البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

الثلاثاء، 27 ديسمبر 2011

نافذة نقدية على منهج فلادمير بروب (الشكلي / البنائي) في تحليل القصة



1-منهج بروب والتحليل الوظائفي للقصة‏

تصدر منهجية (بروب) الشكلانية، في تحليل القصة الخرافية، عن رؤية هيكلية ترى الحكاية بنية مركبة معقدة التركيب وذات بنية علائقية متشابكة يتم الكشف عن آليات الربط التي تربط فيما بينها بطريق التفكيك واستنباط تلك العلاقات والوظائف التي تؤديها في سياق قصص معين. واعتمد (بروب) في منهجه هذا على نموذج حكائي روسي موروث هو الحكايات الخرافية فجمع ما يناهز المئة حكاية مستقياً منها ما دعاه بـ (المثال الوظائفي) الذي يعني به: عمل الفاعل معرفاً من حيث معناه في سير الحكاية (1) فالحدث إذن –بهذا المنظور –يعد وظيفة ما دام رهين سلسلة من الأحداث السابقة التي تسوغه، ومن الأحداث اللاحقة التي تنتج منه (2). ولعل اعتماد بروب على مقدمات منهجية رصينة، جعل اهتمام نقاد عصره ومن بعدهم يتوجه إلى عمله بالإشادة والمناقشة ومحاولة استيفاء جوانب النقص فيه ولا سيما في الصعيد الدلالي، السيمائي، وسنعرض بإيجاز لهذه الآراء، فكان تحديده الواضح لنماذجه الحكائية بـ مئة حكاية خرافية، واستيفاء جانب حضور الشخصية الحكائية (البطل) من خلال تصنيف الوظائف وترتيبها، جعل عمل (بروب) تجربة رائدة في مجال نقد القصة، وأصبح هذا المنهج قالباً منهجياً خليقاً بتطبيقه على المتون الحكائية لشعوب وقوميات مختلفة، فضلاً عن أن منهجية (بروب) هذه أثبتت موضوعية بحثية تجعل (النص) هو منطلق النظر النقدي.‏

2-أساسيات المنهج ومقولاته‏

يرتكز منهج (بروب) الوظائفي، على الملامح البنيوية الثابتة التي تتكرر أشكالها في الخرافات على الرغم من تنوع الملامح الخاصة وتغير الشخصيات وأوصافها وكذلك عناصر التحفيز التي تسبق الأفعال. فحدد بروب سبعة أنماط من الشخصيات هي: المعتدي، الواهب، المساعد، الأميرة، المرسل، البطل، والبطل الزائف. وتتوزع الوظائف على هذه الشخصيات في كل خرافة بهذا يتجاوز (بروب) منهجية من سبقه في جميع (أجناس) أو أنواع القصص والحكايات فقط ليحدد تصنيفاً يصلح لتطبيقه على متون حكائية مختلفة (3). من هنا لا يعد منهج. (بروب) تحليلاً نصياً لأنه لم يعن بجوانب اللغة والأسلوب والدلالة.‏

توزعت الوظائف في منهج بروب، على إحدى وثلاثين وظيفة في مجمل الخرافات المئة التي درسها، ظهر أن تسلسل الوظائف كان متشابهاً بصورة واضحة في المتون، ولكن هذا لا يعني استغراق كل خرافة لكل الوظائف، إنما ثمة استثناء في ذلك، فقد تفقد خرافة بعضاً من الوظائف في حين أخرى تضيف إليها، إلا أن الباحث يجد أن ثمة نظاماً تسلسلياً يتجلى في مجمل الخرافات، ورمز بروب للوظائف بالحروف اللاتينية الكبيرة؛ فعلى سبيل المثال، فإن وظيفة الإساءة يرمز لها بالحرف (A)، والزواج بـ (W)، والأداة السحرية بـ (F).... الخ... تبدأ الوظائف بـ (وظيفة النأي) وتنتهي بوظيفة (تمجيد) البطل أو مكافأته بالزواج أو تتويجه ملكاً أو مكافأة مالية أو تعويض آخر (4)، والنهايات سعيدة دائماً بعد انكشاف الحقيقة، وزوال السحر، وفي ذلك إيحاء يسعى الذهن البشري إلى خلق صورة المستقبل السعيد الذي يرنو إليه هارباً من واقع مرير ومتصارع وقاتم. يمثل هذا الجانب الوجه الثاني لصورة الغيب في ذهن الإنسان، فالوجه الأول هو (الغيب /الماضي) الذي تمثل في شكل فلسفة (الماضي /الذهبي) (5) التي توفرت عليها حضارات الإنسان في كل بقاع الأرض بعد تصور لفردوس طرد منه. أما الوجه الثاني فهو (الغيب /المستقبل) في انتظار انجلاء الغمام وأسفار الغد عن حلول إيجابية، وفرج وحصول الأمنيات وتحقق المرامي.‏

التي ظهرت في ميثولوجيا الديانات العالمية جميعاً في صورة المبعوث في آخر الزمان يحرر العالم من شروره وتصبح الأرض في خير ونعيم وحق وعدل وجمال وحرية وإخاء.‏

وما بين (الغيب /الماضي) و(الغيب /المستقبل) تتأرجح تلك الفسحة الزمنية المضطربة التي تسمى (الحاضر) زمن التجربة والكتابة والحلم.‏

الحقيقة، ما كنت أبغي استرسالاً في هذا الأمر، إلا لكي أصل إلى حقيقة، مهمة أغمض عنها منهج بروب الوظائفي إلا وهو الجانب الرمزي التأويلي في صياغة الوظائف وترتيبها، والحق أن الرجل أعلن عن ذلك في مقدمة كتابه حين حدد (تاريخ المشكل) وبين عدم عنايته بهذا الجانب، فهو الجانب المسكوت عنه الذي يفسح المجال أمام دراسات قادمة لاستيفاء جوانب البحث فيه بعد تحديد وجدولة الوظائف السردية.‏

من خلال تحديد الوظائف وتصنيفه، يظهر أن الحكاية الخرافية تتركب من ثلاثة اختبارات:‏

1-اختبار ترشيحي، يتمحور حول شخصية الفاعل، والمانح.‏

2-اختبار رئيسي، يحدث فيه الصراع الأساسي الفاصل.‏

3-اختبار تمجيدي، يحدث فيه التعرّف على البطل ومكافأته.‏

هذه البنية التركيبية يتكرر وجودها في جميع القصص، بوصفها فلسفة إجمالية لمنطقية الحدث القصصي وفعل الشخصية فيه، وهو يشبه إلى حد كبير أركان الهرم الدرامي المتكونة من عناصر (المقدمة، العقدة، الحل والخاتمة)، فمنطقية هذا التركيب، كأنما حلت بديلاً لخرافية أحداث الحكاية التي يبرز فيها واضحاً ذلك التخلخل بين الواقع والخيال إن لم يكن الانفصال التام.‏

يحدد (بروب) الصياغة العامة لمنهجه على وفق محاور أربعة هي (6):‏

1-العناصر الثابتة، والمستمرة في الخرافة هي وظائف الشخصيات، على تنوعها في الجنس والصفة وطريقة الوظائف. بمعنى أن الخرافة متكونة بشكل أساس من مجموعة وظائف أو بتعبير آخر أن الوظائف هي المكون الأساس الذي يصيغ شكل الخرافة النهائي.‏

2-عدد الوظائف في الخرافة، محدود، وهو في الغالب يخضع لمنطق الحرية أو العفوية في نظر غير (بروب)، أما بروب فيعتقد أن تتابع العناصر في الخرافة يخضع لقانون صارم التناظر، والحرية فيه محدودة على هذه الصفة تنبني الفقرة القادمة.‏

3-تتابع الوظائف متشابه دائماً في الخرافة، مع ملاحظة مهمة في هذا الصدد هي عدّ النتاجات الخرافية التي حفظها الفلكلور الشعبي ولم تخضع لأشكال التصنع والتحريف.‏

وهذا التشابه لا يعني أن تتوفر كل خرافة على كل الوظائف بيد أن هذه الوضعية لا تتغير في شيء من قانون تتابعها (7).‏

4-إن الخرافات العجيبة تنتمي –في ما يتصل بينها –إلى نفس النمط، بمعنى أن ثمة تشابهاً في نمطية البناء في الخرافات فيما يخص ترتيب الوظائف الذي يخضع لبنية عقلية معينة حفظت مخزوناً كبيراً في وعيها، ولا وعيها من مدركاتها الحسية والمعنوية قدراً هائلاً من المعلومات والأفكار والأديان والخرافات والتصورات بملامحها الاجتماعية والدينية والنفسية والسياسية والطبقية.‏

وبحسب هذه المحاور الأربعة أو كما يسميها بروب –أطروحات –أنجز عمله حسب منهج استنباطي صارم، ينطلق من المتن ويصل إلى الخلاصات.‏

بهذا يقدم بروب مادة دسمة لدراسات نقدية تتعمق في دراسة الجانب الدلالي والعلامي والرمزي فيما يمكن أن يترشح من خلال ترتيب الوظائف وتعاقبها واقتراح حلولها، وأسباب استهلالها بأساليب معينة فضلاً عما يمكن أن تتيحه منهجية القراءة والتلقي والتأويل من آفاق لسبر أغوار النفس الإنسانية، وكشف بنية المجتمع، والفكر الديني، والبنى الاقتصادية والسياسية لمجتمع ما جعل من القصص والحكايات والأساطير والخرافات ميداناً يبث من خلاله قناعاته وأحلامه وتصوراته وثقافته أيضاً.‏

3-الثابت والمتغير في منهج بروب‏

تحيلنا طبيعة المناهج –بصورة عامة –إلى وجود محددات وطوابع خاصة تطبع جنساً أدبياً بنوع من المقومات البنائية وتبنى على الأكثر الأعم، وتعترف كذلك بالشاذ أو الاستثناء.‏

تلك طبيعة الظواهر في الكون في تعذر مطابقة قالب معين لمادة ما، وإن تطابقت فلا تتطابق جميع أصناف تلك المادة أو نظيراتها. لذا كان من أهم الأسس الموضوعية للمبحث العلمي عدم الادعاء باستغراق منهج ما لمتن أدبي معين تمهيداً لنجاح ذلك المنهج لأنه يتوفر على قاعدة تطبيقية واسعة في النماذج....‏

ما فعله (بروب) في منهجه، إنه بنى فكرة (الوظائف السردية) بعد استقراء لمجمل الحكايات الخرافية الروسية (وانتقى) منها (مئة) حكاية، أصبحت نموذجاً مناسباً لبناء منهج لدراستها والتطبيق عليها. علماً أن الكم الأكبر من الخرافات الأخرى لم يكن ليضيف جديداً إلى منهجه عدا تضخيم صفحات كتابه –كما يقول - ومن الناحية النظرية، المهم الاكتفاء بمتن محدود يمثل بعمق وصدق مجال تحرك النظرية، ويصلح مصداقاً عليها.‏

عد (بروب) (الوظائف) أو الأفعال التي تقوم بها شخصيات الخرافة، هي (القيمة الثابتة) في سردية الخرافة. والدليل على ذلك هو التشابه في هذه الوظائف من خرافة إلى أخرى على مدى الخرافات المئة التي درسها بروب.‏

أما (القيمة المتغيرة)، فهي الشخصيات التي تصدر عنها هذه الوظائف، أو تقوم بها في سياق الحكاية الخرافية. على أساس ذلك تتغير وتتبدل أسماء الشخصيات وصفاتها.‏

ويدخل العنصر (الكمي) في تحديد عدد الوظائف المتكررة في الخرافات ليصح أن تكون لها تسمية القيم الثابتة. ومن خلال استقراء بروب للوظائف وجد أن شخصيات الخرافة على اختلافها. جنساً وعمراً وشكلاً ومهنة، تنجز في الغالب نفس الأفعال (8)، أي أن الخرافة تسند أفعالاً متشابهة لشخصيات متباينة.‏

وقد لوحظ هذا التشابه في الأفعال وتكرارها من مؤرخي الأديان في الأساطير والمعتقدات، لكنه لوحظ متأخراً من قبل مؤرخي الخرافة. فيلاحظ أن الشخصيات كثيرة والوظائف قليلة. وهذا يفسر الخاصية المزدوجة للخرافة وتنوعها المدهش، واطرادها ورتابتها من جهة أخرى (9) ولعل سمة التكرار والاطراد واردة في منجزات الأمم التراثية في أساطيرها وملامحها وتوزيع الأدوار على الآلهة كما في التراث البابلي العراقي القديم (10) والتراث اليوناني واللاتيني القديم (11).‏

وبسبب من توفر هذا الإرث على هذه السمات المتشابهة، برز الاهتمام واضحاً (بالحدث) وليس الشخصيات ولا سيما عند (أرسطو) في تناوله التراجيديا فيقسمها إلى ستة أجزاء هي: القصة، الأخلاق، العبارة، الفكر، المنظر، والغناء (12)، ويقول بعدها أن الشخصية ليست بذات ثقل في العمل الفني إن لم يكن هامشياً (إن التراجيديا ليست محاكاة للأشخاص بل للأعمال والحياة)(13).‏

فتساوقت الرؤيا الناقدة (طرح أرسطو) مع الرؤيا الإبداعية (المنجز الأدبي آنذاك)، فحين يطرح الأدب في مرحلة ما بنية خاصة به، يشخصها النقد المتزامن معه أو التالي له، ولا يعني هذا أن هذا التشخيص صحيح أو عام، بدليل أن المدارس الكلاسيكية في عصر النهضة وما بعدها، سارت في رؤيتها النقدية على الضد من الرؤيا القديمة (الأرسطية) حتى صار عمل الروائي الحقيقي هو خلق الشخصيات (14) ومدى قدرة الكاتب الروائي على خلق شخصية تتوازن فيها الأفعال –على تضاربها –فتصح عن بنية تركيبية مهمة وحقيقية.‏

4-تقويم عام لمنهج بروب‏

من خلال الصفحات الماضية عرض البحث لمنهج بروب فكرة الوظائف، هذا الاستعراض لم تخل بعض فقراته من أحكام وتصورات تقويمية عن سلامة هذا المنهج وعلميته أو المآخذ التي سجلت عليه، وفي هذا الموضع نود صياغة هذه الإيجابيات والمآخذ في تصورات محددة في الإضاءات الآتية:‏

-إضاءة (1): صدر إنجاز بروب المنهجي من حيث الأهمية، من أنه طور منهج ليفي شتراوس في تحليله للأسطورة، وكذلك في بلورته مفهومي البنية والتحولات قبل زمن طويل من استخدام تشوفسكي لمفهوم التحويل: ( Trans formation) وساعد كذلك على إدراك التمايز بين بنية الحكاية وبنية القصيدة في جانب عمق الدلالة وهو ترتيب الوظائف في كل منهما، وعلاقة هذا الترتيب بالرؤية العميقة التي تجسدها القصيدة أو الحكاية (15).‏

-إضاءة (2): مثل بحث رؤية البنيويين (لفكرة النص) على أنه هيكل منسجم العناصر والأجزاء. التي تعد من أهم المسلمات النظرية عند الشكلانيين الذين نشدوا تجنب القراءات الذاتية التذوقية والرؤى المسبقة التي تعد النص انعكاساً مباشراً أو بسيطاً لواقع مكاني وزماني فقام بروب بربط الظاهر الوظائفي بالخطاب القصصي، وعدّه البنية الضمنية لكل الحكايات الشعبية في العالم، والذي يدل على صحة هذه النظرة هو التشابه بين الوظائف (16).‏

-إضاءة (3): اقتصار منهجية بروب على صنف قصصي معين جعل عمله هذا يتحدد بحدود نتائج ذلك الصنف، فالنموذج الذي اختاره بروب وظائفه منظمة مقولبة لها مسار محدد ذو طبيعة غائية واضحة تبدأ بـ (حدوث إساءة) وتنتهي بـ (إصلاح الضرر الحاصل)، وقد قام (كلود بريمون) في كتابه (منطق الحكاية) Logique durecit بنقد مثال بروب ورأى أن تركيب القصة يكمن أن يتفرع ويتوزع في اتجاهات متعددة متشعبة. فضلاً عن إلغاء النظرية الشكلانية أو القراءة الشكلانية للبعد الذاتي للأثر القصصي (17).‏

على أساس ذلك ما علاقة الوظائف في القصة بمرجعيات القصة والمؤلف وسياقها التاريخي والفكري والأدبي على صعيد (التناص) مع نصوص أدبية متزامنة معها؟؟ هذه الأسئلة هي محور الإضاءة الأخيرة.‏

-إضاءة (4): أثار (ليفي شتراوس) في نقده (لمورفولوجيا الخرافة) قضية الفرق بين (البنيوية) و(الشكلانية) وعلى حسب فهمه لهذا الفرق بين الاثنين، يرى أن الشكل يتعرف بمقابلته لمحتوى خارج عنه، أما البنية فلا محتوى لها إذ هي المحتوى ذاته وقد أدرج في تنظيم منطقي باعتباره خاصية من خصائص الواقع (18).‏

ويعتقد أن الشكلانيين يحاولون الفصل بين مهمة إنتاج التركيب عن مهمة إنتاج المعنى؛ فبروب يهتم بتركيب الخرافة وهيكلة وظائفها ويدع المعنى جانباً(19).‏

وإذا ما رمنا المفاضلة بين النظريتين، يلحظ أن المسألة اصطلاحية أكثر منها مفهومية. وذلك يعنى بنظرهم وحسب تصريح تود ورف، الشكل هو كل ملامح الأثر الأدبي وكل أجزائه يتواكب معها، ولا يوجد إلا كعلاقة بين العناصر بعضها ببعض. وعلى الرغم من نجاح تودورف في الدفاع إلا أن القضية التي عمل عليها بروب هو التركيز على وظائف الشخصيات، ولا يعني ذلك أنه طبق المنهج البنيوي كله عليها، فهو لم يفرز المستوى النوعي لتلك الوظائف فلقد اكتفى بالتصنيف ولم يتعرض للغرض thema الأساس الذي يستشف ويستنتج من مجمل تطورات الأثر. وكانت منهجية بروب مقاربة سياقية لم تأخذ بعين الاعتبار أن الدلالة لا توجد في نهاية السرد فقط بل على امتداده، فالذي مارسه (بروب) هو قراءة أفقية سياقية، إنما المطلوب قراءة عمودية جدولية تهدف إلى جمع المتشابهات بين العناصر الحكائية استنتاج معنى يمكن تأويله من مجمل العناصر النصية في الحكاية.‏

بعد هذا كله، هل يصلح منهج بروب طريقاً لتحليل القصة؟‏

يعد منهج (بروب) إنجازاً نقدياً مهماً عل صعيد تحليل القصص، هذه الأهمية لا تعني كما لـه، بدليل أن اكتشاف آليات تشكل البنية في القصص لا يتوصل إليها إلا من خلال تفكيك وحداتها، ومن ثم كشف العلاقات الرابطة بينها وبين وظائفها التي تؤديها في نظام الحكي.‏

فإن يتم اكتشاف ذلك الخيط المشترك الذي يضم عناصر متشابهة في قصص متعددة، لا يعني تقديم تصور متكامل عن بنية العمل القصصي، هذا البتر والاكتفاء بالتشخيص دون المعالجة جعل الجهد المركزي الذي نهض به بروب في مجال البحث الأدبي يتمحور حول (اكتشافه نموذجاً عاماً لتفسير القصص) (20) وما يمكن أن يفتحه من آفاق تعتمد على الوحدات الصغرى (الوظائف). فضلاً عن، أي منهج (بروب) قام على قاعدة نصية يجسدها شكل حكائي بدائي ذو طبيعة (مشاعية)؛ لا يعرف مؤلف مخصوص لهذه القصص فلقد اصطنعتها الذاكرة الجمعية لآجال متعاقبة عبرت بها عن همها الاجتماعي والنفسي والجمالي والفلسفي أيضاً.‏

إذن، فإلى أي مدى يمكن تطبيق المنهج على قصص وروايات عالمية تنتمي لقوميات ووضعيات متباينة اجتماعية متباينة؟ يظهر أن مجال التطبيق سيكون محدداً في أنماط معينة من القصص تحمل نسقاً موضوعياً معيناً كأن تكون روايات الحرب، أو الروايات الاجتماعية أو القصص العاطفية، التي يتسنى فيها تحديد وحداتها الوظائفية الصغرى على وفق ما انبثقت منه من بنية موضوعية متجانسة ويظل العمل النقدي قاصراً عن تقديم رؤية متكاملة عن مجمل مفاصل العمل الأدبي بدءاً من محدداته المعنوية والرمزية.‏

5-صلاحية منهج بروب لتحليل القصة الصوفية:‏

لنصل الآن إلى السؤال الأكثر أهمية:‏

وهو مدى صلاحية منهجية بروب لدراسة القصة (العربية) (الإسلامية) (الصوفية)؟‏

إن هذه المحددات المهمة، القومية والعقيدية والمذهبية (عربية، إسلامية، صوفية)، تحمل في تضاعيفها خصوصية في الماهية والتصورات والآفاق المحتملة لكونها أساس تمايز الشعوب، وتكوينها الحضاري والأخلاقي والقيمي. على أساس ذلك، هل يجوز تطبيق قالب موحد على مواد متباينة تتشيأ كل بحسب معطيات وجودها وتكوينها الحضاري المخصوص..؟‏

للإجابة عن ذلك، ينبغي التنبيه على مسألة مهمة هي أن ظاهرة التثاقف، وتلاقح الحضارات الإنسانية، تعد من الفكر الإنساني على وجه الأرض، ينهض بهذا الجانب (الدرس المقارن) في مجالات المعرفة المتعددة، ومنها الأدب المقارن في بحث عناصر التأثر والتأثير في انتقال لون أدبي معين وتشخيص السبق الزمني والريادي لإنتاج ذلك اللون الأدبي كما حدث مع (ألف ليلة وليلة) أو (رسالة الغفران) للمعري.. وغيرها، هذا أمر والأمر الآخر، يندرج ضمن منظور إنساني عام، لا يتحدد بمقوم المعطي والآخذ، ولا النظر في تأثير ثقافة على أخرى، وأسباب هجرة هذه الثقافة.. إنما يتصور هذا المنظور في حقيقة كون العمل الإنساني يمتلك بنية وعي وإدراك كلية، تظهر في أنماط أدبية معبرة عن هم إنساني ضمن بنيته الجزئية أو الخاصة. على الرغم من تباين الأزمنة والأمكنة والأعراق، تجد ثمة تشابهاً في الهم الذي يطرح أسئلة الإنسان الوجودية أمام عالمه الذي يحكم وعي الإنسان في مشاعر متضاربة بين الحب والكراهية، الحياة والموت، الصدق والكذب، الرغبة والرهبة، الطمع والإيثار، العاطفة والمادة... الخ. لذا تجد أن الشعور الإنساني واحد في الطرح الحكائي لدى عجائز جنوب العراق مثلاً، والخرافات الروسية في بناء الثيمة الأساس للقصة على مبادئ أخلاقية ينتصر في نهايتها العنصر الخير، ثم احتوائها على بنية عددية معينة ككثرة استخدام العدد (ثلاثة) أو (سبعة) أو (عشرة) أو (أربعين) أو (سبعين)، كعناصر تشويقية وتهويلية أيضاً.‏

فتشابه الطرح –على اختلاف مصادره –دليل على وجود نظام عام يحكم التفكير الإنساني إزاء أسئلة الوجود الإنساني في علاقة الإنسان والطبيعة والإنسان والله، الإنسان والمادة، الإنسان والإنسان.‏

لأجل ذلك أمكن تطبيق منهج الوظائف السردية على الشعر ومنه دراسة كمال أبي ديب (21) في تحليل الشعر الجاهلي بعد أن تحصل ذلك الشبه بين بنية القصيدة وبنية الحكاية، فإذا ما أمكن تطبيق منهج (بروب) على الشعر، فإن تطبيقه على متون حكائية عربية هو ادعى لدرء الاعتراض وأجلى فائدة.‏

تبقى ثمة قضية (حرفية) المنهج، والمدى الانتقائي الذي بإمكان الباحث في القصة العربية الصوفية، أن يتوفر على (حرية) في توظيف مقولات المنهج إلى المدى الذي تخدم فيه (خصوصية) الأثر الأدبي بهويته العربية الإسلامية، وهذا ما أدعيه في هذا البحث، وهو انتصاري لخصوصية الأسلوب والفكر العربي الإسلامي في القصة الصوفية التي انبثقت أساساً، وتشكلت على وفق أهداف تعليمية تربوية أي أن الموضوعية الأخلاقية المذهبية كانت الغاية من القول. والحقيقة أن (بروب) صرح بهذه المرجعية التي تشكل بواعث قول الحكايات فالحياة والأفكار تذهبان وتبقى مضامينهما في الحكايات فتحمل آثارها النفسية والاجتماعية والحضارية، حتى أن كل واحد من هذه الآثار في حاجة إلى كتاب متخصص يكفي لفهمه فهماً عميقاً (22) ولهذا يستنتج بروب أن عناصر القصة تكشف كماً هائلاً من الترسبات الثقافية والدينية واليومية، مما يصلح لدراسة مقارنة تدخل ضمن البحث التكويني (23). تساءل بروب عن الأسباب التي جعلت الحكايات الخرافية تخضع لسلسلة وظيفية واحدة في تركيبها؟ فرأى أن من الأسباب ما ينبغي تلمسها في الواقع الثقافي الذي نشأت فيه وخاصة في المعتقدات الدينية. هذا يعني أن النقد الشكلاني لا يكفي وحده لقيام نقد حقيقي للأعمال القصصية.‏

والذي أصل إليه، من خلال ما سبق، إن عمل بروب الوظائفي إنما يقدم مادة خاماً ذات رؤية منهجية مرتبة تصلح أن تكون مادة بحث تأويلي وسيميائي بالغ الأهمية، من خلال قراءة الواقع الذي أنتج ذلك الهيكل البنائي الوظائفي.‏

ثمة إشكال آخر، قبل البدء بمزاولة التصنيف الوظائفي للقصة الصوفية، يتمثل في ما يصفه بروب لـ إمكانية الوصول إلى تعميمات في دراسة الحكاية رافضاً رأي (سبرنسكي) في استحالة حصول هذه التعميمات (24).‏

على اعتبار أن بروب يؤكد في صنيعه هذا، إن ثمة أشكالاً نمطية يمكن فرزها مورفولوجياً وتصنيفها، من هذه النقطة، يتضح إشكالٌ مهم يتعلق بطبيعة القصص الصوفي من ناحية فرادة التجربة، إذ تقوم الفكرة الصوفية على أساس التفرد والخصوصية والمنزلات والمراتب، فما قد يصل إليه التلميذ المريد، يعجز عنه الشيخ صاحب المنزلة والقطب المتبوع، وفي ضوء هذا التنوع جرى تصنيف الحكايات الصوفية على ثلاثة أصناف؛ ذاتي وموضوعي واسترجاعي، وسيكون اعتمادنا في هذا الفصل على هذه الأنماط اعترافاً منا بخصوصية التجربة الصوفية إذا ما شاء الباحث تقديم صورة واضحة عنها ولائقة بمرتبتها فيجب أن يكون النموذج الحكائي فوق القالب وليس العكس، فعدم مطابقة النموذج للقالب دليل على بنية تشكيل الرؤية والتفكير والمكونات مختلفة في إنتاج الحكاية وتحمل بذور تطور في البناء يجب مراعاة خصوصيته وليس لَيْ عنقه ليتسق مع المنهج الجاهز. استكمالاً للفائدة ولسعة الرؤية المنهجية، يفيد البحث من منهج آخر في دراسة الوظائف السردية هو منهج (رولان بارت) في الوحدات الوظائفية إذ قدم مشروعاً ذا رؤية تجميعية صنفت الوظائف إلى ضربين: أساسية وثانوية؛ فالأساسية تمثل الخط الأفقي عند (بروب) وهي الأعمال والثانوية هي الخط الشاقولي عند (بروب) وهي الأوصاف.‏

ويتيح منهج (بارت) للتحليل عدة مزايا، منها:‏

1-هذا التميز بين نوعين من الوظائف يتيح بعض المرونة لعملية قراءة النص بين عناصره الثابتة والمتغيرة.‏

2-اتكاءه على أساس ألسني يجعله طيعاً للتطبيق (25).‏

من هنا يمكن القول بضرورة الاستضاءة بأكثر من منهج مادامت توفر رؤية أوضح لمميزات النص وأهدافه. من دون إرباك في الرؤية المنهجية الأساس للبحث، إنما استكمالاً وتأصيلاً لجوانب نصية سكت عنها المنهج الأصل.‏

(1)-ينظر: مورفولوجيا الخرافة: تر: إبراهيم الخطيب، وأثر اللسانيات في النقد الحديث: توفيق الزيدي، مدخل إلى نظرية القصة م19 –20 وتقنيات السرد الروائي /54، موروفولوجيا الخرافة /17.‏

(2)-ينظر: مدخل إلى نظرية القصة /20، والنص الروائي /83.‏

(3)-ينظر: موروفولوجيا الخرافة /8 –9.‏

(4)-ينظر: نفسه /68.‏

(5)-فكرة طريفة استنبطها طراد الكبيسي بعد تقصي هذه الظاهرة الإنسانية عند شعوب العالم، ينظر: كتاب المنزلات، 2 /137، في الشفاهي والشفاهية، 3 /41، سيموطيقيا الشكل والدلالة.‏

(6) -مورفولوجيا الخرافة /35 –36.‏

(7) -نفسه /36.‏

(8)-مورفولوجيا الخرافة /34.‏

(9)-نفسه /34.‏

(10)-ينظر: مقدمة في أدب العراق القديم: طه باقر، الفصل الأول الخصائص الفنية لأدب وادي الرافدين.‏

(11)-ينظر دراسات في تاريخ الفلسفة: عبدة الشمالي، 35.‏

(12)-ينظر: فن الشعر /50‏

(13)-نفسه /52.‏

(14)-نحو رواية جديدة /34، نظرية الدراما من أرسطو إلى الآن /72 وقال الراوي، الفصل الثاني، وفي نظرية الرواية /83.‏

(15) -ينظر: الرؤى المقنعة: كمال أبو ديب /7.‏

(16) -ينظر: مدخل إلى نظرية القصة /61 –62.‏

(17) -ينظر: مورفولوجيا الخرافة، المقدمة /9.‏

(18) -ينظر: مورفولوجيا، المقدمة /9.‏

(19) -نفسه /9.‏

(20) -ينظر مقدمة المترجم، موروفولوجيا الخرافة /11.‏

(21)-الرؤى المقنعة، نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي /طبع عام 1986.‏

(22) -ينظر: الرؤى المقنعة /31.‏

(23) -ينظر: الرؤى المقنعة /30.‏

(24) -نفسه /30 –31.‏

(25) -ينظر الألسنية والنقد الأدبي: موريس أبو ناضر /24، ونظرية البنائية /409 –410.

ليست هناك تعليقات: