر وتلك هي الحال، في المقطع الرابع الذي مرَّ بنا سابقاً.
إن هذه التناقضات التي اتصف بها النموذج قد أفقدته الايحاء الجمالي المنسجم، مثلما أفقدته الوحدة العضوية. ومن ذلك، فإنه لاينمذج شيئاً، لأنه ليس سوى أمشاج سمات ومواقف متناقضة ومتباينة.
ونعتقد أن دنقل قد سعى إلى أن يصور شخصية تراجيدية، من حيث الأساس؛ ولكنه لم ينجح في ذلك، حين جعل نموذجه ينقلب رأساً على عقب، جمالياً وأيديولوجياً، من دون تسويغ هذا الانقلاب فنياً.
ويبقى أن نقول إن النموذج الفني، في شعر الحداثة، قد أسهم إسهاماً فعالاً في توكيد سمة الدرامية في الوعي الجمالي الحداثي، مثلما أسهم في توسيع دائرة المساحة الاجتماعية التي يعالجها الشاعر، وفي الميل إلى الموضوعية في فهم العالم شعرياً. وهو مالم يكن موجوداً، على هذا النحو، في الشعر العربي الكلاسيكي والتقليدي المعاصر.
qqq


الــهوامــــش:


1ـ اليوسف، يوسف سامي: الشعر العربي المعاصر. اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1980. ص: 101 ـ 122
2ـ خرابتشينكو: الإبداع الفني والواقع الإنساني. تر: شوكت يوسف. وزارة الثقافة، دمشق، 1983. را: ص: 305.
3ـ لانغيوم، روبرت: شعر التجربة. تر: علي كنعان وعبد الكريم ناصيف. وزارة الثقافة، دمشق، 1983. ص: 79.
4ـ نفسه، ص: 62.
5ـ راجع في ذلك: عباس. د. إحسان: اتجاهات الشعر العربي المعاصر. سلسلة عالم المعرفة، العدد:2، الكويت 1978. ص: 154 ـ 155.
6ـ أدونيس: الآثارالكاملة، م:2. دار العودة، بيروت، 1971. ص: 27 ـ 42.
7ـ هذا ماينهض به الفصل الثاني من كتاب محي الدين صبحي: الرؤيا في شعر البياتي. اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1986.
8ـ أدونيس، المصدر السابق، ص:40.
9ـ نفسه، ص:27.
10ـ نفسه، ص: 27 ـ 28.
11ـ نفسه، ص:35.
12ـ نفسه، را: ص:33.
13ـ نفسه، ص:41.
14ـ نفسه، ص:40.
15ـ نفسه، ص:42.
16ـ نفسه، ص: 29.
17ـ يوسف، سعدي: الأعمال الشعرية (1952 ـ 1977). دار الفارابي، بيروت، 1979. ص: 100.
18ـ عمران، محمد: أغان على جدار جليدي. وزارة الثقافة، دمشق، 1968. ص:69 ـ 81.
19ـ نفسه، ص: 72 ـ73.
20ـ نفسه، ص: 71.
21ـ نفسه، ص:69.
22ـ حجازي، أحمد عبد المعطي: ديوانه. دار العودة، بيروت، 1973. ص: 134 ـ 142.
23ـ نفسه، ص: 134.
24ـ نفسه، ص: 136.
25ـ نفسه، ص: 141.
26ـ نفسه، ص:137 ـ 138.
27ـ نفسه، ص: 140.
28ـ نفسه، ص: 135.
29ـ نفسه، ص:142.
30ـ نفسه، ص: 141 ـ 142.
31ـ خضور، فايز: ديوانه، م: 1. دار الأدهم، ط: 1. د/تا. ص: 394.
32ـ جماعة من الأساتذة السوفييت: أسس علم الجمال الماركسي ـ اللينيني، جـ 2. تر: د. فؤاد المرعي. دار الجماهير ودار الفارابي، دمشق، بيروت، ط:2، 1978. را: ص: 64.
33ـ دنقل، أمل: الأعمال الشعرية الكاملة. دار العودة، بيروت، ط: 2. 1985. ص: 110 ـ 116.
34ـ نفسه، ص:100.
35ـ نفسه، ص: 115 ـ 116.
36ـ نفسه، ص: 111
37ـ نفسه، ص: 111ـ 112.
38ـ نفسه، ص: 112.
qqq

الفصل الخامس


الخطاب الشعري والأيديولوجية


* تـأســيــس نـظـري:

على الرغم من أن للأيديولوجيا(*). نسقاً مختلفاً عن الشعر، والفن عامة، إلا أن بينهما من الارتباط ما لا يمكن إغفاله أو تجاوزه. ولاينهض ذلك من أن الشعر موقف جمالي من الواقع فحسب. بل ينهض أيضاً من أنه خطاب DISCOURSE يتوسط بين المرسل والمتلقي اللذين لكل منهما موقعه ومنظوره. بمعنى أن الشعر بوصفه موقفاً وخطاباً جماليين، ينطوي بالضرورة على خطاب أيديولوجي ما. ومن ذلك، فإن الشعر يتحدد أيديولوجياً، مثلما يتحدد لغوياً وذاتياً (1). غير أن تحديده الأيديولوجي لايؤدي به إلى أن يتحول إلى أيديولوجية. وإذا ماحصل ذلك، فإن انتفاء الشعريPOETIC عن النص الذي من المفترض أن يكون شعرياً، يغدو أمراً محتوماً  أو شبه محتوم.
ولعلنا لانبالغ إذا ماذهبنا إلى أن النثرية في الشعر هي حصان طروادة الذي غالباً ماتستخدمه الأيديولوجيا في محاولتها الهيمنة على الشعر، من أجل توظيفه في صراعها الاجتماعي، غير أنها إذ تفعل ذلك، تجعل من طروادة أثراً بعد عين.
إننا نريد أن نؤكد، من وراء هذا، أن تحويل الشعر إلى أيديولوجية لن يقود إلا إلى نفي الشعر وإثبات الأيديولوجية. ومع ذلك، فإن للخطاب الشعري بعداً أيديولوجياً يتبدى على عدة مستويات من النص، وعلى عدة مستويات من التلقي. وإذا كان من الصعوبة بمكان أن ندرس مستويات التلقي، لارتباطها بعملية القراءة ذات الطبيعة الفردية. وإن يكن بالإمكان تصنيفها بأنماط اجتماعية عامة، فإن دراسة مستويات النص أمر أكثر تيسّراً، لارتباطها بالنص لابالمتلقي. ولكن قبل الشروع بهذه الدراسة، لابد من الوقوف عند طبيعة التجربة الجمالية، والشكل الذي تتخذه في الشعر، لما لذلك من أهمية في تبيان نمط العلاقة بين الخطاب الشعري والأيديولوجية.
تتصف التجربة الجمالية عامة بثلاث صفات أساسية وهي الحسية والانفعالية واللانفعية حيث إنها تشكل قوام العلاقة بين الذات والموضوع الجمالي.
أما الحسية فتحيل على أن كل ماهو محسوس يمكن أن يكون مادة للتجربة، كما تحيل على أن المعنوي أو المجرد غير قابل لأن يكون مادة لها، من حيث المبدأ. أو كما يقول تشيرنيشفسكي "غير المحسوس غير موجود بالنسبة إلى الإحساس بالجمال"(2). إذ إن هذه التجربة تتناول الظواهر والأشياء، ولاتتناول الأفكار والمعاني والمفاهيم. ولكن هذا لايؤدي إلى أن غياب المحسوسات يغيّب بالضرورة هذه التجربة. فقد تقوم على التصور أو الاستحضار الذهني، ولاسيما في عملية الإبداع. حيث نلحظ غياب المحسوسات وحضور آثارها وتحريضاتها وتقويماتها، مما كوّنه المبدع من تجاربه الجمالية ـ الحياتية السابقة. وكأن عملية الإبداع تأتي تتويجاً لمجمل التجارب التي اختزنتها الذات المبدعة. أما مايبدو على هذه العملية من أنه تجربة ذاتية روحية داخلية، فليس في حقيقته سوى معايشة انفعالية لما تمّ اختزانه من تحريضات حسية وتقويمات جمالية من قبل. وبهذا المعنى، فإن المحسوس، حاضراً كان أو غائباً، هو مادة العملية الإبداعية التي هي أرقى أشكال التجربة الجمالية، وذلك أنها تجربة منتجة، لامستهلكة فقط.
أما صفة الانفعالية، فتحيل على أن هذه التجربة تنهض أساساً مما هو تأثري عاطفي، لامما هو ذهني منطقي. أي أن الذات، في هذه التجربة، تتأثر وتنفعل وتتفاعل، ولاتتلقى موضوعها من منظور المحاكمة المنطقية أو العلمية أو الأخلاقيةأو السياسية. غير أن انفعالها أو تفاعلها لايتناقض مع تلك المحاكمات بالضرورة. بل إنه قد يتقاطع مع بعضها، وذلك بحسب الطبيعة العامة للذات ذهنياً ونفسياً وروحياً. إن صفة الانفعالية إذ تحيل على التأثر بالموضوع، تحيل أيضاً على بروز ماهو نفسي في الذات. فلانستطيع وهذه الحال أن نحدّد درجة الانفعال الذي تواجه به الذات موضوعها. غير أننا نستطيع أن نؤكد أن الانفعال الجمالي ممتلئ بموضوعه، ومتمحور حوله. ولهذا، فهو ليس انفعالاً سائباً، أو ذا آلية مستقلة عن صفات الموضوع بعضها أو كلها، كما أنه لاعلاقة له بالهيجان النفسي أو بالمشاعر الحادة من مثل الخوف والألم والقلق.
فالتجربة الجمالية محكومة، إذاً، بالحسية والانفعالية. فإذا كانت الحسية هي الحامل المادي للتجربة، فإن الانفعالية هي مظهرها النفسي، مثلما أن التقويم الجمالي الناتج منها هو تعبيرها الروحي. أي أن التقويم لاينتج معرفة بالموضوع أو بالذات. بل إنه ينتج معرفة بطبيعة العلاقة بين الذات والموضوع. ومن هذه العلاقة يمكننا أن نحدد الذات والموضوع معاً. مع الإشارة إلى أن هذه المعرفة ليست معرفة علمية أو منطقية. بل هي معرفة قيمية. بمعنى أنها معرفة بالقيم لا بالأشياء، وإن تكن تشكّل الأساس الذي تنبني عليه تلك القيم.
غير أن هذه التجربة لايمكن أن تكون جمالية، بكل مايعنيه مصطلح الجمالي AESTHETIC، إذا لم تكن متحررة من الشواغل المادية أو الأيديولوجية الملحة. أي أن صفة اللانفعية، في هذه التجربة، تقتضي أن تتوجه الذات إلى موضوعها، من دون رغبة منها في استهلاكه المادي أو تخديمه العملي أو الأيديولوجي. ومن ذلك، فإن التجربة الجمالية متحررة من النوازع أو الأطماع الشخصية، والأيديولوجية، إنها قفزة خارج الضرائر بأشكالها المختلفة. ولهذا، فهي تبدو نافذة مفتوحة على عالم الحرية، بالمعنى الوجودي والاجتماعي معاً. ولعلنا لانبالغ إذا ماقلنا إن التجربة الجمالية هي التجربة الوحيدة التي يدخلها الإنسان من دون أن يكون محكوماً فيها بدوافعه المادية أو العملية أو الأيديولوجية. ومن ذلك تأتي أهمية هذه التجربة. حيث إنها تحررنا من الضرائر، وتغنينا روحياً في الوقت نفسه، بمعنى أن عدم رغبتنا باستهلاك الموضوع الجمالي ينعكس غنىً روحياً كبيراً، في وجودنا الذاتي والاجتماعي، ولعل هذا ماقصده كانط بالغائية من دون غاية، في حديثه عن العلاقة بالجمالي(3).
إن الشعر بوصفه نتاج التجربة الجمالية، يتصف، في شكله، بالحسية والانفعالية مثلما يتصف في تناوله للموضوعات باللانفعية. فلايمكن أن يكون الشعر تجريداً مفهومياً أو ذهنياً، ولايمكنه أن يكون منطقياً. وكذا هي الحال لايجوز أن نتعامل معه على أنه ذو وظيفة أيديولوجية مباشرة، لأنه ليس انعكاساً REFLECTION للأيديولوجية. بل هو انعكاس لكل من التجربة الذاتية والوعي الجمالي العام. ولأنه كذلك فهو يتقاطع مع الأيديولوجية، ولكنه لايمثلها أو يتأسس على أطروحاتها السياسية أو الأخلاقية...إلخ.
وإضافة إلى الحسية والانفعالية، فإن الشعر يتصف بالمجازية والصورية اللتين بهما يعيد الشعر إنتاج الموضوعات الحسية والانفعالات الجمالية، بحيث تبدو بشكل تخييلي مجازي مختلف، بهذه الدرجة أو تلك، عن كينونتها الواقعية. أي أن الشعر إذ ينشئ عالمه التخييلي المجازي يكمل بذلك مابدأته التجربة الجمالية من تحرر  من الدوافع النفعية. ويكمن ذلك في تحرره من العلاقات الواقعية بين الظواهر والأشياء، ومن سماتها الحقيقية أيضاً. بمعنى آخر: إذا كانت التجربة تتحرر من الدوافع النفعية للذات، فإن الشعر يتحرر من الطبيعة الواقعية للموضوع، وهو مايعمق فكرة القفز خارج الضرورة في الشعر، وفي الفن عامة. أو بتعبير أدورنو " إن الفن هو مجال الحرية في وسط الضرورة"(4) ولكن القفز خارج الضرورة لايعني إطلاقاً أن الشعر لاعلاقة له بالواقع والأيديولوجية. بل هو موقف من الواقع ومن الأيديولوجية معاً. إنه بقفزه خارج الضرورة يبدو أكثر وعياً بها، وأعمق تصوراً لها، وأحرَّ طرحاً لها أيضاً. ومن ذلك يبدو بعض النصوص الشعرية إضاءة لما هو غامض أو مجهول في طبيعتنا الإنسانية، ويبدو بعضها الآخر إضاءة لبهاء ماابتذلناه في حياتنا اليومية، وإظهاراً لجمال ماأغفلناه، بسبب الحمى النفعية التي تقودنا في عالم الضرورة والانسحاق بشروطها التي غالباً ماتكون غير إنسانية. ولعله في ذلك يكمن أحد مستويات الخطاب الأيديولوجي في الفن عامة، وفي الشعر الذي هو مجالنا في هذا المبحث. حيث إن الشعر يسعى إلى تبيان ماهو زائف واستلابي ولاإنساني، في الوجود الاجتماعي، مثلما يسعى إلى بلورة ماهو أصيل وجميل. ولأن الشعر يطرح ذلك من منظور الذات، فلايمكن إلا أن يكون هذا الطرح ذا بعد أيديولوجي خاص بتلك الذات، غير أن هذا لايلغي أن ينطوي الشعر على الحقيقي والموضوعي، بالرغم من حضور الذاتي والأيديولوجي فيه، وكما يقول أدورنو، فإن "بعض أعمال الفن تكون أيديولوجية قلباً وقالباً. ومع ذلك فإن مضمون الحقيقة يبقى قادراً على الحضور في هذه الأعمال"(5). مع توكيده "أن الحقيقة والأيديولوجية لاتمثلان الجيد والرديء، على التوالي، إذ إن الفن يحتوي كليهما معاً"(6). وبما أن ثمة تجادلاً بين الحقيقي والأيديولوجي، في الفن، فمن الاستحالة بمكان أن نشير إلى واحد منهما، من دون الآخر. فهما لا يمثلان ثنائية، بقدر مايدخلان في وحدة تخييلية، يصعب تجزيئها في الفن. ومن هنا، فإن الجمالي الذي يطرحه الفن هو نتاج الحقيقي والأيديولوجي، مثلما هو نتاج الذاتي والتخييلي. ولهذا فإن قيمة الفن تكمن، في أحد مستوياتها، في إحالته على الأيديولوجي من دون أن يتحول إلى أيديولوجية صرف. وعلى الرغم من  أهمية الخطاب الأيديولوجي في الشعر، والفن عامة، إلا أن ذلك لايؤدي إلى أن قيمة النص الشعري تنهض من ذلك الخطاب وهل هو ذو طبيعة تقدمية أو رجعية. فلايصحُّ القول، كما يؤكد إيغلتون، بأن النص القيِّم  هو الذي يحمل دائماً القيم والقابليات التقدمية. أو أنه الذي يعكس الذات الطبقية التقدمية، وذلك على الرغم من تقريره بأن قيمة النص تتحدد بنمطها المضاعف من التشكيل الأيديولوجي وقوانين الخطاب الأدبي (7)؛ وعلى الرغم من قوله أيضاً بأن النص هو نتاج الأيديولوجية (8).
لقد أشرنا سابقاً إلى أن الخطاب الأيديولوجي في الشعر، لايكمن في النص وحسب، بل يكمن أيضاً في عملية التلقي، ولعل لهذه العملية من الأهمية، في ذلك، مالايقلُّ عن أهمية النص. إذ إن النص يتم إنتاجه جمالياً وأيديولوجياً، في فعل الإبداع من منظور الذات المرسلة، ويتم إنتاجه أيضاً، في فعل التلقي، من منظور الذات المتلقية. ومن ذلك، فإن النص في تغيّر مستمر، على صعيد الخطاب، بحيث لانستطيع أن نقرر للنص نسقاً واحداً من الخطاب الأيديولوجي. والحق أن هذا من إشكاليات الخطاب الأدبي. فهو من جهة نتاج التاريخ، وهو من جهة أخرى نتاج القارئ. في الوقت الحاضر (9). ولاشك في أن هذا ينهض من أن النص الأدبي هو نص مجازي تخييلي. إذ إن ذلك يجعله قادراً على الإيحاء الجمالي في اتجاهات متعددة  ومختلفة، كما يجعله محتملاً لعدة تأويلات في آن معاً. ولكن هذا لايؤدي إلى الاعتباطية في فعل التأويل. فلابد من أن يكون محكوماً بالنص، أي لابد أن يتيح النص هذا التأويل أو ذاك. بمعنى آخر: ينبغي أن يكون لكل القراءات المختلفة أساس من النص. ومن دون ذلك لايكون النص هو المقروء بقدر مايكون صدى زائفاً لما يريد القارئ أن يقرأه فيه.
نخلص إلى أن الخطاب الشعري هو خطاب جمالي، ينطوي على درجة ما من الخطاب الأيديولوجي. وذلك لأنه، أولاً، موقف من الواقع، ولأنه، ثانياً، صادر من مرسل إلى متلق. وبما أن النص الشعري نص مجازي تخييلي، فهو قابل لأن يتغير خطابه الأيديولوجي من مرحلة إلى أخرى، ومن قارئ إلى آخر، من دون أن يتحول النص إلى أيديولوجية. أي من  دون أن يستعلي الخطاب الأيديولوجي على الجمالي في النص. وإذا ماحدث ذلك، فلن يكون النص شعرياً بأية حال. لأنه لايكون، في الأساس، نتاج التجربة الجمالية، كما لايكون تعبيراً عن الوعي الجمالي الذي يختلف، بشكل جلي، عن أشكال الوعي الأخرى، على الرغم من تقاطعه معها.
لقد تجلى الخطاب الأيديولوجي، في النص الشعري الحداثي، بعدة مستويات. وهي مستوى الرؤيا الكلية، ومستوى النموذج الفني، والصورة، والرمز، علاوة على التقويم الجزئي المباشر. أي لقد تجلى هذا الخطاب في مجمل النص، وهو ماسوف نتوضحه في الصفحات التالية، من دون الإفاضة فيه، إذ إننا سوف نتوضح أيضاً تأثير الأيديولوجية السلبي في شعر الحداثة. ولهذا فإننا سوف نتحدث عن علاقة الشعر بالأيديولوجيا من خلال محورين اثنين: الأول تحت عنوان: النص بوصفه خطاباً أيديولوجياً، وفيه نلحظ كيف يشتمل الشعري على الأيديولوجي. من دون أن ينحرف عن نسقه الجمالي. والثاني تحت عنوان: الأيديولوجية بوصفها نصاً. حيث نلحظ كيف ينحرف النص من كونه خطاباً جمالياً إلى كونه أيديولوجية وحسب.

النـص بـوصـفـه خـطـاباً أيـديـولـوجـيـاً:

لم تكد الحداثة الشعرية العربية تترك ظاهرة من ظواهر الواقع المعاصر، من دون معالجة فنية ومن دون تقويم جمالي، بحيث يمكن التوكيد أن هذه الحداثة قد استوعبت مجمل ماطرحه الواقع من إشكاليات ذاتية وروحية واجتماعية. وهي باستيعابها ذلك تكون قد أنجزت مشروعها الجمالي المعادل فنياً للواقعِ، كما تكون قد حاكمته على المستوى الأيديولوجي. بمعنى أن الحداثة قد اتخذت موقفاً أيديولوجياً من الواقع، في أثناء استيعابها الفني وتقويمها الجمالي له. وقد ظهر ذلك، كما أسلفنا سابقاً، بعدّة مستويات من النص الشعري الحداثي، نتناولها فيما يلي:
أما على مستوى الرؤيا الكلية فيمكن أن نحصر الرؤى الجمالية التي هيمنت على شعر الحداثة، في علاقته بالواقع، بثلاثة أنماط، وهي النمط البطولي، والنمط التراجيدي، والنمط العذابي** . حيث نلحظ على صعيد النمط الأول أن الشاعر الحداثي قد بلور موقفه الثوري العام من الواقع الاجتماعي العربي بقيمة البطولي. أي أنه ارتفع بالأيديولوجية الثورية إلى مستوى القيمة الجمالية الإيجابية. وفي ذلك مافيه من تقويم إيجابي لما هو ثوري في الحياة الاجتماعية، كما أن فيه من الرفض لما هو تقليدي وساكن ومتخلف، بحيث لايخفى على القارئ. وقد توزع هذا النمط على نسقين اثنين. الأول هو نسق الثورية الاجتماعية التقدمية. والثاني هو نسق الثورية الفردية ذات المنحى القيمي. فعلى حين أن النسق الاول سعى إلى تثوير المجتمع من خلال الطليعة الثورية ونموذجها البطل المنتمي، فإن الثاني قد سعى إلى تثوير القيم من خلال النخبة ونموذجها البطل اللامنتمي. مع الإشارة إلى أن كلاً منهما يرى في الواقع الاجتماعي استلابياً وغير إنساني، مما يعني ضرورة تجاوزه وتخطيه بما ينسجم والمثل الأعلى للثورية. ولكن في حين ذهب الأول إلى ضرورة الانتماء إلى القوى الاجتماعية الراغبة في التغيير، فإن الثاني ذهب إلى أن الانتماء إلى الواقع بقيمه ومُثله، هو خيانة للثورية. ويمكن القول بان شعراء مجلة <<شعر>> ومن في حكمهم، يمثلون هذا النسق (10) بعامة. ويمثل النسق الأول شعراء اليسار السياسي بعامة أيضاً، ومن دون أن يعني ذلك أن ثمة حواجز تمنع التداخل بين هذين النسقين.
وعلى الرغم من أن هذا شائع، في الكثير من النصوص الحداثية، غير أنه لابأس من التمثيل على هذا النمط بنسقيه الاثنين.
يقول محمد الفيتوري، في البطل المنتمي:
كانت الأرض عذراء
والفجر لم يشتعل بعد...
فليبق وجهك مشتعلاً بالجمال
اشتعلْ أبداً بالجمال
اشتعل مثلها أيها الغجريّ المغني
... الطواحين فارغة
والزوابع مدفونة في بطون الرمال
والرجال
معلّقة من ضفائرها
والسنابل مثقلة بالأسى والحنين
وأنا فيكِ سنبلة. فاذكريني!
            *
كان حبك مرتسماً فوق وجهي
الشذى في فمي
والرؤى في عيوني
ولذا حينما أبصروني
أبصرونا معاً(11)
ويقول أدونيس، في البطل اللامنتمي:
أحرق ميراثي، أقول أرضي
بكرّ، ولاقبور في شبابي
أعبر فوق اللّه والشيطان
(دربي أنا أبعد من دروب الإله والشيطان)
أعبر في كتابي
في موكب الصاعقة المضيئه
في موكب الصاعقة الخضراء
أهتف ـ لاجنة لاسقوط بعدي
وأمحو لغة الخطيئة(12)
لقد طرح كل من هذين المقطعين موقفاً أيديولوجياً ثورياً من الواقع، ولكن بينما انطلق المقطع الأول من الثورية الاجتماعية، فإننا نجد أن الثاني قد انطلق من الثورية الفردية. ولقد صاغ كل منهما موقفه الأيديولوجي بشكل جمالي، بحيث إن هذا الموقف لايشكل إلا أحد مستوياته. أي أن هذا الموقف لايستغرق الخطاب الشعري فيهما.
أما النمط الثاني من الرؤيا الكلية، فهو النمط التراجيدي. حيث تطرح بعض النصوص الحداثية صورة تراجيدية للواقع الاجتماعي. فيبدو هذا الواقع محكوماً بكل ماهو استلابي وقمعي ومؤلم، ويبدو الإنسان فيه مطحوناً بكل أشكال الإذلال الاجتماعي والسياسي والروحي. وغالباً ماتنطوي هذه النصوص على تصوير الانكسارات التي يعانيها البطل الثوري الذي تم النظر إليه على أنه القيِّم اجتماعياً، أي على أنه الجميل والبطولي معاً. وإذا ماأفدنا من تعريف ييتس Yeats للتراجيدي على أنه ذلك الذي ينمو وينكسر امام الحواجز التي تفصل الإنسان عن الإنسان، وأنه فوق تلك الحواجز الكوميدية التي يحتفظ بها المنزل (13). فإن الموقف الجمالي ذا البعد الأيديولوجي من الواقع، يغدو واضحاً تماماً. إذ إن هذا الواقع، بحسب التقويم التراجيدي، لايتيح للطاقات الإنسانية أن تتفتح. وهو مايعني أن الأجواء التراجيدية سوف تبقى هي المهيمنة، مالم يتغير ذلك الواقع.
ولقد أجمع شعراء الحداثة على أن الخطيئة التراجيدية هي الواقع نفسه، ولاسيما جانبه السياسي القمعي الذي يشكل نقيضاً لكل ماهو ثوري، وفي ذلك يقول الماغوط:
نامي تحت الأعلام المزّقة
أيتها الحمامة المنسية
الوحل يتهادى كالأمير
يتألق على سرجه الذهبي
والشتاء الأخير
ينحني كالمتسوّل على أقدامك يابردى (14)
ويقول البياتي:
مات المغني، ماتت الغابات
والعندليب مات
وريثُ هذا العالم المدفون في الإعماق
يلهث مهزوماً على قارعة الطريق
يحمل وجه هالك غريق
ينام في المقهى، ككلب جائع أفَّاق(15)
ويقول محمد عمران:
أنا الذي رأيت
أرمي نبوءتي في هجعة الساحات ثم أمضي
مكللاً بشوك أرضي
                     ...
جلجلتي أعرفها، وخشب الصليب
وأعرف المسمار والعلامه
وأنني بلاقيامه (16)
ولايختلف النمط العذابي عن التراجيدي من حيث الأجواء المصوَّره.  فكلاهما يقدم صورة سلبية للواقع الاجتماعي، أي أنه يدينه جمالياً وأيديولوجياً. ولكن في حين يقدم النمط التراجيدي صراع الإنسان ـ وغالباً البطل الثوري ـ مع الواقع، فإن النمط العذابي صورة للتأزم النفسي والروحي الذي يعانيه الفرد في تلك الاجواء. بمعنى آخر: إن النمط التراجيدي غالباً مايترك فسحة لإمكانية التغيير الثوري. ولهذا قلما تكون رؤياه سوداوية بشكل مطلق. أما النمط الآخر فإنه لايكاد يوحي بأن ثمة أفقاً وراء ماهو ناجز واقعياً. ولعل أكبر مثل على هذا النمط من الرؤيا هو قصيدة خليل حاوي <<لعازر عام 1962>> التي وصل فيها الشاعر إلى إغلاق أية إمكانية في الانبعاث الحضاري للواقع العربي، من خلال شخصية لعازر الذي كان هو المرتجى. غير أنه:
... عاد من حفرته
ميْتاً كئيب
ينزف الكبريت مسودَّ اللهيب(17)
ولهذا لاغرابة في أن يرغب في العودة إلى قبره:
عمّق الحفرة ياحفارُ
عمّقها لقاع لاقرار(18)
تلك هي الأنماط الثلاثة ـ بإيجاز شديدـ التي استوعبت الرؤيا الشعرية الحداثية وهي كما نلحظ، أنماط جمالية وأيديولوجية في الوقت نفسه. أما أنها جمالية، فلأنها تصدر من موقف حسي انفعالي مصوغ بشكل مجازي تخييلي، ومن وعي جمالي يتعامل مع الواقع من خلال المثل الأعلى للجمال في الفرد والمجتمع معاً. وهي أيديولوجية، لأنها تتقاطع مع الوعي السياسي، في محاكمتها للواقع، وفي نظرتها إليه، من دون أن تستخدم أدواته المعرفية. وهو ماأبعدها عن أن تكون رؤى سياسية خالصة، على الرغم من خطابها الأيديولوجي ـ السياسي.
أما على مستوى النموذج الفني، فنلحظ أن ثمة تقويماً جمالياً ذا بعد أيديولوجي أقل تعميماً من الرؤيا الكلية التي تتناول الواقع في مجمله بالحكم والتقويم. وعلى الرغم من أن النموذج غالباً مايتم تقديمه في علاقته بالسياق الاجتماعي، غير أنه هو المعنيُّ أولاً بالتناول والتقويم الجمالي والأيديولوجي. ولن نتوقف طويلاً عند هذا المستوى، لأنّ له مكاناً آخر من هذا البحث، ولكن ما لابدّ من الإشارة إليه هو أن النمذجة الفنية هي في ذاتها تقويم جمالي وأيديولوجي للموضوع المنمذج.
وإذا ماذكرنا ان كثيراً من النصوص الحداثية تطرح رؤياها الكلية من خلال النموذج الفني، فإن ذلك يعني ان مثل هذه النصوص ينطوي على نوعين من التقويم: نوع كلي خاص بالواقع، ونوع جزئي خاص بالنموذج. أما مايخص هذا، كأن يتناول النص شخصية الديكتاتور على أنها نموذج القبيح أو الكوميدي مثلاً، فلابد من أن يحيل على أن ثمة موقفاً أيديولوجياً سلبياً من هذه الشخصية وما يماثلها، لا بوصفها شخصية فقط. بل بوصفها أيضاً شكلاً من أشكال السلطة، وذلك كقول أمل دنقل:
قلت لكم في السنة البعيده
عن خطر الجنديّ
عن قلبه الأعمى، وعن همّته القعيده
يحرس من يمنحه راتبه الشهريّ
وزيه الرسميّ
ليرهب الخصوم بالجعجعة الجوفاء
والقعقعة الشديدة
لكنه... إن يحن الوقت..
فداء الوطن المقهور والعقيده
فرَّ من الميدان
وحاصر السلطان
واغتصب الكرسيّ
وأعلن "الثورة" في المذياع والجريدة(19)
وغالباً مايتداخل الخطاب السياسي في الخطاب الأخلاقي، على صعيد النموذج الفني، كما نلاحظ في هذا النص، حيث بدا أن الديكتاتور مدان أخلاقياً وسياسياً. علاوة على أنه مدان جمالياً. ولعل السبب في ذلك يكمن في أن النمذجة الفنية تنهض من طرح شخصية اجتماعية متعددة الجوانب. ولهذا فإن خطابها الجمالي يغدو متعدد الجوانب أيضاً. مع الإشارة إلى أن هذا الخطاب غالباً مايكون مفتوحاً، على تقويمات مختلفة، بحسب طبيعة المتلقي الجمالية و الأيديولوجية، ولاسيما في النصوص التي تطرح نموذج المعذب، والتي لاتفرض تقويماً محدداً على النموذج.
أما بالنسبة إلى مستوى الصورة الفنية، فإن الأمر فيه مختلف عن المستويين السابقين، للطبيعة الجزئية في الصورة، من جهة، ولإحاطتها بكل الجوانب الحياتية تقريباً، النفسية منها والروحية والاجتماعية والطبيعية والعملية، من جهة أخرى. فمن المعلوم أن كل الظواهر والأشياء، في هذا الوجود، يمكن أن تكون مادة للصورة الفنية، مثلما يمكن أن تتشكّل منها عناصرها الحسية. ولأن طبيعة الصورة تقوم على الحسي والانفعالي والتقويمي، فإن ذلك يعني أن العناصر التي تتشكل منها الصورة هي عناصر قد تم الإحساس بها، مثلما تم تقويمها. ويمكن التوكيد أن بناء الصورة على هذا العنصر او ذاك، هو في اساسه، موقف جمالي من العنصر ومن دلالته في الصورة معاً، كما ان الإيحاء الجمالي المتحصل منها ينطوي على تقويم ما، بالضرورة. ومن خلال التقويم والإيحاء، يبرز هذا النسق أو ذاك من الخطاب. وبما أن الحديث، في هذا المجال، حول الخطاب الأيديولوجي فإننا نتوقف عند الكيفية التي تحيل بها الصورة على هذا الخطاب.
يقول خليل حاوي:
غبت عني، والثواني مرضت.
ماتت على قلبي.
فما دار النهار،
... ليلنا في الأرز من دهر تراه؟
أم تراه البارحة(20)
ويقول سعدي يوسف في صورة أكثر تداخلاً وامتداداً:
 تطير الحمامات في ساحة الطيران. البنادق تتبعها،
تطير الحمامات تسقط دافئة فوق أذرع من جلسوا
في الرصيف يبيعون أذرعهم. للحمامة وجهان:
وجه الصبيّ الذي ليس يؤكل ميتاً، ووجه النبيّ
الذي تتأكّله خطوة في السماء الغريبة(21)
ويقول محمود درويش:
مرة أخرى، ينام القتله
تحت جلدي وتصير المشنقه
علَماً او سنبله
في سماء الغابة المحترقة(22)
ويقول فايز خضور:
لاتلومي القافله
واخلعي لون الحداد
حلمك المأمول مقتول، وقتّالوه يغزون البلاد
شيّعي الجرحى بورد، لازورد،
أي عشب، عنبر، رمل رماد..
واستشيري السابله(23).
على الرغم من أننا لم نقصد الإتيان بصور فنية تتمحور حول الفجيعة والأجواء التراجيدية إلا أنها، على أيه حال، توجه حديثنا في اتجاه معين، وهو موقف الصورة من الواقع، من خلال تقويمها لبعض العناصر فيه.
تنحو صورة حاوي نحو إدانة الثبات والسكونية، في الواقع، وذلك من خلال تجسيد جمالي للزمن الذي يبدو عديم الحركة، بالنسبة إلى الشاعر. وقد انطوت الصورة على إحساس واحد، فحواه الموت. فالغياب والمرض والموت وعدم الدوران أو الحركة والسكونية المطلقة هي التي تتكون منها هذه الصورة التي اتخذت موقفاً جمالياً سلبياً منها، وهذا الموقف السلبي هو الذي يشكل إيحاءها العام وخطابها الأيديولوجي أيضاً. ولعل الغياب -غياب المنقذ- الذي تم تقويمه تراجيدياً - قد انعكس سلبياً على العناصر الأخرى، فبدت ذات طبيعة مملة  مضجرة، فالثواني مريضة ميتة، والنهار راكد ساكن. مما يعمق الإحساس بتفاهة الواقع وبضرورة تجاوزه، ولن يكون ذلك إلا بعودة الغائب المنقذ.
أما في صورة سعدي يوسف، فثمة إحساس واحد أيضاً، وتقويمات عدة. فالحمامات المقوّمة على أنها الجمال نفسه، تعاني معاناة تراجيدية، في علاقتها بالبنادق المقوّمة على أنها القبح والفظاعة معاً. فثمة صراع غير متكافئ بين الجمال والقبح، في الواقع، بحسب الصورة. ومايؤكد ذلك أن الجمال -أو الحمامات- يسقط ميتاً، فوق جمال آخر معروض للبيع، وهو الأذرع رمز العمل الإنساني، أي أن الإنسان مهان ومستلب، ومجروح في قيمته الإنسانية، مثلما الحمامات الملاحقة بالبنادق. ومايلفت الانتباه هنا، أن الحمامات إذ تسقط، تسقط إلى جانب تلك الأذرع، مما يوحي بأن ثمة تعاطفاً بين الحمامات والأذرع (تسقط دافئة) من جهة، وبأن نقيض الحمامات هو نفسه نقيض الأذرع، من جهة أخرى، فالذي أسقطها كان السبب في إسقاط تلك.
ويتابع الشاعر بلورة الموقف التراجيدي الذي تعانيه الحمامات. حيث يرى أن لها وجهين اثنين في معاناتها. وجه البراءة الإنسانية المقتولة (الصبي). ووجه الحلم الإنساني المشرد والمضيَّع (النبي).
وهو مايتكامل ومابدأته الصورة. أي أن الوجه الأول يتكامل وسقوط الحمامات. ويتكامل الوجه الثاني وبيع الأذرع.
إن كل ذلك يحدث في مكان بعينه، هو ساحة الطيران، أي ساحة الواقع الاجتماعي الذي تهيمن فيه رموز القبح والفظاعة، ويندحر فيه كل ماهو إنساني وجميل. وبهذا فإن الخطاب الأيديولوجي، لهذه الصورة، أوضح من أن يشار عليه. ولكن ماينبغي توكيده هو أن هذا الخطاب جاء محمولاً على خطاب جمالي أعم وأشمل.
وتلك هي الحال في صورتي درويش وخضور اللتين تصدران من الإحساس التراجيدي نفسه. حيث يتم تقويم القتلة بالقبح والفظاعة، ويتم تقويم الغابة المحترقة والبلاد، في الصورتين، بالتراجيدية. ومايلفت النظر في صورة درويش هو أن المشنقة التي هي القبح بذاته، لها وجه آخر، وهو البطولية والجمال (علم، سنبلة). أما أنها قبيحة، فلأنها رمز للطغيان، وأما أنها  ذات وجه بطولي وجميل، فذلك لاينهض منها. بل ينهض من الذين يعلّقون عليها. أي أن قبحها يرتبط بعلاقتها بالطغيان، على حين أن البطولية فيها ترتبط بعلاقتها بالشخصيات المناضلة البطولية. وبهذا فإن الخطاب الأيديولوجي في هذه المشنقة التي هي محور الصورة، هو خطاب مزدوج: إدانة الطغيان من جهة، والثورة عليه من جهة أخرى.
ومايلفت النظر أيضاً في صورة خضور، هو أن القتلة إذا يغزون البلاد بالقتل والهتك، لايستطيعون الارتفاع بالموت إلى مستوى الفناء المطلق، ولهذا فإن الشاعر يدعو إلى خلع لون الحداد، لأن الذين ماتوا أو قُتلوا ليسوا إلا جرحى. وفي هذا أيضاً خطاب مزدوج: توكيد تفاهة القتلة وعرضيتهم بالنسبة إلى الحياة، وتوكيد عظمة البلاد التي لاتموت.
اما على مستوى الرمز الفني، فإن تقنية الرمز تقتضي التقويم الجمالي المزدوج حيث يحمل الرمز تقويماً للموضوع المرمّز، وتقويماً للإحالة الرمزية، في الوقت نفسه، ولعل الرموز الأسطورية والتاريخية تكون أوضح الرموز في ذلك. ونكتفي بمقبوس واحد، للدلالة على الخطاب الأيديولوجي في الرمز. يقول السياب:
الموت في البيوت يولدُ،
يولد قابيل لكي ينتزع الحياه
من رحم الأرض ومن منابع المياه،
فيُظلِم الغدُ
وتجهض النساء في المجازر
ويرقص اللهيب في البيادر،
ويهلك المسيح قبل العازر(24)
ينطوي المقبوس على ثلاثة رموز، وهي قابيل والمسيح والعازر، يحيل كل منها على دلالة وتقويم وإيحاء، ويشكّل قابيل بوصفه قبيحاً وفظيعاً، محور المقبوس. حيث تخَّيم أجواؤه على فضاء المقبوس -والنص بمجمله- وهو مايُهلك رمز الخلاص (المسيح) ومن ثم إمكانية الحياة (العازر). بمعنى أن رمز قابيل ذو بعد ايديولوجي نقيض لليحاة الإنسانية التي يمثلها رمزا المسيح والعازر. أما التقويم المزدوج فيظهر، في الموقف السلبي من شخصية قابيل الأسطورية وماتمثله من قيم لاإنسانية. ويظهر في الموقف السلبي أيضاً من قابيل الرمز الذي يحيل على الديكتاتور. إن هذا الموقف السلبي هو الذي جعل من قابيل قبيحاً وفظيعاً. ولأن محتوى رمز قابيل هو محتوى اجتماعي - سياسي. فإن خطاب الرمز بدا خطاباً أيديولوجياً، بشكل صريح، وكذا هي الحال في المسيح الرمز الذي يحيل على الخلاص المجهَض.
ولايختلف الأمر، في مستوى التقويم الجزئي المباشر، عن المستويات الأخرى، من حيث الخطاب الأيديولوجي، إلا في كونه يقوّم الظواهر والأشياء من خلال جزئية من جزئياتها، بشكل مباشر. وهذا المستوى شائع في مجمل النصوص الحداثية، حيث تتلاحق التقويمات الجزئية لتعطي انطباعاً جمالياً عاماً، عن الإشكالية الشعرية المطروحة، كأن يقول نزيه أبو عفش:
إننا نبكي...
حزينون،
وحيدون،
خراب،
قمر يذوي،
دخان...
نيزك يفرُّ من ملاءة الليل الذي يبكي
مهجورة قلوبنا
كحدوة الحصان فوق حجر يبكي
تآكلت أرواحنا من كثرة الإهمال والسير..
رمادٌ وقتنا...
رمادٌ الأرضُ التي نطلب
أفشينا على مرأى من الخرابة السرَّ
وأخلدْنا إلى الإهمال(25)
وإذا ماأشرنا، أخيراً، إلى أن كل تلك المستويات غالباً ماتجتمع في نص شعري واحد، فإن ذلك يؤكد أن للخطاب الأيديولوجي حضوراً واضحاً، في شعر الحداثة. ولاغرابة في هذا، إذ إنه شعر يتبنى قضية عامة، وهي قضية تثوير الواقع العربي المعاصر. سواء أكان ذلك على الصعيد السياسي أم الأخلاقي أم الفكري. ومن هنا، فإذا مابدا أن الخطاب الأيديولوجي  لهذا الشعر هو خطاب معارض، بكل المعاني، لابالمعنى السياسي فقط، فإن السبب الجوهري في ذلك يكمن في تناقض الواقع مع المثل الأعلى للجمال في الفرد والمجتمع معاً، هذا المثل الذي تشكّل الحرية أحد أهمّ شروطه. بمعنى آخر: إن الشاعر الحداثي الذي رأى في الشكل الشعري التقليدي قيداً لحريته الإبداعية، قد رأى أيضاً في الواقع الناجز قيداً للحرية الإنسانية والحيوية الاجتماعية، مما جعله يقوّمه تقويماً أيديولوجياً سلبياً، في إطار موقفه الجمالي العام منه.
وتوكيداً لتقاطع الخطاب الأيديولوجي مع الخطاب الجمالي، في شعر الحداثة، نتوقف بالتحليل عند نص لايبدو أن له علاقة بالخطاب الأيديولوجي. وهو قصيدة <<ثلج>> لأحمد عبد المعطي حجازي، التي يجسد فيها لحظة هطول الثلج، والاندهاش الجمالي، في تلقّيه، ومايوحي به ذلك <<النديف الذي كان يهطل متئداً>>. يقول:
البياض مفاجأة،
حين عرَّيت نافذتي
شدَّني من منامي
النديفُ
الذي كان يهطل متئداً
مانحاً كلَّ شيء نصاعته
ومداه الشفيفْ
شدّني
كان دوَّامة من رفيفْ
جذبتني لها، فرحلنا معاً وانطلقنا
نرفرف من غير ظلِّ
ونرقص بين الصعود وبين الهبوط (26)
ثمة لحظة من أشد اللحظات الجمالية كثافة. حيث تذهل الذات عن مشاغلها، حين يفاجئها مشهد الثلج الذي راح يلون العالم بالأبيض، كاشفاً عن نصاعة الأشياء، أو جوهرها الحيوي. وحين يتكشف ذلك الجوهر، أمام الذات، تجد نفسها مأخوذة بلطافة كل شيء. وهو مايدفعها إلى التناغم مع حركة الثلج المتراقصة، والمعبرة عن الفرح الإنساني. لقد انجذبت الذات إلى الثلج، تاركة وراءها أعباءها اليومية (من غير ظل)، ومتمثلة الثلج في حركته الصاعدة الهابطة، فقادها هذا التمثل إلى اكتشاف الجمال من حولها:
يراودنا العشب،
والشجرات العرايا،
ومتكآت النوافذ والشرفات
وأيدي الصغار وأيدي التماثيل
والكائنات المطلّة حول السقوفْ
بياضاً تقلَّب في ذاته
كرفوف من البجعات على نبع ماء
يمسّحن شهبة اعناقهن الطوال
على ريش أجسادهنَّ الوريفْ(27)
فحين اندغمت الذات بحركة الثلج، شعرت بأن كل شيء يتقلب بياضاً في ذاته. حيث العشب والشجر العاري، والبيوت والصغار، وتماثيل الثلج، والصبايا الجميلات. بكلمة أخرى: إن جمال الثلج كشف عن رغبة الذات في شيوع الجمال، مثلما كشف عن نصاعة كل شيء، ولكن:
ثم أشرقت الشمس من فوقنا
فسقطنا معاً
وانحللنا معاً
في رتابة هذا السواد الأليف(28)
مثلما هطل الثلج فجأة، أشرقت الشمس فجأة، ومثلما أحّست الذات بالجمال بشكل مفاجئ سقطت وانحلّت في رتابة القبح الأليف!.
تلك هي القصيدة كاملة، وذلك هو جوها الجمالي. حيث تمكَّن حجازي من أن ينقل المتلقي إلى لحظة من أجمل اللحظات التي تتبدى بها الطبيعة. بمعنى أن النص ينهض من القيمة الجمالية للظاهرة الطبيعية، غير أنه يعيد إنتاجها بما يتلاءم والذات الشعرية. وهو ماجعلها تنطوي على إمكانية إيحائية كبيرة، لايستوعبها مشهد الثلج الطبيعي. ومن ذلك، يمكن للنص أن يحيل على الحلم الجميل، أو العشق المفاجئ، أو لحظة الصفاء النفسي والروحي، أو لحظة الانسجام مع الوجود، أو لحظة التفاؤل المطلق.. إلى آخر ماهنالك من احتمالات إيحائية ممكنة. غير أنها جميعاً تنطلق من هاجس روحي أساسي، وهو الرغبة الملحة في شيوع الحرية والحيوية، وتعارض هذه الرغبة مع الشكل السائد الرتيب (السواد الأليف) نفسياً أو روحياً أو اجتماعياً أو كلها معاً.
لقد بدت الشمس، في النص قبيحة كريهة. إنها شمس سوداء، لاتشرق إلا من أجل تعميق السواد الأليف، أو المعاناة اليومية، في واقع القبح. على حين أن الثلج بدا جميلاً رائعاً، وذلك أنه قد أخرج الذات من رتابة السواد الذي تفرزه الشمس بشكل مستمر وطاغ. ويمكن القول إن رمز الشمس يلقي ضوءاً كاشفاً على أسباب ذلك الفرح المفاجئ بالثلج، فلو لم يكن ثمة معاناة ذاتية -اجتماعية، من هيمنة القبح، لما كان ذلك الفرح المذهل بالجمال، ولو لم تحس الذات بشروق القبح الدائم، لما فرحت بشروق الجمال المفاجئ، الذي يعني غروب القبح بالنسبة إليها. وبهذا، فإن النص يسعى إلى تعميق الإحساس بالجمال، بقدر مايسعى إلى تعميق الإحساس بضرورة نفي القبح وإزالته، وهو مايحيل على أن ذلك الثلج هو <<ثلج>> الذات الجملية التي تعاني، في واقع القبح، معاناة تراجيدية، وأن تلك الشمس هي <<شمس>> السلطة أو القمع، أو الكبت الاجتماعي (وربما تكون هي رمز الأب، من وجهة نظر نفسية). ومن هنا، فإن الشمس قد أشرقت (من قوقنا) أما الثلج، فقد انبثق من داخل الذات (شدني من منامي النديف). فالتناقض المجازي بين الشمس والثلج، ينهض، إذاً، من التناقض الحقيقي بين الجمال والقبح أو بين الحرية والحيوية من جهة، والقمع والسكونية من جهة ثانية.
وبما أن النص ينهض جمالياً من ذلك التناقض، فقد جاءت بنيته الفنية متمحورة حول التناقض والتعارض. حيث نلحظ، في البدء أن ثمة سقوطاً مفاجئاً للسواد (وهو سقوط غائب عن النص)، يقابله صعود مفاجئ للبياض. مما يستتبع تعرية النافذة من الستائر التي تحجب العالم الخارجي عن الغرفة، وخروج الذات من منامها او سوادها الأليف. ليصل النص إلى إشاعة جو صرف من الفرح الأبيض الذي لايعكّره أي عنصر أسود. أي يغيب السواد غياباً تاماً، ويحضر البياض حضوراً تاماً أيضاً. وفي ذروة هذا الحضور، حيث الصبايا- البجعات، يبدأ غياب البياض، وحضور السواد، أو ينحلُّ البياض في رتابة السواد الأليف الذي يغدو هو الأوحد في المشهد الجمالي الأخير من النص. وبهذا، فلحظة الشروق هي نفسها لحظة الغروب في الحالتين، مما يعني أن وجود هذا يلغي بالضرورة وجود ذاك.
بالإضافة إلى أن ثمة تناقضاً بين البياض والسواد، والثلج والشمس، والحيوية والرتابة فإن ثمة انسجاماً وتنامياً بين الثلج، وبقية الأشياء. فالذات قد عرّت النافذة، وتعرّت هي من منامها، ومن ظلها -أو معاناتها- وثمة العشب الذي (يراودنا) أو الذي يتعرى، ويدعونا إلى التعري أيضاً، وثمة الشجرات العرايا، والصبايا اللواتي يكشفن عن شهبة أعناقهن، والكائنات المطلة (أي غير المتحجبة) وقبل كل ذلك، كان الثلج قد انكشف بشكل مفاجئ.
إن هذه الجوقة الطبيعية والإنسانية التي تتعرى مما يخفي جوهرها، تعزف أنشودة الجمال التي يبدعها الثلج، بمعنى أن الثلج هو الذي يقود حركة العري أو الصفاء الروحي. فثمة، إذن، تناغم وانسجام بين حركة الثلج وحركة الأشياء تجاه العري. وهذا التناغم في الحركة هو الذي جعل النص يقول <<ثم أشرقت الشمس>>. فالإشراق هو الإنكشاف أو التعري. ولكن هذا التعري هو تعري القبح، أو تبدّيه على حقيقته. فحركة الثلج لم تكشف عن جوهر الجمال في الأشياء فحسب. بل كشفت أيضاً عن جوهر القبح في الشمس بوصفها رمزاً لكل ماهو جائر.
واضح أن التجربة الجمالية التي تقف وراء هذا النص، هي تجربة حسية انفعالية، تمظهرت بشكل حسي انفعالي صوري. وهو ماجعلها تحتمل عدة أنساق من الخطاب: نفسي، وروحي، وسياسي، وجمالي -شكلي، كما جعلها تحتمل عدة إيحاءات بالرغم من صدورها من هاجس موحد. ونحن في هذا المجال، نود الإشارة إلى أن الخطاب الأيديولوجي - السياسي ليس عرضياً في هذا النص. بل إن له شرعيته التي لايمكن تجاوزها. وقد تبدى ذلك في موقف النص من القبح الذي بات أليفاً، في الحياة اليومية، وفي موقفه من الجمال الذي يتعرض للسقوط والانحلال، في رتابة القبح أو السواد الأليف. وهذا الجانب كما يلحظ القارئ هو الأساس في رؤيا النص الكلية، وإن بدا النص أن لاعلاقة له بما هو أيديولوجي، بشكل مباشر.

الأيديولوجية بوصفها نصاً:

لقد درسنا، في الفقرة السابقة، اشتمال الخطاب الجمالي، في شعر الحداثة على الخطاب الأيديولوجي، من دون أن يتحول النص الشعري إلى أيديولوجية. وذلك بالإنطلاق من أن النص تعبير عن التجربة الجمالية، وعن الوعي الجمالي العام للمبدع. ولهذا فإن تقاطع الجمالي مع الأيديولوجية يكاد يكون بدهياً. ولاسيما في حركة شعرية تتبنى قضية اجتماعية وحضارية عامة، كحركة الحداثة. غير أن هذه القضية التي تم التعبير عنها بشكل شعري راق، في الكثير من النصوص الحداثية، كان لها انعكاس سلبي على الكثير من النصوص أيضاً. وغالباً ماكان ذلك يعود إلى طبيعة فهم الوظيفة الاجتماعية في الشعر، والفن عامة. فهل على الشعر أن ينهض بهذه الوظيفة بشكل مباشر، أو عليه أن ينهض بوظيفة جمالية -روحية، تحيل بهذا النحو أو ذاك، على ماهو اجتماعي وأيديولوجي. بمعنى أن فهم وظيفة الشعر على أنها وظيفة أيديولوجية أولاً وأخيراً، قد أدى إلى نفي الشعري، في الكثير من النصوص، وإثبات الأيديولوجي فيها. وهو ما عنيناه سابقاً، من أن النثرية في الشعر، هي حصان طروادة الذي غالباً ما تستخدمه الأيديولوجية للهيمنة على الشعر، من أجل توظيفه، في صراعها الاجتماعي. ولايكون لها ذلك، إلا إذا تخلى الشاعر عن موقعه بوصفه شاعراً، ليجلس على كرسي السياسي أو المنظّر أو الواعظ. مع الإشارة إلى أن النثرية، في الشعر، لاتأتيه من الهيمنة الأيديولوجية وحسب. بل تأتيه أيضاً، وفي الأساس، من الانحراف عن طبيعة التجربة الجمالية، وعن الوعي الذي ينظمها أيضاً، بمعنى أن النثرية في النص الذي من المفترض أن يكون شعرياً، تنهض من الانحراف في التجربة والوعي الجماليين. وينعكس هذا الانحراف في اللغة الشعرية، مثلما ينعكس في الصورة والتقويم والمنطق العام للنص. ونرى أن درجة الانحراف عن الشعرية في النص تتناسب طرداً ودرجة الانحراف عن الجمالي في التجربة والوعي. ولعل هذا مايسوغ وجود جوانب شعرية ونثرية في النص الواحد أحياناً.
وبما أن مجال هذه الفقرة هو الأيديولوجية بوصفها نصاً، فإننا سوف نتبين ذلك الانحراف من خلال استعلاء الوعي الأيديولوجي على عملية الإبداع الشعري. هذا الاستعلاء الذي يدفع الشاعر إلى تحويل أيديولوجيته إلى نص. غير أنه إذ يفعل ذلك، يخسر الجمالي الذي يمكن أن يحيل على الأيديولوجي، بشكل أرقى وأعمق وأدوم، مما يمكن أن يتسم به تحويل الأيديولوجية إلى نص، تستعلي عليه النثرية.
لقد ظهرت الأيديولوجية بوصفها نصاً، في شعر الحداثة، على نمطين اثنين الأول هو النمط السياسي الذي برزت فيه المقولات والشعارات السياسية الخاصة بحزب الشاعر أو أيديولوجيته، بحيث أصبحت مهمة النص مهمة إعلامية وإعلانية في الوقت نفسه، وذلك في إطار كونها مهمة سياسية.
أما النمط الثاني، فهو النمط الذهني - الفكري الذي برزت فيه المقولات والمحاكمات الفكرية والفلسفية. بحيث إن مهمة النص تبدو مهمة فكرية إقناعية، في المقام الأول. مع الإشارة إلى أن هذين النمطين** قد يتدخلان، في النص الواحد، كما قد يستقل النص بنمط واحد بعينه، وذلك بحسب النزوع الفكري أو السياسي العام للشاعر. وفي كل الأحوال، فإن النثرية هي التي تهيمن على النص، ويتبدى ذلك من خلال ميل النص إلى صياغة المقولة الفكرية أو السياسية، لا إلى تجسيد الإحساس الجمالي مع العلم أن ثمة فرقاً بين صياغة المقولة << فنياً>> وبين تعميم الخاص تعميماً مجازياً، أو تجسيد المثل الأعلى الجمالي بالخاص.
أما فيما يخص النمط السياسي، وهو النمط الأكثر شيوعاً، لبروز ماهو سياسي، في الواقع العربي من جهة، ولسوء فهم وظيفة الفن من جهة أخرى، فيمكن التوكيد أن إشكاليته تنهض من اعتباره أن الموضوع الهام هو الذي يعطي للنص أهميته الاجتماعية والجمالية والفنية. وغفل عن أن الموضوع العظيم لايعني شيئاً، إذا لم يكن النص في ذاته عظيماً، على الصعيد الفني والجمالي، أي أن إشكاليته تكمن في فهم علاقة الفن بالواقع والأيديولوجية معاً. ولتبيان ذلك نتوقف عند بعض النصوص.
يقول عبد الوهاب البياتي:
أيا جيل الهزيمة، هذه الثوره
ستمحو عاركم وتزحزح الصخره
وتنزع عنكم القشره
وتفتح في قفار حياتكم زهره
وتُنبت، أيها الجوف الصغار، برأسكم فكره
سيغسل برقُها هذي الوجوه وهذه النظره
ستصبح هذه الحسره
جسوراً وقناديل
زهوراً ومناديل
ويصبح باطل الحزن أباطيل
وتزهر في فم الشعب المواويل
ستهوي تحت أقدامك، ياجيلي، التماثيل
وتسقط عن رؤوس السادة التيجان
كأوراق الخريف، ستسقط التيجان
وتجرفها رياح الكادحين لهوة النسيان(29)
واضح أن البياتي لم يعبر، في هذا النص، عن تجربة جمالية، ولم ينطلق من وعيه الجمالي، إلى تناول موضوع التغيير الثوري. إنما السائق الأوحد فيه هو الوعي الأيديولوجي - السياسي. ولهذا فإن النص راح يستعرض الأعمال التي سوف تقوم بها الثورة، من محو عار الانهزاميين الذين شوهوا الواقع الاجتماعي بأباطيلهم، ومن إسقاط الطبقات الحاكمة، ومن إعلان دولة الكادحين .. إلى آخر ماهنالك من مقولات أيديولوجية انطوى عليها النص.
وبما أن البياتي قد انحرف عن الجمالي في التجربة والوعي، فمن البدهي أن ينحرف عما هو شعري، ويقع فيما هو نثري بحت. وهو ماظهر في لغة النص التي هي لغة نثرية سياسية، تخلو من أي إحساس جمالي، كما تخلو من التعامل المجازي التخييلي، مع الأشياء. وإذا مااستخدمنا مصطلح كمال أبو ديب <<الفجوة/ مسافة التوتر>>(30)، فإن القول بان اللغة المستخدمة لاعلاقة لها بما هو شعري، ينطلق من ان هذه اللغة ذات دلالات مباشرة ومتداولة ومحددة، ولاتنطوي على أي نوع من المفارقة. فكل مافيها متوقع، ومبتذل في الحياة اليومية. وذلك على الرغم من أن لغة النص قد انطوت على عدة مجازات. غير أنها من النوع الشائع المبتذل، لا في الشعر العربي، عبر تاريخه فحسب. بل في الحياة المعاصرة اليومية أيضاً. من مثل (ستمحو عاركم، سيغسل برقها، وتجرفها رياح الكادحين...). وإضافة إلى ذلك، فقد كثرت أدوات الربط بين أشطر النص، مما يعني ان الشاعر أراد أن يقول شيئاً مترابطاً متسلسلاً فيما بينه منطقياً. ومن المعروف أن حاجة النص الشعري إلى أدوات الربط أقل، بما لايقاس، من حاجة النص النثري إليها. وذلك أن الأول ينهض من الترابط الشعوري الجمالي، لا من الترابط المنطقي أو الترابط السردي.
وهذا يحيلنا على المنطق الذي هيمن على النص، وهو منطق عقلي بحت. فالثورة سوف تلغي الممارسات الشائنة للطبقة الحاكمة، وترفع الظلم والحيف عن الكادحين. ولهذا فإن القناع (القشرة) الذي تتقنع به تلك الطبقة سوف يزول. وهو لاينعكس إيجابياً على الكادحين فحسب. بل ينعكس أيضاً على تلك الطبقة التي يمكن أن تفكر وتعمل بشكل أفضل. وذلك بعد أن يزول استعلاؤها (النظرة) على طبقات الشعب. ومن هنا، فإن البلاد سوف تزدهر، ويصل الشعب إلى الرفاهية (المواويل)، ولايبقى هنالك سادة وعبيد. فالكادحون بثورتهم سوف يجعلون من التمايز الطبقي شيئاً من الماضي (هوة النسيان).
ذلك هو منطق النص. وهو، كما نلحظ، منطق عقلي بحت. لاأثر فيه للمنطق الجمالي الذي يقوم أساساً على العلاقة الشعورية بين الأشياء. لا على العلاقة السببية، كما في هذا النص.
والحقيقة أنه لم يكن بإمكان البياتي إلا أن يصدر في نصه، من منطق عقلي. لأنه كان، في الأساس، قد صدر عن الوعي السياسي، أي أن الوقوع تحت وطأة وعي غير الوعي الجمالي، لابد من أن يؤدي إلى استخدام أدوات ذلك الوعي واستخدام منطقه أيضاً، كما حصل مع البياتي. وإذا ماوضعنا في الاعتبار أن الايديولوجية تسوّغ وتعد وتفّند وتهاجم وتتهم وتدافع، فإنه يصبح واضحاً، لماذا مال هذا النص إلى التسويغ والوعد والاتهام.. إلخ إذ إنه ينهض من هذه الجوانب الأيديولوجية مجتمعة، كما يصبح واضحاً، لماذا جاءت اللغة فيه، على هذا النحو من التقريرية والخطابية. إذ إن هاتين السمتين من أبرز السمات التي يتميز بها النمط السياسي.
وبما أن شعر الحداثة قد رافق حركة التحرر الوطني العربية، في تنوعها الأيديولوجي، فقد كان من المتوقع ان ينعكس ذلك فيه. حيث حملت بعض نصوص هذا الشعر، ذلك التنوع، بشكل فجّ. فثمة نصوص ذات خطاب أممي، وأخرى ذات خطاب قومي عربي أو سوري. بل ثمة خطاب إفريقي أيضاً. وهو مايعني أن الوعي الأيديولوجي السياسي هو السائق للنص، لا الوعي الجمالي الذي لاعلاقة له بذلك التنوع، وإن يكن لنتاجه بعد أيديولوجي ما.يقول سميح القاسم في خطاب أممي:
رفيقي- آه ياإيفان الكسييفتش
أتاني الصوت.. صوت الجد أكتوبر
أتاني طيباً.. أخضر
وقال: تعال ياولدي الشقيّ.. تعال!
                     ...
سلاماً ياسواعد أخوتي العمال
سلاماً يامداخنهم/ سلاماً يامنازلهم
سلاماً للجسور الشهل،
للآلات، للأبراج، للأزهار، للأطفال!(31)
ويقول أحمد عبد المعطي حجازي في خطاب قومي عربي:
يافارسنا الآتي من أوراس
ياخيالاً ألقى عن عاتقه ثلج القمه
ياناراً شبّت في النجمه
ياخيلاً عادت من غاب العتمه
ياصوتاً دامت هجرته ألفاً وثلاثمائه
وأطلَّ أخيراً يحدونا
بالحريه
بالشعب الواحد من بغداد إلى الدار البيضاء
بالأرض لأبناء الفقراء(32)
ويقول محمد الفيتوري في خطاب إفريقي- زنجي:
قلها لاتجبن.. لاتجبن!
قلها في وجه البشرية
أنا زنجي.. وأبي زنجي الجدّ.. وأمي زنجية
أنا أسود...
أسود لكني حرّ أمتلك الحريه
أرضي إفريقيه
عاشت أرضي.. عاشت إفريقية(33)
نلحظ أن هذه المقبوسات إذ تحوّل الأيديولوجية إلى نص، تقع فيما وقع فيه نص البياتي السابق، حيث النثرية التامة، والمنطق العقلي، والتقريرية والخطابية، وغياب التعامل المجازي أو تداوله وابتذاله، وانعدام الإيحاء الجمالي.
فعلى الرغم من الاختلاف الأيديولوجي بين هذه النصوص، إلا أنها متفقة فيما بينها، أسلوبياً، وهو ما يؤكد أن الوعي السياسي يفرض أسلوباً موحداً، على النص، وإن اختلفت منطلقات ذلك الوعي. إذ إن للإيديولوجية منطقاً محدداً، في نهاية المطاف.
ونودّ الإشارة، في هذا المجال، إلى أن حجازي قد صاغ، في الأشطر الثلاثة الأخيرة من المقبوس، الشعار السياسي الذي تبنته الأحزاب القومية العربية، والذي يتكون من مفاهيم الحرية والوحدة والاشتراكية. وبما أن حجازي كان ينتمي إلى حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، فقد رتب هذه المفاهيم بالشكل الذي ذكرناه، ولو كان ينتمي إلى حزب، يرتبها ترتيباً مختلفاً، لفعل حجازي ذلك، من دون أن يختلّ المعنى أو السياق، كأن يقول مثلاً:
بالشعب الواحد من بغداد إلى الدار البيضاء.
بالحرية.
بالأرض لأبناء الفقراء.
وتكون بذلك مرتبة بحسب شعار الوحدة والحرية والاشتراكية. غير أن الإخلاص للحزب هو الذي دفعه إلى ذلك الترتيب، لا الضرورة الفنية أو الجمالية.
أما النمط الذهني- الفكري، فيميل إلى طرح الموقف أو الفكر النظري للشاعر. بحيث يبدو النص عرضاً لآرائه وأفكاره، لاتعبيراً عن تجاربه الجمالية. ولهذا فإن النص يتطلب من المتلقي التفكير والمحاكمة، لا التفاعل الجمالي. ولا يختلف هذا النمط عن النمط الأول من حيث النثرية، غير أنه يختلف عنه، في ابتعاده عن الخطابية، وهو ما ينسجم والحوار الذهني- الفكري.
ولعلّ أدونيس، في صياغته لفلسفته في الفرد المنقذ، يكون مثلاً واضحاً على هذا النمط. إذ إن الكثير من مقاطع <<مهيار الدمشقي>> ليس سوى تحويل لما هو إيديولوجي إلى نص. ولكننا نتوقف ، هنا عند قصيدة  << أوراق في الريح>> التي تتألف من خمسة وسبعين مقطعاً أو محاولة لصياغة المفهوم الفكري. وذلك مثل:
* لكي تقول الحقيقة
غيّر خطاك، تهيّأ
لكي تصير حريقة (34)
* كل العالم فيَّ جديد
حين أريد (35)
* أعط للفأرة سوطاً
تتبخترْ كالطغاة
أو فهبْها قبَّعة
تتفجَّر زوبعة
وتُعِدْ شكل الحياة
رحم الفأرة مزحوم بذئب وبشاة (36)
* أطعم الأيام زندك
تكبر الأشياء بعدك (37)
إن هذه المقاطع مجرد أقوال فكرية، أرادها أدونيس أن تكون شعرية. إلا أنها لم تفارق مستواها الفكري. حيث قامت على السبب والنتيجة، أو على أسلوب المحاكمة المنطقية، فالاحتراق مرهون بقول الحقيقة، و جدة العالم مرهونة بإرادة الذات، وكبر الأشياء مرهون بعمق التجربة الحياتية. أما المقطع الذي يرى أن (رحم الفأرة مزحوم بذئب وبشاة)، فهو يصوغ قولاً مثالياً مكروراً، وهو أن النفس الإنسانية تتكون من الخير والشر. هذا بغض النظر عن التناقض الإيحائي في هذا المقطع.
إن النثري، في هذه المقاطع ، ينهض من أن أدونيس أراد أن يعبر عن موقفه الإيديولوجي- الفكري من بعض الجوانب الحياتية، بشكل فكري بحت، فكان أسلوب المحاكمة المنطقية هو السائد على مقاطع النص.
ويقول يوسف الخال:
عبيد نحن للماضي، عبيد نحن للآتي
عبيد نرضع الذلَّ
من المهد إلى اللحد، خطايانا؟
يد الأيام لم تصنع خطايانا
خطايانا صنعناها بأيدينا
لعلَّ الشمس لم تشرق لتُحيينا:
هنا يستنسر البغاث، تفنى القمحة الأولى
هنا ينعدم الشكُّ
يموت القول في الألسنة الحقّ
صليب الله لم يمحُ خطايانا
فهل تُمحى إذا ما سابق الريحَ جناحانا،
إذا ما انفضَّ ختم السرِّ أو دانت لنا الدنيا (38)
لقد أراد الخال أن يقول إن الإنسان هو سبب الخطيئة الأولى، بالمعنى المسيحي للخطيئة. ولأنه سببها، فقد أصبح عبداً لها، ولن يتخلص من عبوديته لخطيئته، إلا بالموت الفادي. فالمقولة الناجزة التي صاغها المقطع مقولة أيديولوجية-دينية. وعلى الرغم من أن الشعور الديني قد أنتج، عبر تاريخه، نصوصاً شعرية راقية، كالشعر الصوفي مثلاً، إلاأن ثمة فرقاً نوعياً بين تجسيد الشعور الديني وبين صياغة المقولة الدينية. وهذا الفرق يتوضح حين نقارن بين شعر المتصوفة وشعر الفقهاء. إنه الفرق بين من يجسد روحه وإحساسه ومشاعره، وبين من يصوغ مقولة دينية ذات أسس أيديولوجية محددة. وهو الفرق أيضاً بين من يعايش جمالياً، ومن يحاكم إيديولوجياً.
لقد توضح من خلال المقبوسات السابقة أن الإنحراف عن الجمالي في التجربة والوعي، لن ينتج سوى نصوص أيديولوجية هزيلة. والحقيقة أن ما يسهم في ذلك ، هو طبيعة المادة التي يستخدمها الشاعر، وهي اللغة. إذ إن ارتباط اللغة بالمعرفة والأيديولوجية يضاعف من صعوبة عمل الشاعر، هذا العمل الذي ينبغي أن يكون جمالياً بمادة مشاعة، لكل أشكال الوعي الاجتماعي. وهو مالا نجده في عمل الفنان التشكيلي والموسيقي مثلاً. حيث إنهما يتعاملان بمادة خاصة بهما تقريباً، أو على الأقل، لايتعاملان بمادة تحمل معاني ودلالات، قبل أن يشكّلاها جمالياً. ومن هنا، فإن الأيقونات الدينية والموسيقا الكنسية هي أعمال فنية بكل ما يعنيه المصطلح، بصرف النظر عن الذوق الجمالي الذي تمثله. أما شعر الفقهاء، والشعر التعليمي، فليسا شعراً البتة. إذ إن الانحراف عن الجمالي، في التجربة والوعي، ينعكس مباشرة في لغة النص الشعري. ويكون انحراف اللغة عما هو شعري مرتبطاً باتجاه الانحراف عن الجمالي، وهل هو سياسي أو فكري أو أخلاقي، فلكل انحراف لغته الخاصة به. ولعلنا في ذلك نفهم لماذا <<عامل الشكلانيون الروس الشعر على أنه استخدام أدبي جوهري للغة: فهو كلام منظم في بنيته الصوتية الكلية. والإيقاع Rhythm  هو عامله الأساسي الأكثر أهمية>> (39) حيث ميّزوا بينه وبين اللغة العملية من خلال نوعيته المتشكلة، كما نفهم أيضاً لماذا ذهب هيغل إلى أن الشعر هو أصعب أنواع الفنون(40)
وبصرف النظر عن تعريف االشكلانيين الروس للشعر، فإنه مما لاشك فيه، أن اللغة الشعرية مختلفة تماماً عن اللغة العملية أو المعرفية أو الأيديولوجية. وذلك بسبب طبيعتها الانفعالية والحسية من جهة، وتكوينها الفني من جهة أخرى، علاوة على كونها لغة مجازية تخييلية. من ذلك فإن الدفق الجمالي الذي تتميز به هذه اللغة ينهض أساساً من طبيعة التجربة الجمالية التي تصدر عنها. مما يعني أن افتقاد ذلك الدفق في النصوص الأيديولوجية أمر بدهي. إذ إن للأيديولوجية نسقاً مختلفاً عن النسق الجمالي.
إن الانحراف عن الجمالي. إذاً، ينعكس انحرافاً عن اللغة الشعرية بالضرورة. ولن ينقذ النص من النثرية كل الألعاب الفانتازية التي يمكن أن يقوم بها الشاعر تمويهاً لذلك الانحراف، كأن يوهم بالغموض أو الإبهام. وذلك كقول أدونيس الفكري الذي يصوغ مقولة، ولايجسد إحساساً او موقفاً جمالياً:
ثدي النملة يفرز حليبه ويغسل الاسكندر
الفرس جهات أربع ورغيف واحد
والطريق كالبيضة لابداية له(41)
ونود الإشارة أخيراً إلى أن تحويل الأيديولوجية إلى نص، الذي قلما نجا منه شاعر، غالباً مايمكن تقويمه بالتقدمية أو الرجعية، هذا التقويم الذي نرفض أن نصدره على النص الشعري الصادر عن الجمالي في التجربة والوعي. والسبب في ذلك أن النصوص الأيديولوجية هي نفسها التي تدعونا إلى هذا، بسب أنها تصدر عنه. بمعنى أنه إذا كان من الخطأ تقويم النص الشعري سياسياً، فمن الصواب تقويم النص الأيديولوجي على هذا النحو. لأنه يصدر أساساً من الموقف الأيديولوجي، على حين أن النص الشعري يصدر عما هو جمالي. ولهذا فإن وصفه بالتقدمية أو الرجعية يعني أننا نفرض موقفنا عليه. وهو ما لاينبغي أن يكون في التلقي الجمالي والتناول النقدي، على الرغم من أن للنص الشعري خطاباً أيديولوجياً ما.
qqq


الـهـوامـــش:


1- EASTHOPE, ANTONY, POETRY  AS  DISCOURSE. LONDON:1983.P.31.
2ـ تشيرنيشفسكي: علاقات الفن الجمالية بالواقع. تر: يوسف حلاق. وزارة الثقافة، دمشق، 1983. ص: 83.
3ـ راجع في ذلك: عدد من الفلاسفة السوفييت: الجمال في تفسيره الماركسي. تر: يوسف حلاق، مرا: أسماء صالح. وزارة الثقافة، دمشق. 1986. ص: 5ـ 39.
4 -  ADORNO , THEODOR, AESTHETIC  THEORY, LONDON: 1985. P. 249.
5 - IBID., P. 331.
6 - ,IBID P. 332.
7 -  EAGLETON, TERRY, CRITICISM AND IDEOLOGY.  LONDON: 1990. P. 186>
8 - .IBID, P. 64.
9 -  EASTHOPE, POETRY AS DISCOURSE. P. 35.
10ـ راجع في ذلك: باروت، محمد جمال: الحداثة الأولى. اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، الشارقة،ط:1 .1991. ص:83 ـ 107
11ـ الفيتوري، محمد: ديوانه، م:2. دار العودة، بيروت، 1979. ص: 130 ـ 131
12ـ أدونيس: الآثار الكاملة، م: 1. دار العودة، بيروت، 1971. ص: 368.
13 -  STEAD, C. K, TH NEW  POETIC, YEATS  TO ELIOT. LONDON: 1975. P. P. 36. 37.
14ـ الماغوط، محمد: الآثار الكاملة. دار العودة، بيروت، 1973ص: 188.
15ـ البياتي، عبد الوهاب: ديوانه، م:2. دار العودة، بيروت، 1972. ص: 250 ـ 251.
16ـ عمران، محمد: أنا الذي رأيت. وزارة الثقافة، دمشق، 1978. ص:107 ـ 108.
17ـ حاوي، خليل: ديوانه، دار العودة، بيروت، 1982. ص: 323.
18ـ نفسه، ص: 313.
19ـ دنقل: أمل: الأعمال الشعرية الكاملة. دار العودة، بيروت،ط:2. 1985. ص: 210 ـ 211.
20ـ حاوي: المصدر السابق، ص:195.
21ـ يوسف، سعدي: الأعمال الشعرية (1952ـ1977). دار الفارابي، بيروت،1979. ص:149.
22ـ درويش، محمود: ديوانه،م:2. دار العودة، بيروت،1980. ص:131ـ 132
23ـ خضور، فايز: ديوانه، م:1. دار الأدهم،ط:1. د/تا. ص:420.
24ـ السياب، بدر شاكر: ديوانه، م:1. دار العودة، بيروت،1971. ص:470
25ـ أبو عفش، نزيه: بين هلاكين. العربية للدراسات، دمشق. ط:1، 1982، ص:61 ـ 62.
26ـ حجازي، أحمد عبد المعطي: كائنات مملكة الليل. دار الآداب. بيروت. 1978. ص:27ـ 28.
27ـ نفسه، ص:28
28ـ نفسه، ص:29.
29ـ البياتي، عبد الوهاب: ديوانه، م:2. دار العودة. بيروت، 1972. ص:141ـ 142.
30ـ لقد أقام أبو ديب نظرته إلى الشعرية من خلال "الفجوة /مسافة التوتر". وذلك في كتابه: الشعرية. مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط: 1. 1987.
31ـ القاسم، سميح: ديوانه، دار العودة، بيروت، 1973. ص:291ـ292.
32ـ حجازي، احمد عبد المعطي: ديوانه، دار العودة، بيروت، 1973. ص:420ـ421
33ـ الفيتوري، محمد: ديوانه، م: 1. دار العودة، بيروت، ط:3. 1979. ص:80ـ81.
34ـ أدونيس: الآثار الكاملة، م:1. دار العودة، بيروت، 1971. ص:200.
35ـ نفسه، ص:201.
36ـ نفسه، ص:207.
37ـ نفسه، ص:217.
38ـ الخال، يوسف: الأعمال الشعرية الكاملة. دار العودة. بيروت، ط:2. 1979. ص: 224ـ 225.
39 -SELDEN, RAMAN, AREADER `S  GUIDE TO  CONTEMPORARY  LITERARY  THEORY, LONDON: 1988. P. 9.  
40ـ هيجل: فن الشعر، جـ: 1. تر: جورج طرابيشي. دار الطليعة، بيروت، ط:1، 1981. ص: 56ـ 57.
41ـ أدونيس: الآثار الكاملة، م: 2. دار العودة، بيروت، 1971. ص: 177.








* - لقد فضّلنا استخدام مفردة التجادل على الجدل DIALECTIC. وهما بمعنى واحد اصطلاحياً. إلا أن مفردة التجادل تنطوي لغوياً على مانقصده هنا. وهو معنى المشاركة، وتبادل التأثير، والتداخل. وذلك لوزنها الصرفي "التفاعل" الذي يحيل على ذلك.
* ـ لن نتحدث في هذه الفقرة، إلا عن الإيقاع الناجم من الوزن، وذلك لإمكانية الكلام عليه بعامة. أما تلك الإيقاعات الناجمة من التناغم اللغوي والصوري والانفعالي، فهي إيقاعات نصية حصراً، ولايمكن التعميم فيها.
*-  قد يقال، هنا، إن موضوعية الشعر الغنائي العربي، ولاسيما الوصفي منه، أوضح من أن يشار إليها. ولاشك في أن هذا صحيح. غير أن هذه الموضوعية تتأتى عبر الذات الفردية، ولاتتأتى بوصفها معادلاً موضوعياً للموقف الذاتي.
* ـ نعني بالرمز الاصطناعي هو كل مااصطنعه الإنسان من أشياء وأدوات، عبر تاريخه، من مثل المنزل والقطار والسفينة والراية...إلخ ولاشك في أن هذه لاتكون رموزاً إلا إذا عاملها الشاعر كذلك.
1- سورة الأعراف: 78.
* ـ لعله من الضروري أن نشير إلى أن استخدامنا لمصطلح النموذج الفني لايعني أننا نقول بما كانت الواقعية الاشتراكية تقوله بضرورة أن تكون النماذج تمثيلاً للطبقات أو الشرائح الاجتماعية. بل إننا نرى أن النموذج  لايمكنه ذلك إطلاقاً. وإنما نرى أن النموذج هو تمثيل موضوعي لموقف المبدع من بعض الظواهر النفسية أو الروحية أو الاجتماعية. فهو بهذا المعنى بلورة جمالية موضوعية للموقف الذاتي.
*- تنبغي الإشارة إلى أننا نعني بالأيديولوجية، هنا، منظومة الأفكار التي تنظّم مختلف العلاقات الاجتماعية والتي تحدّد طبيعة السلوك والتوجّه الفرديين والاجتماعيين. وبهذا المعنى فإن الفن والعلم لاينطويان تحت الأيديولوجية. غير أن كلاً منهما يمكن استخدامه أيديولوجياً.
نقول ذلك لأن ثمة من يخصّص الأيديولوجية بما هو سياسي، وثمة من يوسّعها لتشمل كل أشكال الوعي الاجتماعي.

ليست هناك تعليقات: