عناية المسلمين بالبلاغة خدمة للقرآن الكريم
الأستاذ : محمد بن صالح
أستاذ مساعد
- جامعة المسيلة
إن الحديث عن البلاغة
العربية هو الحديث عن الحياة العربية العقلية و الدينية , و البلاغة العربية في
صورتها الأولى وجه من وجوه الثقافة التي تترجم عن أمة معروفة بجهدها و فضلها و خدمتها للإنسانية , و
التي قال فيها الله سبحانه و تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللّهِ ...}آل عمران 110 .
و تتميز الأمة العربية بخصوصيات من بينها
لغتها التي جذبت انتباه الباحثين ,
فالعربي شديد التأثر بالألفاظ و موسيقاها
و معانيها , يشده الكلم شدا حتى كانت فنون الشعر و الخطابة من نشاطاته
البارزة , و ما زال الإنسان العربي إلى اليوم يتفاعل مع مفردات لغته التي تتضمن
مشاعره و أحاسيسه و طاقاته و جذوره و
امتداده ضمن واقعه القومي و الاجتماعي . ولعل هذا ما أدى بالدارسين إلى البحث في
طبيعة اللغة و وظيفتها و دلالاتها , و لا سيما
في مجال البلاغة , ذلك لأن البلاغة
هي نظام الخيرة باللغة و جمال الكلام .
و مع مرور الأيام ظهرت
عوامل جديدة أدت إلى إضعاف السليقة في التعامل مع النصوص الأدبية , فقد اختلط
العرب الفصحاء بغيرهم , ووصل الإسلام إلى
أقوام مختلفين , كما أثيرت شكوك و مطاعن في بلاغة القرآن و إعجازه مما جعل الكثيرين لا يكتفون بهذا التفوق الذي
تحسه نفوسهم إزاء البيان القرآني ,
فمضوا يحاولون استنباط ما يستطيعون
استنباطه من وجوه البلاغة فيه , و أصبحت دراستهم تقوم على الدليل العقلي و الحجة و تسويغ مواطن الجمال التعبيري [1] .
ويُعَدُّ القرآن
الكريم هو العامل الرئيس الذي ساعد على الشروع في الدراسات البلاغية بمختلف
اتجاهاتها ، وكان هذا العامل أهمَّ البواعث في إثارة الهمم للبحث الجادِّ عن
ترتيب وجوه الكلام ، والتمييز بين الأساليب ومعرفة الجوانب الجمالية في نسيج
تركيب الجملة العربية . ويُجْمع العلماء على أنه بفضل الكتاب العزيز نشأت
علوم البلاغة التي أمدَّها النص القرآني بفيض من الأمثلة البديعة في محاسن الكلام
وبديع النظم [2]
.
و لقد أثار القرآن الكريم
منذ اللحظات الأولى لنزوله حركة فكرية عند مُتَلَقِّيه ، ممَّا جعلهم
يلتفتون إلى ما جاء به في أساليب التعبير والبيان ، ويُنَقِّبون عن
كنوزها ، ويوازنون بين صنوف الكلام المختلفة , يقول الدكتور حمادي صمود) [3]
: (( غدا
القرآن القطبَ الذي تدور حوله مختلف المجهودات الفكرية والعقائدية للمسلمين )) .
ولو تساءلنا عن أسباب
نشأة علوم البلاغة التي هي المعاني والبيان والبديع ، لَتَبَيَّن لنا أنها
نشأت للدفاع عن القرآن ، والردِّ على الذين أنكروا إعجازه من أمثال إبراهيم النظَّام المعتزلي الذي كان يعتقد أن
القرآن ليس في درجة من البلاغة والفصاحة تمنع من الإتيان بمثله ، فبلاغته لا تزيد
على بلاغة سائر الناس ، وهو من جنس كلام البشر . ومثل هذا الرأي دفع
علماء المسلمين إلى الخوض في مسائل البلاغة التي تدرس خصائص النص القرآني ،
ممَّا سيكون له أثر كبير في إغناء المباحث البلاغية ، فقد أثمرت أهمَّ نظرية
في تراثنا البلاغي وهي نظرية النظم([4]) ، ومن
هنا كان الردُّ على النظَّام باعثاً مهماً
ومنطلقاً لعلماء البلاغة أن يُثْبِتوا تَفَوُّق الأسلوب القرآني على الأساليب
البشرية وتميُّزه بصنوف البيان البديع ، وهذا الدافع جعلهم يَبُثُّون بذور
علم البلاغة وفروعها المختلفة ، مما كان أساساً لاكتمال صورتها في مصنفات
القرون التالية .
ثم جاءت دراسات جادَّة
شرعت في بناء منظومة واسعة ، غرضها شرح أوجه إعجاز القرآن ودراسة
أسلوبه .
وهذه الدراسات زَوَّدت مسيرة علم البلاغة بفيض من الأصول
والأمثلة التي اعتمدَتْها مصنفات علوم البلاغة فيما بعد القرون الأولى([5]) ، وكان
اختلاف وجهات النظر في مواطن إعجازه مادةً ثرَّة ، رفدت هذه العلوم بروافد
تأصيلية في البحث البلاغي والنقد الأدبي([6]) ، وبذلك
يتبيَّن لنا أن أهمَّ جانب ساعد على ظهور التفكير البلاغي هو الجانب المتصل بإعجاز
القرآن ، كما يتبيَّن لنا أن اتساع الدراسات البلاغية وازدهارها إنما كان
لخدمة القرآن الكريم .
وتفرع على النظر في
أسلوب القرآن واتخاذه المقياسَ البلاغي الأمثل النظرُ في الأساليب الأدبية نثرها
وشعرها ، والموازنة فيما بينها([7]) . وكان
أبو عبيدة معمر بن المثنى مِن أوائل مَنْ أَلَّفَ فيها ، وكان غرضه توضيح
الأساليب القرآنية .
ويذكر ياقوت في (( معجم
الأدباء ))([8]) رواية عنه
يقول فيها : (( قال
أبو عبيدة : أرسل إليَّ الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه سنة ثمان
وثمانين ومئة ، فقدمتُ إلى بغداد ، واستأذنْتُ عليه ، فأَذِن لي
فدخلتُ عليه ... ثم دخل رجلٌ له هيئة ، فأجلسه إلى جانبي ، وقال
له : هذا أبو عبيدة عَلاَّمة أهل البصرة ، أَقْدَمْناه لنستفيد من علمه
وقال لي : إني كنت إليك مشتاقاً ، وقد سألت عن مسألة ، أفتأذن لي
أن أعرِّفك إياها ؟ فقلت : هات . قال : قال الله U ] طَلْعُها
كأنه رؤوس الشياطين [ (الصافات: 65) ، وإنما يقع الوعد والإيعاد
بما عُرِف مثله ، وهذا لم يُعرف . فقلت : إنما كلَّم الله تعالى
العرب على قَدْر كلامهم ، أما سمعتَ قول امرئ القيس :
أيقتُلني والمَشْرَفيُّ مُضاجِعي
|
|
ومَسْنونةٌ زُرْقٌ كأنياب أَغْوال
|
وهم لم يَرَوا الغول قط ، ولكنهم لما كان أمرُ الغول يَهولهم
أُوعِدوا به ، فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل ، وعَزَمْتُ من ذلك
اليوم أن أضع كتاباً في القرآن في مثل هذا وأشباهه ، وما يُحتاج إليه مِنْ
عِلْمه ، فلمَّا رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سَمَّيْتُه المجاز )) .
ولم تقتصر علاقة
القرآن بمنهج البحث البلاغي على الدفاع عنه والتماس وجه إعجازه ، بل إن ثمة
علاقةً أخرى ، وهي الضرورة التي يُحِسُّها المسلم من جهة فَهْم معانيه([9]) ، ولا
يتمُّ هذا الفهم إلا بالإحاطة بأساليبه ، وما يمكن أن ينطويَ وراء تعبيراته من
المعاني والمقاصد ، على قَدْر طاقة المشتغلين فيه . ومن هنا جال علماء
البيان بضروب الأسلوب القرآني ، وكان هذا من الحوافز التي وجَّهَتْ أنظارهم
إلى الفنون المختلفة للتعبير الفني في الشعر والنثر ، فوضعوا مصنفات كثير في
هذه الحقول([10]) ،
وكانت هذه المصنفات صدىً لبيان خصائص النظم القرآني .
وكان من جملة أغراض
البحث البلاغي عندهم إثبات أنَّ ما عُرِف في أدب العرب من فنون جمالية عالية في
التعبير ، وقع مثله في القرآن على صورة أجملَ وآنَق ، وقد فتحت المصنفات
التي تركوها باب البحث البلاغي على مِصْراعَيْه ، ووصلَتْ بالذوق البياني إلى
كثير من الأصول التي تأسَّسَتْ عليها علوم المعاني والبيان والبديع([11]) . يقول
الدكتور بدوي طبانة([12]) : (( من
النادر أن نجد أثراً من الآثار التي عرضت للبيان العربي خلا من الإشارة إلى القرآن
ونظمه ، وهذا يؤكِّد بُعْدَ أثر الدراسات القرآنية في نُمُوِّ الدراسات
البيانية وتنوُّعها ، وعدم انقطاع هذا التأثر في سائر العصور )) .
وعندما ازدهر التصنيف
في علوم البلاغة كانت خدمة القرآن الكريم ماثلةً أمام العلماء الذين كانوا
يَعُدُّون جهودهم مُنْصَبَّةً في هذا المجال ، حتى إننا لا نكاد نجد كتاباً
في البلاغة مقصوراً على مباحثها النظرية ، وبعيداً عن خدمة القرآن([13]) ، فعبد
الله بن المعتز مثلاً عندما شرع في البحث عن صنوف (( البديع )) وفنونه أشار إلى كثير من آيات القرآن ،
وكان يجعل الشاهد القرآني في مقدمة شواهده ، وحين تكلَّم على ما سَمَّاه
الجاحظ المذهب الكلامي قال([14]) : (( وهذا
بابٌ ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئاً ، وهو يُنْسَبُ إلى التكلُّف )) .
وتُرْجِعُ معظم كتب
البلاغة سبب تأليفها إلى إطْلاع الناس على مواطن أسرار البيان في القرآن ،
فالرمَّاني مثلاً يحصر البلاغة في أقسام عشرة هي : الإيجاز والتشببيه
والاستعارة والتلاؤم والفواصل والتجانس والتصريف والتضمين والمبالغة وحسن
البيان . ثم يمضي لتفسير كل قسم في ضوء الآيات القرآنية وبيان أسرار الجمال
فيها ، وذلك في كتابه (( النُّكَت ))([15]) الذي
يُعَدُّ حلقة مهمة من حلقات التأليف في البلاغة العربية .
وقد بلغ التصنيف في علوم
البلاغة غاية بعيدة من النضج والإحكام على يد الإمام عبد القاهر الجرجاني الذي وضع
كتابَيْه (( أسرار
البلاغة )) و (( دلائل الإعجاز )) ، وكان لهما منزلة عالية
من نظج التفكير البلاغي ، ويتضح فيهما توجيه علوم البلاغة توجيهاً خالصاً
لخدمة القرآن الكريم .
وها هو صاحب (( الصناعتين )) يقول في مقدمة كتابه : (( قد
علمنا أن الإنسان إذا أغفل علمَ البلاغة ، وأَخَلَّ بمعرفة الفصاحة ، لم
يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خَصَّه الله به مِنْ حسن التأليف وبراعة التركيب ))([16]) ، بل
إن العسكري في كتابه يرى أن أحقَّ العلوم بالتعلُّم وأَوْلاها بالتحفظ بعد المعرفة
بالله ، علم البلاغة ، ومعرفة الفصاحة ، الذي يُعرف إعجاز كتاب
الله تعالى الناطق بالحكمة([17]).
ويذكر القزويني في مقدمة كتابه (( التلخيص )) أن موضوع إعجاز القرآن كان السبب في وَضْع
الكتاب ، ويشير في مقدمته([18]) إلى أن علم
البلاغة وما يتبعه مِنْ أجَلِّ العلوم قَدْراً ، وأدقِّها سراً ؛ إذ به
تعرف دقائق العربية وأسرارها ، وتُكشف عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن أستارها )) .
ومن هنا فإن الدارسين
المحدثين لمحوا علاقة علم البلاغة بكتاب الله . يقول الدكتور مازن المبارك([19]) : (( وهكذا
نشأت البلاغة وترعرعت تحت راية القرآن والبحث في إعجازه ، وهذا البحث هو الذي
وصل بها إلى أن تصبح علماً مستقلاً يُخَصُّ بالتأليف ، بل لقد ظلَّت البلاغة
بعد نضجها واستقلالها أيضاً عالقة بفكرة إعجاز القرآن والدفاع عنها )) .
ويشارك القرآن الكريم
في تربية الذوق البياني لدى الفرد ، ويُنَمِّي لديه حاسَّة النقد والملكة
الأدبية في الكشف عن مواطن الجمال([20]) ، وقد
وضع البطليوسي([21]) في شرحه
لخطبة (( أدب
الكاتب )) غرضَين لطلب الأدب والاهتمام بمدارسته ،
أحدهما : يقال له الغرض الأدبي ، والثاني الغرض الأعلى ، فالغرض
الأدبي يَحْصُل للمتأدِّب بالنظر في الأدب والشعر ، والغرض الأعلى يَحْصُل
للمتأدِّب به قوة على فهم كتاب الله وكلام رسوله )) . ولذلك فإن معشر البلغاء
والكُتَّاب كانوا حريصين على التزود من مَعين كتاب الله ، كما كانوا يُوصون
المتأدِّبين بالعكوف على أسلوبه وبيانه ؛ ليفيدوا منه في صقل أساليبهم ،
وترقية بيانهم . يقول عبد الحميد الكاتب([22]) : (( تنافسوا
يا معشر الكتاب في صنوف الآداب وتفقهوا في الدين ، وابدؤوا بعلم كتاب الله U ثم العربية ،
فإنها ثِقاف ألسنتكم ، ثم أجيدوا الخط فإنه حِلْية كتبكم ، وارْووا
الأشعار ، واعرِفوا غريبها ومعانيها ، وأيام العرب والعجم وأحاديثها
وسيرها ؛ فإن ذلك مُعين لكم على ما تسمو إليه هممكم )) .
وهكذا نخلص إلى أن
البلاغة العربية في نشأتها وتطورها وثمارها لاتنفكُّ عن القرآن ؛ إذ سَعَتْ
في خدمة بيانه ، وساهمت في شرح إعجازه وبديع نظمه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق