البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

البهجة ((تقرت)) عروسة الواحات

الأحد، 8 يوليو 2012

عناية المسلمين بالبلاغة خدمة للقرآن الكريم

عناية المسلمين بالبلاغة خدمة للقرآن الكريم

الأستاذ : محمد بن صالح

أستاذ مساعد - جامعة المسيلة


إن الحديث عن البلاغة العربية هو الحديث عن الحياة العربية العقلية و الدينية , و البلاغة العربية في صورتها الأولى وجه من وجوه الثقافة التي تترجم عن أمة  معروفة بجهدها و فضلها و خدمتها للإنسانية , و التي قال فيها الله سبحانه و تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ...}آل عمران 110 . 

و تتميز الأمة العربية بخصوصيات من بينها لغتها  التي جذبت انتباه الباحثين , فالعربي شديد التأثر بالألفاظ و موسيقاها         و معانيها , يشده الكلم شدا حتى كانت فنون الشعر و الخطابة من نشاطاته البارزة , و ما زال الإنسان العربي إلى اليوم يتفاعل مع مفردات لغته التي تتضمن مشاعره و أحاسيسه  و طاقاته و جذوره و امتداده ضمن واقعه القومي و الاجتماعي . ولعل هذا ما أدى بالدارسين إلى البحث في طبيعة اللغة و وظيفتها و دلالاتها , و لا سيما  في مجال البلاغة , ذلك لأن البلاغة  هي نظام الخيرة باللغة و جمال الكلام .

و مع مرور الأيام ظهرت عوامل جديدة أدت إلى إضعاف السليقة في التعامل مع النصوص الأدبية , فقد اختلط العرب الفصحاء بغيرهم  , ووصل الإسلام إلى أقوام مختلفين , كما أثيرت شكوك و مطاعن في بلاغة القرآن و إعجازه  مما جعل الكثيرين لا يكتفون بهذا التفوق الذي تحسه نفوسهم إزاء  البيان القرآني , فمضوا  يحاولون استنباط ما يستطيعون استنباطه من وجوه البلاغة فيه , و أصبحت دراستهم تقوم على الدليل العقلي  و الحجة و تسويغ مواطن الجمال  التعبيري [1]  .


ويُعَدُّ القرآن الكريم هو العامل الرئيس الذي ساعد على الشروع في الدراسات البلاغية بمختلف اتجاهاتها ، وكان هذا العامل أهمَّ البواعث في إثارة الهمم للبحث الجادِّ عن ترتيب وجوه الكلام ، والتمييز بين الأساليب ومعرفة الجوانب الجمالية في نسيج تركيب الجملة العربية . ويُجْمع العلماء على أنه بفضل الكتاب العزيز نشأت علوم البلاغة التي أمدَّها النص القرآني بفيض من الأمثلة البديعة في محاسن الكلام وبديع النظم [2] .

و لقد أثار  القرآن الكريم  منذ اللحظات الأولى لنزوله حركة فكرية عند مُتَلَقِّيه ، ممَّا جعلهم يلتفتون إلى ما جاء به في أساليب التعبير والبيان ، ويُنَقِّبون عن كنوزها ، ويوازنون بين صنوف الكلام المختلفة , يقول الدكتور حمادي صمود)  [3] : (( غدا القرآن القطبَ الذي تدور حوله مختلف المجهودات الفكرية والعقائدية للمسلمين )) .

ولو تساءلنا عن أسباب نشأة علوم البلاغة التي هي المعاني والبيان والبديع ، لَتَبَيَّن لنا أنها نشأت للدفاع عن القرآن ، والردِّ على الذين أنكروا إعجازه  من أمثال  إبراهيم النظَّام المعتزلي الذي كان يعتقد أن القرآن ليس في درجة من البلاغة والفصاحة تمنع من الإتيان بمثله ، فبلاغته لا تزيد على بلاغة سائر الناس ، وهو من جنس كلام البشر . ومثل هذا الرأي دفع علماء المسلمين إلى الخوض في مسائل البلاغة التي تدرس خصائص النص القرآني ، ممَّا سيكون له أثر كبير في إغناء المباحث البلاغية ، فقد أثمرت أهمَّ نظرية في تراثنا البلاغي وهي نظرية النظم([4]) ، ومن هنا كان الردُّ على النظَّام  باعثاً مهماً ومنطلقاً لعلماء البلاغة أن يُثْبِتوا تَفَوُّق الأسلوب القرآني على الأساليب البشرية وتميُّزه بصنوف البيان البديع ، وهذا الدافع جعلهم يَبُثُّون بذور علم البلاغة وفروعها المختلفة ، مما كان أساساً لاكتمال صورتها في مصنفات القرون التالية .

ثم جاءت دراسات جادَّة شرعت في بناء منظومة واسعة ، غرضها شرح أوجه إعجاز القرآن ودراسة أسلوبه .
وهذه الدراسات زَوَّدت مسيرة علم البلاغة بفيض من الأصول والأمثلة التي اعتمدَتْها مصنفات علوم البلاغة فيما بعد القرون الأولى([5]) ، وكان اختلاف وجهات النظر في مواطن إعجازه مادةً ثرَّة ، رفدت هذه العلوم بروافد تأصيلية في البحث البلاغي والنقد الأدبي([6]) ، وبذلك يتبيَّن لنا أن أهمَّ جانب ساعد على ظهور التفكير البلاغي هو الجانب المتصل بإعجاز القرآن ، كما يتبيَّن لنا أن اتساع الدراسات البلاغية وازدهارها إنما كان لخدمة القرآن الكريم .

وتفرع على النظر في أسلوب القرآن واتخاذه المقياسَ البلاغي الأمثل النظرُ في الأساليب الأدبية نثرها وشعرها ، والموازنة فيما بينها([7]) . وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى مِن أوائل مَنْ أَلَّفَ فيها ، وكان غرضه توضيح الأساليب القرآنية .

ويذكر ياقوت في (( معجم الأدباء ))([8]) رواية عنه يقول فيها : (( قال أبو عبيدة : أرسل إليَّ الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه سنة ثمان وثمانين ومئة ، فقدمتُ إلى بغداد ، واستأذنْتُ عليه ، فأَذِن لي فدخلتُ عليه ... ثم دخل رجلٌ له هيئة ، فأجلسه إلى جانبي ، وقال له : هذا أبو عبيدة عَلاَّمة أهل البصرة ، أَقْدَمْناه لنستفيد من علمه وقال لي : إني كنت إليك مشتاقاً ، وقد سألت عن مسألة ، أفتأذن لي أن أعرِّفك إياها ؟ فقلت : هات . قال : قال الله U ] طَلْعُها كأنه رؤوس الشياطين [ (الصافات: 65) ، وإنما يقع الوعد والإيعاد بما عُرِف مثله ، وهذا لم يُعرف . فقلت : إنما كلَّم الله تعالى العرب على قَدْر كلامهم ، أما سمعتَ قول امرئ القيس :
أيقتُلني والمَشْرَفيُّ مُضاجِعي

ومَسْنونةٌ زُرْقٌ كأنياب أَغْوال
وهم لم يَرَوا الغول قط ، ولكنهم لما كان أمرُ الغول يَهولهم أُوعِدوا به ، فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل ، وعَزَمْتُ من ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن في مثل هذا وأشباهه ، وما يُحتاج إليه مِنْ عِلْمه ، فلمَّا رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سَمَّيْتُه المجاز )) .

ولم تقتصر علاقة القرآن بمنهج البحث البلاغي على الدفاع عنه والتماس وجه إعجازه ، بل إن ثمة علاقةً أخرى ، وهي الضرورة التي يُحِسُّها المسلم من جهة فَهْم معانيه([9]) ، ولا يتمُّ هذا الفهم إلا بالإحاطة بأساليبه ، وما يمكن أن ينطويَ وراء تعبيراته من المعاني والمقاصد ، على قَدْر طاقة المشتغلين فيه . ومن هنا جال علماء البيان بضروب الأسلوب القرآني ، وكان هذا من الحوافز التي وجَّهَتْ أنظارهم إلى الفنون المختلفة للتعبير الفني في الشعر والنثر ، فوضعوا مصنفات كثير في هذه الحقول([10]) ، وكانت هذه المصنفات صدىً لبيان خصائص النظم القرآني .
وكان من جملة أغراض البحث البلاغي عندهم إثبات أنَّ ما عُرِف في أدب العرب من فنون جمالية عالية في التعبير ، وقع مثله في القرآن على صورة أجملَ وآنَق ، وقد فتحت المصنفات التي تركوها باب البحث البلاغي على مِصْراعَيْه ، ووصلَتْ بالذوق البياني إلى كثير من الأصول التي تأسَّسَتْ عليها علوم المعاني والبيان والبديع([11]) . يقول الدكتور بدوي طبانة([12]) : (( من النادر أن نجد أثراً من الآثار التي عرضت للبيان العربي خلا من الإشارة إلى القرآن ونظمه ، وهذا يؤكِّد بُعْدَ أثر الدراسات القرآنية في نُمُوِّ الدراسات البيانية وتنوُّعها ، وعدم انقطاع هذا التأثر في سائر العصور )) .

وعندما ازدهر التصنيف في علوم البلاغة كانت خدمة القرآن الكريم ماثلةً أمام العلماء الذين كانوا يَعُدُّون جهودهم مُنْصَبَّةً في هذا المجال ، حتى إننا لا نكاد نجد كتاباً في البلاغة مقصوراً على مباحثها النظرية ، وبعيداً عن خدمة القرآن([13]) ، فعبد الله بن المعتز مثلاً عندما شرع في البحث عن صنوف (( البديع )) وفنونه أشار إلى كثير من آيات القرآن ، وكان يجعل الشاهد القرآني في مقدمة شواهده ، وحين تكلَّم على ما سَمَّاه الجاحظ المذهب الكلامي قال([14]) : (( وهذا بابٌ ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئاً ، وهو يُنْسَبُ إلى التكلُّف )) .

وتُرْجِعُ معظم كتب البلاغة سبب تأليفها إلى إطْلاع الناس على مواطن أسرار البيان في القرآن ، فالرمَّاني مثلاً يحصر البلاغة في أقسام عشرة هي : الإيجاز والتشببيه والاستعارة والتلاؤم والفواصل والتجانس والتصريف والتضمين والمبالغة وحسن البيان . ثم يمضي لتفسير كل قسم في ضوء الآيات القرآنية وبيان أسرار الجمال فيها ، وذلك في كتابه (( النُّكَت ))([15]) الذي يُعَدُّ حلقة مهمة من حلقات التأليف في البلاغة العربية .

وقد بلغ التصنيف في علوم البلاغة غاية بعيدة من النضج والإحكام على يد الإمام عبد القاهر الجرجاني الذي وضع كتابَيْه (( أسرار البلاغة )) و (( دلائل الإعجاز )) ، وكان لهما منزلة عالية من نظج التفكير البلاغي ، ويتضح فيهما توجيه علوم البلاغة توجيهاً خالصاً لخدمة القرآن الكريم .

وها هو صاحب (( الصناعتين )) يقول في مقدمة كتابه : (( قد علمنا أن الإنسان إذا أغفل علمَ البلاغة ، وأَخَلَّ بمعرفة الفصاحة ، لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خَصَّه الله به مِنْ حسن التأليف وبراعة التركيب ))([16]) ، بل إن العسكري في كتابه يرى أن أحقَّ العلوم بالتعلُّم وأَوْلاها بالتحفظ بعد المعرفة بالله ، علم البلاغة ، ومعرفة الفصاحة ، الذي يُعرف إعجاز كتاب الله تعالى الناطق بالحكمة([17]).
ويذكر القزويني في مقدمة كتابه (( التلخيص )) أن موضوع إعجاز القرآن كان السبب في وَضْع الكتاب ، ويشير في مقدمته([18]) إلى أن علم البلاغة وما يتبعه مِنْ أجَلِّ العلوم قَدْراً ، وأدقِّها سراً ؛ إذ به تعرف دقائق العربية وأسرارها ، وتُكشف عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن أستارها )) .

ومن هنا فإن الدارسين المحدثين لمحوا علاقة علم البلاغة بكتاب الله . يقول الدكتور مازن المبارك([19]) : (( وهكذا نشأت البلاغة وترعرعت تحت راية القرآن والبحث في إعجازه ، وهذا البحث هو الذي وصل بها إلى أن تصبح علماً مستقلاً يُخَصُّ بالتأليف ، بل لقد ظلَّت البلاغة بعد نضجها واستقلالها أيضاً عالقة بفكرة إعجاز القرآن والدفاع عنها )) .

ويشارك القرآن الكريم في تربية الذوق البياني لدى الفرد ، ويُنَمِّي لديه حاسَّة النقد والملكة الأدبية في الكشف عن مواطن الجمال([20]) ، وقد وضع البطليوسي([21]) في شرحه لخطبة (( أدب الكاتب )) غرضَين لطلب الأدب والاهتمام بمدارسته ، أحدهما : يقال له الغرض الأدبي ، والثاني الغرض الأعلى ، فالغرض الأدبي يَحْصُل للمتأدِّب بالنظر في الأدب والشعر ، والغرض الأعلى يَحْصُل للمتأدِّب به قوة على فهم كتاب الله وكلام رسوله )) . ولذلك فإن معشر البلغاء والكُتَّاب كانوا حريصين على التزود من مَعين كتاب الله ، كما كانوا يُوصون المتأدِّبين بالعكوف على أسلوبه وبيانه ؛ ليفيدوا منه في صقل أساليبهم ، وترقية بيانهم . يقول عبد الحميد الكاتب([22]) : (( تنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب وتفقهوا في الدين ، وابدؤوا بعلم كتاب الله U ثم العربية ، فإنها ثِقاف ألسنتكم ، ثم أجيدوا الخط فإنه حِلْية كتبكم ، وارْووا الأشعار ، واعرِفوا غريبها ومعانيها ، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها ؛ فإن ذلك مُعين لكم على ما تسمو إليه هممكم )) .

وهكذا نخلص إلى أن البلاغة العربية في نشأتها وتطورها وثمارها لاتنفكُّ عن القرآن ؛ إذ سَعَتْ في خدمة بيانه ، وساهمت في شرح إعجازه وبديع نظمه .




[1] - انظر التفكير البلاغي عند العرب ص  : 36
[2]  - أثر القرآن على اللغة العربية للدكتور علي جميل ص : 135
[3] - التفكير البلاغي عند العرب ص : 29
4- التفكير البلاغي عند العرب ص : 38
5 -  أثر القرآن في تطور النقد العربي 208 .
6 -  الموجز في تاريخ البلاغة 47 .
7 -  الموجز في تاريخ البلاغة 45 .
8 -  معجم الأدباء 19 / 158 .
9 -  البيان العربي 25 .
10 -  أثر القرآن في تطور النقد العربي 208 .
11 -  البيان العربي 44 .
12 -  المصدر نفسه 75 .
13 -  أثر القرآن في تطور النقد العربي 225 .
14 -  البديع 53 .
15 -  النكت في إعجاز القرآن 76 .
16 -  الصناعتين 7 .
17 -  الصناعتين 7 .
18-  التلخيص 22 .
19 -  الموجز في تاريخ البلاغة 48 .
20 -  أثر القرآن في تطور النقد العربي 334 .
21 -  الاقتضاب للبطليوسي 14 .
22 -  تاريخ الأدب العربي ، د. عمر فروخ 1 / 730 .

ليست هناك تعليقات: