باب القول فِي أفصح العرب
أخبرني أبو الحسين أحمد بن محمد مولى بني هاشم بِقَزْوين، قال: حدثنا أبو الحسين محمدُ بن عباس الخُشْنِكي، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي عُبَيد الله قال: أجمَعَ علماؤنا بكلام العرب، والرُّواةُ لأشعارهم، والعلماءُ بلُغاتهم وأيامهم ومَحالّهم أن قُرَيشاً أفصحُ العرب ألْسنةً وأصْفاهم لغةً. وذلك أن الله جل ثناؤه اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبيَّ الرحمة محمداً صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم. فجعل قُريشاً قُطَّان حَرَمِه، وجيران بيته الحرام، ووُلاتَهُ. فكانت وُفود العرب من حُجاجها وغيرهم يَفِدون إِلَى مكة للحج، ويتحاكمون إِلَى قريش فِي أُمورهم. وَكَانَتْ قريش نعلّمهم مَناسكَهم وتحكُمُ بَيْنَهم. ولن تزل العرب تَعرِف لقريش فضلها عليهم وتسمّيها أهل الله لأنهم الصَّريح من ولد إسماعيل عَلَيْهِ السلام، لَمْ تَشُبْهم شائبة، وَلَمْ تنقُلْهم عن مناسبهم ناقِلَة، فضيلةً من الله - جلّ ثناؤه - لهم وتشريفاً. إذ جعلهم رَهط نبيّه الأذْنَيْنَ، وعِتْرته الصالحين.
وَكَانَتْ قريش، مع فصاحتها وحُسن لغاتها ورِقَّة ألسنتها، إِذَا أتتهُم الوُفود من العرب تخيّروا من كلامهم وأشعارهم أحسنَ لغاتهم وأصفى كلامهم. فاجتمع مَا تخيّروا من تِلْكَ اللغات إِلَى نَحائرهم وسَلائقهم الَّتِي طُبعوا عَلَيْهَا. فصاروا بذلك أفصح العرب.
ألا ترى أنك لا تجد فِي كلامهم عَنْعَنَة تَميم ولا عَجْرفيّة قَيْس ولا كَشْكَشَة أسَد ولا كَسْكَسة رَبيعةَ ولا الكَسْر الَّذِي تسمَعه من أسدَ وقَيْس مثل: "تعلِمون" و "نِعلَم" ومثل "شعير" و بِعير"?.
باب اللغات المذمومة
أما العَنْعَنة الَّتِي تُذكِر عن تَميم - فقلبهم الهمزة فِي بعض كلامهم عيناً. يقولون: "سمعتُ عَنَّ فلاناً قال كذا" يريدون "أَنَّ".
ورُوي فِي حديث قَيْلَة: "تَحسب عَنِّي نائِمَةٌ" قال أبو عُبيد: أرادت تَحْسب أني، وهذه لُغة تميم. قال ذو الرمّة:
أَعَنْ ترسَّمت من خَرقاء مَنْزِلةً
ماءُ الصَّبابة من عَيْنيك مَسْجُومُ
أراد "أأن" فجعل مكان الهمزة عيناً.
وأما الكَشْكَشة الَّتِي فِي أسَد - فقال قوم: إنهم يبدلون الكاف شيناً فيقولون: "عَلَيْشَ" بمعني "عَلَيْكَ". ويُنشدون:
فَعَيْناشِ عيْناها، جيدُشِ جيدُها
ولَوْنُشِ إِلاَّ أنها غيرُ عاطلِ
وقال آخرون: يَصِلون بالكاف شيناً، فيقولون: "عَلَيكِش".
وكذلك الكسكَسة الَّتِي فِي رَبيعة - إنما هي أن يَصِلوا بالكاف سيناً، فيقولون: "عَلَيْكِسْ".
وحدثني عليُّ بن أحمد الصبَّاحيُّ، قال سمعت ابن دُرَيْد يقول: حروفٌ لا تتكلم بها العرب إِلاَّ ضرورة، فإذا اضطُرُّوا إِلَيْهَا حوَّلوها عند التكلم إِلَى أقرب الحروف من مخارجها.
فمن تِلْكَ الحروفِ الحرفُ الَّذِي بَيْنَ الباء والفاء. مثل "بور" إِذَا اضطُروا. فقالوا: "فُور".
ومثلُ الحرف الَّذِي بَيْنَ القاف والكاف والجيم - وهي لغة سائرة فِي اليمن - مثل: "جَمَل" إِذَا اضطرُّوا قالوا: "كَمَل".
قال: والحرفُ الَّذِي بَيْنَ الشين والجيم والياء: فِي المذكر "غُلامِجْ" وَفِي المؤنث "غُلامِش".
فأما بنو تميم فإنهم يُلحقون القاف باللَّهاة حَتَّى تَغْلظ جداً فيقولون: "القوم" فيكون بَيْنَ الكاف والقاف، وهذه لغة فيهم. قال الشاعر:
ولا أكُولُ لِكدرِ الكَوم قَدْ نضجت
ولا أكولُ لبابِ الدَّار مَكْفـولُ
وكذلك الياء تجعل جيماً فِي النَّسب. يقولون: "غُلامِجْ" أي "غلامي".
وكذلك الياء المشدَّدة تحوَّل جيماً فِي النَّسب. يقولون: "بَصرِجّ" و "كُوفِجّ" قال الرَّاجِز:
خالي عُويفٌ، وأبو عَلِجّ،
المُطْعِمَانِ اللحمَ بالعَشِجِّ،
وبالغَداةَ فِلَقَ الْبـرْنِـجِّ
وكذلك مَا أشبهه من الحروف المرغوب عنها. كالكاف الَّتِي تُحوَّل شيناً.
قلنا: أما الَّذِي ذكره ابن دُرَيد فِي "بور" و "فور" فصحيح. وذلك أن بور لَيْسَ من كلام العرب، فلذلك يحتاج العربيّ عند تعريبه إياه أن يُصيّره فاءً. وأما سائر مَا ذكره فليس من باب الضرورة فِي شيء. وأيُّ ضرورة بالقائل إِلَى أن يقلب الكاف شيناً، وهي ليست فِي سجع ولا فاصلة? ولكن هَذِهِ لغات للقوم عَلَى مَا ذكرناه فِي باب اختلاف اللغات.
وأما من زعم أن ولدَ إسماعيل عَلَيْهِ السلام يُعيّرون وَلدَ قَحْطان أنهم ليسوا عرباً، ويحتجُّون عليهم بأنَّ لسانَهم الحِمْيريَّة وأنهم يُسَمُّون اللِّحية بغير اسمها - مع قول الله جلّ ثناؤه فِي قصة من قال: لا تأخذ بلِحْيتي ولا بِرَأْسي - وأنهم يُسمُّون الذّيب "القِلوْبَ" - مع قوله: "وأخاف أن يأكله الذّئب" - ويسمون الأصابع "الشنَّاتر" - وَقَدْ قال الله جلّ ثناؤه: "يحعلون أصابعهم فِي آذانِهم" - وأنهم يسمّون الصَّديق "الخِلْمَ" - والله جل ثناؤه يقول: "أَوْ صَديقِكم" - وَمَا أشبه هَذَا. فليس اختلافُ اللُّغات قادِحاً فِي الأنساب.
ونحن وإن كنا نعلم أن القرآن نزل بأفصح اللغات، فلسنا نُنكر أن يكون لكلّ قوم لغة. مع أن قحطان تذكر أنهم العرَب العارِبة، وأن مَن سواهم العرَب المَتَعَرِّبة، وأن إسماعيل عَلَيْهِ السلام بلسانهم نَطق، ومن لغتِهم أخَذَ، وإنَّما كَانَتْ لغةُ أبيه صلى الله عليه وسلم العِبرية وَلَيْسَ ذا موضوعَ مفاخَرة فنَستَقصي.
ومما يُفسد الكلام ويَعيبُه الخزْمُ ولا نريد بِهِ الخزْمَ المستعمل فِي الشعر، وإنما نريد قولَ القائل:
ولئنْ قومٌ أصابوا غِرَّةً
وأصِبْنا من زمان رَقَقا
لَلَقَدْ كُنَّا لدى أزمانـنـا
لِشَريجَيْنِ لباسٍ وتُقـى
فزاد لاماً عَلَى "لقد" وهو قبيح جداً.
ويزعُم ناسٌ أن هَذَا تأكيد كقول الآخر:
فَلا والله لا يُلْفَى لِما بي
ولا لِلِما بهم أبداً دَوَاءٌ
فزاد لاماً عَلَى "لِمَا" وهذا أقبح من الول. فأما التأكيد فإن هَذَا لا يزيد الكلام قُوة، بل يقبّحه. ومثله قول الآخر:
وصالياتٍ كَكَما يؤثْفَيْن
شوكل ذا من أغالِيطِ من يغلَط، والعرَب لا تعرِفهُ.
باب القول فِي اللغة الَّتِي بِهَا نزل القرآن
وأنه لَيْسَ فِي كتاب الله جلّ ثناؤه شيء بغير لغة العرب
حدَّنا أبو عليُّ بنُ إبراهيم القطَّان قال حدثنا عليُّ بن عبد العزيز عن أبي عُبيد عن شيخ لَهُ أنه سمع الكلبيّ يحدث عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن عَلَى سبعة أحرُف أَوْ قال بسبعِ لغات، منها خمسٌ بلغة العَجْزِ من هَوازن وهم الذين يقال لهم علُيا هَوازن وهي خمس قبائل أَوْ أربع، منها سَعدُ بن بكر وجُشَمُ بن بكر ونَصْر بن مُعاوية وثَقيف.
قال أبو عُبيد: وأحسب أفصَحَ هؤلاء بني سعد بن بكر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصَح العَرَب مَيْد أني من قريش وأني نشأت فِي بني سعد بن بكر" وَكَانَ مُسْتَرْضَعاً فيهم، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العَلاء: أفصح العرب عُليا هَوازِن وسُفْلى تميم.
وعن عبد الله بن مسعود أنه كَانَ يَستَحبُّ أن يكون الذين يكتبون المَصاحف من مُضر.
وقال عمر: لا يُمْلِيَنَّ فِي مَصاحِفِنا إِلاَّ غلمان قريش وثَقيف.
وقال عثمان: اجعلوا المُمليَ من هُذَيل والكاتبَ من ثقيف.
قال أبو عبيد: فهذا مَا جاءَ فِي لغات مُضر وَقَدْ جاءت لغاتٌ لأهل اليَمن فِي القرآن معروفةٌ. منها قوله جلّ ثناؤه "مُتَّكِئين فِيهَا عَلَى الأرائك" فحدّثنا أبو الحسن علي عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال حدثنا هُشَيْم أخبرنا منصور عن الحسن قال: "كُنا" يقال إنها بالحبشية. وقوله "هَيْتَ لَكَ" يقال إنها بالحوْرانيَّة. قال: فهذا قول أهل العلم من الفُقهاء.
قال: وزعم أهل العَربية أن القرآن لَيْسَ فِيهِ من كلام العجَم شيء وأنه كلَّه بلسانٍ عربيّ، يتأوَّلون قوله جلّ ثناؤه "إنا جعلناه قرآناً عربياً" وقوله "بلسان عربيّ مبين".
قال أبو عبيد: والصواب من ذَلِكَ عندي - والله اعلم - مذهب فِيهِ تصديق القوْلين جميعاً. وذلك أنَّ هَذِهِ الحروف وأصولها عجمية - كما قال الفقهاء - إِلاَّ أنها سقَطَت إِلَى العرب فأعرَبَتها بألسنَتها، وحوَّلتها عن ألفاظ العجم إِلَى ألفاظها فصارت عربيَّة. ثُمَّ نزل القرآن وَقَدْ اختَلَطت هَذِهِ الحروف بكلام العَرَب. فمن قال إنها عَرَبية فهو صادق، ومن قال عجمية فهو صادق.
قال: وإنما فسَّرنا هَذَا لئلا يُقدِمَ أحد عَلَى الفقهاء فَيَنْسَبهم إِلَى الجهل، ويتوهَّم عليهم أنهم أقدموا عَلَى كتاب الله جَلَّ ثناؤه بغير مَا أرداهُ الله جلَّ وعزَّ، وهم كانوا أعلمَ بالتأويل وأشدَّ تعظيماً للقرآن.
قال أحمد بن فارس: لَيْسَ كل من خالف قائلاً فِي مقالته فقد نَسَبه إِلَى الجهل. وذلك أن الصدر الأول اختلفوا فِي تأويل آي من القرآن فخالف بعضهم بعضاً. ثُمَّ خَلَفَ من بعدهم خلف، فأخذ بعضهم بقولٍ وأخذ بعض بقول، حسب اجتهادهم وَمَا دلَّتهم الدَّلالة عَلَيْهِ. فالقول إذن مَا قاله أبو عبيد، وإن كَانَ قوم من الأوائل قَدْ ذهبوا إِلَى غيره.
فإن قال قائل: فما تأويل قول أبي عبيد، فقد أعظم وأكبر? قيل لَهُ: تأويله أنه أتي بأمر عظيم وكبير. وذلك أن القرآن لَوْ كَانَ فِيهِ من غير لغة العرب شيء، لتوهَّم متوهْمِ أن العرب إنما عَجَزت عن الإتيان بمثله لأنه أتي بلغات لا يعرفونها، وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ.
وإذا كَانَ كذا فلا وجه لقول من يجيز قراءة القرآن فِي صلاته بالفارسية لأن الفارسية ترجمة غير مُعْجِزة. وإنَّما أمر الله جلّ ثناؤه بقراءة القرآن العربي المعجز. ولو جازت القراءة بالترجمة الفارسية لكانت كتُب التفسير والمصنّفات فِي معاني القرآن باللَّفظ العربيّ أولى بجواز الصَّلاة بِهَا، وهذا لا يقوله أحد.
?باب القول فِي مأخذ اللغة
تؤخذ اللغة اعتياداً كالصبي العربيّ يسمع أبويه وغيرهما، فهو يأخذ اللغة عنهم عَلَى مَرّ من الأوقات.
وتؤخذ تلقُّناً من ملقّن.
وتؤخذ سماعاً من الرُّواة الثقات ذوي الصدق والأمانة، ويُتَّقى المظنون.
فحدثنا عليُّ بن إبراهيم عن المَعْدَانيّ عن أبيه عن معروف بن حسان عن اللَّيْث عن الخليل قال: إن النَّحارير رُبَّما أدخلوا عَلَى الناس مَا لَيْسَ من كلام العرب إرادة اللَّبْس والتَّعْنِيت.
قلنا فَليَتَحرّ آخذ اللغة وغيرها من العلوم أهل الأمانة والثقة والصدق والعدالة. فقد بلغنا من أمر بعض مشيخة بغداد مَا بلغنا. واللهَ جل ثناؤه نستهدي التوفيق، وإليه نرغب فِي إرشادنا لسُبُل الصدق، إنه خير موفق ومعين.
باب القول فِي الاحتجاج باللغة العربية
لغةُ العرب يحتج بِهَا فيما اختلفُ فيه، إِذَا كَانَ "التنازع في اسم أو صفة أو شيءو مما تستعمله العرب من سننها في حقيقة ومجاز، أو ما أشبه ذلك مما يجيء في كتابنا هذا إن شاءَ الله.
فأما الذي سبيله سبيل الاستنباء، أو ما فيه لدلائل العقل مجال - فإن العرب وغيرهم فيه سواء؛ للآن سائلا لو سأل عن دلالة من دلائل التوحيد أو حجة في أصل فقه أو فرعه - لم يكن الاحتجاج فيه بشيء من لغة العرب، إذ كان موضوع ذلك على غير اللغات.
فأما الذي يختلف فيه الفقهاء - من قوله جل وعز: )أو لامستُم النِساء( وقوله: )والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قُروء( وقوله جل وعز: )ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم( وقوله: )ثم يعودون لما قالوا( - فمنه ما يصلح الاحتجاج فيه بلغة العرب، ومنه ما يوكل إلى غير ذلك.
باب القول في حاجة أهل الفقه والفتيا
إلى معرفة اللغة العربية
أقول: إن العلم بلغة العرب واجب على كل متعلق من العلم بالقرآن والسنة والفتيا بسبب، حتى لاغناء بأحد منهم عنه. وذلك أن القرآن نازلٌ بلغة العرب، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، عربي. فمن أراد معرفة ما في كتاب الله جل وعز، وما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كل كلمة غريبة أو نظم عجيب - لم يجر من العلم باللغة بُدّا.
ولسنا نقول: إن الذي يلزمه من ذلك الإحاطة بكل ما قالته العرب؛ لأن ذلك غير مقدور عليه، ولا يكون إلا لنبي، كما قلناه أولاً. بل الواجب علم أصول اللغة والسنن التي بأكثرها نزل القرآن وجاءت السنة. فأما أن يكلف القارئ أو الفقيه أو المحدث معرفة أوصاف الإبل وأسماء السباع ونعوت الأسلحة، وما قالته العرب في الفلوات والفيافي، وما جاء عنهم من شواذ الأبنية وغرائب التصريف - فلا.
ولقر غلط أبو بكر بن داود أبا عبد الله محمد بن إديس الشافعي، في كلمات ذكر أنه أخطأ فيها طريق اللغة. وليس يبعر أن يغلء في مثلها مثله في فصاحته. لكن الصواب على ما قاله أصوب.
فأما الكلمات فمنها: إيجابه ترتيب أعضاء الوضوء في الوضوء، مع إجماع العربية أن الواو تقتضي الجمع المطل لا التوالي.
ومنها: قوله في التزويج: إذا قال الولي: زوجتك فلانة، فقال المزوج: قد قبلتها - : إن ذلك ليس بنكاح حتى يقول: قد تزوجتها أو قبلت تزويجها. قال: ةمعلوم أن الكلام إذا خرج جواباً فقد فهم أنه جواب عن سؤال، قال الله جل وعز: )فهل وجد نم ما وعد ربكم حقاً قالوا: نعم( وقال: )ألست بربكم قالو بلى( فاكتفى من المحبين بهذا، وما كلفوا أن يقولوا: بلى أنت ربنا.
قال: ومنها تسمية البكر التي لا توطأ حائلا. وابن داود يقول: إنما تسمى حائلا إذا كانت حاملاً مرة، أو توقع منها حمل فحالت.
ومنها قوله في الطائفة: إنها تكون ثلاثة وأكثر. وقد قال مجاهد: الطائفة تقع على الواحد.
ومنها قوله في قول الله جل وعز: )ذلك أدنى ألا تعولوا( أي لا يكثر من تعولون. والعرب تقول في كثرة العيال: أعال الرجل فهو معيل.
ومنها قوله في القروء: إنها الأطهار. فإن القرء من قولهم: يقرى الماء في حوضه. قال والعرب تقول: لا تطأ جاريتك حتى تقريها. وقال صلى الله عليه وسلم: دعى الصلاة" أيامَ أقْرائِكَ. قال أبو بكر: ومن العظيم أنَّ علياً وعمرَ رضي الله عنهما قَدْ قالا "القُرْؤُ الحَيضُ" فهل يُجْتَرا عَلَى تجهيلهما باللغة? ومنها قوله فِي قوله جلّ ثناؤه "حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال" أنه أرادَ الذكور دون الإناث. قال: وهذا من غريب مَا يَغلَط فِيهِ مثله. يقول الله جلّ ثناؤه "يَا بني آدم!" أفَتُراه أراد الرِّجالَ دون النساء? قال ابن داود: وإنَّ قبيحاً مُفْرِط القَبَاحة بمن يعيب مالك لن أنسٍ بأنه لَحَنَ فِي مخاطَبَةِ العامَّة بأن قال: "مُطرنا البارحة مطراً أيَّ مطراً" أن يرضَى هو لنفسه أن يتكلم بمثل هَذَا. لأن النَّاس لَمْ يزالوا يلحنون ويَتَلاحَنُون فيما يخاطب بعضُهم بعضاً اتِّقَاءً للخروج عن عادة العامة فلا يَعيبُ ذَلِكَ من يُنْصِفِهم من الخاصة، وإنّما العيب عَلَى من غلِط من جهة اللغة فيما يغير بِهِ حكَم الشريعة والله المستعان.
فلذلك قلنا: إنّ علم اللغة كالواجب عَلَى أهل العلم، لئلاَّ يحيدوا فِي تألبفهم أَوْ فتياهم عن سَنن الاستواء.
وكذلك الحاجة إِلَى علم العربية، فإن الإعراب هو الفارق بَيْنَ المعاني. ألا ترى أن القائل إِذَا قال: "مَا أحسن زيد" لَمْ يفرّق بَيْنَ التعجب والاستفهام والذمّ إِلاَّ بالأعراب. وكذلك إِذَا قال: "رب أخوك أخانا" و "وَجْهُك وجهُ حُرّ" و "وجهُك وجهٌ حرٌّ" وَمَا أشْبَه ذَلِكَ من الكلام المشْتَبه.
هَذَا وَقَدْ روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعْرِبوا القرآن".
وَقَدْ كَانَ الناس قديماً يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أَوْ يقرأونه اجتنابَهم بعضَ الذنوب. فأما الآن فقد تجوزا حَتَّى أن المحدّث يحدث فليحن. والفقيه يؤلف فيلحن. فإذا نُبها قالا: مَا ندري مَا الإعراب وإنم انحن محدّثون وفقهاء. فهما يسران بما يُساء بِهِ اللبيب.
ولقد كلمت بعض من يذهبُ بنفسه ويراها من فقه الشافعي بالرتبة العُليا فِي القياس، فقلت لَهُ: مَا حقيقة القياس ومعناه، ومن أي شيء هو? فقال: لَيْسَ عليَّ هَذَا وإنما علي إقامة الدَّليل عَلَى صحته.
فقل الآن في رجل يروم إقامة الدليل على صحة شيء لا يعرف معناه، ولا يدري ما هو. ونعوذ بالله من سوء الاختيار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق