الاتجاه البنيوي التكويني:
تنطلق المناهج الأمبريقية والجدلية من نظرية «فيبر»، وهو عالم اجتماع مشهور، طلب في فلسفته أن يُقرن التحليل بعلميته وعمليته، استناداً إلى النظرية الجدلية التي أطلقها «هيغل»، وطورّها «ماركس» فيما بعد. وسنذكر نموذجاً من ممثلي هذا المنهج، وأقصد تيودور أدورنو ممثلاً للتيار الأمبيريقي، الذي انتقل من الممثلين الألمان مستفيداً من الفلسفة الجدلية، وقد ارتهن شغله بالأمور
1- مجانبة المباشرة الأيديولوجية، وتأخذ مجالات التبشير العقائدي، فالواقعية الاشتراكية تقوم على التبشير العقائدي للماركسية مثالياً [وبعض مكوناتها من نظرية الانعكاس إلى التفاؤلية إلى جماليات خاضعة للتسويق، وهذا الأمر يحولّ النص إلى مادة تسويقية للفكر]. ونشير الآن إلى أمثلة أخرى لهذه المناهج الجدلية في علم اجتماع الأدب التي انطلقت من هيغل:
أ- الكلية والنمطية عند (جورج لوكاتش): إذا أخذنا «الرواية التاريخية» (1926)، وسبقها بقليل كتابه «التاريخ والوعي الطبقي»، وشرح فيه شيئاً من تناوله للرواية التاريخية.
ب- وثمة تنميط للعلاقات الاجتماعية عند لوكاتش، ولكنه يخضع للمواضعات الاجتماعية، وهذه المواضعات رهينة لعمليات إنتاج المجتمع [لكن التنميط يتعارض مع تعالقه على القوانين الطبيعية]. والمرء مسؤول عن عقده بالنسبة لعلم الاجتماع [النقد الاجتماعي لا يخضع لتأويل الكلام].
2- وانتقل النقد الاجتماعي إلى المنهج البنيوي التكويني، الذي أسسه «لوسيان غولدمان»، ولا يقوم على الكلية والنمطية كما عند لوكاتش، وإنما يقوم على الكلية ورؤية العالم، وتستند هذه النظرية إلى:
أ- المذهب الفينومينولوجي (الظاهراتي): بمعنى أن الظواهر الفردية لا يمكن فهمها بشكلٍ ملموس إلا في إطار تجانس كلي، ويستدعي ذلك عمليات ظهور المجموع كله في العناصر الكلية.
ب- الاستناد إلى الأفكار في تكون رؤية العالم، واستند «غولدمان» في كتابه «الإله الخفي» إلى تحولات فكرة الأسطرة، والأسطرة هي استنباط أفكار من تشكلات اجتماعية بدائية أو بدئية، وهذه النظرية هي التي شكلّت نظرية الأساطير والنماذج الأولية عند «نورثروب فراي».
جـ- قابليات تعدد المعاني باستخدام المعادلات المفهومية لمعطيات وعي النص للعالم، لأن العمل الفني أو الأدبي ليس نتاج مؤلف بوصفه فرداً، لكنه يكشف الوعي الجماعي والمصالح والقيم الاجتماعية لجماعة أو طبقة، والأعمال العظيمة وحدها هي التي تعّبر باتساقها عن رؤية للعالم ووعي جماعة أو فئة أو طبقة ما.
د- يغلّب الفهم الأمبريقي الجدل على رؤية العالم، لأنك لا تنظر إلى رؤية العالم على أنها تتبع عالم التجارب اليومية التي تتصف بالسلالم القيمية المتصلة المستقرة إلى حدّ ما، بل إن العمل العظيم هو وحده الذي يحتوي على بنية الوعي الاجتماعي الجماعي التي تظهر رؤية للعالم كلية دالة من القيم والمعايير. إننا بصدد وعي الممكن، لأننا نجده باطناً في العمل حيث يحلله، ويعيد بناءه عالم اجتماع الأدب في مفهوم رؤية العالم(1).
وعضد الاتجاه البنيوي التكويني الأسس الجديدة للنقد الاجتماعي من خلال تثمير عمليات انتماء القارئ الاجتماعية إلى تحديد آفاق القراءة وانفتاحها على فضاءات التأويل، فكل قارئ هو «أنا» يأتي من علاقات القربى ومن العلاقات الرمزية التي تحدده أيضاً، وتفتح لـه فضاءات البحث والتأويل، وتغوص القراءة النقدية الاجتماعية في تاريخيانية اجتماعية محددة، وما تهتم به القراءة النقدية الاجتماعية هو تواصل الأشكال الأدبية مع التاريخ الذي يظهر في تاريخية الخطاب الأدبي واجتماعيته شعرياً وتخييلياً، ويوافق الاتجاه البنيوي التكويني بين عملين متناقضين ظاهرياً، بتثبيت تاريخية النصوص واجتماعيتها لئلا تبخس قيمة هذه التاريخية والاجتماعية، ويفضي ذلك إلى الوعي التاريخي في البنية النصية، ويكشف عن المعنى وما وراءه في هذه البنية. وتكمن خلاصة الاتجاه البنيوي التكويني في إضاءة نظرية العلاقة بين الأدب والمجتمع بتقدير البنية ومحتواها(2).
وأوجز الاتجاه البنيوي التكويني رؤية العالم بوصفها تكويناً معرفياً يتجاوز إبداع الكاتب أو منظوره الخاص إلى رؤى عميقة للواقع والتاريخ داخل البنية، و«هذه البنية، بتعبير آخر، هي رؤية العالم وقد تماثلت في العمل الأدبي، أي تحولت إلى نسق من الرؤى والأفكار المترابطة»(3). وفهم الاتجاه البنيوي التكويني على أنه «جزء من علم اجتماع المعرفة، لأنه يحدد بين الذات والموضوع، وبين الفكر والعالم، وبين الفئات الاجتماعية واندماجها داخل نسق أوسع هو الطبقة الاجتماعية. ويتحدث عن تكوين الفئات وأنواعها وتأثيرها في شعور الفرد واستجابته للشعور العام السائد»(4).
ولا نغفل أن الاتجاه البنيوي التكويني ترسّخ بعد ذلك بجهود لويس التوسير وبيير ماشيري في إضاءة الفكر الأدبي من الأدلجة إلى وعي النص المؤدلج وفق بنيته التكوينية الحاملة للمحتوى الاجتماعي في تراكب الخطاب والتخييل مع المجتمع والتاريخ لدى كشف الدلالات والتشابهات مع البنى الفكرية والاجتماعية لعصره.
وتطور الاتجاه البنيوي التكويني كثيراً حين تعالق مع النقد الثقافي، ليتشكل بموروثه وبمراعاة عناصر التمثيل الثقافي اتجاهاً جديداً نمّاه في الوقت نفسه الاتجاه البنيوي التكويني وبدت ممارسة هذا الاتجاه في كتابات محمد عزام النقدية، على أن الالتزام بهذا الاتجاه قليل الانتشار في النقد الروائي.
2- النقد البنيوي التكويني عند محمد عزام:
تتبدى بعض خصائص هذا المنهج في أعمال محمد عزام «وعي العالم الروائي ـ دراسات في الرواية المغربية» (1990) و«فضاء النص الروائيـ مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان» (1996) و«الفهلوي: بطل العصر في الرواية الحديثة» (1993) و«شعرية الخطاب السردي» (2005).
2-1- وعي العالم الروائي:
يندرج عنوان كتابه الأول في نقد الرواية المغربية «وعي العالم الروائي»(5) في المنهج البنيوي التكويني، بينما وجد عزام أن البحث عن منهج قضية إشكالية إزاء كثرة المناهج، فآثر أن يجمع بين منهجين، هما: المنهج الموضوعي الذي يصنف الرواية إلى رواية تاريخية ووطنية واجتماعية.. الخ، والمنهج الفنّي الذي يصّنف الرواية في رواية تقليدية ورومانسية ورمزية وواقعية.. الخ.
ويلاحظ أن معالجته لأشكال الوعي لا تفترق عن المنهج البنيوي التكويني بأنواعها التي وزع إليها كتابه:
1- الوعي الذاتي: وفيه تتعدد نماذج الوعي في جدلية الذات والواقع الاجتماعي والوطني والحضاري.
2- الوعي المستعاد: وهو وعي ماضوي، يُسترجع تاريخياً، في ظروف الحماية، كنوع من المقاومة، وفي عهد الاستقلال، كنوع من التذكير بالبطولات.
3- الوعي بالواقع: وفيه تتعدد أنماط الوعي، تبعاً لتعدد صور الرواية الاجتماعية. وتتراوح نماذج هذا الوعي بين الوعي الاجتماعي الذي يلتفت إلى بناء الواقع والوعي المنهار الذي يرضخ لهذا الواقع أو يهرب من مواجهته.
4- الوعي الممكن: وهو وعي مستقبلي ينطلق أساساً من الحاضر، ويتجاوزه إلى استشراف عالم مستقبلي أفضل. وكاتب هذا الوعي يمتلك مشروعاً حضارياً بديلاً، ولكنه غير ناجز، لانه لا يريد أن يقع في التبعية التي تقتلعه من جذوره.
وبسّط عزام الاستخدام المنهجي في أنه معني بتبيان نماذج الوعي والاتجاهات الفنية في الرواية المغربية منذ نشأتها وحتى مطلع الثمانينيات في القرن العشرين. وأضاء في مدخل كتابه نشوء الرواية المغربية وتطورها، ولا سيما موقعها من الرواية العربية والعوامل المؤثرة في نشوئها (الأدب المشرقي، الثقافة الغربية، الواقع المغربي)، وأبان أن ظهور النتاج الروائي المغربي تأخر إلى مطلع الخمسينيات، وأول نتاج روائي مغربي هو «في الطفولة» (1947) لعبد المجيد بن جلون، غير أن هناك روايات صادرة قبل ذلك، واتصفت سمات رواية البدايات بتقليدية الشكل والمضمون، ووجد في هذه المرحلة روايات «سبعة أبواب» لعبد الكريم غلاب، و«أمطار الرحمة» لعبد الرحمن المريني، و«بوتقة الحياة» للبكري أحمد السباعي، و«غداً تتبدل الأرض» لفاطمة الراوي (وهذه الروايات صدرت في الستينيات)، وأطلق حكماً يجافي طبيعة النقد البنيوي التكويني، على أن «معظم كتّاب هذه الروايات من البورجوازية، أو من الشرائح الدنيا التي لم تمتلك الوعي النقدي أو الرؤيا الشاملة لحركة التاريخ والمجتمع» (ص11)، ومثل هذا الحكم لا يفترق عن الأدلجة التي تضفى على الرواية.
ونسب عزام رواية مرحلة التأسيس إلى الستينيات، وعلل ذلك بانشغال الأدباء بالكفاح الوطني، وتقديم الأنواع الأدبية الأخرى كالقصة والمقالة والقصيدة على الرواية، لتعبيرها السريع عن المشاعر الآنية، ولاستيعابها الشامل للأحداث المتجددة. في حين تحتاج الرواية إلى وقت طويل للتخمر الفكري والفني. كما أن ندرة المجالات الثقافية التي تشجع الناشئين من الأدباء، وتحتضن أعمالهم، قد أسهمت في اقتصار الأدب على «النخبة» في مجتمع تطغى فيه الأمية، وتنصرف فيه البورجوازية إلى تننمية ثرواتها المادية فحسب.
وعاود إطلاق الأحكام دون التحليل، فعلى الرغم من أن الرواية المغربية الجديدة، برأيه، هي رواية الستينيات والسبعينيات، لكن رواية الستينيات لم تثمر دوماً مردوداً إيجابياً وجديداً، ولم تسهم، كما ينبغي، في خلق الوعي الاجتماعي وتعميقه، لأسباب عديدة، من أهمها أن الرواية نفسها أدب بورجوازي، من تراث الإقطاع الذي كان يمتلك الوقت والفراغ، بينما لا يجد الإنسان المعاصر وقتاً للراحة، فكيف يمكنه أن يتثقف، ويمارس هواياته؟ ومعظم كتّاب الرواية المغربية ينتمون إلى البورجوازية، في شريحتيها: الدنيا والعليا» (ص13)، ويتواتر هذا الرأي مع أطروحات لوكاتش في كتابه «الرواية ملحمة بورجوازية» المطبقة على الرواية الأوروبية، بينما تحتفظ الرواية العربية بخصوصياتها التاريخية والمعرفية.
وزاد عزام من مثل هذه الأحكام المستهجنة آخذاً برأي إدريس الناقوري في كتابه «المصطلح المشترك» (1977) في أن «قصور الرؤية الفنية عند بعض روائيي الستينيات، وعجزهم عن تمثل واستقصاء المعطيات الاجتماعية، لبلورتها فنياً، وصياغتها بشمولية ورجاحة فكر، والضحالة الفكرية التي تسود بعض روايات الستينيات التي تتكئ على التاريخ الوطني لتشوهه، أو تنقله نقلاً (فوتوغرافياً) يبلغ درجة الابتذال والترديد (المخاض، دفنّا الماضي)، أو تفتعل المواقف، وتغتال الفن (بوتقة الحياة، غداً تتبدل الأرض)، أو تعتمد على الذاتية، وتجتر الأحزان الداخلية والآلام الفردية بطريقة رومانسية هشة، وفي أحسن الأحوال مستعارة (الطيبون، المرأة والوردة، الغربة)» (ص14).
وهذه آراء ظالمة بحقّ الروائيين في المغرب، لأنها أسيرة الأدلجة، كما هو واضح، لأن غالبية الروايات المدروسة تندرج في الرواية العربية المتميزة مثل روايات عبد الكريم غلاب ومبارك ربيع ومحمد زفزاف وعبد الله العروي، وقد قلل عزام من قيمتها الفنية الطيبة.
ووصف رواية التجديد والتجريب بأحكام قاطعة لا تتفق والمنهج البنيوي ـ التكويني ـ أو ما سمّاه المنهج الموضوعي والمنهج الفني، فذكر أن أسلوب السرد الواقعي هو الذي يسود الرواية التقليدية في اتجاهاتها الذاتية، والتاريخية، والوطنية، والاجتماعية. وأنه يتراوح بين الوصف الشديد الدقة للجزئيات، وبين الوصف العام الذي يهتم بملاحقة التحولات الأساسية الهامة، كما هي الحال عند غلاّب مثلاً، في حين يميل السرد الواقعي عند مبارك ربيع إلى اليسر والتواضع والحياد، بينما تجنح واقعية زفزاف إلى الحكائية، وأحياناً الرمزية، في الوقت الذي ذهب فيه التجريب والتجديد في التقنية الروائية إلى اعتماد «المونولوج»، و«الفلاش باك»، والتقطيع السينمائي لدى مبارك ربيع «رفقة السلاح والقمر»، ومحمد زفزاف، وعبدالله العروي الذي يحاول ألا يقع في أسر العادي والنموذجي، من أجل خلق كتابة خاصة به، شفافة، وعميقة، وموحية، لقد حاول عزام أن يعلل أحكامه النقدية القاسية على هؤلاء الروائيين، دون تسويغ فني، وثمة خضوع لنقل مصطلحات غربية بملفوظيتها، التي لا تتفق مع التشكلات الروائية شأن تطبيقه للخطاب الذاتي أو الاسترجاع أو التوليف.
وأضاف عزام حكماً مسبقاً آخر على السمات الفكرية والفنية للرواية المغربية مفاده «أن البطل فيها غالباً ما يكون الكاتب نفسه. ولذلك فهي كثيراً ما تكون سيرة ذاتية أكثر منها رواية فنية، لأن الرواية تتميز بالموضوعية، والشمولية، والإيقاع المتواتر، بينما تضيق نظرة السيرة الذاتية، وتتحدد في بؤرة الوعي الذاتي الذي غالباً ما يكون قاصراً بسبب طغيان النرجسية»(ص17). ويستدعي ذلك العناية بالسرد السيري إزاء الوثوقية والمصداقية والتشكل السيري الذي يميّز بين شكلي السيرة والرواية ومدى بروز التماهي السيري فيهما.
وتداخلت أنواع الوعي عند عزام وتعددت بحسب قضايا المجتمع ومشكلاته، وتراوحت نماذجها بين قطبي الذات والواقع، وتلاحمت مع المشكلات الاجتماعية والذاتية والوطنية والحضارية، وشرع بدراسة الوعي الذاتي منها الذي ينسرب في فنّ السيرة الذاتية.
ومثل هذا الانسراب في السرد السيري يثّمن المعطيات الفردية والشعورية والنفسية أكثر من عناصر الوعي الاجتماعي والتاريخي، وقد خاض ملياً في تفاصيل الوعي الذاتي المنبثق من التجارب الخاصة إلى حدّ كبير، واستند في الوقت نفسه إلى منظورات جدلية مع الذات العامة قليلاً، لأنها لا تصل إلى أطر النماذج الاجتماعية إلا نادراً. وبُنيت الاتجاهات الواقعية على النمذجة بالدرجة الأولى، وانطلق الاتجاه الاجتماعي من الواقعية الاشتراكية، ثم صار إلى الاتجاه البنيوي التكويني بتوظيف الماركسية ورؤاها الطبقية والاجتماعية في إيضاح محتوى البنية، غير أن عزام لم يبلغ هذه الأطر النظرية في معالجته النقدية، معتمداً على التداخل بين هذه المدارات النقدية.
ووجد عزام أن معظم روايات البدايات هي روايات سير ذاتية، بشكل أو بآخر، حيث غالباً ما ينهلّ كاتبها من تجربته، ومحاولاً الاستفادة من ماضيه، كما هو، أو محوّراً بصياغة فنية تختلف من كاتب لآخر. ورأى «اللهاث الجريح» لمحمد الصباغ أنموذجاً للوعي الذاتي الرومانسي، و«سبعة أبواب» لغلاب أنموذجاً وطنياً، و«رواد المجهول» لأحمد عبد السلام البقالي أنموذجاً اجتماعياً، وأن «الخبز الحافي» لمحمد شكري أجرأ رواية في السيرة الذاتية كتبها مغربي وعربي.
أما النموذج الحضاري عن التواصل بين الشرق والغرب في مطلع عصر النهضة واستمراره، فيتبدى في روايات «الغربة» لعبد الله العروي، و«جيل الظمأ» لمحمد عزيز الحبابي و«في الطفولة» لعبد المجيد بن جلون. وتمثل الوعي المستعاد في الروايتين التاريخية والوطنية، والروايتان التاريخية والوطنية تمثلان حديثين متقاربين: العودة إلى الأصول، وحديث المقاومة.
وتداخل الاتجاه البنيوي التكويني مع خصوصيات الرواية التاريخية أو رواية التأرخة لتعضيد الوعي المستعاد، وهذا اجتهاد خاص من عزام، ثم استغرق في توصيف الروايات، وشرحها كثيراً للتعريف بموضوعاتها والقضايا الوطنية والقومية التي تعالجها. وأضاف إلى التوصيف والشرح إطلاق بعض الأحكام النقدية والفكرية التي لا تندرج مع عناصر هذا الاتجاه النقدي ومع طبيعته، وجعل هذا التوصيف والشرح سبيلاً للوعي التاريخي. ومثلّت الوعي التاريخي رواية «الملكة خناثة» لآمنة اللوة، و«المعركة الكبرى» لمحمد أحمد اشماعو، وأول رواية وطنية بالمعنى الحقيقي للرواية هي «دفنّا الماضي» لعبد الكريم غلاّب التي رصد فيها الكفاح البطولي لمدينته فاس ضد الاستعمار الفرنسي منذ أول صدام معه، وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتظل هذه الرواية شاهداً على مرحلة تاريخية دُفنت. والرواية الوطنية الثانية هي «المعلم علي» لغلاّب أيضاً، وتدور أحداثها في عهد الحماية الاستعمارية، وتسجل الكفاح النقابي والوطني في مرحلة تاريخية محددة. وهناك رواية «المخاض» للسباعي، وهي صورة أخرى من صور الوطنية، وتدور أحداثها في الدار البيضاء في أوائل الخمسينيات، وبناؤها تقليدي.
وصوّرت رواية «بامو» لأحمد زياد جانباً من الكفاح الوطني في المغرب إبان العهد الاستعماري، وبالتحديد في عام 1944، في قرية وويزغت التابعة لناحية بني ملال.
وأولع عزام بتسميات الوعي التي يتيحها الاتجاه البنيوي التكويني مثل الوعي الواقع أو الوعي الاجتماعي، وهي أحكام فكرية من خارج الروايات أو مقومات هذا الاتجاه، فهي أشكال وعي تندرج في اتجاهات نقدية أخرى، ولم يأخذ عزام بمكونات اتجاهه النقدي ماضياً في الشرح والتفسير لهذا الحراك الاجتماعي وصراعاته.
وجاءت رواية «المغتربون» لمحمد الإحسايني أنموذجاً للأعمال الروائية التي ترصد الوعي الاجتماعي في الريف، واعتمدت رواية «الطيبون» لمبارك ربيع «على أربع حركات: تعرّف قاسم ماضي أسرته بوساطة عمه، ولقائه بهنية، ونماذج زملائه في الجامعة، وتجربته الصوفية» (ص83).
وهذا هو شأن الولع بالشرح والتفسير الذي لا يخضع لمنهجية الاتجاه النقدي، فقد فرّد القول في أشكال الوعي المتاحة من أحكام داخلة على المحتوى، بينما تتحدد مقومات الاتجاه من بنية الرواية وإفصاحها عن مكنونات المحتوى ودلالاته، فسمى الموضوع القومي وعياً قومياً على الرغم من اندراجه في شكل الوعي الذاتي العام.
وانفردت رواية «رفقة السلاح والقمر» لربيع بالوعي القومي «باعتبارها استطاعت أن تتخطى الحدود الوطنية إلى الآفاق القومية في تصوير وحدة العرب وقتالهم في حرب أكتوبر عام 1973. وإذا علمنا شدة التركيز على القضايا «الوطنية» وانشغال المواطنين بالجري اليومي وراء الخبز والعمل، أدركنا أهمية هذه الرواية في كسر هذا الطوق وتفردها في النتاج الروائي المغربي المعاصر» (ص95).
وأخضع التحليل الوصفي لمصطلحات الاتجاه البنيوي التكويني في توصيفه للتيار السيري، بينما لا يكتفي السرد السيري بتجربة الفرد، إذ سرعان ما تتماهى مع تجربة الجماعة حسب المستوى الإبداعي الناجز، فقد نبع الحديث الروائي للتيار الأوتوبيوغرافي (السيري) من تجربة الكاتب ونوعية رؤيته للعالم، ومنها رواية «المرأة والوردة» لمحمد زفزاف التي يتداخل فيها السرد السيري والروائي تعبيراً عن الوعي الشقي.
وشكلّت روايته «قبور في الماء» قطيعة حقيقية مع طابع السيرة الذاتية، ومع أحلام المثقفين البورجوازيين الصغار.
وأحسن عزام في تطبيق مستويات الوعي ضمن توصيفه وتحليله للمحتوى، أما التحليل السردي أو الروائي فهو شروح للموضوعات، وقلما نقع على عناصر الخطاب الروائي من حدود الواقع إلى فضاء التخييل.
وأشار عزام إلى الوعي المنهار، وهو وعي خاطئ، يحبس نفسه داخل قيم انتهازية أو بورجوازية، ومثلّه أبطال محمد عزيز الحبابي في روايتيه «جيل الظمأ» و«أكسير الحياة» والميلودي شغموم في رواياته «الضلع و الجزيرة» و«جزيرة العين» و«ضلع في حالة الإمكان». وصدرت روايات الحبابي مثالاً على ظاهرة «الوعي المنهار» في الأدب المغربي المعاصر، لأنها تمثل الحيرة والضياع والوقوف على مفترق الطرق بين «الفهلوة» والالتزام.
واستفاد عزام من نظرية الاتجاه البنيوي التكويني في تأمل المصائر البشرية شأن الوعي الممكن الذي يضيء شروط الواقع واشتراطات الوجود، ومثل هذا الوعي لا ينقطع عن الرؤى وما تنفتح عليه من دلالات ورموز ومعان كامنة في الأنساق الاجتماعية.
واستند في فهم الوعي الممكن إلى نظرية غولدمان ومنهجيته البنيوية التكوينية. وكان نتاج عبدالله العروي خير مثال على إيجابية الوعي الإشكالي وسلبياته، وقرأ روايتيته الإشكاليتين «الغربة» و«اليتيم» قراءة باطنية، رمزية، دلالية، غير مباشرة، لتخرج منهما بتأكيد هذا الوعي في صلابته وصموده وتمزقه بين انتمائين متناقضين: أحدهما يشده إلى الوطن حيث التخلف والجذور والأصالة، والثاني يشدّه إلى الغرب حيث التقدم والمعاصرة.
وعاود عزام دمج الاتجاه البنيوي التكويني بالأدلجة، ولاحظنا أن نقده ينسرب في التنبؤ والتقديرات العقائدية كأن يتأمل أو يتوقع محتوى رواية ثالثة منتظرة، أو يحصر الوعي المواجه بالأدلجة وحدها، بينما تبتعد الرواية عن الخطاب المباشر، وتغوص عميقاً في انبثاق المحتوى من البنية. وعدّ الرواية أمضى سلاح إيديولوجي يمكن أن يرتفع في وجه تشويه الحقائق. واعتبر رواية «زمن بين الولادة والحلم» لأحمد المديني الرواية التجريبية الأولى في الأدب المغربي المعاصر على مستويي الشكل والمضمون.
ثم فصل عزام بين المحتوى والفنية عندما درس الاتجاهات الفنية في الروايات المغربية بإيجاز فاصلاً بين المضمون والشكل. وربط التحليل والوصف بالمذهبيات متجاوزاً الاتجاه البنيوي التكويني المتنامي العناصر والمقومات، فقد حصر ميدان الكلاسية (التقليدية) بالمسرح، بينما مجالها هو الأدب بعامة، وأن أهم سمات المذهب الكلاسي هي محاكاة القديم، والمحافظة على الشخصيات العظيمة، وعلى (ارستقراطية) اللغة، والعناية بالشكل أكثر من العناية بالمضمون.
وعاد عزام إلى النقد التقليدي في تحديد طبيعة السرد الروائي وتقاناته العديدة. ونلاحظ أنه أخذ كثيراً من الموروث النقدي الماركسي الواقعي الاشتراكي، وتطوراته عن بعض النقاد، دون تسميتهم، مثل روجيه غارودي في كتابه «واقعية بلا ضفاف».
«هكذا كانت الواقعية مناخاً عاماً تأثر به كل أديب، بطريقته الخاصة، أكثر منها مذهباً يغلّ المنتمين إليه بقيود ذهبية. ومن هنا تعددت التيارات الواقعية: الواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية، والواقعية التجريبية، والواقعية الرمزية، والواقعية الحكائية، حتى ليمكن القول إن الواقعية بلا ضفاف» (ص229).
واستغرق عزام في وصف التجريب السردي مستخدماً معطيات اتجاهات نقدية حديثة كالنقد النفسي على سبيل المثال، ولعلنا لا نعثر على تحليلات سردية، ولا سيما ما وراء السرد.
ظهر في اشتغال عزام على الاتجاه البنيوي التكويني حرصه على تسويغ خيار الموضوعات وارتباطها بمجتمعها وتاريخها، وعلى تحويل الخطاب النقدي إلى مؤشرات سياسية واجتماعية وإيديولوجية، واهتم كثيراً بالتحليل الوصفي للبنية والمحتوى في المنهج التقليدي الذي يرتقي أحياناً إلى استنطاق البنية لأشكال الوعي. وثمة استغراق في مفردات وضعية لا تندرج في اتجاه محدد كحديثه عن التجريب الروائي وذكر التفكيك وسواه، بينما الاتجاه البنيوي التكويني يمعن النظر في التعبيرات الفكرية وتكوينها لرؤية العالم بعامة والصراع السياسي والاجتماعي بخاصة.
2-2- الفهلوي بطل العصر في الرواية الحديثة،
وضع محمد عزام كتابه الثاني في النقد الروائي عن «الفهلوي بطل العصر في الرواية الحديثة»(6)، وعني فيه بالموضوع، وهو صورة الفهلوي (النعت الملطف للانتهازي)، ورؤاه الاجتماعية من خلال دراسة التركيب الطبقي للمجتمعات العربية لإلقاء الضوء على المفاهيم والعقليات السائدة، وكشف الظواهر السلبية، على أن من أخطرها ظاهرة الانتهازية التي تهدد الفرد العبثي بتدمير نواة شخصيته، وإطلاقه كالوباء في هذا العالم، ينفثّ سمومه، ويعيث فساداً. وأخذ بالجانب التكويني أو الاجتماعي من المنهج البنيوي التكويني، ولا سيما رؤية الفنان الروائي للعالم والتي هي مجردة في وعيه، قبل أن تصبح شكلاً في البنية الداخلية لعمله الأدبي. وهناك مستويان شكليان يتخللان الرواية الحديثة: الواقع المتدهور، والرؤيا المستقبلية.
ويكاد بحثه لا يخرج عن الرؤى الاجتماعية ووعيها في الرواية، فعرض عزام لظروف نشأة ظاهرة الانتهازية في الأدب، ورأى أن تكوين الشخصية الفهلوية وسماتها متصل بصعود البرجوازية الصغيرة ونشوء المذهب الرومانسي الذي أفرزته، وتبنّته هذه البرجوازية الصاعدة، وأن الرواية الحضارية التي كتبها رواد التماس الحضاري الأول، في مطلع عصر النهضة، أمثال شكيب الجابري، وعبد السلام العجيلي، وتوفيق الحكيم، ويحيى حقي، وسهيل أدريس غيرهم، إنما هي مجرد استمناء ذاتي سجّل فيها «المثقفون» العائدون من أوروبا مغامراتهم الجنسية التي تظهر «فهلويتهم»، ووصوليتهم، وسطحية تأثرهم بالحضارة الأوروبية.
أما المرحلة الحاضرة التي أنجبت البطل المنتمي الذي لا يعجبه فساد الواقع، فيعمل من أجل تغييره. فإنها أنجبت ـ أيضاً ـ البطل السياسي الذي يضحي بكل شيء من أجل معبوده الجديد: المال والمنصب واللذة، مساهماً في ذلك في تدهور الواقع وانحطاطه، وأشار إلى الدراسات العديدة التي تحدثت عن البطل المنتمي، والثوري، وذكر أشهرها: المنتمي في أدب نجيب محفوظ لغالي شكري، والبطل الثوري لأحمد عطية). وأكد أنه لم تكتب حتى اليوم دراسة واحدة عن «البطل السلبي» المضاد، في الرواية العربية، الذي يسهم في تدهور الواقع وإفساده.
وألمح إلى خصائص النمط الاجتماعي الجديدة وما ينجم عنه من ظواهر سلبية، حتى أصبحت الفهلوة أخطر ظاهرة في مجتمعنا الحديث. وقد تصدى الأدباء لرصد هذه الظاهرة السلبية في الحياة الحديثة، فكتب عنها بلزاك، وزولا، وستندال، وفلوبير من أدباء أوروبا في القرن التاسع عشر، ووصفوا «الصعود» البرجوازي، وكتب روائيون عرب عن صعود طبقات وانهيار أخرى، فصوّر نجيب محفوظ، وعبد العزيز هلال، وعبد النبي حجازي، وهاني الراهب، ومحمد عزيز الحبابي ومبارك ربيع، والميلودي شغموم، وغيرهم من أدباء الوطن العربي هذا البطل السلبي الجديد الذي يقتحم المجتمع مسلحاً بضميره الفاسد وتطلعاته الانتهازية. وهذه الظاهرة ربيبة كل المجتمعات والعصور، وإن تفشت في العصر الحديث.
ويختلف هذا الكتاب وشغله النقدي كثيراً عن كتابه الأول، ويكاد يقترب الاتجاه النقدي من المنهج التفسيري والمنهج التحليل الشارح للموضوعات، أما البنية ودلالاتها فيؤشر إليها في استخلاص النتائج عن الأغراض أو المقاصد في رصد التحولات الاجتماعية العربية وفق منظوره الخاص، ومقارنتها بمعالجات روائية عربية وأجنبية عن هذه الظاهرة السلبية، وهي ظاهرة لا تفترق عن إطلاق الأحكام، ولم تنبثق من التحليل البنيوي التكويني.
وبحث عزام في صورة الفهلوي في الأدب الغربي، وبدأها البطل الفاوستي الذي يقف على رأس عصر النهضة، واتبعه بالبطل الفهلوي رمزاً للصمود البرجوازي التالي. ولا نغفل عن أي فاوست ليس فهلوياً في حالاته كلّها، والصورة مرهونة بمعالجة هذا الأديب أو ذاك. أما البطل الفهلوي فقرنه بحكاية الصعود الطبقي في المجتمعات الأوروبية وتأثيرها على النفوس والأدب، وبعد مرور أكثر من قرن ونصف على هذا الصعود، تكرر بعض المجتمعات العربية هذه الحكاية في الصعود الطبقي.
واستغرق عزام في الاتجاه الإيديولوجي إلى حدّ كبير لدى النظر في محمولات القيم وإضفائها على الأغراض أو المقاصد أو تحديد الوظائف الواصفة والشارحة من القراءة وتفسيرها للرواية، واستخدم عبارات الصراع الطبقي والاجتماعي والإحالات والتناصية ليمتزج النقد بالأدلجة، ونلاحظ أنه أورد أسماء أدباء روائيين ومسرحيين وقصاصين تختلف رؤاهم وأساليبهم ومستوياتهم، وما لبث أن رفد أفكاره بصورة الفهلوي الموروثة، فقد حكم على «الشطار» والعيارين في التراث العربي بالفهلوية، ووصفهم بأنهم «لا يبتعدون في سلوكهم وقيمهم النفعية عن فهلويي عصرنا» (ص47) ووصف حضورهم في مصدرين من مصادر التراث العربي هما «ألف ليلة وليلة» و«المقامات» دخولاً في صورة الفهلوي في الأدب العربي الحديث، مؤكداً على أن ظاهرة الفهلوة ليست «وقفاً على طبقة اجتماعية، ولا على عصر معين، وإنما هي وليدة كل العصور والطبقات، ولكنها أكثر استفحالاً في المنعطفات التاريخية، وفي الطبقات الدنيا التي تتطلع إلى حياة الرغد والثراء فتبيع من أجلها كل شيء» (ص63).
وقد أكد عزام على إضافة العبارات عن صورة الفهلوي الموروثة في بعض الأعمال التراثية، واكتفى بالإشارة لدعم وجهة نظره من خارج البنية الروائية، بينما الاتجاه البنيوي التكويني يصدر الأفكار الناظمة لأشكال الوعي من داخل النصوص. ولعلنا لا نغفل عن مشكلة هذا النقد المؤدلج، فقد سمّى بيير زيما، على سبيل المثال، مشكلة «ماشري» مزدوجة: فهو يستكمل تحليلات ماركس ولوكاتش دون أن يحدد لماذا يعدّ افتراضات لوكاتش (التي يأخذ بعضها منها بالكامل) غير كافية، فهو «يردد أكبر نقطة ضعف للنقد الاجتماعي الماركسي الذي يجهل أن الرواية والإيديولوجية هما قبل كلّ شيء بنى دلالية وتركيبية سردية»(7). ولطالما شحن عزام نقده بالأدلجة ملتفتاً عن تحليل البنية ومحتواها من داخلها، وتقوّى بالموروث في التعبير عن موضوعاته الطبقية والاجتماعية، ونمّطها إلى مستوى الأحكام الوصفية.
وأشار إلى حضور التراث أيضاً في الأجناس الأدبية ولا سيما القصة القصيرة لاقترابها من الفنّ الروائي.
وعالج صورة الفهلوي في نماذج روائية من مصر وسورية والمغرب، واختار في الباب الثاني رؤية الصعود والسقوط في مسيرة البطل الفهلوي في أدب نجيب محفوظ الذي رسم في نماذجه الأدبية بقوة صعود المجتمع الحديث أو سقوطه، الصعود البرجوازي إلى الثروات، والسقوط القيمي الذي يجعل من البشر أعداء، لتقوم الحياة لديهم على التناقض المرير، في مجتمع الغاب الذي يفتك فيه القوي بالضعيف دون رحمة أو شفقة.
واكتفى عزام بتأطير هذه الرؤية الاجتماعية، في مدارات ثلاثة هي فهلوي الجنس في روايتي «القاهرة الجديدة» و«زقاق المدق»، وفهلوي الصعود الطبقي في «بداية ونهاية»، والفهلوي الثوري في «ميرامار»، وغلب على اشتغاله النقدي توصيف الأوضاع الاجتماعية لهذه الشخصيات، فالانتهازية في «زقاق المدق» لا تخرج عن سقوط قيم الخير والعدالة، ليسود الشرّ والرذيلة في المجتمع البرجوازي الذي «يصعد» فيه الأنذال والمنحطون كلما كبرت نذالتهم، ويتهاوى الأخيار كلما اتسعت قلوبهم لقيم الحق والخير والإنسانية.
والانتهازية في «ميرامار» متحددة في السلوك الشائن والانحراف عن مسار الخلق والأخلاق والنزوعات الإنسانية، ونادراً ما التفت عزام في النظر إلى رؤية العالم والمجتمع من خلال فنية البنى الروائية، مقتصراً في نقده لصورة الفهلوي عند نجيب محفوظ على الأسطر التالية:
«وفي التقنية الروائية جاءت الرواية مختزلة، ومكثفة، وجديدة من حيث اعتماد الكاتب على الشخصية التي ترى الحدث من زاوية نظرها هي، وبالتالي فإن كل حدث يمكن أن ينظر إليه من زوايا عديدة بقدر عدد الشخصيات، الأمر الذي يتيح جلاءه بشكل واضح، وتسليط كلّ الأضواء عليه، ورغم أن هذا الأسلوب مستعار من تقنية الرواية الأوروبية الجديدة، ولا سيما لدى لورنس داريل في رائعته «رباعية الإسكندرية»، فإن نجيب محفوظ استطاع أن يملأه بمضمون وطني معاصر» (ص128).
ونلاحظ ولعه بالأحكام والأوصاف مثل وصف رواية لورانس داريل بالرائعة، ونسب علائق الرواية إلى مدى تلازمها مع المحمول الفكري لهذه الرواية أو تلك، كما هو سائد في النقد الماركسي الذي يفصل غالباً بين الشكل والمضمون في وصفه وتنظيراته ومواءمة الأحكام الفكرية مع المنظور النقدي.
وكان المثال الثاني هو «مسيرة السقوط في عالم بلا قيم»، وصفاً لبداية السقوط في رواية «من يحبّ الفقر» لعبد العزيز هلال، و«احتراف السقوط» في رواية «الياقوتي» لعبد النبي حجازي، وثورية السقوط في رواية «ألف ليلة وليلتان» لهاني الراهب، وهذا الوصف شديد الإيجاز للوصول إلى معنى الفهلوة وتشابكاتها مع البيئة عند عبد العزيز هلال. ولاحظ عزام أن رواية عبد النبي حجازي أبرزت «التناقض الفاضح بين عالمي المدينة والريف، الأول والغ في القذارة، والثاني يمثّل الطهر والنقاء كآخر حصن منح صون الخير. والياقوتي ـ بهذا ـ «بطل» مجتمع متهم ومدان بتدهور القيم» (ص144).
بينما جاءت رواية «ألف ليلة وليلتان» عملاً فنياً جديداً، على مستويي الشكل والمضمون، وأوجز عزام وصفه للفهلوة والفهلويين في نماذج الرواية المغربية المدروسة «جيل الظمأ» لمحمد عزيز الحبابي، و«الطيبون» لمبارك ربيع، و«جزيرة العين» للميلودي شغموم. وقلل من عنايته بتحليل البنية الروائية مكتفياً بالمقارنة مع الرواية الفرنسية، كقوله عن رواية الحبابي: «ورغم أن السرد والتقريرية كثيراً ما عاقتا حركة الأشخاص وتطوّر الأحداث، كما أعاقها الفكر المجرد، فإن الرواية لا تخلو من التماعات موحية تعتمد على ذكاء القارئ. مع هذا فقدت الرواية توازنها الفني حين استخدمت بعض التعابير الفلسفية المجردة والخاصة بالمذهب الشخصاني الذي يعتنقه الكاتب» (ص164).
وذكر أن مبارك ربيع، على الرغم من تقليدية البناء الروائي، عنده فقد حافظ على المعادل الرمزي في دلالات الأشخاص والأحداث، دون أن يتضخم لديه الجانب الفكري على حساب الجانب الفني.
لقد غلبت الأدلجة على الشغل النقدي في هذا الكتاب فيما يؤشر إليه النقد الاجتماعي الماركسي، الذي لا يعبأ كثيراً بتحليل البنية الروائية وتشكلات الوعي فيها.
2-3- فضاء النص الروائي:
صرّح محمد عزام بالتزامه المنهج البنيوي التكويني في كتابه الثالث في النقد الروائي «فضاء النص الروائي: مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان»(8)، وسوّغ التزامه بهيمنة الدراسات المضمونية والسوسيولوجية على الأبحاث النقدية الروائية، بالإضافة إلى طغيان الانطباعات الشخصية والأحكام الذاتية، اكتفاء «بتلخيص مضمون الرواية، في محاولة لتأكيد أحكام القيمة المستمدة من العرض السريع للمضمون»، وانتقد هذه النزعة المضمونية في النقد الروائي لإهمالها الشكل، بل إن الشكل غدا المضمون نفسه في هذه الأبحاث.
بينما استفاد عزام من الإنجازات الألسنية في تحليل الخطاب الروائي، وتوخى الوضوح النظري لمعالجة تقنية الأسلوب الذي تقدم فيه الروايات مادتها الحكائية، واعتمد على الدراسات البنيوية والألسنية في تحليل النص الروائي، باعتباره بنية دلالية منتجة في إطار بنية سوسيونصية، وبوضع النص في سياق بنيته الثقافية والاجتماعية والتاريخية التي أبدع فيها، للكشف عن خصوصيته، من خلال استخلاص رؤاه وأصواته وشخصياته المهيمنة.
وسعى عزام في كتابه إلى تحليل النص باعتباره بنية دلالية تعتمد المقولات البنيوية المفتوحة على الحقول الدلالية والثقافية والإيديولوجية والاجتماعية، مجاوزة لحدود المؤثرات إلى التفاعل النصيّ والتناص. وتبنّى منهجاً للقراءة يحلل بنيات العمل الأدبي الداخلية والخارجية، وأهتم بالربط الجدلي بينهما، من أجل الوصول إلى الحقيقة، ونقد اختيار المناهج الشكلانية والشكلية وحدها، لأنّ المنهج البنيوي التكويني يربط بين داخل النص وخارجه ضمن تعالقات المناهج النقدية الجدية. وعلل التزامه بهذا المنهج لمجاوزته تفسير البنيات الخارجية في المجتمع. ذلك أن اختراق البنية الثقافية والإيديولوجية والاجتماعية لفضاء النص الأدبي يعني وضعه في سياقه التاريخي وربطه بالبنيات الاجتماعية التي أسهمت في إبداعه. ما دام النص، عنده، نتاج ظروف اجتماعية خارجة عن إرادة المبدع، وما دامت هنالك علاقة بين الفكر والواقع. وبهذا ينفتح النص الأدبي على مستويات أعلى من الوعي والإدراك، ويتحول إلى «رؤية» للعالم، ذات دلالة اجتماعية، تنظّم فضاءه.
وأكد خياره لربط غولدمان الوعي الجماعي الكائن بالوعي الجماعي الممكن، وعدّ النتاج الإبداعي ليس فقط من صنع مبدعه، ولكنه موجود في فكر الجماعة التي يعيش المبدع بينها. ومن هنا استجابة الجمهور لما يكتبه الكاتب، لأنه يقدم «الصورة الفنية» للفكر الجماعي، أو «الصياغة الجمالية» لهذا الوعي.
واختار عزام روايات نبيل سليمان موضوعاً رئيساً لكتابه، وهي إحدى عشرة رواية حتى تأليف كتابه، وعالجت جميعها تاريخ سورية الحديث والمعاصر منذ العهد العثماني حتى اليوم، وكانت رغبته في تطبيق المنهج البنيوي التكويني على هذا الإنتاج الذي يعيد تصوير مراحل تاريخية حديثة، كما يصور فترات اجتماعية معاصرة.
ونظر عزام إلى المناهج النقدية التقليدية نظرة محدودة تضيّق اعتمالها بالمبدع، على أنها تقتصر على حقول معرفية خارجية كالتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع، وتسقط منجزاتها بتعسف على النص الأدبي، فتحضر هذه العلوم أكثر من حضور النص الأدبي ذاته، بينما تبحث المناهج البنيوية عن النص الأدبي وأنساقه وعلاقاته ونظامه وقوانين تبنيه، وعرض لذلك تحليله للخطاب الروائي والشكلاني والبنيوي الشكلي، والبنيوي التكويني للرواية.
واستعان بالمنهج العلامي (السيميائي) في تحليل الخطاب الروائي الذي تعامل مع النص على أنه «دليل منفتح»، ومتعدد الدلالات. وهذا التحليل الدلالي (السيميولوجي) ينطلق من اللسانيات، باعتبار النص ينتج من خلال اللغة. ثم يتجاوز إلى «الدلالة»، على أن النص ليس مظهراً لسانياً فحسب، بل هذه «دلالة» ذات معنى.
وأشاد عزام بالتحليل الشكلاني للرواية عند أعلامها: شكلوفسكي وتوماشفسكي وايخنباروم وبروب وجاكوبسون (ولا ينتمي لهذا المذهب) وتينيانوف الذي رفض التحليل الأدبي المعتمد على سيكولوجية المؤلف وعلاقاته مع بيئته وحياته وطبقته الاجتماعية.. الخ، لأنّ إقامة مثل هذه العلاقات هي من شأنه التاريخي الذي يضطلع بوصف العلاقات القائمة بين عناصر منظومة معينة. أما التطور فهو تغيير للنظم. وهذا التغيير يعطي العناصر الشكلية وظيفة جدية. وكل تيار أدبي يقوم بالبحث عن نقاط معينة، خلال فترة ما، يستند إلى ما سبقه من نظم. ودراسة التاريخ الأدبي هي اعتبار هذا التاريخ بمثابة نظم أو سلسلة متعالقة مع سلاسل أو نظم أخرى..
لقد استفاد عزام كثيراً من الشكلانية الروسية في تحليل الخطاب الروائي، وهو الاتجاه الذي استندت إليه البنيوية التي أورثت اتجاهات نقدية متعددة مثل البنيوية التكوينية والحفر المعرفي والتفكيكية والظاهراتية والأسطرة والأسلوبية والنصية... الخ.
وأوجز تعريفه للتحليل البنيوي للخطاب الروائي على أساس العوامل
(أو نظام الفاعلين)، عند غريماس، وتودوروف، وهامون (في شعرية السرد)، وتوماشفسكي (ضمن نظرية الأدب). واقترح تصنيف الشخصيات حسب أفعالها، وسمّاها «العوامل».
وأعاد عزام في تحليله البنيوي التكويني للرواية، ما اهتم به في كتابه «وعي العالم الروائي» من مفاهيم أساسية عند غولدمان مثل مفهوم البنية الدالَّة ومفهوم رؤية العالم الذي يشكل مع البنية الدالّة وحدة متكاملة، والرؤية المأساوية الناظمة لمعرفة نظرية العالم، والوعي والواقع الاجتماعي، والوعي الممكن، وهي المفاهيم الأساسية لسوسيولوجيا الآداب عند غولدمان الذي أعطاها شكلها النظري النهائي، وطبّقها منهجاً نقدياً بنيوياً تكوينياً في دراسة الآثار الأدبية والفكرية لراسين، وباسكال، وكانط، ومالرو، وسارتر.. الخ. رافضاً كل نزعة تريد أن تفهم الأعمال الأدبية بالوقوف عند جزئياتها، ومحاولاً إدراك المجتمع في «كلّيته»، ورابطاً ما هو اقتصادي بما هو سياسي، بل وحتى بما هو أدبي وفني، وكاشفاً عن العلاقات الوظيفية بين المؤسسات الاجتماعية والأعمال الأدبية، ومتبنياً مفهوم «الكليّة» الذي يرى أن التجربة المجتمعية والتاريخية في كليتها تتكونه وتتكشف عن ذاتها من خلال الممارسة الاجتماعية.
ورصد عزام بنية النص الروائي من خلال قراءة داخلية، وعالج الرواية والحداثة ووجهة النظر أو المنظور الروائي والفضاء الروائي (بنية المكان في النص الروائي، وهذه مقاربة غير دقيقة)، وبنية الزمان في النص الروائي (لأن الفضاء يتعالق فيه المكان والزمان)، وشرح وجهة النظر عند علماء السرد، دون أن يفرد الآراء حول الموقف من الوظيفة أو المنظور السردي
أو الأغراض أو المقاصد فيما يتصل بالمغزى، لأنه ناجم عن الخطاب القصصي ضمن ضبط التحفيز.
وصنّف الشخصيات فيما يتيحه علم السرد، وحللها في عدة روايات لنبيل سليمان، وفعل الأمر نفسه في معاينة بنية المكان وبنية الزمان، ويشير شغله إلى تمكنه من المنهج كما هو الحال مع تحليل تداخل أزمنة عديدة في رواية «المسلّة»:
1- زمن الحكاية المرتبط بوقائع النص الروائي، وهو حرب تشرين الأول 1973، حيث اشتركت فيها معظم الجيوش العربية.
2- زمن الكتابة المرتبط بالعوامل الخارجية المؤثرة في الروائي. حيث تتداخل فيه وقائع حياة المروي بوقائع حياة الراوي، لتعميق نفسيات أبطاله.
وأعتنى بالسارد بوصفه الكائن التخييلي الذي يتقاطع مع «المؤلف» أحياناً، ويمتزج به أحياناً أخرى، في سرد يكسر خطية الرواية، حيث يعتمد على المونولوج، والتداعي، والرؤى، والتناصّ، والإشارات.
3- زمن القراءة المرتبط بالعوامل الخارجية المؤثرة في قراءة النص الروائي، ذلك أن قراءة «الموحيات» هي قراءة ثانية، رمزية، للنص الروائي، وأفق جديد ينتقل المتلقي إليه على أجنحة التخييل. وأشار إلى أن القارئ يفتّت المركّب، ليمنحه نظاماً جديداً.
وأكمل عزام منهجه البنيوي التكويني في قراءة خارجية للنص الروائي لتوصيف الفضاء السوسيولوجي للرواية عند نبيل سليمان، فأوضح سوسيولوجيا الرواية، ومشروعات اختراق الفضاء الثقافي والإيديولوجي والفضاء الاجتماعي والفضاء التاريخي للخطاب الروائي، ولجأ إلى جورج لوكاتش وميخائيل باختين وبيير زيما وسعيد يقطين على وجه الخصوص، وبلغ المنهج ذروته عند زيما الذي يرى أن هذا المنهج البنيوي التكويني كما بلوّره غولدمان، يعتمد على حدس الناقد وذوقه، دون أن يحاول تطبيق مقترحاته بوسائل محددة. كما يخشى زيما الحضور المكثف للعناصر الخارجية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في التحليل البنيوي التكويني، كما يخشى غياب النص الأدبي.
إن تفسير النصوص الروائية حسب منهج لوكاتش، أي عن طريق مقابلتها مع الإيديولوجيات المناظرة لها، لا يمثل سوى إمكانية واحدة من التفسيرات الممكنة للنص، ولهذا مضى زيما ينتقد علم الاجتماعي الأدبي الذي يمثله روبير اسكاربيت، ويحصر اهتمامه في العناصر الخارجية عن الأدب (الجمهور، والكاتب، والطبقة)، دون أن يعير المضمون التاريخي للنص أي اهتمام. كما انتقد زيما سوسيولوجيا «المضمون» التي تحيل على الأحداث والوقائع، وتتعامل مع الأدب كما يتعامل المؤرخ مع الوثائق التاريخية. وذلك من أجل إقامة تصور لسوسيولوجيا نصية قادرة على تجاوز الصراعات المحتدمة بين الاتجاهات الاجتماعية والشكلانية. وهذا التصور يقوم على النسق اللغوي الذي تلتقي فيه المصالح الاجتماعية. فالمشكلات الاجتماعية والاقتصادية تظهر في النص الأدبي على شكل قضايا لسانية تتجسد من خلال التناصّ. وهنا يقترب زيما من موقف باختين في التحليل الروائي.
وقد عبّرت رواية «ينداح الطوفان» تعبيراً واضحاً عن انعكاس الإيديولوجيا في الأدب، والواقع الاجتماعي في أشمل معانيه: السياسية والثقافية والأدبية.
وبحث عزام في مشروع اختراق الفضاء الاجتماعي للنص الروائي في روايتي «المسلة» و«جرماتي»، ومشروع الاختراق التاريخي في رباعية «مدارات الشرق» و«هزائم مبكرة» و«ينداح الطوفان» و«ثلج الصيف» و«المسلّة».
يكاد يندرج نقد عزام في كتابه في الاتجاه البنيوي التكويني، فقد اعتمد على ثمار النقد الاجتماعي في علم السرد الناهض من التحليل الشكلاني الذي يستقل فيه النص السردي، وتنتظم بناه وفق معطيات صوغ المتن الحكائي بمستوياتها الإبلاغية العديدة.
2-4- شعرية الخطاب السردي:
جاء كتاب محمد عزام «شعرية الخطاب السردي»(9) ذروة التزامه بالاتجاه البنيوي التكويني في النقد الروائي. وانطلق من إسهام المنهجيات الحديثة في تدشين عصر جديد للدرس النقدي، حين قدمت الكثير من التقنيات والآليات والمناهج التي دفعت بالقراءة والتلقي إلى تعمق متاهات النصوص الأدبية لاستجلاء كوامنها. وطمحت دراسته إلى البحث في «مكونات الخطاب الروائي الجديد» على ضوء المنهج البنيوي، كما طمحت إلى استعمال أدوات ومفاهيم جديدة تمتح من السرديات التي يعمل الباحثون على بلورتها لتصبح اتجاهاً متميزاً في تحليل الخطاب السردي.
واستفاد من الإنجازات الألسنية في تحليل الخطاب السردي، وهو يتوخى استنباط «الأدبية» من النص السردي، ومعالجة تقنيات الأسلوب الذي يقدم فيه السرد مادته الحكائية، اعتماداً على الأبحاث البنيوية، والدراسات الألسنية في تحليل النصوص السردية، باعتبار النص بنية دلالية منتجة في إطار بنية سوسيو نصية.
وقارن بين النقد الروائي التقليدي والمنهجيات الحديثة في النقد، فالتقليدي يُعنى بالمضمون وحده، ويربطه بقضايا المجتمع وأزمات الواقع، ولا سيما عند نقاد المنهج الاجتماعي، فالنقد الروائي الجديد تجاوز ذلك، مستفيداً من إنجازات الشكلانيين الروس، واجتهادات البنويين الفرنسيين، وتنظيرات النقاد الغربيين، إلى فتح باب جديد في النقد الروائي هو علم السرد: تقنياته ومكوناته، معالجة الوظائف، والعوامل، والفواعل، وفضاء المكان، والزمان، والراوي، وجهة النظر، والمونولوج الداخلي... من خلال نقد سردي حداثي يقوم على تحليل النص ووصف بنياته، لا على جدلية مرجعيته الفكرية أو الاجتماعية.
وسعى عزام إلى تقديم رؤية نقدية، وطريقة تحليل موضوعية للخطاب الروائي، من أجل إنتاج معرفة منهجية ترقى إلى مستوى نموذج نقدي مشروع هو الهدف، ثم عني بتوضيح القضايا الإجرائية بُغية تحليل الخطاب ومكوناته السردية، وعلى الرغم من أن كل قضية من قضايا السرد تصلح أن تكون بحثاً مستقلاً في كتاب، فقد آثر عزام الكلية (أو البنية) في التجديد السردي الذي تخلى عن البطولة، وجعل «المضمون» مراوغاً، وأظهر تشكيلات لغوية مبتكرة، من أجلى مظاهرها الانزياح، واعتمد الخطاب الداخلي، وطرح المتناقضات، واعتمد على السرد المفصل، وتخلى عن الخطية الزمنية.
وطبّق منهجيته على ثلاثية «الطريق إلى الشمس» للروائي عبد الكريم ناصيف متعالقاً مع الرواية النهرية أو الانسيابية أو روايات الأجيال التي انتشرت كثيراً في الأدب العالمي والأدب العربي الحديث، وسوّغ اختياره لهذه الثلاثية بالنظر إلى سماتها الفنية والفكرية وهي:
1- ثلاثية روائية تستلهم التاريخ العربي القريب، وتصور أحداثه وأشخاصه، خلال نصف قرن من الزمان، (منذ مطلع القرن العشرين وحتى منتصفه)، معتمدة الوثيقة التاريخية، دون الالتزام بها تماماً. وهنا ميزة الروائي الناجح الذي يعتمد التاريخ منطلقاً دون أن يجعله قيداً يحدّ من حرية حركته في الزمن، فيصور الأحداث والأشخاص تخييلياً، جامعاً بين التاريخ والتخييل.
2- لم تعالج هذه «الثلاثية» من قبل نقاد وباحثين، وقد كتب عن بعض أجزائها، ولكنه لم يكتب عنها ككل، بالإضافة إلى أن ما كُتب عنها لا يخرج عن حدود النقد الانطباعي والصحفي البعيد عن المنهجية العلمية الدقيقة.
3- حاجة النقد الأدبي في سورية إلى تجديد مناهجه النقدية، بعد أن كانت «الواقعية» قد سيطرت على دراسات كثير من النقاد والباحثين، فعزفوا على أوتارها طويلاً، حتى استنفدوا أغراضها. فكان لابد من اعتماد مناهج نقدية حداثية تجدد شباب النقد الأدبي. مما دعاه لتبني المنهج البنيوي في السرديات الذي بدأ يتضح في مطلع سبعينيات القرن العشرين، تركيزاً على مكونات السرد الروائي، من شخصية، وزمان، ومكان، وتبئير.. الخ. ولم يقتصر في دراسة «بنية النص السردي» على تقنياته، بل درس أيضاً «علاقات» مكوناته السردية بوصفها عنصراً أساسياً فاعلاً في البنية الشكلية.
4- تجنب ـ ما أمكن ـ أحكام القيمة، لأن المنهج البنيوي من المناهج الوصفية التي تُعنى بالتحليل وحده، ولا تجاوزه إلى إعطاء حكم قيمة على المبدعات الأدبية التي تحللها.
5- حرص في بداية كل فصل على تصديره بعرض نظري لـ«المكون السردي» وتطوره النقدي، ثم قام بالإجراءات النقدية في تحليله، جامعاً بين النظرية والتطبيق في تفكيك البناء السردي لمعرفة جزئيات العمل الأدبي، وإدراك أسراره المكبوتة خلف الكلمات، فمن المعلوم أن الأحداث والأشخاص وحتى الكلمات تملك وجهين هما: «دال» واقعي، و«مدلول» رمزي.
وأظهر الكتاب تعمق عزام في تطبيق الاتجاه البنيوي التكويني، إذ شرح عناصر السردية، وتتبع تشكّلها النظري عند أهم نقاد السرديات وواضعي علم السرد، ثم طبّقها على الثلاثية، وأورد على سبيل المثال تعريف الراوي والمنظور في السرد الروائي مصطلحات وممارسة عند أبرز المنظرين أمثال هنري جيمس وآلان روب غرييه وجان بويون وجينيت وتودوروف وتوماسفشكي وهنري جيمس وبيرسي لبوك ونورمان فريدمان واوسبنسكي وباختين.. الخ. وقد أبدى في حديثه عن المنظور السردي أو وجهة النظر أو الرؤية الثراء العلمي الذي أدخل في التطبيق النقدي عن اقتدار، وذكر أن للرؤية تسميات كثيرة، فبعضهم يسميها «وجهة النظر»، وآخرون يسمونها «زاوية الرؤية»، وغيرهم «بؤرة السرد»، و«التحفيز»، و«حصر المجال»، و«التبئير»، و«الرؤية السردية». ولعل تسمية «وجهة النظر» هي الأكثر شيوعاً، وعلى الخصوص في الدراسات الأنجلو أمريكية التي تركز على «الراوي» الذي من خلاله تتحدد «رؤيته» إلى العالم الذي يرويه بأشخاصه وأحداثه.
ولقد مرّت الدراسات حول «الرؤية» بمرحلتين: بدأت الأولى مع النقد الأنجلو ـ أمريكي في بدايات القرن العشرين، واستمرت حتى أواخر الستينيات، واحتلت «الرؤية» خلالها مركز الصدارة في تحليل الخطاب الروائي، وبدأت المرحلة الثانية في مطلع السبعينيات مع التطور الذي تُوّج بظهور «السرديات».
صنُفّت «الرؤية» في ثلاثة أنواع، وهي:
1- الرؤية الخارجية: وتتمثل في الروايات المكتوبة بصيغة الغائب.
2- الرؤية الداخلية: وتتمثل في الروايات المكتوبة بضمير المتكلم والسيرة الذاتية.
3- الرؤية المتعددة: وتتمثل في الروايات التي تصور الصراع الفكري والحياتي.
وديستويفسكي هو مبدع الرواية المتعددة الأصوات، أو ذات الرؤى المتعددة. وأورد تطبيقه للمنظور الإيديولوجي على الثلاثية بوصفها عملاً متعدد الأصوات، وأوضح السمات التي تُظهر هذا التعدد من خلال كثرة المقاطع التي يصدر الراوي فيها الأحكام المنفصلة عن منظور الشخصيات الإيديولوجي، تلك الأحكام التي تشبه الحكم، وتقف مستقلة عن النص، محتفظة بدلالة مطلقة كما هي الحال في روايات الواقعيين الغربيين حيث من المستطاع إخراج كتيب مليء بالحكم والأمثال التي ترد على لسان إحدى الشخصيات، أو لا ترد على لسان أي من الشخصيات، ولكنها ترد على لسان «الراوي»، دون أن تدخل في نسيج النص، عندما ينقطع خط القص، ويعلو صوت الراوي، معلناً المنظور الإيديولوجي الذي يحكم الرواية بطريقة مباشرة، نحو استخراج هذه الفقرات من سياق الرواية دون إخلال ببنائها.
ويعدّ هذا الكتاب مرجعاً شديد الكثافة عن شعرية الخطاب الروائي نظرياً وتطبيقياً كمثل شرحه لخطاب الحكي إزاء المنظور السردي، فمع «خطاب الحكي» (1972) لجيرار جينيت نجد أنه يقدم العمليات النظرية متكاملة للسرد، فهو ينطلق من قراءة كل التصورات السابقة، ومن خلال نقده إياها يقدم مشروعاً منسجماً مع ما سبق، مستوحياً التصورات اللسانية البنيوية فيما يتصل بـ «الرؤية أو وجهة النظر». لكنه استبقى هاتين السمتين، واستبدلهما بمصطلح «التبئير» الذي هو أكثر تجريداً، وقسّمه إلى ثلاثة أنواع، وهي:
1- التبئير الصفر، أو اللاتبئير، ونجده في السرد التقليدي.
2- التبئير الداخلي، سواء كان ثابتاً، أو متحولاً، أو متعدداً.
3- التبئير الخارجي، الذي لا يمكن فيه التعرف على دواخل الشخصيات.
لقد أحسن محمد عزام كثيراً في تطبيق المنهج البنيوي التكويني في السرد الروائي الذي يفيد في إضاءة فكر الروائي من جهة، ويكشف عن أساليبه الفنية العميقة من جهة أخرى.
3- ملاحظات عامة:
أقبل عدد كبير من الباحثين والنقاد على الاتجاه البنيوي حسب منجز رولان بارت على وجه الخصوص لدعم الاتجاهات النقدية في كتاباتهم ولا سيما دعاة الاتجاه الإيديولوجي (الماركسي) والاتجاه الاجتماعي، والاتجاه النصي، غير أن الإقبال على الاتجاه البنيوي التكويني قليل نسبياً، بينما أخذوا بعض معطياته ومكوناته مثل المدلولات الفكرية والرؤى الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية. وتعززت هذه المعطيات والمكونات في طلب الوعي وإثراء الخطاب الروائي بتشكلات رؤى العالم من الإقرار بكلية البنية الروائية وشموليتها لهذه الرؤى. وقد استفاد محمد عزام في كتاباته النقدية من هذا الاتجاه كثيراً قياساً إلى بقية المشتغلين بالنقد الروائي الذي عللوا شغلهم النقدي ببعض خصائص المنهج البنيوي التكويني. وأشير إلى أبرز الملاحظات في مقاربة هذا الاتجاه في النقد الروائي:
1- عني الباحثون والنقاد بهذا الاتجاه نظرياً دون تطبيقه في كتاباتهم مثل جمال شحيد في كتابه «في البنيوية التكوينية ـ دراسة في منهج غولدمان» (1982)، ومحمد نديم خشفة في كتابه «تأصيل النص، المنهج البنيوي لدى لوسيان غولدمان» (1997)، وهما ناقدان في مجال السرد القصصي والروائي، ولم يأخذا بهذا الاتجاه كلية في نقدهم.
2- عرّف النقاد والباحثون بهذا الاتجاه في مقالات وأبحاث، ولم تنشر في كتب، وزادوا اهتمامهم بالتعريف عن طريق التعريب والترجمة في مؤلفات عديدة، وأبرزهم ما كتبه ميجان الرويلي وسعد البازعي في كتابهما «دليل الناقد الأدبي».
3- لجأ كتّاب الاتجاه الإيديولوجي (الماركسي) إلى الاتجاه البنيوي التكويني في تطويع المذهب الاجتماعي لاستيعاب آليات الوعي في رؤى العالم والذات لدى الإحاطة بالتركيب الاجتماعي داخل المبنى الروائي.
4- إغناء عمليات الوعي بما تتيحه فضاءات التأويل لدى قراءة الرواية وتحليلها، من أجل تعليل الكلية والنمطية في المبنى الروائي، والتخفيف من أدلجة الاتجاه الماركسي أو الاجتماعي. وقد بادر محمد عزام إلى دمج الاتجاه البنيوي التكويني بالأدلجة في المرحلة الأولى من كتابته النقدية، ثم جاوز هذه الأدلجة إلى توضيح الموضوعات الروائية وربطها بمجتمعها وتاريخها تقديراً للتخييل الروائي في بناء الخطاب الروائي وبلوغ أغراضه.
5- وظّف محمد عزام جوانب الاتجاه البنيوي التكويني في كشف الرؤى الاجتماعية وتقويم الموضوعات المعالجة في الروايات، والعناية الأقل بتحليل المبنى الروائي.
6- التزم محمد عزام بالجوانب الرئيسة من الاتجاه البنيوي التكويني في المرحلة الثانية من كتابته النقدية لتسويغ إصراره على إظهار النزعات المضمونية من داخل النص الروائي، وساعد هذا التسويغ على الاستفادة من الحقول المعرفية الخارجية كالتأريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع.
7- اعتمد محمد عزام على الشكلانية الروسية وعلم السرد في التحليل البنيوي التكويني للروايات المدروسة بما يفضي إلى العناية بالخطاب الروائي ومدلولاته الفكرية عن طريق العناية الواسعة بالمستويات المتعددة للوعي الواقع والممكن في مواجهة استحالته وتعذر تحققه أو دفعه إلى التردي وانحطاط الرؤية. وأتاح هذا الاعتماد انفتاح الشكلانية الروسية وعلم السرد على رحابة المنهجيات النقدية الحديثة لدى إظهار المنظور الروائي.
تنطلق المناهج الأمبريقية والجدلية من نظرية «فيبر»، وهو عالم اجتماع مشهور، طلب في فلسفته أن يُقرن التحليل بعلميته وعمليته، استناداً إلى النظرية الجدلية التي أطلقها «هيغل»، وطورّها «ماركس» فيما بعد. وسنذكر نموذجاً من ممثلي هذا المنهج، وأقصد تيودور أدورنو ممثلاً للتيار الأمبيريقي، الذي انتقل من الممثلين الألمان مستفيداً من الفلسفة الجدلية، وقد ارتهن شغله بالأمور
1- مجانبة المباشرة الأيديولوجية، وتأخذ مجالات التبشير العقائدي، فالواقعية الاشتراكية تقوم على التبشير العقائدي للماركسية مثالياً [وبعض مكوناتها من نظرية الانعكاس إلى التفاؤلية إلى جماليات خاضعة للتسويق، وهذا الأمر يحولّ النص إلى مادة تسويقية للفكر]. ونشير الآن إلى أمثلة أخرى لهذه المناهج الجدلية في علم اجتماع الأدب التي انطلقت من هيغل:
أ- الكلية والنمطية عند (جورج لوكاتش): إذا أخذنا «الرواية التاريخية» (1926)، وسبقها بقليل كتابه «التاريخ والوعي الطبقي»، وشرح فيه شيئاً من تناوله للرواية التاريخية.
ب- وثمة تنميط للعلاقات الاجتماعية عند لوكاتش، ولكنه يخضع للمواضعات الاجتماعية، وهذه المواضعات رهينة لعمليات إنتاج المجتمع [لكن التنميط يتعارض مع تعالقه على القوانين الطبيعية]. والمرء مسؤول عن عقده بالنسبة لعلم الاجتماع [النقد الاجتماعي لا يخضع لتأويل الكلام].
2- وانتقل النقد الاجتماعي إلى المنهج البنيوي التكويني، الذي أسسه «لوسيان غولدمان»، ولا يقوم على الكلية والنمطية كما عند لوكاتش، وإنما يقوم على الكلية ورؤية العالم، وتستند هذه النظرية إلى:
أ- المذهب الفينومينولوجي (الظاهراتي): بمعنى أن الظواهر الفردية لا يمكن فهمها بشكلٍ ملموس إلا في إطار تجانس كلي، ويستدعي ذلك عمليات ظهور المجموع كله في العناصر الكلية.
ب- الاستناد إلى الأفكار في تكون رؤية العالم، واستند «غولدمان» في كتابه «الإله الخفي» إلى تحولات فكرة الأسطرة، والأسطرة هي استنباط أفكار من تشكلات اجتماعية بدائية أو بدئية، وهذه النظرية هي التي شكلّت نظرية الأساطير والنماذج الأولية عند «نورثروب فراي».
جـ- قابليات تعدد المعاني باستخدام المعادلات المفهومية لمعطيات وعي النص للعالم، لأن العمل الفني أو الأدبي ليس نتاج مؤلف بوصفه فرداً، لكنه يكشف الوعي الجماعي والمصالح والقيم الاجتماعية لجماعة أو طبقة، والأعمال العظيمة وحدها هي التي تعّبر باتساقها عن رؤية للعالم ووعي جماعة أو فئة أو طبقة ما.
د- يغلّب الفهم الأمبريقي الجدل على رؤية العالم، لأنك لا تنظر إلى رؤية العالم على أنها تتبع عالم التجارب اليومية التي تتصف بالسلالم القيمية المتصلة المستقرة إلى حدّ ما، بل إن العمل العظيم هو وحده الذي يحتوي على بنية الوعي الاجتماعي الجماعي التي تظهر رؤية للعالم كلية دالة من القيم والمعايير. إننا بصدد وعي الممكن، لأننا نجده باطناً في العمل حيث يحلله، ويعيد بناءه عالم اجتماع الأدب في مفهوم رؤية العالم(1).
وعضد الاتجاه البنيوي التكويني الأسس الجديدة للنقد الاجتماعي من خلال تثمير عمليات انتماء القارئ الاجتماعية إلى تحديد آفاق القراءة وانفتاحها على فضاءات التأويل، فكل قارئ هو «أنا» يأتي من علاقات القربى ومن العلاقات الرمزية التي تحدده أيضاً، وتفتح لـه فضاءات البحث والتأويل، وتغوص القراءة النقدية الاجتماعية في تاريخيانية اجتماعية محددة، وما تهتم به القراءة النقدية الاجتماعية هو تواصل الأشكال الأدبية مع التاريخ الذي يظهر في تاريخية الخطاب الأدبي واجتماعيته شعرياً وتخييلياً، ويوافق الاتجاه البنيوي التكويني بين عملين متناقضين ظاهرياً، بتثبيت تاريخية النصوص واجتماعيتها لئلا تبخس قيمة هذه التاريخية والاجتماعية، ويفضي ذلك إلى الوعي التاريخي في البنية النصية، ويكشف عن المعنى وما وراءه في هذه البنية. وتكمن خلاصة الاتجاه البنيوي التكويني في إضاءة نظرية العلاقة بين الأدب والمجتمع بتقدير البنية ومحتواها(2).
وأوجز الاتجاه البنيوي التكويني رؤية العالم بوصفها تكويناً معرفياً يتجاوز إبداع الكاتب أو منظوره الخاص إلى رؤى عميقة للواقع والتاريخ داخل البنية، و«هذه البنية، بتعبير آخر، هي رؤية العالم وقد تماثلت في العمل الأدبي، أي تحولت إلى نسق من الرؤى والأفكار المترابطة»(3). وفهم الاتجاه البنيوي التكويني على أنه «جزء من علم اجتماع المعرفة، لأنه يحدد بين الذات والموضوع، وبين الفكر والعالم، وبين الفئات الاجتماعية واندماجها داخل نسق أوسع هو الطبقة الاجتماعية. ويتحدث عن تكوين الفئات وأنواعها وتأثيرها في شعور الفرد واستجابته للشعور العام السائد»(4).
ولا نغفل أن الاتجاه البنيوي التكويني ترسّخ بعد ذلك بجهود لويس التوسير وبيير ماشيري في إضاءة الفكر الأدبي من الأدلجة إلى وعي النص المؤدلج وفق بنيته التكوينية الحاملة للمحتوى الاجتماعي في تراكب الخطاب والتخييل مع المجتمع والتاريخ لدى كشف الدلالات والتشابهات مع البنى الفكرية والاجتماعية لعصره.
وتطور الاتجاه البنيوي التكويني كثيراً حين تعالق مع النقد الثقافي، ليتشكل بموروثه وبمراعاة عناصر التمثيل الثقافي اتجاهاً جديداً نمّاه في الوقت نفسه الاتجاه البنيوي التكويني وبدت ممارسة هذا الاتجاه في كتابات محمد عزام النقدية، على أن الالتزام بهذا الاتجاه قليل الانتشار في النقد الروائي.
2- النقد البنيوي التكويني عند محمد عزام:
تتبدى بعض خصائص هذا المنهج في أعمال محمد عزام «وعي العالم الروائي ـ دراسات في الرواية المغربية» (1990) و«فضاء النص الروائيـ مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان» (1996) و«الفهلوي: بطل العصر في الرواية الحديثة» (1993) و«شعرية الخطاب السردي» (2005).
2-1- وعي العالم الروائي:
يندرج عنوان كتابه الأول في نقد الرواية المغربية «وعي العالم الروائي»(5) في المنهج البنيوي التكويني، بينما وجد عزام أن البحث عن منهج قضية إشكالية إزاء كثرة المناهج، فآثر أن يجمع بين منهجين، هما: المنهج الموضوعي الذي يصنف الرواية إلى رواية تاريخية ووطنية واجتماعية.. الخ، والمنهج الفنّي الذي يصّنف الرواية في رواية تقليدية ورومانسية ورمزية وواقعية.. الخ.
ويلاحظ أن معالجته لأشكال الوعي لا تفترق عن المنهج البنيوي التكويني بأنواعها التي وزع إليها كتابه:
1- الوعي الذاتي: وفيه تتعدد نماذج الوعي في جدلية الذات والواقع الاجتماعي والوطني والحضاري.
2- الوعي المستعاد: وهو وعي ماضوي، يُسترجع تاريخياً، في ظروف الحماية، كنوع من المقاومة، وفي عهد الاستقلال، كنوع من التذكير بالبطولات.
3- الوعي بالواقع: وفيه تتعدد أنماط الوعي، تبعاً لتعدد صور الرواية الاجتماعية. وتتراوح نماذج هذا الوعي بين الوعي الاجتماعي الذي يلتفت إلى بناء الواقع والوعي المنهار الذي يرضخ لهذا الواقع أو يهرب من مواجهته.
4- الوعي الممكن: وهو وعي مستقبلي ينطلق أساساً من الحاضر، ويتجاوزه إلى استشراف عالم مستقبلي أفضل. وكاتب هذا الوعي يمتلك مشروعاً حضارياً بديلاً، ولكنه غير ناجز، لانه لا يريد أن يقع في التبعية التي تقتلعه من جذوره.
وبسّط عزام الاستخدام المنهجي في أنه معني بتبيان نماذج الوعي والاتجاهات الفنية في الرواية المغربية منذ نشأتها وحتى مطلع الثمانينيات في القرن العشرين. وأضاء في مدخل كتابه نشوء الرواية المغربية وتطورها، ولا سيما موقعها من الرواية العربية والعوامل المؤثرة في نشوئها (الأدب المشرقي، الثقافة الغربية، الواقع المغربي)، وأبان أن ظهور النتاج الروائي المغربي تأخر إلى مطلع الخمسينيات، وأول نتاج روائي مغربي هو «في الطفولة» (1947) لعبد المجيد بن جلون، غير أن هناك روايات صادرة قبل ذلك، واتصفت سمات رواية البدايات بتقليدية الشكل والمضمون، ووجد في هذه المرحلة روايات «سبعة أبواب» لعبد الكريم غلاب، و«أمطار الرحمة» لعبد الرحمن المريني، و«بوتقة الحياة» للبكري أحمد السباعي، و«غداً تتبدل الأرض» لفاطمة الراوي (وهذه الروايات صدرت في الستينيات)، وأطلق حكماً يجافي طبيعة النقد البنيوي التكويني، على أن «معظم كتّاب هذه الروايات من البورجوازية، أو من الشرائح الدنيا التي لم تمتلك الوعي النقدي أو الرؤيا الشاملة لحركة التاريخ والمجتمع» (ص11)، ومثل هذا الحكم لا يفترق عن الأدلجة التي تضفى على الرواية.
ونسب عزام رواية مرحلة التأسيس إلى الستينيات، وعلل ذلك بانشغال الأدباء بالكفاح الوطني، وتقديم الأنواع الأدبية الأخرى كالقصة والمقالة والقصيدة على الرواية، لتعبيرها السريع عن المشاعر الآنية، ولاستيعابها الشامل للأحداث المتجددة. في حين تحتاج الرواية إلى وقت طويل للتخمر الفكري والفني. كما أن ندرة المجالات الثقافية التي تشجع الناشئين من الأدباء، وتحتضن أعمالهم، قد أسهمت في اقتصار الأدب على «النخبة» في مجتمع تطغى فيه الأمية، وتنصرف فيه البورجوازية إلى تننمية ثرواتها المادية فحسب.
وعاود إطلاق الأحكام دون التحليل، فعلى الرغم من أن الرواية المغربية الجديدة، برأيه، هي رواية الستينيات والسبعينيات، لكن رواية الستينيات لم تثمر دوماً مردوداً إيجابياً وجديداً، ولم تسهم، كما ينبغي، في خلق الوعي الاجتماعي وتعميقه، لأسباب عديدة، من أهمها أن الرواية نفسها أدب بورجوازي، من تراث الإقطاع الذي كان يمتلك الوقت والفراغ، بينما لا يجد الإنسان المعاصر وقتاً للراحة، فكيف يمكنه أن يتثقف، ويمارس هواياته؟ ومعظم كتّاب الرواية المغربية ينتمون إلى البورجوازية، في شريحتيها: الدنيا والعليا» (ص13)، ويتواتر هذا الرأي مع أطروحات لوكاتش في كتابه «الرواية ملحمة بورجوازية» المطبقة على الرواية الأوروبية، بينما تحتفظ الرواية العربية بخصوصياتها التاريخية والمعرفية.
وزاد عزام من مثل هذه الأحكام المستهجنة آخذاً برأي إدريس الناقوري في كتابه «المصطلح المشترك» (1977) في أن «قصور الرؤية الفنية عند بعض روائيي الستينيات، وعجزهم عن تمثل واستقصاء المعطيات الاجتماعية، لبلورتها فنياً، وصياغتها بشمولية ورجاحة فكر، والضحالة الفكرية التي تسود بعض روايات الستينيات التي تتكئ على التاريخ الوطني لتشوهه، أو تنقله نقلاً (فوتوغرافياً) يبلغ درجة الابتذال والترديد (المخاض، دفنّا الماضي)، أو تفتعل المواقف، وتغتال الفن (بوتقة الحياة، غداً تتبدل الأرض)، أو تعتمد على الذاتية، وتجتر الأحزان الداخلية والآلام الفردية بطريقة رومانسية هشة، وفي أحسن الأحوال مستعارة (الطيبون، المرأة والوردة، الغربة)» (ص14).
وهذه آراء ظالمة بحقّ الروائيين في المغرب، لأنها أسيرة الأدلجة، كما هو واضح، لأن غالبية الروايات المدروسة تندرج في الرواية العربية المتميزة مثل روايات عبد الكريم غلاب ومبارك ربيع ومحمد زفزاف وعبد الله العروي، وقد قلل عزام من قيمتها الفنية الطيبة.
ووصف رواية التجديد والتجريب بأحكام قاطعة لا تتفق والمنهج البنيوي ـ التكويني ـ أو ما سمّاه المنهج الموضوعي والمنهج الفني، فذكر أن أسلوب السرد الواقعي هو الذي يسود الرواية التقليدية في اتجاهاتها الذاتية، والتاريخية، والوطنية، والاجتماعية. وأنه يتراوح بين الوصف الشديد الدقة للجزئيات، وبين الوصف العام الذي يهتم بملاحقة التحولات الأساسية الهامة، كما هي الحال عند غلاّب مثلاً، في حين يميل السرد الواقعي عند مبارك ربيع إلى اليسر والتواضع والحياد، بينما تجنح واقعية زفزاف إلى الحكائية، وأحياناً الرمزية، في الوقت الذي ذهب فيه التجريب والتجديد في التقنية الروائية إلى اعتماد «المونولوج»، و«الفلاش باك»، والتقطيع السينمائي لدى مبارك ربيع «رفقة السلاح والقمر»، ومحمد زفزاف، وعبدالله العروي الذي يحاول ألا يقع في أسر العادي والنموذجي، من أجل خلق كتابة خاصة به، شفافة، وعميقة، وموحية، لقد حاول عزام أن يعلل أحكامه النقدية القاسية على هؤلاء الروائيين، دون تسويغ فني، وثمة خضوع لنقل مصطلحات غربية بملفوظيتها، التي لا تتفق مع التشكلات الروائية شأن تطبيقه للخطاب الذاتي أو الاسترجاع أو التوليف.
وأضاف عزام حكماً مسبقاً آخر على السمات الفكرية والفنية للرواية المغربية مفاده «أن البطل فيها غالباً ما يكون الكاتب نفسه. ولذلك فهي كثيراً ما تكون سيرة ذاتية أكثر منها رواية فنية، لأن الرواية تتميز بالموضوعية، والشمولية، والإيقاع المتواتر، بينما تضيق نظرة السيرة الذاتية، وتتحدد في بؤرة الوعي الذاتي الذي غالباً ما يكون قاصراً بسبب طغيان النرجسية»(ص17). ويستدعي ذلك العناية بالسرد السيري إزاء الوثوقية والمصداقية والتشكل السيري الذي يميّز بين شكلي السيرة والرواية ومدى بروز التماهي السيري فيهما.
وتداخلت أنواع الوعي عند عزام وتعددت بحسب قضايا المجتمع ومشكلاته، وتراوحت نماذجها بين قطبي الذات والواقع، وتلاحمت مع المشكلات الاجتماعية والذاتية والوطنية والحضارية، وشرع بدراسة الوعي الذاتي منها الذي ينسرب في فنّ السيرة الذاتية.
ومثل هذا الانسراب في السرد السيري يثّمن المعطيات الفردية والشعورية والنفسية أكثر من عناصر الوعي الاجتماعي والتاريخي، وقد خاض ملياً في تفاصيل الوعي الذاتي المنبثق من التجارب الخاصة إلى حدّ كبير، واستند في الوقت نفسه إلى منظورات جدلية مع الذات العامة قليلاً، لأنها لا تصل إلى أطر النماذج الاجتماعية إلا نادراً. وبُنيت الاتجاهات الواقعية على النمذجة بالدرجة الأولى، وانطلق الاتجاه الاجتماعي من الواقعية الاشتراكية، ثم صار إلى الاتجاه البنيوي التكويني بتوظيف الماركسية ورؤاها الطبقية والاجتماعية في إيضاح محتوى البنية، غير أن عزام لم يبلغ هذه الأطر النظرية في معالجته النقدية، معتمداً على التداخل بين هذه المدارات النقدية.
ووجد عزام أن معظم روايات البدايات هي روايات سير ذاتية، بشكل أو بآخر، حيث غالباً ما ينهلّ كاتبها من تجربته، ومحاولاً الاستفادة من ماضيه، كما هو، أو محوّراً بصياغة فنية تختلف من كاتب لآخر. ورأى «اللهاث الجريح» لمحمد الصباغ أنموذجاً للوعي الذاتي الرومانسي، و«سبعة أبواب» لغلاب أنموذجاً وطنياً، و«رواد المجهول» لأحمد عبد السلام البقالي أنموذجاً اجتماعياً، وأن «الخبز الحافي» لمحمد شكري أجرأ رواية في السيرة الذاتية كتبها مغربي وعربي.
أما النموذج الحضاري عن التواصل بين الشرق والغرب في مطلع عصر النهضة واستمراره، فيتبدى في روايات «الغربة» لعبد الله العروي، و«جيل الظمأ» لمحمد عزيز الحبابي و«في الطفولة» لعبد المجيد بن جلون. وتمثل الوعي المستعاد في الروايتين التاريخية والوطنية، والروايتان التاريخية والوطنية تمثلان حديثين متقاربين: العودة إلى الأصول، وحديث المقاومة.
وتداخل الاتجاه البنيوي التكويني مع خصوصيات الرواية التاريخية أو رواية التأرخة لتعضيد الوعي المستعاد، وهذا اجتهاد خاص من عزام، ثم استغرق في توصيف الروايات، وشرحها كثيراً للتعريف بموضوعاتها والقضايا الوطنية والقومية التي تعالجها. وأضاف إلى التوصيف والشرح إطلاق بعض الأحكام النقدية والفكرية التي لا تندرج مع عناصر هذا الاتجاه النقدي ومع طبيعته، وجعل هذا التوصيف والشرح سبيلاً للوعي التاريخي. ومثلّت الوعي التاريخي رواية «الملكة خناثة» لآمنة اللوة، و«المعركة الكبرى» لمحمد أحمد اشماعو، وأول رواية وطنية بالمعنى الحقيقي للرواية هي «دفنّا الماضي» لعبد الكريم غلاّب التي رصد فيها الكفاح البطولي لمدينته فاس ضد الاستعمار الفرنسي منذ أول صدام معه، وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتظل هذه الرواية شاهداً على مرحلة تاريخية دُفنت. والرواية الوطنية الثانية هي «المعلم علي» لغلاّب أيضاً، وتدور أحداثها في عهد الحماية الاستعمارية، وتسجل الكفاح النقابي والوطني في مرحلة تاريخية محددة. وهناك رواية «المخاض» للسباعي، وهي صورة أخرى من صور الوطنية، وتدور أحداثها في الدار البيضاء في أوائل الخمسينيات، وبناؤها تقليدي.
وصوّرت رواية «بامو» لأحمد زياد جانباً من الكفاح الوطني في المغرب إبان العهد الاستعماري، وبالتحديد في عام 1944، في قرية وويزغت التابعة لناحية بني ملال.
وأولع عزام بتسميات الوعي التي يتيحها الاتجاه البنيوي التكويني مثل الوعي الواقع أو الوعي الاجتماعي، وهي أحكام فكرية من خارج الروايات أو مقومات هذا الاتجاه، فهي أشكال وعي تندرج في اتجاهات نقدية أخرى، ولم يأخذ عزام بمكونات اتجاهه النقدي ماضياً في الشرح والتفسير لهذا الحراك الاجتماعي وصراعاته.
وجاءت رواية «المغتربون» لمحمد الإحسايني أنموذجاً للأعمال الروائية التي ترصد الوعي الاجتماعي في الريف، واعتمدت رواية «الطيبون» لمبارك ربيع «على أربع حركات: تعرّف قاسم ماضي أسرته بوساطة عمه، ولقائه بهنية، ونماذج زملائه في الجامعة، وتجربته الصوفية» (ص83).
وهذا هو شأن الولع بالشرح والتفسير الذي لا يخضع لمنهجية الاتجاه النقدي، فقد فرّد القول في أشكال الوعي المتاحة من أحكام داخلة على المحتوى، بينما تتحدد مقومات الاتجاه من بنية الرواية وإفصاحها عن مكنونات المحتوى ودلالاته، فسمى الموضوع القومي وعياً قومياً على الرغم من اندراجه في شكل الوعي الذاتي العام.
وانفردت رواية «رفقة السلاح والقمر» لربيع بالوعي القومي «باعتبارها استطاعت أن تتخطى الحدود الوطنية إلى الآفاق القومية في تصوير وحدة العرب وقتالهم في حرب أكتوبر عام 1973. وإذا علمنا شدة التركيز على القضايا «الوطنية» وانشغال المواطنين بالجري اليومي وراء الخبز والعمل، أدركنا أهمية هذه الرواية في كسر هذا الطوق وتفردها في النتاج الروائي المغربي المعاصر» (ص95).
وأخضع التحليل الوصفي لمصطلحات الاتجاه البنيوي التكويني في توصيفه للتيار السيري، بينما لا يكتفي السرد السيري بتجربة الفرد، إذ سرعان ما تتماهى مع تجربة الجماعة حسب المستوى الإبداعي الناجز، فقد نبع الحديث الروائي للتيار الأوتوبيوغرافي (السيري) من تجربة الكاتب ونوعية رؤيته للعالم، ومنها رواية «المرأة والوردة» لمحمد زفزاف التي يتداخل فيها السرد السيري والروائي تعبيراً عن الوعي الشقي.
وشكلّت روايته «قبور في الماء» قطيعة حقيقية مع طابع السيرة الذاتية، ومع أحلام المثقفين البورجوازيين الصغار.
وأحسن عزام في تطبيق مستويات الوعي ضمن توصيفه وتحليله للمحتوى، أما التحليل السردي أو الروائي فهو شروح للموضوعات، وقلما نقع على عناصر الخطاب الروائي من حدود الواقع إلى فضاء التخييل.
وأشار عزام إلى الوعي المنهار، وهو وعي خاطئ، يحبس نفسه داخل قيم انتهازية أو بورجوازية، ومثلّه أبطال محمد عزيز الحبابي في روايتيه «جيل الظمأ» و«أكسير الحياة» والميلودي شغموم في رواياته «الضلع و الجزيرة» و«جزيرة العين» و«ضلع في حالة الإمكان». وصدرت روايات الحبابي مثالاً على ظاهرة «الوعي المنهار» في الأدب المغربي المعاصر، لأنها تمثل الحيرة والضياع والوقوف على مفترق الطرق بين «الفهلوة» والالتزام.
واستفاد عزام من نظرية الاتجاه البنيوي التكويني في تأمل المصائر البشرية شأن الوعي الممكن الذي يضيء شروط الواقع واشتراطات الوجود، ومثل هذا الوعي لا ينقطع عن الرؤى وما تنفتح عليه من دلالات ورموز ومعان كامنة في الأنساق الاجتماعية.
واستند في فهم الوعي الممكن إلى نظرية غولدمان ومنهجيته البنيوية التكوينية. وكان نتاج عبدالله العروي خير مثال على إيجابية الوعي الإشكالي وسلبياته، وقرأ روايتيته الإشكاليتين «الغربة» و«اليتيم» قراءة باطنية، رمزية، دلالية، غير مباشرة، لتخرج منهما بتأكيد هذا الوعي في صلابته وصموده وتمزقه بين انتمائين متناقضين: أحدهما يشده إلى الوطن حيث التخلف والجذور والأصالة، والثاني يشدّه إلى الغرب حيث التقدم والمعاصرة.
وعاود عزام دمج الاتجاه البنيوي التكويني بالأدلجة، ولاحظنا أن نقده ينسرب في التنبؤ والتقديرات العقائدية كأن يتأمل أو يتوقع محتوى رواية ثالثة منتظرة، أو يحصر الوعي المواجه بالأدلجة وحدها، بينما تبتعد الرواية عن الخطاب المباشر، وتغوص عميقاً في انبثاق المحتوى من البنية. وعدّ الرواية أمضى سلاح إيديولوجي يمكن أن يرتفع في وجه تشويه الحقائق. واعتبر رواية «زمن بين الولادة والحلم» لأحمد المديني الرواية التجريبية الأولى في الأدب المغربي المعاصر على مستويي الشكل والمضمون.
ثم فصل عزام بين المحتوى والفنية عندما درس الاتجاهات الفنية في الروايات المغربية بإيجاز فاصلاً بين المضمون والشكل. وربط التحليل والوصف بالمذهبيات متجاوزاً الاتجاه البنيوي التكويني المتنامي العناصر والمقومات، فقد حصر ميدان الكلاسية (التقليدية) بالمسرح، بينما مجالها هو الأدب بعامة، وأن أهم سمات المذهب الكلاسي هي محاكاة القديم، والمحافظة على الشخصيات العظيمة، وعلى (ارستقراطية) اللغة، والعناية بالشكل أكثر من العناية بالمضمون.
وعاد عزام إلى النقد التقليدي في تحديد طبيعة السرد الروائي وتقاناته العديدة. ونلاحظ أنه أخذ كثيراً من الموروث النقدي الماركسي الواقعي الاشتراكي، وتطوراته عن بعض النقاد، دون تسميتهم، مثل روجيه غارودي في كتابه «واقعية بلا ضفاف».
«هكذا كانت الواقعية مناخاً عاماً تأثر به كل أديب، بطريقته الخاصة، أكثر منها مذهباً يغلّ المنتمين إليه بقيود ذهبية. ومن هنا تعددت التيارات الواقعية: الواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية، والواقعية التجريبية، والواقعية الرمزية، والواقعية الحكائية، حتى ليمكن القول إن الواقعية بلا ضفاف» (ص229).
واستغرق عزام في وصف التجريب السردي مستخدماً معطيات اتجاهات نقدية حديثة كالنقد النفسي على سبيل المثال، ولعلنا لا نعثر على تحليلات سردية، ولا سيما ما وراء السرد.
ظهر في اشتغال عزام على الاتجاه البنيوي التكويني حرصه على تسويغ خيار الموضوعات وارتباطها بمجتمعها وتاريخها، وعلى تحويل الخطاب النقدي إلى مؤشرات سياسية واجتماعية وإيديولوجية، واهتم كثيراً بالتحليل الوصفي للبنية والمحتوى في المنهج التقليدي الذي يرتقي أحياناً إلى استنطاق البنية لأشكال الوعي. وثمة استغراق في مفردات وضعية لا تندرج في اتجاه محدد كحديثه عن التجريب الروائي وذكر التفكيك وسواه، بينما الاتجاه البنيوي التكويني يمعن النظر في التعبيرات الفكرية وتكوينها لرؤية العالم بعامة والصراع السياسي والاجتماعي بخاصة.
2-2- الفهلوي بطل العصر في الرواية الحديثة،
وضع محمد عزام كتابه الثاني في النقد الروائي عن «الفهلوي بطل العصر في الرواية الحديثة»(6)، وعني فيه بالموضوع، وهو صورة الفهلوي (النعت الملطف للانتهازي)، ورؤاه الاجتماعية من خلال دراسة التركيب الطبقي للمجتمعات العربية لإلقاء الضوء على المفاهيم والعقليات السائدة، وكشف الظواهر السلبية، على أن من أخطرها ظاهرة الانتهازية التي تهدد الفرد العبثي بتدمير نواة شخصيته، وإطلاقه كالوباء في هذا العالم، ينفثّ سمومه، ويعيث فساداً. وأخذ بالجانب التكويني أو الاجتماعي من المنهج البنيوي التكويني، ولا سيما رؤية الفنان الروائي للعالم والتي هي مجردة في وعيه، قبل أن تصبح شكلاً في البنية الداخلية لعمله الأدبي. وهناك مستويان شكليان يتخللان الرواية الحديثة: الواقع المتدهور، والرؤيا المستقبلية.
ويكاد بحثه لا يخرج عن الرؤى الاجتماعية ووعيها في الرواية، فعرض عزام لظروف نشأة ظاهرة الانتهازية في الأدب، ورأى أن تكوين الشخصية الفهلوية وسماتها متصل بصعود البرجوازية الصغيرة ونشوء المذهب الرومانسي الذي أفرزته، وتبنّته هذه البرجوازية الصاعدة، وأن الرواية الحضارية التي كتبها رواد التماس الحضاري الأول، في مطلع عصر النهضة، أمثال شكيب الجابري، وعبد السلام العجيلي، وتوفيق الحكيم، ويحيى حقي، وسهيل أدريس غيرهم، إنما هي مجرد استمناء ذاتي سجّل فيها «المثقفون» العائدون من أوروبا مغامراتهم الجنسية التي تظهر «فهلويتهم»، ووصوليتهم، وسطحية تأثرهم بالحضارة الأوروبية.
أما المرحلة الحاضرة التي أنجبت البطل المنتمي الذي لا يعجبه فساد الواقع، فيعمل من أجل تغييره. فإنها أنجبت ـ أيضاً ـ البطل السياسي الذي يضحي بكل شيء من أجل معبوده الجديد: المال والمنصب واللذة، مساهماً في ذلك في تدهور الواقع وانحطاطه، وأشار إلى الدراسات العديدة التي تحدثت عن البطل المنتمي، والثوري، وذكر أشهرها: المنتمي في أدب نجيب محفوظ لغالي شكري، والبطل الثوري لأحمد عطية). وأكد أنه لم تكتب حتى اليوم دراسة واحدة عن «البطل السلبي» المضاد، في الرواية العربية، الذي يسهم في تدهور الواقع وإفساده.
وألمح إلى خصائص النمط الاجتماعي الجديدة وما ينجم عنه من ظواهر سلبية، حتى أصبحت الفهلوة أخطر ظاهرة في مجتمعنا الحديث. وقد تصدى الأدباء لرصد هذه الظاهرة السلبية في الحياة الحديثة، فكتب عنها بلزاك، وزولا، وستندال، وفلوبير من أدباء أوروبا في القرن التاسع عشر، ووصفوا «الصعود» البرجوازي، وكتب روائيون عرب عن صعود طبقات وانهيار أخرى، فصوّر نجيب محفوظ، وعبد العزيز هلال، وعبد النبي حجازي، وهاني الراهب، ومحمد عزيز الحبابي ومبارك ربيع، والميلودي شغموم، وغيرهم من أدباء الوطن العربي هذا البطل السلبي الجديد الذي يقتحم المجتمع مسلحاً بضميره الفاسد وتطلعاته الانتهازية. وهذه الظاهرة ربيبة كل المجتمعات والعصور، وإن تفشت في العصر الحديث.
ويختلف هذا الكتاب وشغله النقدي كثيراً عن كتابه الأول، ويكاد يقترب الاتجاه النقدي من المنهج التفسيري والمنهج التحليل الشارح للموضوعات، أما البنية ودلالاتها فيؤشر إليها في استخلاص النتائج عن الأغراض أو المقاصد في رصد التحولات الاجتماعية العربية وفق منظوره الخاص، ومقارنتها بمعالجات روائية عربية وأجنبية عن هذه الظاهرة السلبية، وهي ظاهرة لا تفترق عن إطلاق الأحكام، ولم تنبثق من التحليل البنيوي التكويني.
وبحث عزام في صورة الفهلوي في الأدب الغربي، وبدأها البطل الفاوستي الذي يقف على رأس عصر النهضة، واتبعه بالبطل الفهلوي رمزاً للصمود البرجوازي التالي. ولا نغفل عن أي فاوست ليس فهلوياً في حالاته كلّها، والصورة مرهونة بمعالجة هذا الأديب أو ذاك. أما البطل الفهلوي فقرنه بحكاية الصعود الطبقي في المجتمعات الأوروبية وتأثيرها على النفوس والأدب، وبعد مرور أكثر من قرن ونصف على هذا الصعود، تكرر بعض المجتمعات العربية هذه الحكاية في الصعود الطبقي.
واستغرق عزام في الاتجاه الإيديولوجي إلى حدّ كبير لدى النظر في محمولات القيم وإضفائها على الأغراض أو المقاصد أو تحديد الوظائف الواصفة والشارحة من القراءة وتفسيرها للرواية، واستخدم عبارات الصراع الطبقي والاجتماعي والإحالات والتناصية ليمتزج النقد بالأدلجة، ونلاحظ أنه أورد أسماء أدباء روائيين ومسرحيين وقصاصين تختلف رؤاهم وأساليبهم ومستوياتهم، وما لبث أن رفد أفكاره بصورة الفهلوي الموروثة، فقد حكم على «الشطار» والعيارين في التراث العربي بالفهلوية، ووصفهم بأنهم «لا يبتعدون في سلوكهم وقيمهم النفعية عن فهلويي عصرنا» (ص47) ووصف حضورهم في مصدرين من مصادر التراث العربي هما «ألف ليلة وليلة» و«المقامات» دخولاً في صورة الفهلوي في الأدب العربي الحديث، مؤكداً على أن ظاهرة الفهلوة ليست «وقفاً على طبقة اجتماعية، ولا على عصر معين، وإنما هي وليدة كل العصور والطبقات، ولكنها أكثر استفحالاً في المنعطفات التاريخية، وفي الطبقات الدنيا التي تتطلع إلى حياة الرغد والثراء فتبيع من أجلها كل شيء» (ص63).
وقد أكد عزام على إضافة العبارات عن صورة الفهلوي الموروثة في بعض الأعمال التراثية، واكتفى بالإشارة لدعم وجهة نظره من خارج البنية الروائية، بينما الاتجاه البنيوي التكويني يصدر الأفكار الناظمة لأشكال الوعي من داخل النصوص. ولعلنا لا نغفل عن مشكلة هذا النقد المؤدلج، فقد سمّى بيير زيما، على سبيل المثال، مشكلة «ماشري» مزدوجة: فهو يستكمل تحليلات ماركس ولوكاتش دون أن يحدد لماذا يعدّ افتراضات لوكاتش (التي يأخذ بعضها منها بالكامل) غير كافية، فهو «يردد أكبر نقطة ضعف للنقد الاجتماعي الماركسي الذي يجهل أن الرواية والإيديولوجية هما قبل كلّ شيء بنى دلالية وتركيبية سردية»(7). ولطالما شحن عزام نقده بالأدلجة ملتفتاً عن تحليل البنية ومحتواها من داخلها، وتقوّى بالموروث في التعبير عن موضوعاته الطبقية والاجتماعية، ونمّطها إلى مستوى الأحكام الوصفية.
وأشار إلى حضور التراث أيضاً في الأجناس الأدبية ولا سيما القصة القصيرة لاقترابها من الفنّ الروائي.
وعالج صورة الفهلوي في نماذج روائية من مصر وسورية والمغرب، واختار في الباب الثاني رؤية الصعود والسقوط في مسيرة البطل الفهلوي في أدب نجيب محفوظ الذي رسم في نماذجه الأدبية بقوة صعود المجتمع الحديث أو سقوطه، الصعود البرجوازي إلى الثروات، والسقوط القيمي الذي يجعل من البشر أعداء، لتقوم الحياة لديهم على التناقض المرير، في مجتمع الغاب الذي يفتك فيه القوي بالضعيف دون رحمة أو شفقة.
واكتفى عزام بتأطير هذه الرؤية الاجتماعية، في مدارات ثلاثة هي فهلوي الجنس في روايتي «القاهرة الجديدة» و«زقاق المدق»، وفهلوي الصعود الطبقي في «بداية ونهاية»، والفهلوي الثوري في «ميرامار»، وغلب على اشتغاله النقدي توصيف الأوضاع الاجتماعية لهذه الشخصيات، فالانتهازية في «زقاق المدق» لا تخرج عن سقوط قيم الخير والعدالة، ليسود الشرّ والرذيلة في المجتمع البرجوازي الذي «يصعد» فيه الأنذال والمنحطون كلما كبرت نذالتهم، ويتهاوى الأخيار كلما اتسعت قلوبهم لقيم الحق والخير والإنسانية.
والانتهازية في «ميرامار» متحددة في السلوك الشائن والانحراف عن مسار الخلق والأخلاق والنزوعات الإنسانية، ونادراً ما التفت عزام في النظر إلى رؤية العالم والمجتمع من خلال فنية البنى الروائية، مقتصراً في نقده لصورة الفهلوي عند نجيب محفوظ على الأسطر التالية:
«وفي التقنية الروائية جاءت الرواية مختزلة، ومكثفة، وجديدة من حيث اعتماد الكاتب على الشخصية التي ترى الحدث من زاوية نظرها هي، وبالتالي فإن كل حدث يمكن أن ينظر إليه من زوايا عديدة بقدر عدد الشخصيات، الأمر الذي يتيح جلاءه بشكل واضح، وتسليط كلّ الأضواء عليه، ورغم أن هذا الأسلوب مستعار من تقنية الرواية الأوروبية الجديدة، ولا سيما لدى لورنس داريل في رائعته «رباعية الإسكندرية»، فإن نجيب محفوظ استطاع أن يملأه بمضمون وطني معاصر» (ص128).
ونلاحظ ولعه بالأحكام والأوصاف مثل وصف رواية لورانس داريل بالرائعة، ونسب علائق الرواية إلى مدى تلازمها مع المحمول الفكري لهذه الرواية أو تلك، كما هو سائد في النقد الماركسي الذي يفصل غالباً بين الشكل والمضمون في وصفه وتنظيراته ومواءمة الأحكام الفكرية مع المنظور النقدي.
وكان المثال الثاني هو «مسيرة السقوط في عالم بلا قيم»، وصفاً لبداية السقوط في رواية «من يحبّ الفقر» لعبد العزيز هلال، و«احتراف السقوط» في رواية «الياقوتي» لعبد النبي حجازي، وثورية السقوط في رواية «ألف ليلة وليلتان» لهاني الراهب، وهذا الوصف شديد الإيجاز للوصول إلى معنى الفهلوة وتشابكاتها مع البيئة عند عبد العزيز هلال. ولاحظ عزام أن رواية عبد النبي حجازي أبرزت «التناقض الفاضح بين عالمي المدينة والريف، الأول والغ في القذارة، والثاني يمثّل الطهر والنقاء كآخر حصن منح صون الخير. والياقوتي ـ بهذا ـ «بطل» مجتمع متهم ومدان بتدهور القيم» (ص144).
بينما جاءت رواية «ألف ليلة وليلتان» عملاً فنياً جديداً، على مستويي الشكل والمضمون، وأوجز عزام وصفه للفهلوة والفهلويين في نماذج الرواية المغربية المدروسة «جيل الظمأ» لمحمد عزيز الحبابي، و«الطيبون» لمبارك ربيع، و«جزيرة العين» للميلودي شغموم. وقلل من عنايته بتحليل البنية الروائية مكتفياً بالمقارنة مع الرواية الفرنسية، كقوله عن رواية الحبابي: «ورغم أن السرد والتقريرية كثيراً ما عاقتا حركة الأشخاص وتطوّر الأحداث، كما أعاقها الفكر المجرد، فإن الرواية لا تخلو من التماعات موحية تعتمد على ذكاء القارئ. مع هذا فقدت الرواية توازنها الفني حين استخدمت بعض التعابير الفلسفية المجردة والخاصة بالمذهب الشخصاني الذي يعتنقه الكاتب» (ص164).
وذكر أن مبارك ربيع، على الرغم من تقليدية البناء الروائي، عنده فقد حافظ على المعادل الرمزي في دلالات الأشخاص والأحداث، دون أن يتضخم لديه الجانب الفكري على حساب الجانب الفني.
لقد غلبت الأدلجة على الشغل النقدي في هذا الكتاب فيما يؤشر إليه النقد الاجتماعي الماركسي، الذي لا يعبأ كثيراً بتحليل البنية الروائية وتشكلات الوعي فيها.
2-3- فضاء النص الروائي:
صرّح محمد عزام بالتزامه المنهج البنيوي التكويني في كتابه الثالث في النقد الروائي «فضاء النص الروائي: مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان»(8)، وسوّغ التزامه بهيمنة الدراسات المضمونية والسوسيولوجية على الأبحاث النقدية الروائية، بالإضافة إلى طغيان الانطباعات الشخصية والأحكام الذاتية، اكتفاء «بتلخيص مضمون الرواية، في محاولة لتأكيد أحكام القيمة المستمدة من العرض السريع للمضمون»، وانتقد هذه النزعة المضمونية في النقد الروائي لإهمالها الشكل، بل إن الشكل غدا المضمون نفسه في هذه الأبحاث.
بينما استفاد عزام من الإنجازات الألسنية في تحليل الخطاب الروائي، وتوخى الوضوح النظري لمعالجة تقنية الأسلوب الذي تقدم فيه الروايات مادتها الحكائية، واعتمد على الدراسات البنيوية والألسنية في تحليل النص الروائي، باعتباره بنية دلالية منتجة في إطار بنية سوسيونصية، وبوضع النص في سياق بنيته الثقافية والاجتماعية والتاريخية التي أبدع فيها، للكشف عن خصوصيته، من خلال استخلاص رؤاه وأصواته وشخصياته المهيمنة.
وسعى عزام في كتابه إلى تحليل النص باعتباره بنية دلالية تعتمد المقولات البنيوية المفتوحة على الحقول الدلالية والثقافية والإيديولوجية والاجتماعية، مجاوزة لحدود المؤثرات إلى التفاعل النصيّ والتناص. وتبنّى منهجاً للقراءة يحلل بنيات العمل الأدبي الداخلية والخارجية، وأهتم بالربط الجدلي بينهما، من أجل الوصول إلى الحقيقة، ونقد اختيار المناهج الشكلانية والشكلية وحدها، لأنّ المنهج البنيوي التكويني يربط بين داخل النص وخارجه ضمن تعالقات المناهج النقدية الجدية. وعلل التزامه بهذا المنهج لمجاوزته تفسير البنيات الخارجية في المجتمع. ذلك أن اختراق البنية الثقافية والإيديولوجية والاجتماعية لفضاء النص الأدبي يعني وضعه في سياقه التاريخي وربطه بالبنيات الاجتماعية التي أسهمت في إبداعه. ما دام النص، عنده، نتاج ظروف اجتماعية خارجة عن إرادة المبدع، وما دامت هنالك علاقة بين الفكر والواقع. وبهذا ينفتح النص الأدبي على مستويات أعلى من الوعي والإدراك، ويتحول إلى «رؤية» للعالم، ذات دلالة اجتماعية، تنظّم فضاءه.
وأكد خياره لربط غولدمان الوعي الجماعي الكائن بالوعي الجماعي الممكن، وعدّ النتاج الإبداعي ليس فقط من صنع مبدعه، ولكنه موجود في فكر الجماعة التي يعيش المبدع بينها. ومن هنا استجابة الجمهور لما يكتبه الكاتب، لأنه يقدم «الصورة الفنية» للفكر الجماعي، أو «الصياغة الجمالية» لهذا الوعي.
واختار عزام روايات نبيل سليمان موضوعاً رئيساً لكتابه، وهي إحدى عشرة رواية حتى تأليف كتابه، وعالجت جميعها تاريخ سورية الحديث والمعاصر منذ العهد العثماني حتى اليوم، وكانت رغبته في تطبيق المنهج البنيوي التكويني على هذا الإنتاج الذي يعيد تصوير مراحل تاريخية حديثة، كما يصور فترات اجتماعية معاصرة.
ونظر عزام إلى المناهج النقدية التقليدية نظرة محدودة تضيّق اعتمالها بالمبدع، على أنها تقتصر على حقول معرفية خارجية كالتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع، وتسقط منجزاتها بتعسف على النص الأدبي، فتحضر هذه العلوم أكثر من حضور النص الأدبي ذاته، بينما تبحث المناهج البنيوية عن النص الأدبي وأنساقه وعلاقاته ونظامه وقوانين تبنيه، وعرض لذلك تحليله للخطاب الروائي والشكلاني والبنيوي الشكلي، والبنيوي التكويني للرواية.
واستعان بالمنهج العلامي (السيميائي) في تحليل الخطاب الروائي الذي تعامل مع النص على أنه «دليل منفتح»، ومتعدد الدلالات. وهذا التحليل الدلالي (السيميولوجي) ينطلق من اللسانيات، باعتبار النص ينتج من خلال اللغة. ثم يتجاوز إلى «الدلالة»، على أن النص ليس مظهراً لسانياً فحسب، بل هذه «دلالة» ذات معنى.
وأشاد عزام بالتحليل الشكلاني للرواية عند أعلامها: شكلوفسكي وتوماشفسكي وايخنباروم وبروب وجاكوبسون (ولا ينتمي لهذا المذهب) وتينيانوف الذي رفض التحليل الأدبي المعتمد على سيكولوجية المؤلف وعلاقاته مع بيئته وحياته وطبقته الاجتماعية.. الخ، لأنّ إقامة مثل هذه العلاقات هي من شأنه التاريخي الذي يضطلع بوصف العلاقات القائمة بين عناصر منظومة معينة. أما التطور فهو تغيير للنظم. وهذا التغيير يعطي العناصر الشكلية وظيفة جدية. وكل تيار أدبي يقوم بالبحث عن نقاط معينة، خلال فترة ما، يستند إلى ما سبقه من نظم. ودراسة التاريخ الأدبي هي اعتبار هذا التاريخ بمثابة نظم أو سلسلة متعالقة مع سلاسل أو نظم أخرى..
لقد استفاد عزام كثيراً من الشكلانية الروسية في تحليل الخطاب الروائي، وهو الاتجاه الذي استندت إليه البنيوية التي أورثت اتجاهات نقدية متعددة مثل البنيوية التكوينية والحفر المعرفي والتفكيكية والظاهراتية والأسطرة والأسلوبية والنصية... الخ.
وأوجز تعريفه للتحليل البنيوي للخطاب الروائي على أساس العوامل
(أو نظام الفاعلين)، عند غريماس، وتودوروف، وهامون (في شعرية السرد)، وتوماشفسكي (ضمن نظرية الأدب). واقترح تصنيف الشخصيات حسب أفعالها، وسمّاها «العوامل».
وأعاد عزام في تحليله البنيوي التكويني للرواية، ما اهتم به في كتابه «وعي العالم الروائي» من مفاهيم أساسية عند غولدمان مثل مفهوم البنية الدالَّة ومفهوم رؤية العالم الذي يشكل مع البنية الدالّة وحدة متكاملة، والرؤية المأساوية الناظمة لمعرفة نظرية العالم، والوعي والواقع الاجتماعي، والوعي الممكن، وهي المفاهيم الأساسية لسوسيولوجيا الآداب عند غولدمان الذي أعطاها شكلها النظري النهائي، وطبّقها منهجاً نقدياً بنيوياً تكوينياً في دراسة الآثار الأدبية والفكرية لراسين، وباسكال، وكانط، ومالرو، وسارتر.. الخ. رافضاً كل نزعة تريد أن تفهم الأعمال الأدبية بالوقوف عند جزئياتها، ومحاولاً إدراك المجتمع في «كلّيته»، ورابطاً ما هو اقتصادي بما هو سياسي، بل وحتى بما هو أدبي وفني، وكاشفاً عن العلاقات الوظيفية بين المؤسسات الاجتماعية والأعمال الأدبية، ومتبنياً مفهوم «الكليّة» الذي يرى أن التجربة المجتمعية والتاريخية في كليتها تتكونه وتتكشف عن ذاتها من خلال الممارسة الاجتماعية.
ورصد عزام بنية النص الروائي من خلال قراءة داخلية، وعالج الرواية والحداثة ووجهة النظر أو المنظور الروائي والفضاء الروائي (بنية المكان في النص الروائي، وهذه مقاربة غير دقيقة)، وبنية الزمان في النص الروائي (لأن الفضاء يتعالق فيه المكان والزمان)، وشرح وجهة النظر عند علماء السرد، دون أن يفرد الآراء حول الموقف من الوظيفة أو المنظور السردي
أو الأغراض أو المقاصد فيما يتصل بالمغزى، لأنه ناجم عن الخطاب القصصي ضمن ضبط التحفيز.
وصنّف الشخصيات فيما يتيحه علم السرد، وحللها في عدة روايات لنبيل سليمان، وفعل الأمر نفسه في معاينة بنية المكان وبنية الزمان، ويشير شغله إلى تمكنه من المنهج كما هو الحال مع تحليل تداخل أزمنة عديدة في رواية «المسلّة»:
1- زمن الحكاية المرتبط بوقائع النص الروائي، وهو حرب تشرين الأول 1973، حيث اشتركت فيها معظم الجيوش العربية.
2- زمن الكتابة المرتبط بالعوامل الخارجية المؤثرة في الروائي. حيث تتداخل فيه وقائع حياة المروي بوقائع حياة الراوي، لتعميق نفسيات أبطاله.
وأعتنى بالسارد بوصفه الكائن التخييلي الذي يتقاطع مع «المؤلف» أحياناً، ويمتزج به أحياناً أخرى، في سرد يكسر خطية الرواية، حيث يعتمد على المونولوج، والتداعي، والرؤى، والتناصّ، والإشارات.
3- زمن القراءة المرتبط بالعوامل الخارجية المؤثرة في قراءة النص الروائي، ذلك أن قراءة «الموحيات» هي قراءة ثانية، رمزية، للنص الروائي، وأفق جديد ينتقل المتلقي إليه على أجنحة التخييل. وأشار إلى أن القارئ يفتّت المركّب، ليمنحه نظاماً جديداً.
وأكمل عزام منهجه البنيوي التكويني في قراءة خارجية للنص الروائي لتوصيف الفضاء السوسيولوجي للرواية عند نبيل سليمان، فأوضح سوسيولوجيا الرواية، ومشروعات اختراق الفضاء الثقافي والإيديولوجي والفضاء الاجتماعي والفضاء التاريخي للخطاب الروائي، ولجأ إلى جورج لوكاتش وميخائيل باختين وبيير زيما وسعيد يقطين على وجه الخصوص، وبلغ المنهج ذروته عند زيما الذي يرى أن هذا المنهج البنيوي التكويني كما بلوّره غولدمان، يعتمد على حدس الناقد وذوقه، دون أن يحاول تطبيق مقترحاته بوسائل محددة. كما يخشى زيما الحضور المكثف للعناصر الخارجية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في التحليل البنيوي التكويني، كما يخشى غياب النص الأدبي.
إن تفسير النصوص الروائية حسب منهج لوكاتش، أي عن طريق مقابلتها مع الإيديولوجيات المناظرة لها، لا يمثل سوى إمكانية واحدة من التفسيرات الممكنة للنص، ولهذا مضى زيما ينتقد علم الاجتماعي الأدبي الذي يمثله روبير اسكاربيت، ويحصر اهتمامه في العناصر الخارجية عن الأدب (الجمهور، والكاتب، والطبقة)، دون أن يعير المضمون التاريخي للنص أي اهتمام. كما انتقد زيما سوسيولوجيا «المضمون» التي تحيل على الأحداث والوقائع، وتتعامل مع الأدب كما يتعامل المؤرخ مع الوثائق التاريخية. وذلك من أجل إقامة تصور لسوسيولوجيا نصية قادرة على تجاوز الصراعات المحتدمة بين الاتجاهات الاجتماعية والشكلانية. وهذا التصور يقوم على النسق اللغوي الذي تلتقي فيه المصالح الاجتماعية. فالمشكلات الاجتماعية والاقتصادية تظهر في النص الأدبي على شكل قضايا لسانية تتجسد من خلال التناصّ. وهنا يقترب زيما من موقف باختين في التحليل الروائي.
وقد عبّرت رواية «ينداح الطوفان» تعبيراً واضحاً عن انعكاس الإيديولوجيا في الأدب، والواقع الاجتماعي في أشمل معانيه: السياسية والثقافية والأدبية.
وبحث عزام في مشروع اختراق الفضاء الاجتماعي للنص الروائي في روايتي «المسلة» و«جرماتي»، ومشروع الاختراق التاريخي في رباعية «مدارات الشرق» و«هزائم مبكرة» و«ينداح الطوفان» و«ثلج الصيف» و«المسلّة».
يكاد يندرج نقد عزام في كتابه في الاتجاه البنيوي التكويني، فقد اعتمد على ثمار النقد الاجتماعي في علم السرد الناهض من التحليل الشكلاني الذي يستقل فيه النص السردي، وتنتظم بناه وفق معطيات صوغ المتن الحكائي بمستوياتها الإبلاغية العديدة.
2-4- شعرية الخطاب السردي:
جاء كتاب محمد عزام «شعرية الخطاب السردي»(9) ذروة التزامه بالاتجاه البنيوي التكويني في النقد الروائي. وانطلق من إسهام المنهجيات الحديثة في تدشين عصر جديد للدرس النقدي، حين قدمت الكثير من التقنيات والآليات والمناهج التي دفعت بالقراءة والتلقي إلى تعمق متاهات النصوص الأدبية لاستجلاء كوامنها. وطمحت دراسته إلى البحث في «مكونات الخطاب الروائي الجديد» على ضوء المنهج البنيوي، كما طمحت إلى استعمال أدوات ومفاهيم جديدة تمتح من السرديات التي يعمل الباحثون على بلورتها لتصبح اتجاهاً متميزاً في تحليل الخطاب السردي.
واستفاد من الإنجازات الألسنية في تحليل الخطاب السردي، وهو يتوخى استنباط «الأدبية» من النص السردي، ومعالجة تقنيات الأسلوب الذي يقدم فيه السرد مادته الحكائية، اعتماداً على الأبحاث البنيوية، والدراسات الألسنية في تحليل النصوص السردية، باعتبار النص بنية دلالية منتجة في إطار بنية سوسيو نصية.
وقارن بين النقد الروائي التقليدي والمنهجيات الحديثة في النقد، فالتقليدي يُعنى بالمضمون وحده، ويربطه بقضايا المجتمع وأزمات الواقع، ولا سيما عند نقاد المنهج الاجتماعي، فالنقد الروائي الجديد تجاوز ذلك، مستفيداً من إنجازات الشكلانيين الروس، واجتهادات البنويين الفرنسيين، وتنظيرات النقاد الغربيين، إلى فتح باب جديد في النقد الروائي هو علم السرد: تقنياته ومكوناته، معالجة الوظائف، والعوامل، والفواعل، وفضاء المكان، والزمان، والراوي، وجهة النظر، والمونولوج الداخلي... من خلال نقد سردي حداثي يقوم على تحليل النص ووصف بنياته، لا على جدلية مرجعيته الفكرية أو الاجتماعية.
وسعى عزام إلى تقديم رؤية نقدية، وطريقة تحليل موضوعية للخطاب الروائي، من أجل إنتاج معرفة منهجية ترقى إلى مستوى نموذج نقدي مشروع هو الهدف، ثم عني بتوضيح القضايا الإجرائية بُغية تحليل الخطاب ومكوناته السردية، وعلى الرغم من أن كل قضية من قضايا السرد تصلح أن تكون بحثاً مستقلاً في كتاب، فقد آثر عزام الكلية (أو البنية) في التجديد السردي الذي تخلى عن البطولة، وجعل «المضمون» مراوغاً، وأظهر تشكيلات لغوية مبتكرة، من أجلى مظاهرها الانزياح، واعتمد الخطاب الداخلي، وطرح المتناقضات، واعتمد على السرد المفصل، وتخلى عن الخطية الزمنية.
وطبّق منهجيته على ثلاثية «الطريق إلى الشمس» للروائي عبد الكريم ناصيف متعالقاً مع الرواية النهرية أو الانسيابية أو روايات الأجيال التي انتشرت كثيراً في الأدب العالمي والأدب العربي الحديث، وسوّغ اختياره لهذه الثلاثية بالنظر إلى سماتها الفنية والفكرية وهي:
1- ثلاثية روائية تستلهم التاريخ العربي القريب، وتصور أحداثه وأشخاصه، خلال نصف قرن من الزمان، (منذ مطلع القرن العشرين وحتى منتصفه)، معتمدة الوثيقة التاريخية، دون الالتزام بها تماماً. وهنا ميزة الروائي الناجح الذي يعتمد التاريخ منطلقاً دون أن يجعله قيداً يحدّ من حرية حركته في الزمن، فيصور الأحداث والأشخاص تخييلياً، جامعاً بين التاريخ والتخييل.
2- لم تعالج هذه «الثلاثية» من قبل نقاد وباحثين، وقد كتب عن بعض أجزائها، ولكنه لم يكتب عنها ككل، بالإضافة إلى أن ما كُتب عنها لا يخرج عن حدود النقد الانطباعي والصحفي البعيد عن المنهجية العلمية الدقيقة.
3- حاجة النقد الأدبي في سورية إلى تجديد مناهجه النقدية، بعد أن كانت «الواقعية» قد سيطرت على دراسات كثير من النقاد والباحثين، فعزفوا على أوتارها طويلاً، حتى استنفدوا أغراضها. فكان لابد من اعتماد مناهج نقدية حداثية تجدد شباب النقد الأدبي. مما دعاه لتبني المنهج البنيوي في السرديات الذي بدأ يتضح في مطلع سبعينيات القرن العشرين، تركيزاً على مكونات السرد الروائي، من شخصية، وزمان، ومكان، وتبئير.. الخ. ولم يقتصر في دراسة «بنية النص السردي» على تقنياته، بل درس أيضاً «علاقات» مكوناته السردية بوصفها عنصراً أساسياً فاعلاً في البنية الشكلية.
4- تجنب ـ ما أمكن ـ أحكام القيمة، لأن المنهج البنيوي من المناهج الوصفية التي تُعنى بالتحليل وحده، ولا تجاوزه إلى إعطاء حكم قيمة على المبدعات الأدبية التي تحللها.
5- حرص في بداية كل فصل على تصديره بعرض نظري لـ«المكون السردي» وتطوره النقدي، ثم قام بالإجراءات النقدية في تحليله، جامعاً بين النظرية والتطبيق في تفكيك البناء السردي لمعرفة جزئيات العمل الأدبي، وإدراك أسراره المكبوتة خلف الكلمات، فمن المعلوم أن الأحداث والأشخاص وحتى الكلمات تملك وجهين هما: «دال» واقعي، و«مدلول» رمزي.
وأظهر الكتاب تعمق عزام في تطبيق الاتجاه البنيوي التكويني، إذ شرح عناصر السردية، وتتبع تشكّلها النظري عند أهم نقاد السرديات وواضعي علم السرد، ثم طبّقها على الثلاثية، وأورد على سبيل المثال تعريف الراوي والمنظور في السرد الروائي مصطلحات وممارسة عند أبرز المنظرين أمثال هنري جيمس وآلان روب غرييه وجان بويون وجينيت وتودوروف وتوماسفشكي وهنري جيمس وبيرسي لبوك ونورمان فريدمان واوسبنسكي وباختين.. الخ. وقد أبدى في حديثه عن المنظور السردي أو وجهة النظر أو الرؤية الثراء العلمي الذي أدخل في التطبيق النقدي عن اقتدار، وذكر أن للرؤية تسميات كثيرة، فبعضهم يسميها «وجهة النظر»، وآخرون يسمونها «زاوية الرؤية»، وغيرهم «بؤرة السرد»، و«التحفيز»، و«حصر المجال»، و«التبئير»، و«الرؤية السردية». ولعل تسمية «وجهة النظر» هي الأكثر شيوعاً، وعلى الخصوص في الدراسات الأنجلو أمريكية التي تركز على «الراوي» الذي من خلاله تتحدد «رؤيته» إلى العالم الذي يرويه بأشخاصه وأحداثه.
ولقد مرّت الدراسات حول «الرؤية» بمرحلتين: بدأت الأولى مع النقد الأنجلو ـ أمريكي في بدايات القرن العشرين، واستمرت حتى أواخر الستينيات، واحتلت «الرؤية» خلالها مركز الصدارة في تحليل الخطاب الروائي، وبدأت المرحلة الثانية في مطلع السبعينيات مع التطور الذي تُوّج بظهور «السرديات».
صنُفّت «الرؤية» في ثلاثة أنواع، وهي:
1- الرؤية الخارجية: وتتمثل في الروايات المكتوبة بصيغة الغائب.
2- الرؤية الداخلية: وتتمثل في الروايات المكتوبة بضمير المتكلم والسيرة الذاتية.
3- الرؤية المتعددة: وتتمثل في الروايات التي تصور الصراع الفكري والحياتي.
وديستويفسكي هو مبدع الرواية المتعددة الأصوات، أو ذات الرؤى المتعددة. وأورد تطبيقه للمنظور الإيديولوجي على الثلاثية بوصفها عملاً متعدد الأصوات، وأوضح السمات التي تُظهر هذا التعدد من خلال كثرة المقاطع التي يصدر الراوي فيها الأحكام المنفصلة عن منظور الشخصيات الإيديولوجي، تلك الأحكام التي تشبه الحكم، وتقف مستقلة عن النص، محتفظة بدلالة مطلقة كما هي الحال في روايات الواقعيين الغربيين حيث من المستطاع إخراج كتيب مليء بالحكم والأمثال التي ترد على لسان إحدى الشخصيات، أو لا ترد على لسان أي من الشخصيات، ولكنها ترد على لسان «الراوي»، دون أن تدخل في نسيج النص، عندما ينقطع خط القص، ويعلو صوت الراوي، معلناً المنظور الإيديولوجي الذي يحكم الرواية بطريقة مباشرة، نحو استخراج هذه الفقرات من سياق الرواية دون إخلال ببنائها.
ويعدّ هذا الكتاب مرجعاً شديد الكثافة عن شعرية الخطاب الروائي نظرياً وتطبيقياً كمثل شرحه لخطاب الحكي إزاء المنظور السردي، فمع «خطاب الحكي» (1972) لجيرار جينيت نجد أنه يقدم العمليات النظرية متكاملة للسرد، فهو ينطلق من قراءة كل التصورات السابقة، ومن خلال نقده إياها يقدم مشروعاً منسجماً مع ما سبق، مستوحياً التصورات اللسانية البنيوية فيما يتصل بـ «الرؤية أو وجهة النظر». لكنه استبقى هاتين السمتين، واستبدلهما بمصطلح «التبئير» الذي هو أكثر تجريداً، وقسّمه إلى ثلاثة أنواع، وهي:
1- التبئير الصفر، أو اللاتبئير، ونجده في السرد التقليدي.
2- التبئير الداخلي، سواء كان ثابتاً، أو متحولاً، أو متعدداً.
3- التبئير الخارجي، الذي لا يمكن فيه التعرف على دواخل الشخصيات.
لقد أحسن محمد عزام كثيراً في تطبيق المنهج البنيوي التكويني في السرد الروائي الذي يفيد في إضاءة فكر الروائي من جهة، ويكشف عن أساليبه الفنية العميقة من جهة أخرى.
3- ملاحظات عامة:
أقبل عدد كبير من الباحثين والنقاد على الاتجاه البنيوي حسب منجز رولان بارت على وجه الخصوص لدعم الاتجاهات النقدية في كتاباتهم ولا سيما دعاة الاتجاه الإيديولوجي (الماركسي) والاتجاه الاجتماعي، والاتجاه النصي، غير أن الإقبال على الاتجاه البنيوي التكويني قليل نسبياً، بينما أخذوا بعض معطياته ومكوناته مثل المدلولات الفكرية والرؤى الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية. وتعززت هذه المعطيات والمكونات في طلب الوعي وإثراء الخطاب الروائي بتشكلات رؤى العالم من الإقرار بكلية البنية الروائية وشموليتها لهذه الرؤى. وقد استفاد محمد عزام في كتاباته النقدية من هذا الاتجاه كثيراً قياساً إلى بقية المشتغلين بالنقد الروائي الذي عللوا شغلهم النقدي ببعض خصائص المنهج البنيوي التكويني. وأشير إلى أبرز الملاحظات في مقاربة هذا الاتجاه في النقد الروائي:
1- عني الباحثون والنقاد بهذا الاتجاه نظرياً دون تطبيقه في كتاباتهم مثل جمال شحيد في كتابه «في البنيوية التكوينية ـ دراسة في منهج غولدمان» (1982)، ومحمد نديم خشفة في كتابه «تأصيل النص، المنهج البنيوي لدى لوسيان غولدمان» (1997)، وهما ناقدان في مجال السرد القصصي والروائي، ولم يأخذا بهذا الاتجاه كلية في نقدهم.
2- عرّف النقاد والباحثون بهذا الاتجاه في مقالات وأبحاث، ولم تنشر في كتب، وزادوا اهتمامهم بالتعريف عن طريق التعريب والترجمة في مؤلفات عديدة، وأبرزهم ما كتبه ميجان الرويلي وسعد البازعي في كتابهما «دليل الناقد الأدبي».
3- لجأ كتّاب الاتجاه الإيديولوجي (الماركسي) إلى الاتجاه البنيوي التكويني في تطويع المذهب الاجتماعي لاستيعاب آليات الوعي في رؤى العالم والذات لدى الإحاطة بالتركيب الاجتماعي داخل المبنى الروائي.
4- إغناء عمليات الوعي بما تتيحه فضاءات التأويل لدى قراءة الرواية وتحليلها، من أجل تعليل الكلية والنمطية في المبنى الروائي، والتخفيف من أدلجة الاتجاه الماركسي أو الاجتماعي. وقد بادر محمد عزام إلى دمج الاتجاه البنيوي التكويني بالأدلجة في المرحلة الأولى من كتابته النقدية، ثم جاوز هذه الأدلجة إلى توضيح الموضوعات الروائية وربطها بمجتمعها وتاريخها تقديراً للتخييل الروائي في بناء الخطاب الروائي وبلوغ أغراضه.
5- وظّف محمد عزام جوانب الاتجاه البنيوي التكويني في كشف الرؤى الاجتماعية وتقويم الموضوعات المعالجة في الروايات، والعناية الأقل بتحليل المبنى الروائي.
6- التزم محمد عزام بالجوانب الرئيسة من الاتجاه البنيوي التكويني في المرحلة الثانية من كتابته النقدية لتسويغ إصراره على إظهار النزعات المضمونية من داخل النص الروائي، وساعد هذا التسويغ على الاستفادة من الحقول المعرفية الخارجية كالتأريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع.
7- اعتمد محمد عزام على الشكلانية الروسية وعلم السرد في التحليل البنيوي التكويني للروايات المدروسة بما يفضي إلى العناية بالخطاب الروائي ومدلولاته الفكرية عن طريق العناية الواسعة بالمستويات المتعددة للوعي الواقع والممكن في مواجهة استحالته وتعذر تحققه أو دفعه إلى التردي وانحطاط الرؤية. وأتاح هذا الاعتماد انفتاح الشكلانية الروسية وعلم السرد على رحابة المنهجيات النقدية الحديثة لدى إظهار المنظور الروائي.
هوامش البحث
(1) عالج بيير زيما تطورات هذه المناهج إلى المنهج البنيوي التكويني عند غولدمان في كتابه: النقد الاجتماعي، (ترجمة عايدة لطفي، مراجعة أمينة رشيد وسيد البحراوي)، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1991، ص41-156.
(2) عدة كتّاب: مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، (ترجمة رضوان ظاظا)، سلسلة عالم المعرفة 221، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أيار، 1997، ص165-208.
(3) ميجان الرويلي وسعد البازغي: دليل الناقد الأدبي، مصدر سابق، ص78.
(4) محمد نديم خشفة: تأصيل النص، المنهج البنيوي لدى لوسيان غولدمان، مركز الإنماء الحضاري، حلب، 1997، ص56-57.
(5) محمد عزام: وعي العالم الروائي: دراسات في الرواية المغربية، منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق 1990.
(6) محمد عزام: الفهلوي بطل العصر في الرواية الحديثة، دار الأهالي للطباعةو النشر والتوزيع، دمشق، 1993.
(7) النقد الاجتماعي، مصدر سابق، ص143.
(8) محمد عزام: فضاء النص الروائي: مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان، دار الحوار، اللاذقية، 1996.
(9) محمد عزام: شعرية الخطاب السردي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2005.
(1) عالج بيير زيما تطورات هذه المناهج إلى المنهج البنيوي التكويني عند غولدمان في كتابه: النقد الاجتماعي، (ترجمة عايدة لطفي، مراجعة أمينة رشيد وسيد البحراوي)، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1991، ص41-156.
(2) عدة كتّاب: مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، (ترجمة رضوان ظاظا)، سلسلة عالم المعرفة 221، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أيار، 1997، ص165-208.
(3) ميجان الرويلي وسعد البازغي: دليل الناقد الأدبي، مصدر سابق، ص78.
(4) محمد نديم خشفة: تأصيل النص، المنهج البنيوي لدى لوسيان غولدمان، مركز الإنماء الحضاري، حلب، 1997، ص56-57.
(5) محمد عزام: وعي العالم الروائي: دراسات في الرواية المغربية، منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق 1990.
(6) محمد عزام: الفهلوي بطل العصر في الرواية الحديثة، دار الأهالي للطباعةو النشر والتوزيع، دمشق، 1993.
(7) النقد الاجتماعي، مصدر سابق، ص143.
(8) محمد عزام: فضاء النص الروائي: مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان، دار الحوار، اللاذقية، 1996.
(9) محمد عزام: شعرية الخطاب السردي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2005.
هناك تعليق واحد:
شكرا لكم مقال رائع جدا عن الناقد السوري محمد عزام
إرسال تعليق