البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

الاثنين، 2 يناير 2012

مباحث في علم الأصوات عند ابن جني


مخارج الحروف عند ابن جني
(330هـ-392هـ)



جمع وترتيب : بندر بن عبدالله الثبيتي
جامعة الطائف السعودية




1429 هـ

مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين , أما بعد:
فهذا بحث موجز يبين منهج أحد كبار علماء اللغة العربية في تحديد مخارج الحروف ألا وهو عثمان ابن جني , من خلال ما كتبه  في كتبه الزاخرة بعلمه الجم في هذا المجال , ولما طلب مني كتابة بحث موجز عن مخارج الحروف عند ابن جني , وجدت كتاب بعنوان "الصوت اللغوي في القرآن " لأحد علماء الشيعة, ولما احتواه من فصول مهمة حول هذا البحث جعلته الأصل الذي انطلق من خلاله , وعلى  الرغم بأن هذا الكتاب يحتوي على 212 صفحة , إلا أن ما يهمني لا يتعدى الأسطر المعينة لخدمة هذا البحث , فقمت بعد الإستعانة بالله بالتأكد من كلام ابن جني من كتابيه "الخصائص" و "سر صناعة العربية "  وتم وضع مباحث عامة للبحث لكي تسهل على قارئه , واختصرت وأضفت مايهم  هذا الموضوع , وجعلت في بداية البحث موضوعا مهما وهو صفات الحروف , حتى يكتمل العقد والفهم لمخارج الحروف, وقمت بعد الإنتهاء من البحث بوضع ترجمة موجزة لابن جني ووضعتها في أول البحث  , وعلى الرغم بأن الأصل الذي اعتمدت عليه لأحد المخالفين لمنهج أهل السنة والجماعة , إلا أني آثرت أن انقل ما يفيد  ولا يخالف المنهج  وهو ما أرجوه, راجيا من المولى عز وجل أن يجعل ذلك مقبولاً , وأن تتم الفائدة من خلاله , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

المبحث الأول : تعريف بابن جني[1]
نسبه وموطنه:
هو أبو الفتح، عثمان بن جِنّي الموصلي النحوي اللغوي، من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف، وصاحب التصانيف الفائقة المتداولة في اللغة.
ولم تذكر المصادر التاريخية وكتب التراجم نسبا له بعد جني؛ إذ أن أباه (جني) كان عبدا روميا مملوكا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي، ولم يُعرف عنه شيء قبل مجيئه الموصل، وإلى هذا أشار ابن جني نفسه بقوله في جملة أبيات:
فإن أصبح بلا نسب ... فعلمي في الورى نسبي
عـلى أني أؤول إلى ... قرومٍ سـادة نجـب
قيـاصرة إذا نطقوا ... أرَمّ الدهـر ذو الخطب
أولاك دعا النبـي لهم ... كفى شرفاً دعاء نبي
وكانت ولادة ابن جني بالموصل، وفيها قضى طفولته وتلقى دروسه الأولى، وذكرت المصادر التي ترجمت له أنه ولد قبل سنة ثلاثين وثلاثمائة، وقد أقام ابن جني بعد الموصل ببغداد، وظل يدرس بها العلم إلى أن توفي، وكان له من الولد: علي وعالٍ وعلاء، وكلهم أدباء فضلاء، قد خرجهم والدهم وحسن خطوطهم، فهم معدودون في الصحيحي الضبط وحسني الخط، بحسب تعبير ياقوت.
ابن جنّيّ الأدبي الشاعر:
لم يكن ابن جني إماما في النحو والصرف فقط، ولم يكن من العلماء الذين يقتصرون على مجالس العلم والتعليم، أو حتى التأليف، إنما كان ابن جني كمن يريد أن يملك نواصي اللغة، فهو إلى جانب ما سبق يعد من أئمة الأدب، جمع إتقان العلم إلى ظرف أهل الكتابة والشعر، وهو الأمر الذي جعل الثعالبي ينعته في يتيمة الدهر بقوله: "إليه انتهت الرياسة في الأدب"، وقال الباخرزي في دمية القصر موضحا: "ليس لأحدٍ من أئمة الأدب في فتح المقفلات، وشرح المشكلات ما له؛ فقد وقع عليها من ثمرات الأعراب، ولا سيّما في علم الإعراب".
الخصائص  وأصول النحو
ما إن يذكر ابن جني حتى يشرد الذهن عفو الخاطر إلى كتابه الشهير "الخصائص"، وبالمثل إذا كان الحديث عن "الخصائص" فإنه يذهب إلى مؤلفه ابن جني،
وهو كتاب في أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه، احتذى ابن جني في مباحثه النحوية منهج الحنفية في أصول الفقه، وقد بناه على اثنين وستين ومائة بابا، تبدأ بباب القول على الفصل بين الكلام والقول، وتنتهي بباب في المستحيل وصحة قياس الفروع على فساد الأصول، وقد أهداه لبهاء الدولة البويهي، الذي ولي السلطنة من سنة تسع وسبعين وثلاثمائة إلى ثلاث وأربعمائة من الهجرة، وذلك بعد وفاة أستاذه أبي علي الفارسي (ت377هـ).
مؤلفاته:
الخصائص - التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله السكري - سر الصناعة - تفسير تصريف المازني - شرح المقصور والممدود لابن السكيت - تعاقب العربية - تفسير ديوان المتنبي الكبير، ويسمى الفسْر - تفسير معاني ديوان المتنبي، وهو شرح ديوان المتنبي الصغير - اللمع في العربية - مختصر التصريف المشهور بالتصريف الملوكي - مختصر العروض والقوافي - الألفاظ المهموزة - المتقضب - تفسير المذكر والمؤنث ليعقوب (ذكر أنه لم يتمه)... الخ.
وفاته:
في بغداد، وفي خلافة القادر، وتحديدا يوم الجمعة لليلتين بقيتا من صفر، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة من الهجرة رحل ابن جني عن دنيا الناس، تاركا مؤلفاته وذخائره العلمية تتحدث عنه وتحييه بينهم من جديد .
ملاحظة :أما مذهبه الكلامي فقد كان معتزلياً كما ذكر ذلك السيوطي في المزهر[2]
المبحث الثاني :مقدمة في صفات الحروف [3]
الصفات:
يقسم البعض الحروف باعتبار صفاتها إلى تسعة عشر نوعاً، وبعضهم يبلغ بها إلى أربعة وأربعين، وكثير ينقصون أو يزيدون؛ أما الأنواع المشهورة عند علماء هذا الفن والتي هي كالأصول فهي حروف: همس، وجهر، وشدة، ورخاوة، وبينَ بينَ، وحروف استعلاء، واستفال، وإطباق، وانفتاح، وتفخيم، وترقيق، وتفشٍّ، وتكرير، واستطالة، وغنَّة، وذَلاقة، ومدٍّ، ولين، وصفير، وقلقلة.
1- الحرف المهموس: هو الذي ضَعُف الاعتماد في موضعه حتى جرى النفَس معه، وحروف هذا النوع عشرة: (هـ ح خ ك ش س ت ص ث ف).
2- الحرف المجهور: هو الذي أشبع الاعتماد في موضعه - أي على مخرج الحرف - ومُنِع النفَسُ أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد عليه ويجري الصوت، وحروف هذا النوع تسعة عشر؛ لأنها كلُّ ما كان غير مهموس.
3- الشديد: وهو الذي يمتنع الصوت أن يجري فيه؛ لكمال قوة الاعتماد على مخرج الحرف، ولهذا النوع ثمانية حروف: (ء ق ك ج ط ت د ب).
4- والرخو: وهو الذي يجري فيه الصوت لضعف الاعتماد على مخرجه مع نَفس قليل، وذلك في الرخو المجهور، أو كثيرٍ وهو في الرخو المهموس؛ وحروف الرخاوة ستة عشر: (ذ ظ غ ض ز و ي ا هـ ح خ ش س ت ص ث).
وهذه الثمانية الأخيرة هي كل حروف الهمس ما عدا الفاء والكاف.
5- الحرف الذي هو بَيْن بَيْن: وهو المتوسط بين الرخاوة والشدة وذلك من عدم كمال احتباس الصوت، وعدم كمال جريه، وحروفه خمسة: (ل ن ع م ر) وهذه الحروف المتوسطة كلها مجهورة.
أما الأنواع السابقة فمنها الشديد المجهور، وهو ستة حروف: (ء ق ط ب ج د).
ومنها الشديد المهموس وهو حرفان: (ك ت).
ومنها الرخو المجهور وحروفه ثمانية أيضاً: (هـ ح خ ش س ص ث ف).
وهذه الثمانية هي جميع الحروف المهموسة ما عدا الكاف والتاء.
6- الاستعلاء: وهو أن يستعلي اللسان عند النطق بالحرف إلى جهة الحنك العليا، وحروفه سبعة: (خ ص ض غ ط ق ظ) وأشدها استعلاءً القاف.
7- الاستفال: وهو ضد الاستعلاء، وحروفه كل ما عدا السبعة المتقدمة.
8- الإطباق: وهو انحصار الصوت فيما بين اللسان والحنك؛ لانطباق الحنك على وسط اللسان بعد استعلاء أقصاه ووسطه إلى جهة الحنك، كما تعرف ذلك عند النطق بحروفه، وهي أربعة: (ط ظ ص ض) وجملتها من حروف الاستعلاء، ولا يكون الإطباق تاماً إلا مع الطاء.
9- الانفتاح: وهو عدم انحصار الصوت بين وسط اللسان و الحنك عند النطق بالحرف لانفتاح ما بينهما، سواء انطبق الحنك على أقصى اللسان أو لا وحروفه كل ما عدا الأربعة المطبقة، وكل حروف الاستفالة منفتحة.
10- التفخيم: وهو تغليظ الحرف في مخرجه بحيث يمتلئ الفم بصداه.
وحروف الاستعلاء كلها مفخمة، ولا يجوز تفخيم شيء من حروف الاستفالة إلا الراء واللام في بعض أحوالهما، وإلا ألف المد؛ فإنها تابعة لما قبلها تفخيماً وترقيقاً.
11- الترقيق: وهو نحافة الحرف بحيث يكون جسمه ناحلاً لا يمتلئ الفم بصداه.
12- التفشي: وهو كثرة انتشار خروج الهواء بين اللسان والحنك، وانبساطه في الخروج عند النطق بالحروف.
وحرف التفشي هو الشين فقط على المشهور، وبعضهم يجعله في الضاد والثاء والفاء، وبعضهم يقول: إن في الصاد والسين تفشياً أيضاً، وكل ذلك غير مجمع عليه.
13- التكرير: وهو ارتعاد رأس اللسان عند النطق بالحرف؛ وحرفه الراء فقط، وأكثر ما يظهر تكريره إذا كان مشدداً نحو مرَّة، وكرَّة.
14- الاستطالة: وهي امتداد الصوت من أول حافة اللسان إلى آخرها وهي جنب اللسان لا طَرَفه، وحرفها الضاد فقط، وبعضهم يقول إن الشين مستطيلة؛ لأنها تفشت واستطالت حتى خالطت أعلى الثنتين.
15- الغنَّة: وهي صوت يخرج من الخيشوم - أقصى الأنف - ولذلك لو أمسك المتكلم بأنفه لم يمكن خروجها، وحرفاها النون (ولو تنويناً) والميم إذا سُكنتا، ولم تظهرا.
16- الذلاقة: وسميت بذلك لخروج بعضها من ذَلق اللسان، وبعضها من ذلق الشفة، أي طرفها، وهي: (ف ر م ن ل ب) وضدها حروف الإصمات، وهي ما عدا هذه الستة.
17- المدُّ: وهو إطالة الصوت بحرف من حروف المد واللين زيادة على المد الطبيعي، وحروفه: (ا و ي) لأن مخرجها متسع لانتهائها إلى هواء الفم، ومخرج الحرف إذا اتسع انتشر فيه الصوت وامتد ولان، وإذا ضاق انضغط فيه الصوت وصلب، وكل حرف تجده مساوياً لمخرجه إلا هذه الثلاثة.
18- الصفير: وهو صوت يخرج مع الحرف يشبه صفير الطائر، وحروفه ثلاثة: (س ص ز).
19- القلقة: وهي صوت زائد يحدث بفتح مخرج الحرف بتصويت، ويشترط عندهم في إطلاق اسم القلقة على ذلك الصوت أن يكون شديداً جهرياً.
وحروفها خمسة: (ق ط ب ج د) والمبرد يعد الكاف من حروف القلقة، كأنه لم يشترط قوة الصوت الزائدة، وعلى ذلك تكون التاء منها أيضاً، وهو ما يفهم من كلام سيبويه؛ لأنها كالكاف، والصوت فيهما يلابس جري النفس، وهو صوت همس ضعيف؛ ولذلك عُدَّا شديدين مهموسين.

المبحث الثالث : مخارج الحروف عند ابن جني
يحصر ابن جني مخارج الحروف في ستة عشر مخرجاً ، ناظراً إلى موقعها في أجهزة النطق ، ومنطلقاً معها في صوتيتها ، ويسير ذلك بكل ضبط ودقة وأناقة ، فيقول :
« واعلم أن مخارج هذه الحروف ستة عشر ، ثلاثة منها في الحلق :
1 ـ فأولها من اسفله وأقصاه ، مخرج الهمزة والألف والهاء .
2 ـ ومن وسط الحلق : مخرج العين والحاء .
3 ـ ومما فوق ذلك من أول الفم : مخرج الغين والخاء .
4 ـ ومما فوق ذلك من أقصى اللسان : مخرج القاف .
5 ـ ومن أسفل من ذلك وأدنى إلى مقدم الفم : مخرج الكاف .
6 ـ ومن وسط اللسان ، بينه وبين وسط الحنك الأعلى : مخرج الجيم والشين والياء .
7 ـ ومن أول حافة اللسان وما يليها : مخرج الضاد .
8 ـ ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرف اللسان ، من بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى ، مما فويق الضاحك والناب والرباعية والثنية : مخرج اللام .
9 ـ ومن طرف اللسان بينه وبين مافويق الثنايا : مخرج النون .
10 ـ ومن مخرج النون ، غير أنه أدخل في ظهر اللسان قليلاً لانحرافه إلى اللام : مخرج الراء .
11 ـ ومما بين طرف اللسان وأصول الثنايا : مخرج الطاء والدال والتاء .
12 ـ ومما بين الثنايا وطرف اللسان : مخرج الصاد والزاي والسين .
13 ـ مما بين اللسان وأطراف الثنايا : مخرج الظاء والذال والثاء .
14 ـ ومن باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العلى : مخرج الفاء .
15 ـ وما بين الشفتين ، مخرج الباء والميم والواو .
16 ـ ومن الخياشيم ، مخرج النون الخفيفة ، ويقال الخفيفة أي : الساكنة ، فذالك ستة عشر مخرجاً »[4].
  وبذلك أسقط ابن جني الجوف كما هو حال سبيويه وأصحابه وكذلك الشاطبي .

المبحث الرابع : مصدر الصوت:

يتحدث ابن جني عن مصدر الصوت ، وكيفية حدوثه ، وطريق خروجه ، وعوامل تقاطعه ، واختلاف جرسه بحسب اختلاف مقاطعه ، وبذلك يعطينا الفروق المميزة بين الأصوات والحروف فيقول : « إعلم أن الصوت عرض يخرج مع النفس مستطيلاً متصلاً ، حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده واستطالته ، فيسمى المقطع أينما عرض له حرفاً ، وتختلف أجراس الحروف بحسب مقاطعها ، وإذا تفطنت لذلك وجدته على ما ذكرته لك ، ألا ترى أنك تبتدىء الصوت من أقصى حلقك ، ثم تبلغ به أي المقاطع شئت ، فتجد له جرساً ما ، فإن انتقلت عنه راجعاً منه أو متجاوزاً له ثم قطعت ، أحسست عند ذلك صدى غير الصدى الأول ، وذلك نحو الكاف ، فإنك إذا قطعت بها سمعت هنا صدى ما ، فإن رجعت إلى القاف سمعت غيره ، وإن جزت إلى الجيم سمعت غير ذينك الأولين . . .
قال ابن جني : « إن الأصول ثلاثة : ثلاثي رباعي وخماسي ، فأكثرها استعمالاً ، وأعدلها تركيباً الثلاثي ، وذلك لأنه : حرف يبتدأ به ، وحرف يحشى به ، وحرف يوقف عليه . وليس اعتدال الثلاثي لقلة حروفه حسب ، لو كان كذلك لكان الثنائي أكثر منه لأنه أقل حروفاً . . . فتمكن الثلاثي إنما هو لقلة حروفه لعمري ، ولشيء آخر هو حجز الحشو الذي هو عينه بين فائه ولامه ، وذلك لتعادي حاليهما . ألا ترى أن المبتدأ لا يكون إلا متحركاً وأن الموقوف عليه لا يكون إلا ساكناً ، فلما تنافرت حالاهما وسطوا العين حاجزاً بينهما لئلا يفجأوا والحسّ بضد ما كان آخذاً فيه »[5]


المبحث الخامس: جهاز الصوت المتنقل:

يتحدث ابن جني عن جهاز الصوت الممتنقل ، أو مجموعة الأجهزة الصوتية في الحلق والفم ، وسماعنا تلك الأصوات المختلفة ، وذلك عند ذائقته للحرف العربي ، ووجدانه الاختلاف في أجراسه ، والتباين في أصدائه فشبه الحلق بالمزمار ، ووصف مخارج الحروف ومدارجها بفتحات هذا المزمار ، وتتوجه عنايه بمجرى الهواء في الفم عند إحداث الأصوات ،
ويشبهه بمراوحة الزامر أنامله على خروق الناي لسماع الأصوات المتنوعة والتشعبة بحسب تغييره لوضع أنامله لدى  فتحتات المزمار ، « فإذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي المسنوقة ، وراوح بين أنامله ، اختلفت الأصوات ، وسمع لكل منها صوت لايشبه صاحبه ، فكذلك إذا قطع الصوت في الحلق والفم ، باعتماد على جهات مختلفة ، كان سبب استماعنا هذه الأصوات المختلفة » [6]
« ونظير ذلك أيضاً وتر العود ، فإن الضارب إذا ضربه وهو مرسل سمعت له صوتاً ، فإن حصر آخر الوتر ببعض أصابع يسراه ، أدى صوتاً آخر ، فإن أدناها قليلاً ، سمعت غير الإثنين ، ثم كذلك كلما أذنى إصبعه من أول الوتر غفلاً غير محصور ، تجده بالإضافة إلى ما أداه وهو مضغوط محصور ، أملس مهتزاً ، ويختلف ذلك بقدر قوة الوتر صلابته ، وضعفه ورخاوته ، فالوتر في هذا التمثيل كالحلق ، والخفقة بالمضراب عليه كأول الصوت في أقصى الحلق ، جريان الصوت فيه غفلاً غير محصور كجريان الصوت في الألف الساكنة ، وما يعترضه من الضغط والحصر بالأصابع كالذي يعرض للصوت في مخارج الحروف من المقاطع ، واختلاف الأصوات هناك كاختلافها هنا »[7]


المبحث السادس : أثر المسموعات في تكوين الأصوات عند ابن جني  :

يقول ابن جني  :
« وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات إنما هو من الأصوات المسموعات ، كدوي الريح ، وحنين الرعد ، وخرير الماء ، وشحيج الحمار ، ونعيق الغراب ، وصهيل الفرس ، ونزيب الظبي ونحو ذلك ، ثم ولدت اللغات عن ذلك  وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل »[8]
  وهذا لا يمانع أن يكون الله سبحانه وتعالى هو ملهم الأصوات ، ومنشىء اللغات ، ومعلم الكائنات ، فهذا هو الاعتقاد الصحيح الذي لا تشوبه شائبة ، فالكلام عن هذا شيء والبحث عن أصل اللغات في انطلاق الأصوات شيء آخر .

المبحث السابع:  محاكاة الأصوات عند ابن جني :

        ذهب ابن جني مذهباً صوتياً فريداً يربط بين الصوت والفعل تارة ، وبين الصوت والاسم تارة أخرى ، ويبحث علاقة كل منهما بالأخر علاقة حسية ومادية متجسدة ، فجرس الألفاظ ووقعها فيما يحدثه من أصوات وأصداء سمعية قد يكون متجانساً ومقارباً لنوعية عنده فيقول :
« فإن كثيرا من هذه اللغة وجدته مضاهياً بأجراس حروفه أصوات الأفعال التي عبر بها عنها ، ألا تراهم قالوا : قضم في اليابس ، وخضم في الرطب. وذلك لقوة القاف وضعف الخاء ، فجعلوا الصوت الأقوى للفعل الأقوى ، والصوت الأضعف للفعل الأضعف »[9]
« وكذلك قالوا «صر الجندب » فكرروا الراء لما هناك من استطالة صوته ، وقالوا « صرصر البازي » لما هناك من تقطيع صوته »[10]


[1]  هذه الترجمة من بحث للدكتور راغب السرجاني بتصرف قمت فيه.
[2]  من بحث بعنوان " بداية ظهور فقه اللغة كعلم مستقل" للشيخ محمد الحمد في موقعه على الشبكة الإلكترونية .
[3]  انظر هذا البحث للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد في موقعه على الشبكة العنكبوتية .
[4]  سر صناعة الإعراب ص 20
[5] سر صناعة الإعراب ص 3
[6] سر صناعة الإعراب ص 4
[7] نفس المرجع السابق
[8] الخصائص ص 17
[9] الخصائص ص 26
[10] نفس المرجع السابق

ليست هناك تعليقات: